الثلاثاء، 26 نوفمبر 2013

الأطفال المهمشون قضاياهم وحقوقهم - رجاء ناجي مكاوي



الأطفال المهمشون قضاياهم وحقوقهم
 

د. رجاء ناجي

مصدر الكتاب: الإيسيسكو
المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة

فهرس المحتويات

تقديم
مقدمة
الفصل الأول: من هم الأطفال المهمشون
أولا: الأطفال الأيتام
ثانيا: الأطفال  الفقراء
ثالثا: الأطفال المعاقون
رابعا: الأطفال غيرالمتمدرسين
خامسا: الأطفال المشردون
سادسا: الأطفال  النازحون
سابعا:  الأطفال  اللاجئون
ثامنا:  الأطفال  الممزقون عائليا
تاسعا: الأطفال غير  الشرعيين
عاشرا: الأطفال المتكفل بهم
حادي عشر: الأطفال المستَولَدون من تخصيب تقني
الفصل الثاني: الحماية الشرعية والقانونية للأطفال المهمشين:
المبحث الأول: حقوق  الطفل عامة
أولا: الحق في الحياة والمجيئ إليها
ثانيا: حق الطفل في الحرية
ثالثا: حقوق تهم الوضعية القانونية للطفل
رابعا: الحق في الهوية الثقافية العقائدية
خامسا:  حقوق الطفل على الأسرة
سادسا:  حقوق الطفل على الدولة
المبحث الثاني:  حقوق الطفل في الظروف غير العادية أو حقوق الطفل المهمش في المساواة مع الطفل العادي
أولا: حق الطفل غير الشرعي في النسب
ثانيا: حق الطفل المحروم من الأسرة في أسرة بديلة
ثالثا: حق الطفل المحروم من النفقة في مورد للعيش
رابعا: حق الطفل المهمش في التربية و التعليم
خامسا: حماية إضافية  للطفل المحروم من الاستقرار
سادسا: حق الطفل المعاق في التغلب على الإعاقة
سابعا: حماية خاصة للأطفال المعرضين للاستغلال والاعتداء
ثامنا: حقوق الطفل الجانح في إعادة تأهيله
الفصل الثالث: برامج مناهضة التهميش بالدول الإسلامية - أسباب الفشل:
المبحث الأول: عوامل مباشرة للتهميش 
أولا: أسباب اليتم
ثانيا: أسباب الأمية
ثالثا: أسباب الإعاقة
رابعا: أسباب الفقر
خامسا: عوامل تزايد الأطفال المتخلى عنهم والمشردين
سادسا: الظروف الاجتماعية والاقتصادية كسبب رئيسي للتشرد
سابعا: ارتفاع نسبة الولادات في الأوساط غير المحظوظة
ثامنا: النزوح في اتجاه المدن أو الدول المصنعة
تاسعا: اللجوء والترحيل الجماعي
المبحث الثاني: عوامل أخرى تزيد من تعقيد مشاكل التهميش
أولا:  التحرج من مواجهة المشاكل وافتقاد الجرأة على إعلان الرأي
ثانيا: الاعتقاد بأن الدراسات المستقبلية منافية للشرع
ثالثا: عدم إتقان لغة الأرقام
رابعا: عدم توجه التبرعات الخيرية للميدان الاجتماعي
الفصل الرابع: استراتيجيات كفيلة بتقليص معاناة الأطفال المهمشين:
المبحث  الأول: برامج مستعجلة لإنقاذ الأطفال المهمشين
المطلب الأول: نفعية واستعجال الإنفاق على الطفولة
أولا: رفع الميزانيات المخصصة للطفولة
ثانيا: التكفل الآني والمستعجل بالأطفال المحرومين
ثالثا: الالتفات للأطفال في زمن الحرب
رابعا: دعوة المؤسسات غير الحكومية  للمساهمة
خامسا: إجبارية التعليم وتعليم البنات بالخصوص
المطلب الثاني: تفعيل الآلة القانونية
أولا: التصدي للمخاطر التي تهدد الطفل المهمش
ثانيا: تقييد ممارسةالطلاق وتعدد الزوجات
ثالثا: إرفاق أحكام النفقة بالاستعجال والزجر
رابعا: صرامة إضافية لزجر الجرائم التي تمس الأطفال
خامسا: تعامل أفضل مع الأحداث الجانحين
سادسا: التصدي بحزم أكبر لظاهرة المخدرات
المبحث الثاني: سياسات ضرورية على المدى المتوسط والبعيد
أولا: من أجل إعداد مواطنين صالحين
ثانيا: دمج المرأة في مخططات التنمية
ثالثا: الاهتمام بالبادية
رابعا: التركيز على الأسرة في برامج التنمية
خامسا: تبني استراتيجيات عن الشباب
سادسا: تكثيف الحوار بين المؤسسات الرسمية ومراكز البحث العلمي
سابعا: تفعيل التعاون الجهوي
ثامنا: شروط أساسية لإنجاح  المخططات
خاتمة
المصادر والمراجع










تقديم

 تولي المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة عناية خاصة للطفل، باعتبار أن حسن إعداد الطفل، وتربيته التربية الصالحة، هما خير وسيلة لتحقيق التقدم والرقي والنماء والازدهار في الحاضر والمستقبل. وانطلاقاً من الاقتناع بهذه الحقيقة التي تؤكدها عبرةُ التاريخ وتجربةُ الواقع، فقد أفردت المنظمة الإسلامية للأطفال في خطط عملها المتتابعة، برامج عديدة تهدف إلى تطوير معارفهم، وإلى تنمية مواهبهم في رحاب الثقافة الإسلامية. كما أنها اعتنت بإعداد الدراسات والبحوث المتعلقة بالطفل، من حيث التعريف بحاجاته ومشكلاته في البيئات المختلفة التي يعيش فيها، ومن حيث توجيه المجتمع إلى حسن تربيته والعناية به.
ويتناول هذا الكتاب الأطفال المهمشون: قضاياهم وحقوقهم]، بالبحث والدراسة، الحقوقَ الشرعية والقانونية لهؤلاء الأطفال، ويقدم الحلول العملية الكفيلة بتخفيف المعاناة عنهم في حياتهم التي يشقون بها، والتي فرض عليهم فيها أن يعيشوا على هامش الحياة العامة في مجتمعاتهم.
ويسعد المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، أن تقدم هذا الكتاب ضمن سلسلة الكتب التي تصدرها عن شؤون الطفل، هادفةً من وراء إصدار هذا الكتاب، إلى إبراز تعاليم الدين الإسلامي الحنيف التي تحثّ على رعاية الطفل وتحضّ على العناية به، وتحفظ له حقوقه الكاملة، والتي تتضمّن الدعوة إلى التراحم والتعاون، وتوجّه نحو تنشئة الطفل في مناخ يسوده العطف الاجتماعي، وفي جوٍّ عائلي تكتنفه الرأفة وتسوده الرحمة، حمايةً للأطفال من التشرد والجنوح، وانقاذاً لهم من السقوط والضياع.
وتقدم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة الشكر للمؤلفة الأستاذة رجاء ناجي التي قامت بإعداد هذا الكتاب القيم، وتسأل الله تعالى أن يوفقنا في خدمة أجيال أمتنا.

الدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
















مقدمة

من هو الطفل: يقال الطِّفْل ويقصد به الناعم الرخص من كل شيء. من ثم فالطفل في الإنسان هو صغيره الذي لم يشتد عوده. والطفولة هي مرحلة من عمر الإنسان ما بين ولادته إلى أن يصير بالغا مكتملا قادرا...
وفي العلوم القانونية عادة ما يستعمل لفظ الحَدَث كبديل عن الطفل. ومع أن الحدث يرادف لغويا الشاب، فإنه في لغة القانون أخذ معنى اصطلاحيا آخر له علاقة وطيدة بالجنوح. لذلك بمجرد أن نتلفظ بعبارة الحدث، يتبادر للذهن الطفل أو اليافع  المهمل اجتماعياً، أي المهمش.
متى تنتهي الطفولة: تلزم الإشارة إلى أن هذه النقطة بالذات ظلت على مدى الأزمان غير محددة بدقة. بحيث أعطي لتعريف الطفولة معنى واسعٌ وغير محدد، بشكل لم تُعرَف معه نهايتها الدقيقة، إلى أن أصدرت هيئة الأمم المتحدة اتفاقية حقوق الطفل المؤرخة في 20 نوفمبر 1989م، حيث عرفت الطفل بأنه >كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ الرشد بموجب القانون المطبق عليه<.
من ثم يبدو أن لفظ الطفولة يستوعب كل المراحل التي يقطعها الإنسان منذ ولادته إلى أن يصل سن الرشد. أي وهو صبي، يافع، شاب...
ونحن في هذا البحث، عندما سنستعمل عبارة الطفل والطفولة سنحملهما المعنى ذاته، لكن بنوع من التحفظ. على اعتبار أن بعض الأطفال يخرجون من مرحلة الطفولة قبل الأوان، بمقتضى الترشيد، كما أنهم قد لا يخرجون منها لأسباب مختلفة منها تأخر النمو الفكري والجسدي.
الطفل رجل المستقبل: عندما نقول >طفل< نقول تلقائيا >رجل الغد<. من هنا يأتي المثل السائد: >داخل كل طفل يوجد رجل مستقبل<. ومعنى هذا أن الطفولة تقتضي عناية خاصة وحماية قانونية زائدة، إن أردنا فعلا أن نكوِّن نساءً ورجالا صالحين. فحسن تكوين وتربية الطفل ليست قضية الطفل المعني فحسب وإنما قضية المجتمع الذي سينصهر فيه و قضية الأمة بكاملها.
لذلك فكل الطاقات الفاعلة ملزمة بأن تسهم في توفير الجو الملائم لحسن تربية وتكوين النشء وتهييئه لمواجهة الحياة. ويأتي التشريع في المقام الأول، لأنه بدون إجبار قانوني لا يلتزم الكبار باحترام الواجبات الملقاة على عاتقهم تجاه الصغار.
على رأس الحقوق التي يجب الاعتراف بها للطفل وحمايتها الحق في أن يعيش طفولة طبيعية، في حضن أسرة توفر له الرعاية و الدفء. فالبالغ يمكنه الاستغناء عن باقي أفراد الأسرة، أما الصغير إن أُبْعِدَ عنها تعرض لكل المخاطر المتصورة، المادية والمعنوية والنفسية.
وحتى عهد قريب لم يكن الطفل يشكل موضوعا مؤرِّقا، ولا الناس كانوا يهتمون بحقوقه وواجبات المجتمع تجاهه. لكن مع تعقد الحياة الاجتماعية، تبعا لتحولات نمط الحياة، تفاقمت قضايا الطفل وبات يشكل خطرا على نفسه وعلى المجتمع، كما أضحى محل اعتداءات حتى من أقربائه. ومع الأيام تعقدت الأبعاد الاجتماعية ـ الاقتصادية التي يؤدي إليها تهميش الأطفال. وزاد الأمر خطورة بالمجتمعات التي لم تمنحِ الموضوع ما يستحقه من عناية.
فكان أن ظهرت في المجتمعات المتقدمة بالخصوص، مدارس علم الإجرام مرتكزة على قواعد علم حديث يعتمد التجربة والإحصاء ورصد الظواهر. فتأكد أن عدم الاعتناء بالطفل في ظل المتغيرات الحديثة، يحوله إلى مصدر للخطر على نفسه وعلى غيره. وتأكد أيضا أن الطفل غير السوي يحتاج للعلاج، للرعاية، لإعادة التأهيل....
ثم توالت الاجتهادات في الموضوع، واتسعت ـ موازاة مع ذلك ـ، لوائح حقوق الطفل.
فصدر عن هيئة الأمم المتحدة، التصريح العالمي لحقوق الطفل في20  نوفمبر 1959م، الذي ما فتئ أن أبان عن عدم كفايته، مما استعجل صياغة اتفاقية حقوق الطفل في 20 نوفمبر1989م. ثم تخللتهما وتلتهما اتفاقات جزئية تهم جوانب خاصة من حقوقه منها إعلان حقوق الطفل المعاق 1969م، تصريح نيويرك 20 ديسمبر1971م بشأن حقوق المعاق ذهنيا، ثم تُوِّج كل ذلك بجعل سنة 1981م سنة للمعاق... كما صدرت اتفاقية لاهاي في 29 ماي 1993م بشأن حقوق الطفل المُتَبنَّى....
أما الإسلام فكان أسبق من غيره للعناية بالطفل و تسخير كل الطاقات لتوفير حياة متوازنة، قادرة على إعداد رجل مستقبل سوي صالح. كما سنعرف ببعضها لاحقا.
فكيف إذن في ظل شريعة تدعو للعناية بالطفل وتهيِّئ له كل الظروف العاطفية والمادية ليعيش حياة كريمة، و في ظل قانون وضعي يدعو بإلحاح للاهتمام بالطفل طاقة المستقبل، تتحول جيوش من صغار السن في العالم الإسلامي بأسره إلى فئات مهمشة لا تستفيد من الحقوق التي أقرها الشرع، ولا تلك التي استلهمها مُعدُّو القوانين الوضعية من عدالة السماء؟
ما هي أسباب انتشار ظاهرة الأطفال المهمشين وعوامل ارتفاع أعدادهم؟ وما هي الحقوق التي تضمنها المجتمعات الإسلامية عمليا، لفتيانها وفتياتها؟ وما مدى فعالية هذه الحقوق؟ هل يحتاج الوضع لحلول إضافية غير تلك التي اقتُرحت وطبقت حتى الآن، أم أن الطفولة المحرومة قَدَرٌ لا يمكن التهرب منه؟
سنحاول الإجابة عن مجمل هذه التساؤلات من خلال الفصول التالية:
* الفصل الأول:  من هم الأطفال المهمشون
* الفصل الثاني:  الحماية الشرعية والقانونية للأطفال المهمشين
* الفصل الثالث:  برامج مناهضة التهميش بالدول الإسلامية: أسباب الفشل
* الفصل الرابع:  استراتيجيات كفيلة بتقليص معاناة الأطفال المهمشين
























الفصل الأول

منْ هُم الأطفال المهمشون

من خلال التسميات الكثيرة التي أدرجناها حتى الآن: أطفال محرومون، مهمشون، مهملون اجتماعيا، غير مندمجين... يبدو جليا أننا نقصد بدراستنا كل الأطفال من أي سن كانوا ـ قبل الرشد ـ يعانون من الحرمان أو عدم الاستقرار النفسي أو العائلي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي....
 فعلامات التكَيُّف أو الاندماج تختلف حسب المرحلة التي يجتازها الصغير: إذ تأخذ شكل إقبال على الحياة  بما يناسبها عادة، كالإقبال على اللعب والتعلم، عدم رفض الالتزام اليومي بالتمدرس، الاستمرار فيه، نمو التفكير والذكاء، التجاوب، تقبل نواميس الحياة الاجتماعية....
بالمقابل فالتهميش يأخذ شكل حرمان من الطفولة ومن مباهجها، حرمان من التربية والتمدرس أو حرمان من أبسط مقومات الحياة الكريمة... ثم يأخذ عدم التكيف عدة أبعاد تختلف بحسب السن  والجنس... إذ قد يترجم إلى عزوف عن الدراسة أو رسوب، أو هروب من المدرسة لينتهي الأمر في جل الحالات إلى انقطاع تام عنها، وقد يأخذ شكل عصيان لأوامر الأسرة أو الأشخاص المسؤولين عن الطفل... ويصل التمرد مداه عندما يوجه نحو النفس أو نحو المجتمع بكامله، في صورة تعاط للمخدرات، أو عنف ضد الأطفال الآخرين، أو سطو وانضمام لعصابات إجرامية، أو ممارسة الدعارة... ومع التقدم في السن يتقن الطفل عديدا من وسائل الإجرام فيرشَّح لأن يصبح جانحا محترفا، إذا لم يجد منقذا في أي مرحلة من المراحل الصعبة التي يجتازها.
من ثم فإننا سنقوم بحصر فئات الأطفال المهمشين في المجتمع نتيجة أسباب مختلفة، ليقيننا بأنها الطريقة المثلى للتعريف بالطفل المهمش. ونحدد هذه الفئات فيما يلي: الأطفال الأيتام، الفقراء، المعوقون، غير المتمدرسين، المشردون، النازحون، اللاجئون، الممزقون عائليا، الأطفال غير الشرعيين، المتكفل بهم، الأطفال المستَولَدون من تخصيب تقني...(أطفال الأنابيب).
أولا: الأطفال الأيتام
نقصد بالطفل اليتيم كل طفل فَقَدَ أحد والديه أو كليهما. والمجتمعات الإسلامية تعُج بالأيتام وأعدادهم في تزايد مستمر بسبب ارتفاع أسباب الوفاة التي تمس البالغين بالخصوص، بعد أن انضافت عوامل حديثة للعوامل التقليدية لوفيات الكبار، كما سنبينه.
 ومن المؤكد أن الطفل اليتيم كان، في ظل المجتمعات الإسلامية التقليدية، يجد السند عادة في أفراد عائلته. أما مع تحولات الحياة الاجتماعية، فحصل تضييق للأسرة وتباعد بين الأقارب، حتى أضحى مستحيلا تخيل وجود متكفل بالأيتام من بين أولئك.
 ومع أن الملاجئ تحاول التخفيف من حجم الأزمة إلا أنها لا تستوعب جميع الأيتام  ولا تشبع كل حاجاتهم، كما أنها لا تغطي كافة المناطق. بهذه الطريقة أضحى مصير اليتيم مهددا، بحيث لا يجد في حالات كثيرة عائلا، أو لا يجد مأوى سوى الشارع، بكل ما يرافقه من مخاطر. من ثم أضحى اليُتم أحد عوامل التهميش والإهمال وربما التشرد.
ثانيا: الأطفال الفقراء
الفقرآفة بغيضة ومنتشرة بجل الأقطار الإسلامية. وهي ظاهرة تستوي فيها الدول التي انتهجت الرأسمالية وتلك التي اختارت الاشتراكية. مما يدل على أن العيب لا يكمن في نظام أو آخر بقدر ما يكمن في سياسات التنمية المنتهجة حتى الآن بجل الأقطار. وأن التفاوت المهول بين الفئات الاجتماعية قد أفرز شرائح، ما تزال في تزايد مستمر، من الفقراء والذين يعيشون تحت عتبة الفقر.
 وغني عن البيان أن أكثر المتضررين من الفقر هم الأطفال، الذين يحرمون بسببه من أبسط الحقوق والحماية. فيضطرون عادة إما لمغادرة المدارس مبكرا أو لعدم ولوجها من الأساس. كما يضطرون لبدء العمل وهم في سن اللعب وعودهم ما يزال غضًّا طرياً، أو يضطرون للتسول والتشرد والجنوح... ولعل هذا يكفي لبيان الأبعاد الاجتماعية ـ الاقتصادية للفقر.
 ومن الثابت أن معظم الأطفال المحالين على العدالة ينتمون للفئات الاجتماعية الأقل حظا، وأن الأفعال المرتكبة من قبلهم هي في الغالب أعمال سطو أو سرقات، الغاية منها الحصول على مصدر للعيش، بدافع الفاقة.
ثالثا: الأطفال المعاقون
>إن لفظ معاق يدل على كل شخص لا يملك القدرة على أن يضطلع بمفرده بكامل أو بعض متطلبات حياة شخصية أو اجتماعية طبيعية. وذلك بسبب نقص خلقي أو غيره، في قدرته الجسمية أو الذهنية<. هذا التعريف تبنته هيئة الأمم المتحدة في إعلان  1969م لحقوق الطفل المعاق (م1).
فالإعاقة قد تكون عقلية أو جسدية أو حسية كما تكون ولادية أو مكتسبة، ولكل منها أسبابها. والنتيجة أن الإعاقة تحد كثيرا من طاقات الطفل وتحُول دون اكتمال خِلقته أو اكتمال تكوينه الجسدي أو العقلي أو النفسي. فينتهي به المطاف للتهميش والحرمان من حظوظ الطفل السوي المتمتع بالظروف الطبيعية للنمو والرفاه و الاندماج والإنتاج....
رابعا: الأطفال غير المتمدرسين
مما يؤسف له أن العالم الإسلامي، كما سنؤكد بالأرقام، يعاني من أعلى نسب الأمية، مقارنة مع باقي دول العالم الثالث. وما زال حتى الآن عديد من أطفاله البالغين سن التمدرس لا يلجون المدارس من الأساس أو يغادرونها بعد وقت وجيز جدا، خاصة بالبوادي والمناطق النائية، ولاسيما الإناث.
وإذا كان الكل يتفق على أن المجتمعات الحالية هي بصدد الانتقال من مرحلة الإنتاج إلى مرحلة العلم والتكنولوجيا، فالنتيجة الحتمية أن كل شخص لم يتسلح بالعلم مآله أن يعيش على هامش الحياة طوال عمره. ومعلوم كذلك أن الطفل المتمدرس يقضي جل أوقاته محروسا داخل المدرسة، مما يحصنه ضد الارتماء في أحضان الشوارع بكل ما يكتنفها من مخاطر.
 ومن المؤكد أيضا أن المدرسة تُؤَمِّن للطفل نصيبا من التربية و التعليم يمكنانه من الفهم والإدراك والاندماج ومواجهة المستقبل، ويحميانه من الانحراف نسبيا. كما أن برامج التعليم عادة ما تُرفَق بأنشطة موازية يُفرِغ فيها الطفل طاقاته المشحونة، فيتخلص بهذه الوسيلة من شرور الكبت والضغط النفسي الناتج عن رفض عديد من النواميس أو عن صراع الأجيال.
خامسا: الأطفال المشردون
التشرد ظاهرة حديثة أفرزها التقدم الصناعي و ما رافقه من تحولات اجتماعية وتمركز في المدن الكبرى ونشوء أحياء عشوائية وبيئات غير سليمة، ومن أزمات اقتصادية، كالبطالة وانخفاض الدخل....
وإذا كانت الدول المتقدمة قد استيقظت مبكرا على ظاهرة التشرد وحاولت معالجتها بكافة الوسائل، فمشكلة المجتمعات الإسلامية تبدو أكثر خطورة، لكونها ما زالت تنظر للمشرَّد بلامسؤولية ولا وعي أو إدراك لخطورته على نفسه وعلى المجتمع، وبدون تفهم لأوضاعه.
والطفل المشرد لا تكفي في حقه عبارات >مهمل أو مهمش أو غير سوي أو غير متكيف<، لأن وضعه في الواقع أخطر من ذلك بكثير. فهو يشكل في البداية خطرا على نفسه ومستقبله، وعندما يزداد إتقانه للجنوح والإجرام يتحول إلى خطر على المجتمع ككل. ومعلوم أن التشرد يرافقه عادة التمرد على الضوابط الاجتماعية والقانونية. وهو يقترن في الأذهان بالتسول وتعاطي المخدرات والانحراف وتعلُّم وسائل الإجرام المحترَف....
سادسا: الأطفال النازحون
إن التشرد قد يكون من نتائج النزوح أيضا، إنما هذا الأخير له آثار أخرى بنفس الخطورة، لذلك يجب إفراد حيز له. والنزوح أو الهجرة قد يكون داخليا، انطلاقا من نقطة معينة، في اتجاه نقطة أخرى بحثا عن الاستقرار و الطمأنينة و مصدر الرزق، وقد يكون من دولة لأخرى. وأسبابه مختلفة قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية:....
 فالمثال التقليدي للأسباب الاقتصادية ـ الاجتماعية، الهجرة من القرى في اتجاه المدن. وهي الظاهرة التي لا تسلم منها نقطة في العالم، إنما خطرها يزداد حدة في الدول النامية عنه في الدول المتقدمة. ومن المعلوم أن الطفل يعاني أكثر من غيره عند تغيير محيطه الاجتماعي.
 وتأخذ مظاهر عدم التكيف شكل عدم الاندماج في الوسط الحضري، أو صورة انبهار أو رفض لنمط الحياة الجديد أو صعوبة تقبل ثقافة المنطقة المضيفة. ويقترن النزوح عادة بالعجز المادي، بسوء المسكن وببؤس العيش. لذلك يبدو أن مختلف أسباب ومظاهر اللاتكيف تتضافر هنا.
 مثال آخر للنزوح ويتمثل في الهجرة نحو الدول المصنعة، بحثا عن العمل.        وغني عن البيان أن الاختلاف العقائدي والثقافي والاختلاف في نمط الحياة كثيرا ما يخلق لدى الطفل تمزقا في تكوينه. فهو عادة لا يحتفظ بهويته الثقافية الأصلية، ولا هو يستسلم بالكامل للثقافة الأجنبية، مما يمزق هويته الثقافية والعقائدية، ويعرضه للتهميش(1).
 أما العوامل السياسية فتتلخص عادة في الحروب و التطاحنات الداخلية أو المتعددة الأطراف. ولن نحتاج لتمحيص كبير كي نستخلص أن الحروب والنعرات العرقية التي عرفها العالم في السنوات الأخيرة كان معظمها بالجنوب، وجزء كبير منها بالدول الإسلامية أو بها أطراف مسلمة. ويكفي التمثيل بقضية فلسطين، جنوب لبنان، أزمة الجزائر، الصومال، أفغانستان، البوسنة والهرسك، أزمة ألبانيا، أزمة إقليم كشمير الهندي، إقليم كاراباخ... إلى جانب حرب الخليج التي ما زالت آثارها باديةً للعيان. وقد نقلت لنا وسائل الإعلام صورا مفجعة عن نزوح ملايين الأبرياء من الأطفال والعاجزين، بحثا عن الأمن أو وسيلة للعيش. ناهيك عما خلفته وتخلفه من الأيتام والمشردين والمعاقين....
وفي جميع الحالات وأيا كان سبب الهجرة أو النزوح الجماعي، فالذي يؤدي أكبر الثمن هو الطفل. يؤديه على شكل اقتلاع له من وسطه المألوف وحرمان من الاستقرار  وحَمْله نحو اللا تكيف مع الثقافة الجديدة. ويؤديه أيضا في صورة حرمان من القوت والاستقرار، ومن الدراسة....
سابعا: الأطفال اللاجئون
هناك معاناة مشتركة بين هذه الفئة والسابقة، وهي الحرمان من الاستقرار. إنما الذي يميز هذه هو الحرمان حتى من حق المواطنة. بحيث في ظل ظروف سياسية بالمقام الأول، واجتماعية، تضطر فئات كبيرة من سكان دول الجنوب للنزوح عن موطنهم الأصلي ومغادرة أوطانهم بحثا عن مكان آمن، وفرارا من حروب عرقية أو أهلية أو نزاعات داخلية، أو إجلاء لهم لطوارىء محتملة... وغير ذلك من الأسباب والعوامل التي تجبر المواطنين على اللجوء إلى الدول المجاورة أو الدول الأخرى.
ومعلوم أن العالم يعج بملايين اللاجئين، جلهم من الجنوب. ومعلوم هنا أيضا أن أكبر المتضررين من اللجوء السياسي أو غيره هم الأطفال، الذين ـ بحكم تغيير الإقامة ـ يجدون أنفسهم فجأة في حضن ثقافة غريبة عنهم يصعب عليهم التعايش معها. كما أن ظروف اللجوء عادة ما تكون مزرية، غير موفرة لأبسط شروط الحياة الكريمة. فكيف يمكن لطفولة مثل هذه ألا تكون محرومة اقتصاديا، لامتكيفة اجتماعيا، غير مؤهلة للمواطنة الصالحة مستقبلا؟.
ثامنا: الأطفال الممزقون عائليا
تمزق العلاقات الأسرية قد يكون نتيجة وفاة أحد الأبوين أو كليهما، أو نتيجة انفصام الزوجية بسبب طلاق أو بسبب الهجر والإيلاء أو استحكام الخلاف بين الزوجين. وفي جميع الحالات فالظروف المعيشية تتحول غالبا إلى جحيم تذوب فيه علاقات المودة والتعاطف والتكامل والاستقرار التي من أجلها شُرِّع الزواج. وبالتالي فحياة الطفل التي ميزتها الطبيعية بالبراءة والصفاء تتحول إلى عذاب، إلى حرمان من أبسط الحقوق، لتنتهي رحلة العذاب هذه عادة إلى أزمات نفسية واجتماعية....
فمعلوم أن نسب الطلاق والانفصال والخلافات آخذة في التفاقم في المجتمعات الإسلامية، نظرا للتحولات الاجتماعية ـ الاقتصادية، وما يرافقها من صراع بين الثقافات، صراع يزداد حدة في الزيجات المختلطة.
والطفل في الماضي كان يجد السند والدعم لدى أفراد أسرته ولدى المحسنين في المجتمع، أما مع تعقد الحياة الاجتماعية وضَنك العيش، وتغلب الحياة المادية على الحياة الروحية، فأضحى الطفل الممزق عائليا لا يجد له من ملاذ سوى الشارع، يحتضنه، يتكفل به ليتعلم في ثناياه كل السلوكات الخطيرة والمهدِّدة لطفولته البريئة  ولمستقبله، والمهدِّدة للمجتمع، عندما ينتقل الطفل من براءة الطفولة إلى الجنوح والتشرد....
تاسعا: الأطفال غير الشرعيين (1)
هذه الظاهرة ليست جديدة، إنما الجديد فيها تفاحشها المهول ببعض المجتمعات الإسلامية. فأسبابها التقليدية ما زالت قائمة، وانضافت لها أسباب أخرى حديثة، مردُّها الانفتـاح اللامحدود الذي يصل أحيانا حد الانحلال، وتزايد جرائم العرض والاغتصاب... وزاد الأمر حدة مع الأزمات الاقتصادية وتفاحش المادية، عندما اضطرت عديد من الفتيات لبيع أعراضهن إما لكسب لقمة العيش أو للبحث عن الثراء والرفاهية....
وبديهي أن الإسلام يعتبر الزواج المجال الشرعي للتناسل. ويلحق بالزواج الإقرار بالبنوة، كوسيلة لإلحاق النسب، إذا توفرت شروطه و لم يكذِّبه عقلٌ أو عادة، كما سنبين لاحقا. لذلك فكل طفل وُلد خارج هذا الإطار يُعدُّ غير شرعي. وإذا كان أول حق للطفل هو الحق في الانتساب لأسرة، فالطفل غير الشرعي يأتي للدنيا محروما حتى من هذا الحق، محروما من أبٍ شرعي يمنحه نسبه، ومن العائل وربما أيضا من الحاضن. فعادة ترك هؤلاء الأطفال بالأماكن العمومية، أو المستشفيات معروف لدى الجميع بما يغنينا عن الإثبات.
إنما النتيجة الحتمية، مهما اختلفت الظروف، أن الطفل غير الشرعي ينمو عادة عاجزا عن التكيف مع المجتمع، بسبب ما يعانيه من أزمات نفسية ـ اجتماعية ومادية، أزمات تنعكس على حقه في التعليم والاستقرار... وفي النهاية قد لا يجد له من مأوى سوى الشارع، يتعلم فيه كيف يتمرد على المجتمع. فيترجَم كل ذلك إلى سلوك منافٍ للقيم المتعارَف عليها. ويلتحق بآلاف الأطفال الذين تجمعهم ظروف واحدة، هي الإهمال من طرف مجتمعهم.
عاشرا: الأطفال المتكفل بهم (المتبنون)
إن لائحة الأطفال المعددة أعلاه قد يجمعها أحيانا قاسم مشترك وهو الإبعاد عن الأسرة الحقيقية. والمحظوظون منهم قد يجدون أسرة أخرى تتكفل بهم. إنما السؤال هو هل فعلا يندمجون في أسرهم المستعارة، وهل يتحقق لهم بالفعل كل ما يتحقق للطفل في الظروف الطبيعية؟.
الجواب السطحي سيكون هو الإيجاب. أما التحليل المعمق فيبين أن عديدا من الأطفال المتبَنّين أو المُنزَّلين أو المتَكَفَّل بهم يتعرضون بدورهم لأصناف من المعاناة. ذلك أن الطفل >المتبنَّى< عادة لا يحمل اسم الأسرة التي تكفلت به. وعندما يبدأ في إدراك بعض الأمور لا يلبث أن يطلع على واقعه المُرّ، فيعرف أنه ليس ابنا حقيقيا للأسرة التي >ينتسب< لها. ولا يخفى مقدار ما يثيره ذلك من صدمات، تهدد مستقبل الطفل المتبنَّى... ناهيك عن معاناته من نظرة الاحتقار التي ينظر بها المجتمع للطفل المتبنَّى عموما، معتبرا إياه دائما ابن زنى، مع أنه قد لا يكون كذلك....
حادي عشر: الأطفال المستَولَدون من تخصيب تقني (أطفال الأنابيب)
وكأن العالم لم تَكفِه الأفواج الضخمة للأطفال غير الشرعيين والمتخلى عنهم، فاستحدث وسائل أخرى للاستيلاد، تساهم في تكثير أعدادهم.
ومعلوم أن الدعم الطبي للإنجاب ليس محرما شرعا، لكن بشرط ألا يؤدي إلى حشر طفل غريب في أسرة ليست له، وبالتالي خلط الأنساب.
فكثيرا ما يكون أحد الزوجين عاجزاً عن إفراز النطف اللازمة للإنجاب فيُستنجَد بنطف مانح أجنبي. وإذا كانت الدول الغربية عرفت وباتساع عادة التبرع بالنطف، فلا يجب الاعتقاد بأن المجتمعات الإسلامية في منأىً عنها، بل إن الظاهرة بدأت تشغل حيزا آخذا في الاتساع، مما يرشح أعداد الأطفال المتأتين من مني رجل غريب أو بويضة امرأة أجنبية أو رحم مستعار، للارتفاع. وعندها ستصبح الظاهرة غير مقدور عليها. ومن ثم فأنسب حل هو التصدي لها قبل أن تستفحل فيستعصى الداء ويعز الدواء.
والطفل المستولد من نطف مانح أجنبي يُلحَق بالطفل غير الشرعي. وسواء أنكرته الأسرة التي تحتضنه أم لا، فإنه معرض لمعرفة نسبه الحقيقي. وهو أمر لا يخلو من أزمات لا تختلف في شيء عن أزمات الطفل غير الشرعي. حيث يصعب التنبؤ بنوعية ردات فعله عند معرفته الحقيقة، ولا طبيعة تمرده المحتمل.
طبيعي جدا، بعد الذي أوردناه، أن نستخلص أن كل حرمان يتعرض له الطفل يعرضه للتهميش، سواء كان حرمانا من الحقوق المادية أو المعنوية: فالحرمان من الحاضن يهدده، والحرمان من الطاقات الجسدية والعقلية و الحسية أيضا يهمشه، وكذلك الشأن بالنسبة للحرمان من الهوية أو النسب أو الأسرة أو الاستقرار أوالموطن....
أما وقد حددنا من يكون الطفل المهمش، فيحق لنا أن نتساءل عن الحماية التي يضمنها له الشرع الإسلامي والقوانين الوضعية، وهو ما سنحاول الإجابة عنه في الفصل الموالي:
الهوامش:
(1) إن عديدا من الأبحاث والدراسات قد أجريت حول الجاليات الإسلامية في المهجر، وأنشئت من أجلها هيآت تحاول إحداث تقارب فكري بينها وبين المجتمعات الأصلية أو المضيفة، وفهمها ومساعدتها على حل مشاكلها. يراجع مثلا: وفاء بنفضول: الإشكالية القانونية لعودة وإعادة اندماج العمال المهاجرين المغاربة: رسالة ماجستير، كلية الحقوق، الرباط، 1996-95.
(2) للتوسع يمكن الرجوع إلى: أحمد أجوييد: جريمة الزنى في الشريعة الإسلامية والقانون المغربي، أطروحة،  كلية الحقوق، الرباط، 1986-85.
******












الفصل الثاني

الحماية الشرعية والقانونية للأطفال المهمشين
إن المقارنة بين الشرع والقانون الوضعي لها ما يبررها، فالإسلام دين الفطرة السليمة والمنطق والسمو الفكري، والشعوب المتقدمة لم تقرَّ الحقوق إلا بعد أن أضحى لها حِس حضاري جعلها تنبذ كل ما تستقبحه الفطرة والمنطق. لذلك يبدو منذ الوهلة الأولى، أن المقارنة ستكون مثمرة.
وسوف نُعَدِّدُ في البداية حقوق الطفل عامة (المبحث الأول)، لنستطيع بعدها التعرف على أي منها يفتقده الطفل المهمش، وما إذا كانت وضعية هذا الأخير تقتضي أن تفرد له حماية إضافية (المبحث الثاني):

المبحث الأول: حقوق الطفل عامة
لعل الذي أعاد طرح الجدال حول حقوق الطفل هو بالأساس تغير النظرة إليها. فبينما كان ينظر لها ـ في ظل القانون الروماني ـ كحقوق للكبار على الصغار وكسلطة أبوية، إذا بالآية تنعكس ـ في القرن الماضي ـ فينظر للصغار على أنهم محلٌّ للتربية لا للسلطة، وعلى أنهم المستحقون أكثر للحقوق على الكبار، على أن الحضانة واجبات والتزامات لا مجرد حقوق.
ويبدوأن هذه النظرة في طريقها إلى التعميم بعد أن صاغت هيئة الأمم المتحدة مجموعة من المواثيق، بشأن حقوق الطفل التي أشرنا لبعضها... فصادقت دول عديدة عليها، متبنية بذلك الصيغة الحديثة لحقوق الإنسان.
وبديهي أن انضمام الدول الإسلامية إلى المجتمع الدولي فرض عليها احترام الحقوق التي كرستها جل القوانين المقارنة والمواثيق الدولية. وإن الشراكة التي تسعى إليها غالبية دول الجنوب، والتعاون المشترك، ومساعدات الشمال، كلها أمور أضحت مرهونة بإثبات مدى احترام دول الجنوب للحقوق المعترف بها للمواطن، وفقاً لمفاهيمها وأبعادها الدولية.
لكن نظرا لتعدد الدول الإسلامية، فالتعريف بقانون كل دولة على حدة أمرٌ دقيق(1). من جهة أخرى فحقوق الطفل أضحت كثيرة، ولائحتها لم تتوقف عن الطول، ودراستها المستفيضة تتطلب عدة مئات من الصفحات، لذلك نكتفي بالتركيز على أهمها. وسندرس فيما يلي حقوق الطفل من منظور الشرع والقانون الوضعي.
أولا: الحق في الحياة  والمجيئ إليها
تعمدنا استعمال عبارة >الحق في المجيئ للحياة< لأن الشرع والقانون يحميان الطفل حتى وهو جنين، فنقول إن الجنين يتمتع بحق المجيئ للحياة. وهذه الحماية تتمثل في تجريم جل الدول للإجهاض، بتفاوت طبعا، والموضوع يأخذ أحيانا طابعا سياسيا. إنما المهم في الأمر أن حق الجنين في المجيئ للحياة موجود، معترف به، ويتقوى كلما زاد عمره....
والحق في المجيئ للحياة الذي ابتدعته القوانين مؤخرا، هو في الواقع مجرد إحياءٍ لما ناله الموضوع من فيض في المناقشة في عهود الإسلام الزاهرة. وقد تولى الشرع الإسلامي حماية حياة الجنين بشتى الوسائل، واعترف له بالذمة المالية، الموقوفة طبعا، وجازى الاعتداء عليه بالعقاب والدية والكفارة....
فالمصدر الشرعي لحماية الجنين آيات وأحاديث حرمت القتل بغير حق، وتحدثت عن الخلق والتخليق(2). وعلى ضوئها بذل العلماء جهودا للتعرف على بدء حياة الجنين وتطورها، مستعينين بما استقر عليه الطب آنذاك(3). فحرَّم البعض الإجهاضَ مطلقا أيا كان عمر الجنين، فيما تدرج البعض الآخر في التعامل معه... وأساس الاختلاف تعدد مراحل التخليق، وتعدد الآيات والأحاديث في الموضوع...أما بعد نفخ الروح فالكل يجمع على التحريم، ما لم يكن الإجهاض ضروريا لإنقاذ الأم. ونجمل مواقف الفقه فيما يلي:
(  فجل المالكية والحنابلة يحرمون الإجهاض منذ التخصيب، أي والجنين في مرحلة النطفة الأمشاج، معتبرين التخليق يتم منذئذ. ثم تزداد شدة التحريم بعد اليوم الأربعين من التلقيح. وسندهم آية: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج}(1).
( أما الشافعية  فيحددون اليوم42  من التلقيح كبداية للتخليق، وبالتالي الحد الفاصل بين الحِّل والحرمة. فيباح الإجهاض قبل ذلك ويحرم بعده. استنادا لآية: { خلق الإنسان من علق }(2).
وحديث: >إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورها وخلق سمعها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم يقول أيْ ربي أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك<(رواه البخاري في كتاب بدء الخلق).
( ويُعد الحنفية الأكثر تسامحا، إذ جعلوا الحد الفاصل بين الحِّل والحرمة، اليوم 120،أي أربعة أشهر بعد التلقيح، وهي فترة نفخ الروح. فقبلها يجوز الإجهاض لأي سبب، وإن كان هنالك من اعتبره مكروها بعد اليوم الأربعين. أما بعده فالإجهاض محرَّم. وسندهم حديث: >إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً...ثم ينفخ فيه الروح...< (3).
 ( ويبدو الرأي الأكثر اعتمادا هو رأي الإمام الغزالي من الشافعية الذي أقام أحكاما متدرجة بحسب تطور الجنين. إذ يرى أنه عندما تستعد اللقيحة لاستقبال الحياة فإفساد ذلك جناية، فإن صارت نطفة كانت الجناية أفحش، وإن نفخت فيها الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية هي بعد الانفصال حيا.(4).
ومما يستحق التقدير المجهود الذي قام به الفقهاء والعلماء قديما لتبيان مراحل التخليق. بحيث انتهوا للتمييز بين الحياة النباتية والإنسانية في الجنين. فقبل نفخ الروح ليس له برأيهم حِسٌّ ولا إرادة، وإنما له حركة النمو والاغتذاء كالنبات، فلما تنفخ الروح تنضم حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه واغتذائه(1).
على أن الحماية تصل ذروتها إذا ولد الطفل حياً، فيكتسب لتوه الحق في الحياة. ويتساوى بمجرد الوضع تمام المساواة مع أية نفس بشرية. وهنا أيضا تتعدد الآيات والأحاديث الناهية عن المساس بحياة الطفل خشية الإملاق أو لأي سبب آخر(2). وقد فصَّل السلف القول في جزئيات حياة الصغير سواء فيما يتعلق ببدء الحياة أو الحماية أو الجزاء أو الدية أو الكفارة (3).
ثانيا: حق  الطفل في الحرية
إن عهد الرق ولَّى فأضحى مجرد الحديث عنه ذكرى مؤلمة. وحصل إجماع من القانون المقارن والأوفاق الدولية (اتفاقية 1989م)، على تجريم كل اعتقال للأطفال أو حَدٍّ من حرياتهم لأي سبب كان ولو في زمن الحرب.
 والإسلام لما جاء كانت العبودية نظاما سائدا، فسلك سياسة متدرجة حكيمة للقضاء عليها. فيما كان بُعدُه المستقبلي هو استئصال الظاهرة من أساسها. ومن أجل ذلك  وُظِّفت وسائل عديدة لتحرير الرقاب في زمن السلم والحرب معا.
فمعلوم أن الإسلام وظَّف تحرير الرقاب ككفارة عن عدة ذنوب، منها:
1. القتل الخطأ {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا. فإن كان من قوم عدو لكم  وهو مؤمن، فتحرير رقبة مؤمنة. وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله...}(سورة النساء: الآيتان 92 و 93).
2. الحنث في الأيمان:{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} (سورة المائدة: الآية 89).
3. الظهار: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } (سورة المجادلة: الآية 3 ).
4. الإفطار المتعمد في رمضان: إذ ورد في حديث رواه يحيى عن مالك عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا...(أخرجه: البخاري: كتاب الصوم، مسلم: كتاب الصيام).
5. كما جعل عتق الرقاب أحدَ أهم أبواب إنفاق أموال الزكاة: {... و آتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب...} (سورة البقرة: الآية 177)، {إنما الصدقاتُ للفقراء والمساكين والعاملين عليها و المؤلفة قلوبهم وفي الرقاب...}(سورة التوبة: الآية 60).
وذلك إلى جانب الحث على العتق من باب التصدق والإحسان: { فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فكُّ  رقبة...} (سورة البلد: الآيات11 و12و13)، والأحاديث في الباب كثيرة (1).
وبالمقابل وضع الشرع سياسة متناسقة لنزع فكرة الاسترقاق من الأذهان إطلاقا، واستبدالها بنظام الحرية والتساوي فيها بين جميع البشر، وفي نفس الوقت إعادة الاعتبار للعبيد المحرَّرين. وسوف نعود للموضوع فنثبت المكانة التي احتلها الموالي في الإسلام.
وفعلا أفلح النظام الشرعي في تحرير الرقاب وإحلال مبادئ الحرية محل العبودية. فتلاشت مع توالي السنين، عادات أسواق العبيد والسَّبْي والغلمان و الإماء... وبنيت أواصر الحق في الحرية، فأضحى حقا مكرَّسا ومحميا، لا يجوز الاعتداء عليه. وأقيمت قواعد التنشئة والتربية على أساس التساوي بين بني البشر، عربا وعجما، (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)، كما ورد في الحديث الصحيح. وبالتدريج اعتُرِف للطفل بحقه التام في حريةٍ تولد كاملة مع ولادته. فتوِّج ذلك بقولة عمر  بن الخطاب رضي الله عنه الشهيرة: >متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً<.
ثالثا: حقوق تهم الوضعية القانونية للطفل
يتميز الإنسان عن باقي المخلوقات في أنه ليعيش طبيعيا، يحتاج لهوية قانونية. ومكوناتها الأساسية هي الاسم والنسب والجنسية. وقد ألزمت جل القوانين الأبوين بتسجيل هوية الطفل في سجل رسمي، معتبرة كل تحريف في الهوية فِعلا مُجَرَّماً.
 ينضاف لذلك الحق في أن تكون له أهلية للاغتناء، والحق في ذمة مالية مستقلة ومع أن الأهلية تبدأ ناقصة، فهي تتقوى مع نمو الطفل، لتكتمل مع الرشد. وخلال فترة القصور هذه يتمتع الطفل تلقائيا بالحق في أن يكون له نائب شرعي سواء كان وليا (أي الأب و الأم) أو وصيا (إذا أوصى أحد الوالدين بالولاية لشخص آخر) أو المقدم (أي القاضي أو الشخص الذي ينيبه). وفي جميع الحالات فالنائب الشرعي يتولى رعاية الصغير وصونه، والتصرف في أمواله، واتخاذ القرارات نيابة عنه، والتعبير عن إرادته، إلى أن يَرشُد.
 والإسلام هنا أيضا كان أسبق من غيره لحماية و حفظ هوية الطفل. إذ حث على منحه اسما محبَّبا للنفس، ومَنَع الاسم الفسوق والتنابز بالألقاب: {ولا تلمزوا أنفسكم  ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} (سورة الحجرات: الآية 11 ). ثم أقر للطفل حق الانتساب لأسرته، وجعل ذلك واجبا دينيا ودنيويا على عاتق الآباء {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } (سورة الأحزاب: الآية 5).
 لكن نظرا لصعوبة معاقبة نكران النسب، أقام الشرع عقوبات أخروية تلحق جاحِد ولده. فلخص ذلك حديث: >أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه ـ أي يعلم أنه من صلبه ـ احتجب الله تعالى منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين يوم القيامة<(أخرجه النسائي: كتاب الأيمان والنذور: باب التغليظ في الانتفاء من الولد). وعزز ذلك بأوامر موجهة للأبناء بالنهي عن نكران الأبوة: >لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو  كفر<، ويقابله حديث: >من ادَّعَى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام< (رواهما البخاري في كتاب الفرائض، ومسلم في كتاب الإيمان).
وذلك إلى جانب أوامر أخرى موجهة  لعامة الناس بالنهي عن الطعن في الأنساب: >اثنان في الناس هما بهم كُفرٌ: الطعن في النسب...<(رواه مسلم: كتاب الايمان)، مصداقا لقوله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} (سورة الأحزاب: الآية 58).
رابعا: الحق في الهوية الثقافية العقائدية
إن اتفاقية 1989م (بشأن حقوق الطفل) تعتبر عهدا جديدا، لحرصها على حماية حقوق الطفل عندما تختلف هويته العقائدية والثقافية عن ثقافة الدولة المُضيفة أو عن عقيدة الوالدين أو أحدهما، خصوصا عند انفصالهما... هنا بالذات حاولت إيجاد حلول توفيقية، كي لا تضيع حقوق الطفل بسبب الخلافات. 
كما حثت على تكييف برامج التعليم مع هوية المتمدرِس ومعتقده، وإغنائها بمواد تزرع فيه روح التعاون والتسامح مع الجنس الآخر ومع الشعوب والأمم الأخرى... واستلزمت كذلك احترام الأقليات المقيمة بالوطن، ونبذت كل تمييز بين الأطفال على أي أساس كان.
والإسلام كان الأسبق لإقامة مبادئه على أساس احترام باقي الديانات والتعايش معها: {وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله} (سورة الأنفال: الآية 61)، وعدم إرغام الناس على اعتناق الإسلام كرها: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيِّ} (سورة البقرة: الآية 256). وقد ورد في الأحاديث والآثار حِكم بليغة بينت بوضوح طرق التعامل مع غير المسلمين، وكيف أن السلم كان واجبَ وخُلقَ الفاتحين وأن الخروج عنه كان منافيا لتعاليم الدين.
بل إن حسن معاشرة غير المسلم كان أحد أعمدة نشر الدعوة وتحبيب الإسلام للناس وتعريفهم بخصاله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (سورة النحل: الآية 125)، {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (سورة العنكبوت: الآية 46){ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك} (سورة آل عمران:الآية 159)...كما أقام الإسلام قواعد للتعامل مع باقي الأمم، ساعيا لتحقيق الأمن والاستقرار. فاعتمد مبدأ المعاهدة، بحيث حالما تعطي دولة الإسلام الأمان والعهد لقوم، إلا واكتسب هؤلاء حرمة وذمة، ومُنِعَ الاعتداء عليهم أو المساس بحقوقهم أو أموالهم. وفي الباب أحاديث كثيرة، منها:>من قتل نفسا مُعَاهدا، لم يُرَح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما<(أخرجه البخاري في كتاب الديات وكتاب الجزية)، وفيه أيضا: >من قتل نفسا مُعَاهدا في غير كُنْهِه حرم الله عليه الجنة< (أخرجه أبو داود في باب المعاهدة)....
على أن الاعتداء على المعاهَد لا يرتب الجزاء الأخروي فحسب، وإنما أيضا جزاءات دنيوية. وقد أجملت ذلك آيات من سورة النساء: {...فإن تولوا فخذوهم  واقتلوهم... إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاؤوكم حصِرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم... فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلَم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلا... ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله... فإن كان من قوم عدوٍّ لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة...ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة} (سورة النساء: الآيات 94-89).
وانسجاما مع نفس المبدأ قال الرسول صلى الله عليه و سلم: >ديـة المعاهد نصف دية الحر<(رواه أبو داود: كتاب الديات، باب دية الذمي). وكما أن لنفس المعاهَد حرمة، فكذلك أمواله، لا يصح المساس بها لكونها متقوَّمة لا مستباحة.
خامسا: حقوق الطفل على الأسرة
الحق في الانتساب لأسرة لا يتوقف مداه عند حمل اسمها، وإنما يتعداه إلى مجموعة حقوق يكتسبها الطفل بمجرد ولادته ويتحملها الأبوان. وعلى رأسها حقه في الأبوة والأمومة. وحسب جل التشريعات الوضعية تثبت بنوة الطفل متى كان ثمرة زواج شرعي صحيح. إنما إنصافا للطفل يثبت النسب أيضا بالإقرار أو الاعتراف، مع تفاوت  وتباين بين القوانين في طرق الاعتراف وحدوده.
 ونذكِّر بأن حق الأسرة في حضانة الطفل واجب ومسؤولية أكثر منه حقا. ذلك أن اتجاه القانون المقارن والأوفاق الدولية سائر نحو تحميل الأسرة بواجبات الرعاية والحضانة والتربية والإنفاق والتدريس والتحسيس بالأمان والدفء، بهدف تحقيق نفسية سوية للطفل.
نفس القواعد أقرها الإسلام مبكرا. والأحاديث في الباب كثيرة:
(  فمنها ما يلزم الآباء بحسن التربية وإعطاء المثال في سمو الأخلاق: >كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه،أوينصرانه، أويمجسانه...< (رواه البخاري) ومنها ما يلزمهما بالعناية والرعاية والصحبة والمراقبة: >رَبِّ ابنك سبعا وأدبه سبعا ورافقه سبعا، ثم اترك له الحبل على الغارب<(1)... كما بينت أحاديث أخرى طرق التنشئة السليمة وأصولها، جاعلة من السهر على التربية عملا يفوق في أجره وثوابه كل أعمال البر والإحسان.
(  وتُوِّج ذلك بتحميل الأبوين كليهما المسؤولية عن التقصير في واجباتهما تجاه أبنائهما أو من تحت كفالتهما من الأطفال: >كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها...< (رواه البخاري ومسلم).
(  والأمر بالإنفاق على الأبناء وارد في القرآن والسنة، كما أشرنا. فاعتبر الشرع من أعظم الآثام إضاعة الإنسان حقوق من تحت كفالته: >كفى بالمرء إثما أن يضيِّع من يقوت (وفي رواية: أن يحبس عمن يملك قوته، رواه أبو داود: كتاب الزكاة، مسلم: كتاب الزكاة: باب فضل النفقة على العيال)....
(  كما حض على طلب العلم:>طلب العلم فريضة على كل مسلم< (رواه البيهقي في شعب الإيمان)، >اطلبوا العلم ولو بالصين<(رواه ابن عدي والبيهقي في المدخل والشعب.)، والأحاديث والآثار في الباب كثيرة،  وحسبنا التأكيد على أن الشرع يأمر بطلب العلم من المهد إلى اللحد(2). وبما أن الخطاب لا يمكن توجيهه للوليد في المهد، فالمعنى الوحيد هو أن الأمر موجه للآباء والأولياء لتعليم من تحت كفالتهم.
( وبما أن المرأة هي المدرسة الأولى التي يتعلم في أحضانها الطفل مبادئ التربية، فقد حرص الرسول#على تخصيص يوم من الأسبوع للنساء من أجل تعليمهن، ثم أمرهن بتنشئة أبنائهن على المبادىء الإسلامية التي حفظنها عنه. بحيث روي أن النساء اجتمعن فعلمهن الرسول مما علمه الله ثم قال: >ما منكن امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة، إلا كان لها حجابا من النار< فقالت امرأة منهن: يارسول الله؟ اثنين؟...قال: >واثنين واثنين واثنين<(1)...
سادسا: حقوق الطفل على الدولة
أضحى دور الحكومات أكثر فعالية من السابق. فبدأت تترسخ في الأذهان وسياسات عديد من الدول فكرة أنه: قبل أن تكون للدولة حقوق على مواطنيها وقبل أن تأْملَ في أن يكون لها مواطنون صالحون، تُلزَم بتوفير الظروف الكفيلة بتكوين أطفال أسوياء ورجال غدٍ مقتدرين. من ثم أقرت غالبية الدول حق الطفل في التربية والتعليم، في الصحة، في إغنائه عن العمل، وإذا ما اقتضى الحال أن يشتغل، فيلزم تحقيق ظروف عمل تلائم نعومته....
والمسؤولية عن الرعية في الإسلام، لا تقتصر على تحقيق الأمن، وإنما تتعداه لدقائق الأمور. فبمجرد الشروع في بناء أولى أواصر الدولة الإسلامية، أقيمت بنيات تحتية كانت مثالية، بحيث جُعِل من التعليم غاية سامية وُظِّفت من أجلها جميع الوسائل(2). حتى أبيح أن يكون تعليم القراءة والكتابة وتعليم القرآن أجرا، ومهرا، وفدية من الأسر(3). من جهة أخرى اعتبر تعلُّم المهن والتطبيب وممارستهما فرض كفاية، إذا تعلمه البعض سقط عن الباقين. بهذه الوسائل وأخرى، انتشر العلم بديار الإسلام ولقي العلماء كثيرا من التكريم والحظوة. وأحدِثت وسائل لتمويل الأعمال الاجتماعية، منها الزكاة والوقف والصدقات والفيء....
ذلك إذن مجمل مركز عن حقوق الطفل. يحق لنا بعده أن نتساءل عن أي منها يفتقده الطفل المهمش، وما إذا كان يحتاج لعناية خاصة من المشرع:

الهوامش
(1) لذلك نحيل من يريد التوسع فيها على المراجع الوطنية لكل بلد، وعلى أخرى في القانون المقارن، مثل:
Travaux de lصAssociation H. CAPITANT: La Protection de lصEnfant: Journées       Egyptiennes: T. XXX, 1979, (702 p.); Françoise DEKHEUWER-DEFOSSEZ: Les Droits de lصEnfant: Que sais-je:1996 (126. p.)....
(2) انظر في هذا المعنى آيات كثيرة: آل عمران 59؛ الأنعام 2، الروم 20، فاطر 11، غافر67، الحِجْر26، المؤمنون 12-14، الإنسان 2 ؛ يَس 77؛ السجدة 32؛ عبس 18....
(3) للتوسع تراجع رسالتنا لنيل شهادة الماجستير حول قتل الرأفة أو الخلاصEuthanasie  دراسة قانونية مقارنة. كلية الحقوق، الرباط،1987م، ص  192وما بعدها، محمد علي البار: خلق الجنين بين العلم والقرآن: القاهرة، 1980م، د. محمد حسن ربيع: الإجهاض في نظر المشرع الجنائي: القاهرة: دار النهضة، 1995م....
(4) سورة الإنسان: الآية 2.
(5) سورة العلق: الآية 2.
(6) رواه البخاري ومسلم في كتاب القدر....
(7) أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين ، ج 2 ، ص: 65.
(8) ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن: ص255 ، وفي مثل قوله يراجع: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري في شرح صحيح البخاري: كتاب القدر، ج 11، ص 481.
(9) {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم} (الأنعام 151)، {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خِطءاً كبيرا} (الإسراء 31)،{ وكذلك  زين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم (الأنعام 137)}.
(10) للتوسع يراجع: محمد أبو زهرة: العقوبة في الفقه الإسلامي، نظام الدين عبد الحميد: جناية القتل العمد، أحمد فتحي بهنسي في مؤلفاته عن الفقه الجنائي الإسلامي....
(11) يراجع في ذلك: ، صحيح البخاري: باب الكفارات، صحيح مسلم: باب فضل العتق، الموطأ: كتاب العتق....
(12) رواه البيهقي والطبراني. ويحمل هذا الحديث معان علمية دقيقة أثبتها العلم الحديث بحيث قابل كل مرحلة من مراحل الطفولة بما يلائمها من أصول التنشئة. فمعلوم أن الطفل في سنواته السبع الأولى يكون بحاجة للمداعبة  والتسلية، ثم بعدها يحتاج للتنشئة والتعليم والتربية السليمة، وعندما يتمها يكون قد دخل حتما طور المراهقة، بما تحمله من مخاطر، فيحتاج للمصاحبة والمرافقة إلى أن يجتازها....
(13) رواه البيهقي.
(14) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب تعليم النبي أمته من الرجال والنساء.
(15) يضيق المجال عن ذكر الآيات ولأحاديث والآثار الكثيرة التي وردت في مجال العلم، لذلك نكتفي بالإحالة عليها في كتب الفقه والحديث، التي أفردت في غالبها بابا أو كتابا خاصا بفضل العلم والتعلُّم والتعليم.
(16) إن كتب الفقه  مليئة بالأمثلة عن ذلك، حيث كان يطلب من الأسرى أن يفتدوا أنفسهم بتعليم أهل دار الإسلام، كما أجاز الرسول و حبذ أن يكون المهر بضع آيات من القرآن يعلمها الزوج لزوجته....
*********


المبحث الثاني : حقوق الطفل في الظروف غير العادية أو حقوق الطفل المهمش في المساواة مع الطفل العادي
إن القاسم المشترك بين جميع الأطفال المهمشين هو عدم التكيف مع الواقع. ومعنى هذا أن لوائح الحقوق المعددة أعلاه غير كافية للإجابة على احتياجاتهم وقضاياهم. من ثم افترضنا سلفا أن اندماجهم يقتضي دراسة خاصة لوضعية كل فئة، إن أردنا فعلا التعرف على مصادر الحرمان، وترجمتها إلى حق يَلزَم التكفل به.
 فما من شك في أن الاستثمار في ميدان الطفولة ذو مردودية عالية على المدى المتوسط والبعيد، لذلك يجب على الدول تبني برامج جريئة في الميدان. إنما ولكون الخطط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تحتاج في نهاية المطاف للدعم والتطبيق. فالعماد الأساسي هو الآلة التشريعية، أي تكريس حقوق الطفل من قبل المشرع. بمعنى أن أول خطوة هي ضرورة تكييف لوائح الحقوق مع وضعية الطفل في الظروف غير العادية، من أجل تقريبه من الطفل العادي، وتحقيق تكيفه مع ضوابط المجتمع.
وسبق أن حددنا أهم أسباب عدم التكيف، وخلصنا إلى أن كل فئة تفتقد جزءا من مقومات الطفولة العادية. من ثم فلتحقيق احتياجها يجب الاعتراف لكل منها بحقها فيما ينقصها. على أن عوامل التهميش مهما اختلفت فهي تؤدي في الغالب إلى نفس النتائج: الحرمان من النسب أو الهوية أو الأسرة أو العائل، من التمدرس، من الاستقرار، من حق المواطنة... لذلك سنحاول تركيز على ما يحتاجه الطفل المهمش من حقوق إضافية فيما يلي:
أولا : حق الطفل غير الشرعي في النسب
الاعتراف بالنسب الشرعي وحده، ليس المقصود منه أن يعيش الطفل غير الشرعي بدون اسم ولاهوية. فالذي سعى إليه الإسلام ليس محاربة الأطفال غير الشرعيين أو نبذهم، بل سعى لمحاربة اختلاط الأنساب وزواج المحارم وشيوع الفاحشة واستشراء الزنى(1)، أي استئصال الشر من جذوره.
ومن خلال مطالعة اجتهادات الفقهاء يلاحظ مدى حِرصهم على إلحاق الابن بنسب الزوج متى وجدت قرينة على الإلحاق(2). ومن أجل ذلك توسعوا في وسائل إثبات النسب، وتضييق فرص إنكاره.
( فكل طفل ولد على فراش الزوجية يعدُّ ابنا شرعيا ما لم يثبت العكس. " الولد للفراش " كما اجتهد الفقهاء في تضييق حالات ووسائل إثبات رفع النسب عن الطفل المولود على فراش الزوجية.
( وإنكار النسب له شروط محكمة في الشرع، ومِسطَرته دقيقة، بحيث قد تنقلب ضد الزوج المنكر لنسب ابنه إذا لم يُثبِت زنى زوجته أو إذا رفض الملاعنة(3)، فيقام عليه حد القذف (يجلد ثمانين جلدة). وفـي جمـيع الحـالات تحـرم عليـه
 حرمة مؤبدة ـ يفرق بينه وبينها مؤبدا ـ وتتلخص أهم طرق إنكار النسب في: اللعان، أو إثبات أن الطفل ولد خارج أجل الوضع المحدد شرعا(1) .
(  والاستلحاق أو الإقرار بالبنوة ممكن، ولا يتطلب شروطا أو شكليات معقدة، ويكفي ألا يكذب المستلحِق عقلٌ أو عادة، أي أن يكون فارق السن بينه وبين المستلحَق معقولا، وأن تكون فرصة الجماع ممكنة بين المستلحِق وأم المستلحَق. وهنالك أحاديث  وآثار كثيرة عن إلحاق الأبناء بآبائهم. فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قولها: كان عُتبة بن أبي وقاص عَهِد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص: أن ابن وليدة (جارية) زمعة مني فاقبضه إليك، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: ابن أخي، قد عَهِد إليّ فيه، فقام عبدُ بن زمعة، فقال: أخي وابن وليدة أبي، وُلد على فراشه، فتساوقا إلى النبي#، فقال سعد: يارسول الله، ابن أخي، قد كان عهد إليّ فيه. فقال عبدُ بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه. فقال رسول الله#: >هوَ لك ياعبدَ بنَ زمعة< ثم قال النبي#: >الولد للفراش وللعاهر الحجر<. ثم قال لسودة بنت زمعة (أم المؤمنين) >احتجبي منه< لما رأى من شبهه بعُتبة بن أبي وقاص(2)، فما رآها حتى لقي الله عز وجل (رواه البخاري في كتاب البيوع: باب تفسير المشبهات وفي كتاب الفرائض: باب: الولد للفراش...ومسلم في كتاب الرضاع).
كما ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يُليطُ (يُلحق) أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، مستعينا بالقيافة (جمع قائف وهو الذي يتتبع الآثار ويعرفها، والقيافة علم أو معرفة الشَّبَه وتمييز الأثر). ونُقِل عنه قوله: >ما بال رجال يطؤون ولائدهم (جواريهم)، ثم يعزلوهن؟ لاتأتيني وليدة يعترف سيِّدها أن قد أَلَمَّ بها، إلا ألحقت به ولدها. فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا< (1). 
(  كما اعتُمِد إقرار الزوج كوسيلة للإلحاق ولو بعد إنكاره نسب الولد المولود على فراشه، أو ملاعنته لزوجته. بحيث إذا لاعن زوجته أو أنكر نسب ابنها، ثم تراجع عن موقفه، طبق عليه حد القذف وأُلحق به الولد شرعا.
(  من جهة أخرى يكتفي الشرع ببينة السماع أوشهادة الشهود لإلحاق الولد بنسب شخص آخر سواء في حياته أو بعد مماته(2)... .
(  الزواج الفاسد بسبب انعدام إحدى  شرائط انعقاده، كانعدام الرضى أو عدم الإشهاد عليه... يعتبر باطلا، إلا أن الولد يلحق. وذلك خروجا عن الأصل وهو أن العقد الباطل لا يرتب أية آثار.
(  الزواج بين المحارم أيضا يعتبر فاسدا، أي باطلا لا يرتب أية آثار، ويفسخ بدون طلاق. إلا أنه إذا تم بحسن نية، أي إذا كان الزوجان جاهلين بوجود المانع الشرعي، فالولد يلحق بأبيه شرعا، رغم أن الزواج باطل، أي كالعدم. بحيث لم يرتَّب عليه هذا الأثر إلا استثناء، إنقاذا لنسب الطفل.
لكن تفاديا للمغالاة، وتوفيقا بين حق الابن في النسب وحق الزوج في التخلص ممن علِق بنسبه عدوانا، قوبلت الأحكام الواردة أعلاه بأحكام أخرى لخصها الحديث المذكور سابقا: >من ادَّعَى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام<، (رواه البخاري في كتاب الفرائض، ومسلم في كتاب الإيمان). وفي هذا الباب أحاديث أخرى مماثلة.
 والأطفال غير الشرعيين الذين يولدون رغم كل الذي أقامه الإسلام من تدابير تحرزية، لا يجب أن يؤدوا وحدهم ثمن تفشي الرذيلة أو اللامسؤولية. ولإنصافهم، أقام الإسلام مجموعة مبادئ تصون كرامتهم وتحدد لهم هوية. وهذه المبادئ قابلة لأن يقاس عليها في ما ينسجم مع روح العصر:
فالإسلام أوجب منح الأطفال غير الشرعيين أسماءً وهوية. ومن أجل ذلك، وإلى جانب الأخوة في الدين، استحسن الشرع لفائدتهم حق الموالاة، كما تلخصه آية {...فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} (سورة الأحزاب : الآية 5). ويكفي الرجوع لكتب التراث للتعرف على مدى نجاح فكرة الموالاة في إدماج عديمي النسب في المجتمعات الإسلامية، لظروف مختلفة...ونشير إلى ذلك بالإحالة على العدد الهائل للموالي الذين اشتهروا في مجال خدمة العلم والدعوةوتولوا مناصب عالية في الدولة... .
كما أقام الإسلام مبدأ الرضاعة وما يترتب عليه من أواصر متينة بين الطفل الراضع والأسرة المرضعة (الحاضنة أو البديلة). فمعلوم أن الرضاعة ليست مجرد علاقة عارضة بين الطفل والأسرة، وإنما تترتب عليها علاقة تنسحب على مستقبل الطفل بكامله. إذ يندمج في الأسرة، فيصبح ابنا من الرضاع للأم المرضعة وزوجها، وأخا لأبنائهما، لا يحل التزاوج بينه وبينهما. وهو مبدأ غاية في الحكمة. لأنه بدون تثبيت العلاقة بتلك الطريقة، لن يشعر الطفل المرضَع بالأمان والاستقرار والحنو... وكلها أحاسيس ضرورية ليعيش الطفل حياة طبيعية، فإن لم تكن صادقة لم يتحقق اندماج الطفل في الأسرة.
وبديهي أن أول خطوة لتحقيق اندماج الطفل، هي منحه اسما ونسبا ينسجمان مع المتعارف عليه. وسنكتفي بإعطاء اسم عائلي مفترض تدَوِّنه السلطات المعنية بسجل معد خصيصا لذلك، شريطة ألا يكون الاسم المفترض مما يخل بالآداب أو يخدش مشاعر الطفل.
ولضمان عدم اختلاط الأنساب من المستحسن أن يقيَّد إلى جانب الاسم العائلي المفترض، الاسم الشخصي الحقيقي لأحد والدي الطفل إن عُرِفا. ولحمايته من اكتشاف حقيقته مبكرا، يمكن تسجيل اسماء مفترضة لوالديه. ولنفس الغاية وحفظا لكرامته، نحبذ إحداث سجل خاص، بشرط أن يكون غاية في السرية، تدَوَّن فيه حقيقة الطفل، وكل الوقائع والمعلومات المتعلقة بالظروف التي عثر عليه فيها (كتحديد مكان اللقطة، وما كان يحمله من ملابس...). فمثل هذه المعلومات، من جهة أخرى، تسهل عليه مستقبلا، العثور على أسرته الحقيقية، وتسهل على الوالدين الحقيقيين العثور عليه في أية لحظة استيقظ فيها ضميرهما وعواطفهما.
ومعلوم أن عديدا من القوانين المقارنة تسمح بمنح الطفل المتبنَّى نفس اسم العائلة التي تتبناه، إلا أن الاتجاه الحالي يميل نحو التحرز حيال التبني والتضييق من منح الأطفال أسماء المتبنين، لحفظ هوية الطفل الحقيقية، وحماية له من أن يُسحَب منه هذا الاسم مستقبلا. من ذلك مثلا قانون فرنسي حديث أدخل مجموعة متراصة من القواعد الكفيلة بحماية الطفل في مختلف الأوضاع، خصوصا بعد أن تدخَّل سلطان المال وحاد بالتبني عن أهدافه النبيلة (1).
ثانيا : حق الطفل المحروم من الأسرة في أسرة بديلة
مَنْع الشرع للتبني لا يقصد به حرمان الطفل من الانتساب لأسرة ما حقيقية أو بديلة، وإنما فقط منعا لاختلاط الأنساب. وتوفيقا بين الأمرين ابتدع الشرع الرضاع والتنزيل والموالاة ... .
* فالرضاع يمكِّن الطفل من الغذاء والحنان والتنشئة والأسرة...إذ من آثاره خلق وشائج عائلية بينه وبين أسرته من الرضاع... .
* والتنزيل يعني تنزيل ابن ليس من الصلب منزلة الولد، وبالتالي تمتيعه بكل الحقوق التي يتمتع بها الطفل العادي، مع تمييز طفيف، وهو عدم منحه النسب الحقيقي للمتبني، وأيضا جعل نصيبه من الميراث في حدود الثلث... .
*  والموالاة أخوة بين شخصين يتفقان على أن يتكفل أحدهما بالآخر وأن يتوارثا... .
فهذه الطريقة طالما حققت التكافل بين الناس عبر تاريخ الإسلام وتحقق اندماج الأطفال المتخلى عنهم وتبوأوا مكانات كباقي الناس... بدليل أن التشرد أو هجر الأطفال ظواهر حديثة بالمجتعات الإسلامية.
والملاحظ أن قوانين جل الدول الإسلامية، سكتت عن حقوق الأطفال غير الشرعيين، خصوصا ما يتعلق بحضانتهم أو التكفل بهم، أو إلزام الدولة بالتكفل بهم، أو تشجيع الأسر على احتضانهم... وذلك ربما لتحرجها من ظاهرة الأطفال غير الشرعيين. فكانت النتيجة أن تزايدت أعداد الأطفال المحرومين من الأسرة، في صمت.
هذا في حين تعامل معهم الشرع برحمة وتفهم. ويمكن إجمال موقفه في كون الرسول#قبْل إقامة حد الرجم علي الغامدية، دفع بابنها لرجل صالح من المسلمين ليتولى تربيته ورعايته. وذلك إلى جانب عدد هائل من الآيات والأحاديث التي تحض على إكرام اليتيم ورعايته والتكفل به وتربيته وصونه(1)، أيا كان سبب اليتم، وسواء كان اليتيم معلوم أو مجهول الوالدين .
وفي الآثار ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه رجل بطفل وجده منبوذا، فقال عمر: >ما حملك على أخذ هذه النَّسْمة؟ قال وجدتها ضائعة فأخذتها. فقال له عَريفُهُ: ياأمير المؤمنين، إنه رجل صالحٌ. فقال عمر: أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: اذهب فهو حرٌّ ولك ولاؤه، وعلينا نفقته< (الموطأ: باب القضاء في المنبوذ).
وروى سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله#: >أنا وكافل اليتيم في الجنة، هكذا< وقال بإصبعيه السبابة والوسطى. (رواه البخاري في كتاب الأدب: باب فضل من يعول يتيما).
وإن هيئة الأمم المتحدة (اتفاقية 1989م) وهي بصدد تعداد لائحة الحقوق حاولت تكييفها مع الظروف الثقافية والعقائدية لكل دولة. فبعد أن أقرت حق الطفل في التبني، تحدثت عن حقه في التكفل به ـ أوتنزيله منزلة الولد ـ كما هو في الشريعة الإسلامية ـ(1)... حاضة الحكومات على الاحتفاظ بحق التدخل والمراقبة للتأكد مما إذا كان الطفل يحظى بالرعاية والتربية... ثم تولَّت اتفاقية لاهاي (29 ماي 1993) تنظيم التبني خارج الوطن. وحماية لهويته الثقافية وعقيدته حثت على أن يحصل التبني من قبل مواطني الدولة التي ينتمي إليها الطفل... ولا يُلجَأ للتبني خارج الوطن إلا في الظروف القاهرة. وفي هذه الحالة حثت على إنشاء لجنة اجتماعية تمر عبرها كل طلبات التبني خارج الحدود، معتبرة كل تبنٍ مباشر وبدون استشارتها غير مشروع.
ثالثا : حق الطفل المحروم من النفقة في مورد للعيش
لما جاء الإسلام وواجهه التباين الطبقي لم يسع إلى اجتثاث الغنى بل لمحاربة الفقر. فحث الناس على العمل والسعي والمواظبة، ونبذ الاتكال والخنوع جاعلا من الخدمة على العيال واجبا وصدقة وحسنة تتقدُم كل أعمال الخير، معتبرا اليد العليا خيراً من اليد السفلى. كما حارب البخل وكنز الأموال، وأقام قواعد متراصة تكفل تداول الثروات بين الناس، وعدم  تكديسها في يد الأغنياء.
وفي المقابل، إذا عجز الإنسان عن الكسب وضمان قوت عياله، أو وُجِد طفل بدون عائل، فالحكم الشرعي أن العشيرة تتكفل به... وإلا تولى ذلك بيت المال. فأقام الشرع نظما لتمويل أعمال التكافل (الضمان الاجتماعي) وعلى رأسها الزكاة (2)، أحد أركان الإسلام: {وفي أموالهم حق  للسائل والمحروم} (سورة الذاريات: الآية19 ). ثم حدد طرق إنفاقها بشكل يشمل المحرومين: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله} (سورة التوبة: الآية 60)،{وآتَى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل...} (سورة البقرة : الآية 177)....
لذلك فنُظُمُ الضمان الاجتماعي الحديثة ليست غريبة عن الإسلام، وإن بدت في الواقع غريبة عن بعض المجتمعات المسلمة التي ابتعدت عن تعاليمه. فلا عجب إذن أن ينسجم ما استقرت عليه الأوفاق الدولية مع روح الإسلام.
فاتفاقية 1989م بشأن حقوق الطفل كرست حق الطفل في النفقة والإسكان... مستهلة قولها:>تعترف الدول الأطراف بحق كل طفل في مستوى معيشي ملائم لنموه البدني والعقلي والروحي... يتحمل الوالدان أو أحدهما أو الأشخاص الآخرون المسؤولون عن الطفل... بتأمين ظروف عيش ملائمة لنموه... وتتخذ الدول الأطراف التدابير الملائمة لمساعدة الوالدين...(م27).
رابعا : حق الطفل المهمَّش في التربية  والتعليم
عوامل التهميش السالف سردها تجتمع في نهاية المطاف لتحرم الطفل من التمدرس. والحرمان من التعليم لوحده يعتبر كافيا للتهميش. لأن مستقبل الشعوب هو العلم، والموارد البشرية هي الثروة الأساسية في عصر المعرفة. من ثم تبقى الأمية من أكبر عوائق الاندماج والتقدم.
ففي الدول المتقدمة أُرفِق حق الطفل في التمدرس بفرض نظام التعليم الإجباري مع تفاوت في مستوى ومدة الإجبارية. و تعزَّز الإجبار بالبنيات التحتية الضرورية والدعم المالي للأسر. ثم أرفق بعقوبات قد يكون من ضمنها مصادرة حق الأسرة في حضانة الطفل... نفس الشيء يقال عن الأنشطة الموازية والتكوين المهني... بحيث تلتزم الدولة فوق ضمان الهياكل الضرورية، بالمراقبة والتفتيش الفعلي للمؤسسات وسلوكات الأسر.
من ثم ـ لإصلاح الطفل غير المتكيف وإعادة تأهيله وإدماجه ـ يجب ضمان حقه في التعليم وتوفيره له بوسائل عملية ملموسة وإيجابية. كما يلزم الاستعجال في فرض تعليمه وإعادة تأهيله، إنقاذاً له ولذريته. وإذا كان لنا أن نعود لروح الإسلام، فلن نفاجأ بوجود تعاليم حرصت على أن ينال كل طفل نصيبه من التربية السليمة والتعليم والاندماج في الأسرة والمجتمع.
ولضيق المجال نحيل على ما أوردناه من آيات وأحاديث وآثار، تجعل من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، لا فرق بين محظوظ ومحروم، ذكر وأنثى، ودون وضع حد لسن التعلُّم، وأحاديث أخرى تثبت إلى أي حد استُغِلَّت كل الوسائل لنشر العلم. وحسبنا أن نذكِّر بأن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يفرج عن الأسير لقاء تعليمه عشرة من أبناء وبنات المسلمين، وأن الشرع جعل تربية الولد والإحسان إليه أفضل من الصدقة ومن كل أبواب البِر والإحسان. وفي الباب أحاديث كثيرة منها: >أكرموا أولادكم  وأحسنوا أدبهم< (رواه ابن ماجة: كتاب الأدب )، و>...أن يؤتِيَ أدبه، وإن أدب الله القرآن< (رواه الدارمي: كتاب فضائل القرآن1) ومنها: >ما نحَل والدٌ ولَدَه أفضل من أدبٍ حسن<، و>لأن يؤدب الرجل ولدَه خير له من أن يتصدق بصاع< (رواهما الترمذي: كتاب البر).
وهيئة الأمم المتحدة، في إطار اتفاقية 1989م، حضت الدول على تفعيل الوسائل لضمان حق المواطنين في التعليم، وتكييف برامجه مع الأوساط الاجتماعية ومع المعتقَدات الدينية. حاضة على استعمال كل السبل لمحاربة ترك الدراسة؛ وعلى التعاون الجهوي المشترك لتبادل الخِبرات ومحاربة الأمية...(م28-30).
خامسا : حماية إضافية للطفل المحروم من الاستقرار
كثير من حالات عدم التكيف ترجع لانعدام الاستقرار بسبب النزوح واللجوء والتشرد والافتقار لأسرة حاضنة والافتقاد للجنسية، سواء في ظروف السلم أو الحرب. 
والإسلام هنا أيضا كان السباق لحماية هذه الفئات، بأن حثَّ على التكفل بالأطفال المتخلى عنهم ومنحِهم كل ما يحتاجونه من عطف وحنان وتربية وتعليم. واعتبر كل طفل مولود في دار الإسلام حرا، منتميا لها، له حقوق على بيت مالها كما أسلفنا. أما عن اللجوء فليس ثمة أبلغ من مثال المهاجرين والأنصار، وما جاء من رموز لإدماج المهاجرين في المجتمع الجديد بشكل مثالي يلزم الاعتبار به.
كما أقام الإسلام أخلاقيات للحرب والفتح منها عدم المساس بالطفل والمرأة (أي حاضنة الطفل). فقد روي أن الرسول صلى الله عليه و سلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فأنكر ذلك ونهى عن قتل النساء والولدان (البخاري: كتاب الجهاد والسير: باب قتل النساء، ومسلم: كتاب الجهاد والسير،باب النهي عن قتل النساء والصبيان...). كما روي عنه أنه نهى من قتلوا ابن أبي الحُقيْق عن قتل النساء والولدان. فكان رجل منهم يقول: برَّحَتْ (أظهرت أمرنا) امرأة ابن أبي الحقيْق بالصياح. فأرفع السيف عليها، ثم أذكر نهي رسول الله#، فأكُف، ولولا ذلك استرحنا منها(الموطأ:كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل النساء الولدان...).
وروى عن الإمام مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل من عماله أنه:>بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية يقول لهم:>اغزوا باسم الله. في سبيل الله...تقاتلون من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدروا، ولا تَمْثُلوا، ولا تقتلوا وليدا، وقل ذلك لجيوشك وسراياك< (الموطأ: كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو). وروي أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان ـ وكان أمير ربع من تلك الأرباع ـ فأوصاه قائلا : >...وإني موصيك بعَشرٍ: لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا...< (الموطأ: كتاب الجهاد،باب النهي عن قتل النساء والولدان...).
 وهيئة الأمم المتحدة في اتفاقية 1989م توقفت عند هذه الحالات بالذات، حاضة الدول الأطراف على احترام الأقليات(م30)، ومنح الطفل اللاجئ كل ما يحتاجه من مساعدات وتمتيعه بكافة الحقوق كباقي الأطفال(م22)... .
سادسا : حق الطفل المعاق في التغلب على الإعاقة
هنا أيضا حمل الإسلام عبرا كثيرة يُستدَل بها على ضرورة دمج المعاق في المجتمع. ونختزل ذلك في مثال ابن أم مكتوم الضرير، الذي من أجله تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم أول وآخر عتاب إلهي: >عبس وتولى<. حيث كان الرسول#منشغلا مع سادة قريش يدعوهم للإيمان، وإذا بابن أم مكتوم يقاطعه قائلا: يارسول الله أقرئني مما علمك الله؛ فيُعرض عنه، فنزلت الآية { عبس وتولى أن جاءه الأعمى..} .
 ابن أم مكتوم هذا سيكون له شأن وسيصبح والي المدينة مرتين، كرمز مثالي على قدرة المعاق على التغلب على عاهته، والاندماج في المجتمع متى حظي بالرعاية التي يحتاجها. فالعتاب الموجه للرسول#لم يكن الهدف منه سوى تنبيه جميع المسلمين وحثهم على الاعتناء بالشخص المعاق واستثمار طاقاته.
 وقد نال المعاق كثيرا من اهتمام هيئة الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة. فبجانب إعلان 1959م واتفاقية 1989م، حيث احتل الطفل المعاق حيزا هاما، صدرت مجموعة أوفاق خاصة به، كإعلان 1969م بشأن الطفل المعاق؛ تصريح 1971م الخاص بالمعاق ذهنيا، إعلان 1975م بشأن الأشخاص المعاقين....
سابعا : حماية خاصة  للأطفال المعرضين للاستغلال والاعتداء
إن أسباب استغلال الطفل لا حدود لها، بسبب كونه أضعف مخلوق. والاستغلال قد يأتي من أقرب الأقرباء، كما قد يأتي من المشغِّل، أو من أي شخص أو عصابات إجرامية أو... وبذلك أضحى من واجب الدولة التدخل لرفع الحيف عن الطفل ليس من الغرباء فحسب، بل حتى من ذويه:
1 . حق الطفل في التخلص من الأسرة متى كان وجوده معها مضرا به
 أشكال الضرر تختلف، فقد يكون الأب أو الأم غير صالحين فينعكس سلوكهما على تربية الطفل، وقد يمارسان عليه أشكالا من التعذيب الجسدي أو النفسي، وقد يحرَم من النفقة؛ أو ينفصل الزوجان ويقيم الطفل مع أحد أبويه المتزوج بالغير... وفي جميع الحالات فضرر الطفل بيِّن ومستقبله مهدد.
ويتوجه القانون المقارن والأوفاق الدولية (1) نحو تمكين الدولة من حق التدخل لرفع الحيف عن الطفل الضحية. إذ حاولت التشريعات تصور الأوضاع غير السليمة وإيجاد حلول لها. وبذلك فرضت النفقة على العائل وأوجدت طرقا لإلزامه بصرفها،  وحددت الحاضن فيمن يُفْتَرَض أنه يحرص على الطفل أكثر، ثم منحت الطفل، ـ متى وصل سنا معينة ـ، حق اختيار مع من يريد أن يقيم من أبويه أو من ذويه وأجازت سحب الحضانة من الأسرة، متى كان الأب عنيفا مثلا، أو اقترف اعتداءات جسدية أو جنسية ضد الأطفال... .
نفس الأحكام السابقة تستخلص من الشرع. وذلك بكل بساطة لأن الإسلام يعوِّل كثيرا على الطفل، رجل المستقبل. والأحكام في الباب كثيرة وتتكامل فيما بينها. فعديدة هي الآيات والأحاديث التي أقرت حقوق الطفل في الحضانة والنفقة، وحفظ أمواله وحسن تسييرها، كما أسلفنا. وأخرى نهت عن العنف ضد الأطفال وأوصت بحسن المعاملة والليونة والإحسان إليهم، وحسن التربية والتعليم والتكفل بالأيتام والمعوزين (2)... .
ففي بـــــاب الإيصـــــــاء بالإحسـان للأطفال وحسن تربيتهم وتعليمهم قواعد الدين، ـ بالإضافة للأحاديث السابقة ـ، هنالك أحاديث كثيرة تبين ثقل المسؤولية الملقاة على عاتق الآباء والأولياء :
>إنما سماهم الله أبراراً لأنهم برّوا الآباء والأبناء. كما أن لوالديك عليك حقا، كذلك لولدك عليك حق< (رواه البخاري في "أدب المفرد" من حديث ابن عمر).
>رحم الله والدا أعان ولده على بِـره< (رواه الطبراني من حديث ابن عمر)(1).
>... فإذا بلغ ست سنين أُدِّب، فإذا بلغ تسع سنين عُزل فراشه، فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضُرب على الصلاة...< (أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الضحايا والعقيقة).
وبالمقابل أمر الشرع الأبناء ببر الوالدين وحرم العقوق وجعله درجة من درجات الشرك. قال الله تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانــا} (سورة الإسراء: الآية 23). {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} (سورة العنكبوت: الآية8). {واعبدوا الله والاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً...} (سورة النساء: الآية 36). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت النبي#أيّ العمل أحب إلى الله؟ قال: >الصلاة على وقتها< قلت: ثم أيّ؟ قال: >بر الوالدين<...(رواه البخاري ومسلم).
2. الحماية من الاستغلال في الشغل
بقراءة التاريخ يتبين أن الإسلام لما جاء واجهته ظواهر متفشية، منها ظاهرة الغلمان والرقيق كصور لتشغيل الأطفال. فلم يكن يملك سوى التعامل مع الواقع بتحرز في أفق احتواء الظواهر والقضاء عليها بالتدريج. ويمكن اختزال موقف الشرع في حديث: >لاعب ابنك سبعا وأدبه سبعا وصادقه  سبعا...< حيث لامكان في هذه المدة بكاملها للتشغيل... لكن إن اقتضت الظروف أن يشتغل الطفل، فيجب أن يتم ذلك برحمة وإشفاق على نعومته وليونة عوده، فالدين المعاملة، والإحسان يجب أن يكون في كل شيء... .
أما تشغيل أبناء الغير فكان يتم في القديم تحت نظام الاسترقاق، لذلك جاءت الآيات والأحاديث حاثة على حسن معاملة العبيد وعدم استغلالهم: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا... وما ملكت أيمانكم} (سورة النساء: الآية 36). والأحاديث كثيرة، نكتفي ببعضها:
 عن أبي ذر أنه  سابَّ رجلا (بلال) على عهد الرسول، فعيره بأمه، فقال النبي:#>إنك امرؤ فيك جاهلية. هم(أي الأرقاء)إخوانكم وخَوَلُكم (خدمكم)، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان له أخ  فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم< (رواه البخاري: باب العتق). وفي كتب الصحاح أحاديث من رواة عدة، تبين أن من آخر ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم لما حضره الموت، الإحسان للخدم. من ذلك قوله:#>الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم< (رواه أبو داود من حديث علي: باب العتق). >اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم... ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون...< (مفرق في عدة أحاديث) >أطعموهم مما تأكلون... ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم< (حديث أبي ذر، رواه أبو داود: كتاب العتق)(1) .
والواقع أن تشغيل الأطفال في سن اللعب والتسلية والتمدرس، ظلم اجتماعي رهيب وخرق لأبسط الحقوق. إنما ونظرا لانتشار الظاهرة وفشل السياسات المنتهجة حتى الآن في القضاء عليها، لم يبقَ من مجال أمام القوانين المقارنة سوى محاولة احتوائها لخفض المخاطر التي تعترض الطفل(2). لذلك نجد جلها يقلص ساعات العمل إلى الحد الذي لا يضره، ويمنَعُ تشغيله في أماكن وأعمال معينة تهدد صحته أو نفسيته وأخلاقه. ووعيا من اتفاقية 1989م بعدم فعالية القوانين الداخلية في الحد من ظاهرة تشغيل الأطفال، حضت على حمايتهم مما يتعرضون له من استغلال وإهانات، بالبلدان النامية بالخصوص.
3. الحماية من الاعتداءات(3).
الأطفال أكبر ضحايا العنف. وإذا كانت الاعتداءات الجسدية تبدو عادية ببعض المجتمعات، فإنها غالبا ما تكون خطيرة، لما لها من عواقب على نفسية الطفل. والعنف الجسدي يمارس على الطفل بالعالم الثالث من قبل الأسرة، المدرسة، المشغل، عامة الناس... نظرا لانتشار العنف به.
والأخطر منه العنف الجنسي، لما له من عواقب نفسية واجتماعية تعصف عادة بمستقبل الطفل كلية. هذا العنف بالذات في تزايد مستمر بالنظر للتحولات التي تعيشها المجتمعات المعاصرة، وما صاحبها من تفسخ خلقي وتشرد الأطفال، واستغلالهم للدعارة وإقبال الكبار على ممارسة الجنس على الصغار، بسبب عقد وحشية وطغيان المال، وبسبب ما تمارسه وسائل الإعلام وغيرها من انتهاك للآداب العامة وتحريض على الدعارة... .
والأحاديث في الباب كثيرة، وإضافة لما أسلفناه عن الحماية التي أولاها الشرع للطفل، نذكر الأحاديث التالية: >اللهم إني أُحَرِّج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة< (رواه ابن ماجة في كتاب الأدب: باب حق اليتيم). ومعنى أحرِّج: ألحق الحرج والإثم، وأحذِّر من ذلك، وأزجر زجرا أكيدا. ومعنى الحديث أنه يحذر من كل اعتداء على الضعفاء، أيا كان نوع ضعفهم، وأيا كان نوع الاعتداء.
كما أقام الشرع قواعد متكاملة تحقق حماية أكيدة للطفل ضد الاعتداءات الجنسية. من ذلك أمره بعزل فراش الأطفال، وأمره بغض البصر ونهيه عن النظر لمحاسن الأطفال سواء منهم الإناث أو الذكور. كيف لا وظاهرة إتيان الغلمان كانت مستثرية قبل مجئ الإسلام. لذلك تكرر نهي الشرع عن النظر للصبيان متى كان الهدف من النظر الاستمتاع، واعتبر النظر إليهم أسوأ من النظر للنساء، لأن الثاني ينصلح بالزواج، والأول لا سبيل لإصلاحه سوى بالامتناع عن النظر. واعتُبِر مجرد النظر لوجه الصبي بالشهوة حراما مطلقا، فأحرى الاعتداء عليه جنسيا.
وإن هيئة الأمم المتحدة من جهتها، حضت، في اتفاقية 1989م على اتخاذ تدابير تشريعية وإدارية فعالة لمحاربة خطف الأطفال والاتجار بهم، وحمايتهم من العنف والاستغلال الجسدي أو الجنسي ...(م 32 ـ 36).
ثامنا : حقوق الطفل الجانح  في إعادة تأهيله
حتى عهد قريب كان مصير الطفل الجانح العقاب. ومع البحث ثبت أنه من الظلم مساءلة شخص لا يتمتع بالإرادة. آنذاك فقط بدأ الحديث عن وسائل أخرى لتقويمه. وفي الغَرب كلَّفت ظاهرة الجنوح طوال القرن الثامن والتاسع عشر، أبحاثا وموارد ضخمة لفهمها وإنشاء عدة مدارس. وانتهى المطاف إلى اعتبار الظروف الاجتماعية المسؤول الأول عن الجنوح واعتبار الانحراف مجرد مظهر لعدم القدرة على التكيف  وتمردٍ من الحَدَث على الظلم الذي تجرعه. فحصل استقرار على أن الجانح مريض يحتاج للعلاج، وليس مجرما يستحق العقاب.
وإن ظاهرة الجنوح التي عانت منها الدول الغربية في القرن الماضي ولاتزال تعاني منها، انتقلت للبلدان النامية، بصحبة التحولات الاقتصادية ـ الاجتماعية. مع فرق كبير بينهما في مقدار الوعي بخطورة المشكل، وطرق التصدي له.
واتفاقية  1989م نبهت لعدم فعالية التدابير التي تبنتها الدول، ولا سيما الدول النامية، في الحد من ظاهرة الجنوح. فبادرت للحث على الاهتمام بها أكثر:>تتخذ الدول كل التدابير لتشجيع التأهيل البدني والنفسي وإعادة الاندماج الاجتماعي للطفل... ويجري هذا التأهيل عادة في بيئة تعزز صحته<.
أما الإسلام فاعتمد الوقاية أكثر من العلاج. إذ حضَّ على تربية الطفل أفضل تربية وتهذيب نفسه، وتنشئته على احترام الذات و حفظ كرامته... إضافة لتدابير وقائية تهدف لاتقاء التهميش وتتفادى منح الحياة لأطفال يكون مصيرهم الحرمان المفضي للجنوح: فتحريم الزنى وحده يقلص أعداد الأطفال غير الشرعيين والذين لا عائل لهم... إلى جانب الدعوة لإقامة الزواج على أسس متينة، واختيار الزوج المناسب، وحث من لم يستطع الباءة على عدم التزوج، وبغض الطلاق وحفظ صحة الأم، والانضباط حتى في زمن الحرب، وتوفير بيئة اجتماعية ملائمة والتقليص من التباين الطبقي... فهذه كلها أمور، إلى جانب أخرى، إذا أخذت بشمولية وطبقت كما يجب، أثبتت مدى فعالية النظام الإسلامي في الحد من عوامل التهميش.
لكن تركيزنا على الوقاية يجب ألا يعني أن الوسائل الوقائية تؤدي لاستئصال ظواهر اللااندماج أو التهميش بالكامل، بدليل أنها وجدت حتى في العهود الزاهرة للإسلام، تحت عدة صور. لذلك فالعلاج يبقى ضروريا أيضا. ومن أفضل العلاجات التي أقامها الشرع: نظام التكفل والتنزيل والرضاع و إيجاد أسرة بديلة صالحة ومستقرة للطفل المحروم، وتربيته و تعليمه...  بهذه الوسائل المتكاملة، يمكن اتقاء ردات الفعل التي تدمر عادة الحدث قبل أن تدمر من وُجِّه التمرد ضده.  وفي جميع الحالات فدور الدولة لا غنى عنه للمراقبة وإيجاد البنيات التحتية الكفيلة بتعويض الطفل عن الحرمان. وقد أعطينا أدلة بليغة عن البعد الاجتماعي للإسلام.
 لكن إذا كانت قوانين الدول الإسلامية تكرس جزءً كبيرا من هذه الحماية، وكانت ظاهرة التهميش لا تزيد إلا تفاقما، فمعناه أن فشل الحماية يعود لأسباب أخرى ربما غير تشريعية، يجب أن نتعرف عليها.
الهوامش
(1) فالإسلام عوَّل على الوقاية أكثر من العلاج، بإقامته نظاما يحكم العلاقة بين الجنسين ويشجع على الإحصان والتزاوج. وبالمقابل عاقب الزنى والخيانة الزوجية والاغتصاب... .
((2 راجع بعض النوازل مثلا في الموطأ للإمام مالك: كتاب الأقضية، باب القضاء بإلحاق الولد بأبيه.
(3) فلإثبات زنى الزوجة يلزم الإتيان بأربعة شهداء، فإن لم يكونوا أربعة شهداء لزم الزوج الملاعِن أن يقسم أربع مرات أنه من الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم تقسم الزوجة بمثل ذلك والخامسة غضب الله عليها، استنادا لقوله تعالى: { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسُهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسه أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرؤا عنها العذابَ أن تشهد أربعَ شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسةَ أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين }(سورة النور: الآيات : 6 ـ9). فإن رفض الزوج الإدلاء بالقسم، أو إذا تراجع عنه اعتبر ذلك منه قذفا في حق زوجته، فيقام عليه الحد (ثمانين جلدة).
(4) اختلف الفقهاء في تحديد أدنى وأقصى أجل الوضع لاعتبار الطفل شرعيا. وقد ذهب بعض الفقهاء بعيدا فحدد المدة القصوى في خمس سنوات بعد انفصام الزوجية (المالكية)، وحددها البعض الآخر في سنة، وهو الراجح. أما أدنى الأجل فلم يثر خلافا كبيرا، ويكاد الفقه يجمع على أنه ستة أشهر من تاريخ إبرام العقد، استنادا لآيات الحمل والرضاع: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} (الأحقاف 15)، { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين }(البقرة 233). إذ بخصم مدة الحولين ( 24شهرا) من الثلاثين شهرا يكون الفرق هو ستة أشهر. وبناء على ذلك اعتبرت هذه المدة أدنى أمد الحمل، ليولد الطفل قابلا للحياة.
(5) لكونه من غير محارمها، فلا يحق لها رؤيته، بسبب ما لاحظه من شبه بينه و بين عتبة بن العاص،  ومع ذلك اعتبره ابنا لزمعة لأنه ولد على فراشه، وفي الشرع الإسلامي الولادة على فراش الزوجية قرينة على أن الولد من الزوج ما لم يثبت العكس، بالأدلة المحددة شرعا.
(6) يراجع الموطأ للإمام مالك: إسعاف المبطأ برجال الموطأ للسيوطي: باب القضاء بإلحاق الولد بأبيه. وباب القضاء في أمهات الأولاد.
(7) يراجع الموطأ في باب القضاء في ميراث الولد المستلحَق.
 (8)  F.  DEKHEUWER-DEFOSSEZ : Les Droits de lصEnfant, op. cit, p . 52... .
(9) فالإنفاق على اليتيم يعد أهم أبواب الإنفاق من الخيرات، وذلك في إطار :
( الزكاة أو الصدقات، والآيات في الباب كثيرة: { وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين} (البقرة 177)، { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} (الإنسان 8)، { قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين }(البقرة 215).                                     
أو قسمة التركة: { وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه }(النساء8).
أو الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} (الأنفال41)، {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله و للرسول و لذي القربى و اليتامى والمساكين وابن السبيل} (الحشر7).
( كما أوصى بالإحسان للأيتام: {ويسألونك عن اليتامى، قل إصلاح لهم خير} (البقرة 2200)؛ { لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى } (البقرة 83) {فأما اليتيم فلا تقهر} (الضحى9).
( واعتُبر عدم إكرام اليتيم معصية كالشرك، وأحد أسباب غضب الله على الأمم: { أرايت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدعُّ اليتيم } (الماعون2-1 )، { كلا، بل لا تكرمون اليتيم }(الفجر 17).
( وحرص الشرع على حماية أموال اليتامى ونظم كيفية تسييرها وتسليمها لهم إذا بلغوا الرشد: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده}(الأنعام 152؛ الإسراء 34)؛ { وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} (النساء 2)، {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم، و لا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا، ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم،} (النساء6)، كما بين شروط التزوج من يتامى النساء: { وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن، والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط} (النساء127):
(10) وإن كانت اتفاقية لاهاي في 29 ماي  1993مثلا لا تخفي تحفظها من التبني، كلما تعلق الأمر بالدول الإسلامية معتقدة أنها تحرم التبني مطلقا. لذلك فنحن مطالبون بتنوير الرأي العام الدولي بشأن موقف الإسلام الصحيح، من التبني وإحلاله محل التصور الذي كونته عنه الثقافات الأجنبية.
(11) تكرر فرض الزكاة في أزيد من 30 موضعا في القرآن الكريم، واقترنت في جلها بالصلاة... .
(12)  C. NEIRINC : La Protection de la Personne de lصEnfant contre ses Parents,1984.
(13) للتوسع يراجع مثلا الموطأ في كتاب: العقيقة، الطلاق، الرضاع، الأقضية؛ الإحياء: كتاب آداب النكاح.
(14) رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب، من حديث علي بن أبي طالب. ورواه النوقاني من رواية الشعبي مرسلا. يراجع الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 2 ، ص 237.
(15) يراجع أيضا البخاري: كتاب العتق، مسلم: كتاب العتق، الموطأ كتاب العتق والولاء، الإمام الغزالي: إحياء علوم الدين، ج 2، ص 239 .
(16) انظر مثلا: الشويرجي: رعاية الأحداث في الإسلام والقانون المصري: منشأة المعارف،الاسكندرية، 1985 آمال جلال: بعض الجوانب القانونية لرعاية الطفولة: المجلة المغربية للقانون والسياسة  والاقتصاد.
(17) Voir ex: D. DUVAL-ARNOULD: Le Cors de lصEnfant: Paris 1994; H. MANSEAU: Lصabus Sexuel et lصinstitutionnalisation de la protection de la Jeunesse: ISBN 1990 ...
********














الفصل الثالث
برامج مناهضة التهميش بالدول الإسلامية: أسباب الفشل

نذكِّر بأن مظاهر التهميش تختلف من طفل لآخر: إذ قد تأخذ شكل رفض للتمدرس أو حرمان منه، أو عنف أو سطو أو انضمام لعصابة أو تعاطٍ للسموم أو للدعارة، أو تمرد... ومعلوم أن عدم التكيف يختلف تماما عن صراع الأجيال، مثلما يختلف تنوع وجهات النظر حيال القيم، عن التمرد عليها....
ومعلوم أيضا أن معظم الدول الإسلامية وافقت على القوانين المعاصرة المنتصرة لحقوق الصغار، كما وَقَّعت على الأوفاق الدولية. بينما احتفظ البعض منها بالنظام الإسلامي المثالي الذي انتصر قبل غيره لحقوق الطفل، مما يؤكد أن المصدر الإسلامي حاضر إما بشكل مستقل أو ممزوج بروح العصر.
فكيف إذن في بلاد تنتمي لأنظمة تصون الطفل وترعاه، تنتشر ظاهرة الأطفال المهمشين أو غير المندمجين؟ هل العيب في النظام القانوني الشرعي أم العيب في الازدواجية أم في شيء آخر؟ وإذا علمنا أننا بصدد دراسة الظاهرة في دول تدين بدين كان أسبق من غيره لحماية الطفل، فهل معنى ذلك أن مصدر المشكل بهذه الدول هو دينها أم هو تخليها عنه؟.
من أجل الجواب يلزم استجلاء: أسباب  تزايد أفواج الأطفال المهمشين؛ مُستَهِلِّـين بالعوامل الظاهرية المباشرة للتهميش (المبحث الأول)، بعد ذلك يجب التنقيب عن العوامل غير المباشرة التي تزيد من تعقيد الظاهرة(المبحث الثاني):

المبحث الأول:  عوامل مباشِرة  لتهميش الأطفال
حقيقة أنه من الصعب الإحاطة بحقائق المجتمعات الإسلامية كافة ووضع اليد على خصوصياتها. إنما تنوع المجتمعات لا يعني الاختلاف، فمهما تكن مظاهر التباين، هناك سمات مشتركة و ظواهر تتكرر بجل المجتمعات، وعوامل هي في العمق نفسها أنى اختلفت المظاهر الخارجية.
فعدم التكيف ما هو إلا ظاهرة، عَرَضية، والتوقف عنده يعني معالجة النتائج لا الأسباب. لهذا سنحاول إبراز أسباب التزايد المستمر لأعداد الأطفال المهمشين بالعالم الإسلامي. وبما أننا عدَّدنا نماذج مختلفة، فطبيعي أن أسباب اللاتكيف تختلف من نموذج لآخر. لذلك يلزم التوقف عند أهمها:
أولا: أسباب الـيُتم
اليتم ليس ظاهرة جديدة، إنما الجديد فيه انضمام عوامل حديثة لأخرى تقليدية. فمن الأسباب التقليدية للوفاة اللصيقة بالتخلف، الحمل والوضع، الذي تموت بسببه ملايين النساء بالعالم الإسلامي. وفي هذا السياق يجدر التنبيه للرقم المهول الذي صاغته منظمة الصحة العالمية سنة 1996م، حيث يصل مؤشر الوفيات بسبب الوضع في العالم الثالث إلى 1600 من كل 100 ألف امرأة. ويكفي هنا الاستدلال بأنه بالمغرب مثلا تموت سبع نسوة يوميا بسبب الحمل، وأنه بالمغرب أيضا من بين كل ثلاث وثلاثين(33) وفاة نسوية، تموت امرأة بسبب الإنجاب؛ مقابل واحدة من كل 104 بتونس(1)، (كما يؤكد ذلك الجدول الآتي).
هذا إلى جانب عوامل أخرى كتفشي الأمراض المزمنة و المعدية، عدم كفاية الطب، ضُعف البنيات الصحية، الجهل والأمية، انعدام الوعي الصحي، استمرار الاعتقاد في الخرافة والشعوذة، انتشار الطب الشعبي غير المقنَّن...
الجدول 1: ويبين نسبة محو الأمية عند النساء ونسبة التمدرس لديهن، وقد قابلناها بأرقام عن نسبة السكان القادرين على ولوج مجال الصحة، ونسبة التوليد على يد مؤهلين عارفين، ونسبة الوفيات بسبب الولادة أو الحمل (المصدر اليونيسف 1997م).
تنبيه: في هذا الجدول كما في الجداول التالية ستحمل بعض الأرقام علامة (+)، وهي تدل على أن الرقم لا يعبر بدقة عن الوضعية، إما لكونه سابقا عن سنة الإحصاء ولم يخضع للتحيين، أو أنه غير دقيق. وأما الخانات التي تحمل علامة (-) فمعناها أن الدولة المعنية لم تزود مراكز الرصد ـ التي أعطت الإحصاءات ـ بأي رقم عن موضوع الدراسة.

فالجدول يبين بوضوح أن نسبة الأمية ما تزال متفشية بعديد من الأقطار الإسلامية، خصوصا لدى النساء، ومن خلاله تتبين مدى العلاقة بين الأمية وقلة استعمال وسائل تنظيم الأسرة، وبالتالي ارتفاع نسبة الولادة في الأوساط الأمية، وكذلك ارتفاع الولادة على يد غير المؤهلين. وهي أرقام ذات دلالة وتكفي لتفسير ظاهرة ارتفاع نسبة  وفيات النساء بسبب الحمل في الأقطار التي تعرف أكبر نسبة لأمية النساء. كما أن مؤشر الاستفادة من الخدمات الصحية يبين ضعف نسبة السكان القادرين على ولوج مؤسسات العلاج، وضعف البنيات التحتية في مجال الصحة بعديد من الأقطار. وليس صدفة أن الدول التي تعاني أكثر من الخصاص هي التي ينخفض فيها معدل الأعمار.
ولنقم بمقارنة: ففي باكستان مثلا، حيث عدد السكان يناهز 140,5 مليون، لا تتجاوز نسبة محو الأمية عند النساء %48. ويصعد عدد الولادات في السنة إلى5  ملايين و 513ألف (أي %3,3)، وبالمقابل تنزل نسبة استعمال موانع الحمل إلى %12. ولا يتعدى مؤشر التوليد على يد عارفين مؤهلين%19. وتلقائيا فمن بين كل 100 ألف امرأة تموت 340 امرأة بسبب الولادة، وهو رقم مرتفع نسبيا. من جهة أخرى فنسبة السكان المستفيدين من الرعاية الصحية تتراوح بين 99(+)% من سكان الحضر و35(+)% من البدو، بما مجموعه %55 من إجمالي السكان، وهي نسبة منخفضة،  وتفسر ارتفاع نسب اليتم بباكستان والدول المشابهة لها.
ونأخذ مثالا آخر من  العالم الثالث: كولومبيا وعدد سكانها 35,1 مليون، وتبلغ نسبة محو الأمية لدى النساء %100. بالتالي ترتفع نسبة استعمال موانع الحمل إلى%72. ولعل هذا ما يبرر نزول عدد الولادات في السنة إلى 588 ألف (أي %1,9). ويصل مؤشر التوليد على يد عارفين مؤهلين %85. وبالتالي فمن بين كل 100 ألف من النسوة لا تموت سوى 100 امرأة بسبب الولادة، وهو رقم منخفض نسبيا. بالمقابل فنسبة السكان المستفيدين من الرعاية الصحية ترتفع إلى %81، وهي متقاربة بين الحضر%86 والبدو %72. وطبيعي أن ينخفض تلقائيا مؤشر اليتم، بسبب الجهل والأمية وضعف البنيات الصحية.
هذا إلى أنه تنضاف لتلك العوامل التقليدية لوفيات الكبار، عوامل >حضارية< أخرى: فحوادث الطريق والشغل مثلا تذهب يوميا بآلاف الأرواح غالبها من  البالغين، أي الآباء. والسبب عدم احترام الضوابط المنظمة للمجالات المستحدثة والتقنيات المستوردة، والاستهتار والتهور، ضعف البنيات التحتية، عدم إتقان التعامل مع الآلات،؛ غياب الرقابة، تضاؤل الوازع المهني... ويزيد من خطورة الأمر ترسب ثقافة القضاء والقدر، وإلصاقها بالإسلام ـ الداعي للتداوي واتقاء المضار وعدم الإلقاء باليد للتهلكة والتعلم... قبل غيره ـ وهو منها براء.
حقيقة أنه مهما كانت المحاولات، لن يقضى على اليتم بشكل مطلق. لذلك يلزم على الأقل تقليص حالاته بالحد من الأسباب والحوادث المقدور عليها. آنذاك فإن مشاكل اليتم لن تطرح بنفس الإلحاح الذي تطرح به حاليا، وبالتالي فأعداد كبيرة من الأطفال سيجنبون مشاكل التهميش بسبب اليتم و فقد العائل أو الحاضن والافتقاد للاستقرار العائلي.
ثانيا: أسباب الأمية
مما لا شك فيه أن الأمية تعد من أخطر عوامل التهميش، في عصر ثورة المعلومات. ومن المؤسف أن نعرف أن الأمة الإسلامية ـ وهي تشكل خمس البشرية وثلث العالم الثالث ـ التي تلقت أول خطاب إلهي في أمر >اقرأ<، تتموقع في مركز مفزع، إذ تعتبر الأقل تعليما والأكثر أمية. وذلك ببساطة لأن الأمية تتجاوز عتبة%80  بعديد من الأقطار.
ومعلوم أن معدلات الأمية تزيد عند المرأة، إذ قدرت >اليونسكو< سنة 1996م، أن أزيد من80  مليون طفلة بالعالم الثالث لم تلتحق بالمدرسة. من ثم يتبين إلى أي حد ستعاني الدول الإسلامية، مستقبلا، بغض النظر عن الوقت الحاضر، من مضاعفات الأمية، علما بأن أمية المرأة، مربية النشء، أخطر من أمية الرجل.
الجدول 2: ويبين نسب الأمية ببعض الدول الإسلامية، أو التي بها مسلمون: (المصدر: البنك العالمي 1990/89م):

الجدول 3: ويبين نسب التمدرس، وعدد المتمدرسين بأفريقيا وضمنها الدول الإسلامية، وهي نسبة ضئيلة بمقارنتها مع نسبة وأعداد الأطفال المحرومين من التمدرس (المصدر: البنك العالمي 1990/89):


الجدول 4: ويبين نسبة المعرفة بالقراءة والكتابة بين الكبار، ثم نسبة التمدرس بين الصغار ببعض الدول الإسلامية. والترتيب تنازلي، كما أوردته اليونيسف 1997م. (((((((الجدول -04 + 04-1)))))))))))))))))

فمن خلال الجدول يتبين أن نسبة محو الأمية ما تزال منخفضة، وأن الخطط المنتهجة حتى الآن لم تنجح في التقليص منها بعدد من الأقطار. ولنأخذ مثالا من الصومال، حيث محو الأمية عن الكبار لم يتجاوز %36 لدى الرجال و %14 لدى النساء (1995)، مقابل %91 في كولومبيا، وحيث نسبة التسجيل بالابتدائي تنزل إلى %11 من الذكور و%6 من الإناث، مقابل 88 و%87بكولومبيا، ولا يتعدى عدد المسجلين بالإعدادي %9  ذكور %5 إناث، مقابل 65 و%70 على التوالي بكولومبيا.
الجدول 5: ومن خلاله يتأكد الفرق الكبير في نسب التعليم لدى الإناث والذكور، لما يصل إلى الضعف أو يجاوزه أحيانا ببعض البلدان الإسلامية. كما يظهر التباين الكبير بين الريف والحضر. بما يعكس الإهمال الذي تعاني منه البادية. وتتصدر مصر باقي الدول المشكلة لعينة المقارنة (المصدر: قاعدة بيانات شعبة التنمية الاجتماعية  والسكان باللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا: هيئة الأمم المتحدة 1994م):

الجدول 6: ويعطي مقارنة بسيطة حول نسبة التعامل مع وسائل العلم والإعلام بين الدول المتقدمة والدول الإسلامية (المصدر اليونسكو 1985م):

ظاهر إذن أن الدول الإسلامية هي من أكثر الدول معاناة من الأمية، وبالتالي فتهميش الأطفال بسببها وارد بحدة. ويحق لنا أن نتساءل عن سبب عدم الامتثال لأمر >اقرأ<، هل هو غياب الإرادة السياسية أم التخوف من تعلُّم الشعوب وتنوُّرها؟ أم هو تعثر السياسات والبرامج؟ علما أنه أُعلنت بجل الدول الإسلامية مخططات ضخمة كان هاجسها الظاهري محاربة الأمية....
باستكناه الحقائق يبدو أن جل البرامج كانت مستوحاة أو مفروضة من قبل مراكز أو صناديق دولية، الشيء الذي جعلها بعيدة عن واقع غالبية الدول، فانتهى بها الأمر للفشل.
من ثم يحق لنا القول بأنه ما دامت الأمية حاضرة بتلك النسب المفزعة، فإن أي برنامج فعلي وواقعي لمحوها لم يتبع حتى الآن، وأن الإرادة السياسية متعثرة أو غائبة.  وبالتالي فالأمية ستبقى أحد أخطر أسباب التهميش في العالم الإسلامي. وبالتبعية يجب ألا تعلق الآمال على النصوص القانونية أو الاتفاقيات وحدها. فهذه الأخيرة تضمن الحق في التعليم بشكل سلبي، لذلك يلزم دعمها بالإرادة السياسية، بالإجبار وبالدعم المالي للأسر الفقيرة...
ثالثا: أسباب الإعاقة
للإعاقة أيضا أسباب تقليدية سببها الجهل والتخلف، وأخرى حديثة متصلة بالتنمية. ومشكلة الدول النامية أنها تجمع هذه وتلك. فمن أسباب الإعاقات الولادية أو الخِلقية مثلا العوز كسبب لنقص تغذية الأم والطفل،  الولادة في سن متأخرة أو مبكرة جدا، كثرة الولادات، تقارب فترات الحمل، ظروف التوليد غير الصحية، غياب الوعي بعديد من مسببات تشوه الأجنة، الإصابات والحوادث التي تصيب عادة الأعضاء الحساسة، عدم الوعي بالمخاطر وعدم الاحتياط ضدها... وللرمز للأسباب التي جُلِبت مع الاستيراد الفوضوي للحضارة، نكتفي بالتلوث والتسمم وزيادة ضحايا الحوادث في السلم والحرب، وتحول مواطني العالم الثالث إلى مختبرات لتجارب المكتشفات البيولوجية....
وغير خاف أن جل الأسباب التي سردناها تلتصق بالأمية والجهل وغياب التوعية الشعبية. مما يؤكد مرة أخرى أن الحل المثالي يجب أن يمر عبر التعليم والتوعية  والمراقبة والضبط.
رابعا: أسباب الفقر
جاء الإسلام لاستئصال الفقر ومسبباته وتحقيق رفاه أفراد المجتمع، لا لمحاربة الغنى. وإذا كانت الدول الإسلامية المعاصرة من أكثر الدول معاناة من الفاقة، فالمعنى الوحيد أنه افتُقدت بها تعاليم الدين الداعية لترويج الأموال  والثروات، وتوزيعها بعدل، كي لا تبقى دولة بين الأغنياء.
وبالفعل فالتباين الطبقي في الدول النامية مخيف. والأسباب كثيرة منها تركيز رؤوس الأموال في أيدٍ قليلة أحسنت استغلال الظروف، ضآلة الأجور وارتفاع مناقض لرواتب وامتيازات سامي الموظفين، غياب الشفافية في صرف المال العام واستباحته بدون حرج، ومنها تعطيل القواعد التي تفرض الزكاة والوَقْف والبِر، وتحرِّم الاستغلال والاحتكار...علما بأن هذه القواعد تشكل ركائز الديمقراطية التي تنشدها الشعوب، لكونها تسهم في تداول الثروات بين المواطنين وتقليص الفوارق بينهم وحفظ كرامتهم....
الجدول 7: وبه مؤشرات ديموغرافية واقتصادية: إذ يبين عدد السكان، نسبة النمو الديموغرافي، ونسبة سكان الحضر، ونسبة زيادة التحضر، مع بيان الدخل الفردي ونسبة الزيادة فيه، ونسبة السكان الواقعين تحت عتبة الفقر:(المصدر اليونيسف 1997م).

فقد حاولنا من خلال هذا الجدول وضع مقابلة بين نسبة النمو الديمغرافي ومقدار الزيادة في الدخل ونسبة التضخم. وقابلناها بأرقام تحدد شريحة السكان الذين يعيشون تحت عتبة الفقر. ولا يخفى أن جل العوامل المَرَضية التي يعكسها الجدول تسهم إلى حد كبير في زيادة انتشار ظاهرة الأطفال المهمشين. ثم أوردنا على سبيل المقارنة بعض الدول النامية التي قامت بمجهودات رائدة لمحاربة العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تؤدي لتهميش الأطفال، فاستخلصنا التالي:
( في مصر مثلا يبلغ عدد الأطفال الذين يقل عمرهم عن 18 سنة 27.9 مليون والذين يقل عمرهم عن  5 سنوات 8.1 ملايين ونسبة النمو الديمغرافي تتراوح  بين 2.2  و%2.4 وسكان الحضر لا يتجاوزون %69 من إجمالي السكان ولا يتعدى معدل التحضر السنوي  2.7إلى %2.6، وبالمقابل لا يزيد الدخل الفردي على 720 دولاراً أمريكياً، في السنة، وهو لا يزيد إلا بإيقاع %1.3 سنويا. وتصل نسبة التضخم إلى.%16 وتلقائيا ترتفع نسبة السكان الواقعين تحت عتبة الفقر إلى %34 من الحضر و%34 من أهل البوادي. مما يفيد أن التحضر لم يقلل من نسبة الفاقة، إذ النسبة بين البادية والمدينة واحدة.
( وإذا قارنا هذه النسب مع دولة أخرى من الدول النامية تبدو الأرقام ناطقة لوحدها: ولنأخذ مثالا من كوريا الجنوبية، حيث عدد الأطفال الذين يقل عمرهم عن 18 سنة يبلغ 12.9 مليون والذين يقل عمرهم عن 8 سنوات 3.5 ملايين فقط، ونسبة النمو الديمغرافي تنزل إلى %1.1، وسكان الحضر يتجاوزون %81 من إجمالي السكان، ويتعدى معدل التحضر السنوي %3.5 إلى%5.7.
وليس من قبيل الصدفة أن يزيد متوسط الدخل الفردي على 13.440 دولاراً أمريكياً، في السنة، ولا أن يزيد بإيقاع سريع يعادل %2.8 سنويا. وبالمقابل فنسبة التضخم لا تجاوز %7. أما نسبة السكان الواقعين تحت عتبة الفقر فكانت قد نزلت، في إحصائيات سابقة على الحالية إلى %18 في الحضر و%11 في الريف.

خامسا: عوامل تزايد الأطفال المتخلى عنهم والمشردين
إن عوامل ترك الأطفال والتشرد لا حصر لها وهي متداخلة فيما بينها. بمعنى أننا لو حاولنا تعدادها سنسقط حتما في فخ التكرار. لذلك ـ وإضافة لما قيل ـ، نذكِّر بأخطر الأسباب الأخرى:
1. الانحلال الخلقي:
كان من نتائج انفتاح العالم الإسلامي على الغرب أن حصل تلاقح بين الثقافات. لكن المؤسف أن هذا التلاقح لم يكن دائما مثمرا، بل أدى على العكس تماما إلى تمزق كبير للقيم. فالحضارة الغربية وصلت لما وصلت إليه بتدرج، فيما نحن انبهرنا بعديد من المظاهر. فاستوردناها معتقدين أنها جوهر الحضارة. وانعكس كل ذلــك على سلوكاتنا، إذ اتخذت الحقوق شكلا فوضويا ومُنحت الحرية للشباب بدون تحسيسه بالمسؤولية ولا بالمخاطر المحدقة به. فيما كان من أبسط قواعد التحرر أن ترافقه تربية صحية ـ جنسية وقائية  وتربية أخلاقية ـ دينية تحمي الفتاة بالخصوص، من الاستغلال والحمل غير الصحي  بسبب سذاجتها أو ضعفها....
الهوامش:
(1) يمكن الرجوع للأرقام التي اعتمدتها منظمة الصحة العالمية برسم سنة 1996م.
الجدول 8: ويبين التزايد الملحوظ في أعداد الأطفال غير الشرعيين، من خلال أرقام أفادنا بها أحد مستشفيات الولادة بالرباط، المغرب:

وبالرجوع للأرقام الرسمية يتأكد أن جل الأمهات ضحايا الحمل لعدم معرفتهن بأدنى فكرة عن التربية الصحية ـ الجنسية، إما لصغر سنهن أو للأمية والجهل. كما بينت الإحصائيات أن الآباء المفترضين للأطفال المتخلى عنهم هم في الغالب من غير المتمدرسين إطلاقا أو ذوي مستوى دراسي متواضع....
الجدول 9: ويرمز لارتباط الحمل بالمستوى الثقافي والسن. والنسبة المئوية أدناه احتُسبت من خلال عينة شملتها الدراسة (المصدر: أيام للتفكير حول الطفل المحروم من الأسرة: الرباط 1991م).

الجدول 10: ويثبت مدى ارتباط التخلي عن الأطفال بالعجز عن الإنفاق عليهم، كما نستدل به على عدم كفاية التكفل بالأطفال المتخلى عنهم، من بين عينة من الأطفال الذين احتضنتهم مؤقتا بعض المراكز بالمغرب، في انتظار أن يوجد من يتكفل بهم (المصدر: أيام للتفكير حول الطفل المحروم من الأسرة: الرباط 1991).

2. التفكك الأسري
مما يؤسف له أنه مع الانفتاح على الثقافات الأجنبية لم نحتفظ بمقومات الاستقرار الأسري كما جاءت في الإسلام، ولا استوردنا ضوابط انفصام الزوجية كما هي مدونة في القوانين الغربية. فكانت النتيجة أنه عندما تفشل زيجة ما، فالذي يؤدي الثمن ليس الطرف المسؤول عن فشلها، وإنما الأطفال. ومع أن جل الدول الإسلامية تقر بحق الطفل في الحضانة والنفقة في حالات الطلاق، إلا أن النصوص جُرِّدت من كل فعالية، فبات الطفل الضحية لا يتلقى في أفضل الحالات سوى مبالغ هزيلة جدا لا تكفي لسد الرمق(1). ناهيك عن حرمانه من العناية، من الدفء الأسري والاستقرار والمراقبة وتتبع دراسته....
نفس الشيء يقال عن تعدد الزوجات الذي يمارس بدون ضوابط ولا قيود، وبشكل أبعده تماما عن الحكمة منه، وعن شروطه الشرعية. هكذا وبفعل نزوات أب مستهتر وَجَد مئات الآلاف من الأطفال أنفسهم بالشوارع، في مجتمعات ما زال فيها عمل المرأة يشكل  استثناء، وما تزال الضمانات الاجتماعية مفتقدة، ومبادئ التكافل اندثرت أو شبه معدومة.
وإذا كنا تحدثنا عن الدور المنتظر من الحكومات للحد من تشرد الأطفال أو حمايتهم من اعتداءات الأسر، فأكبر عائق لقيامها بذلك هو صعوبة التعرف على ظروف الطفل داخل أسرة مغلقة. وإن ملايين الأطفال بالعالم يعانون من مشاكل كالتي ذكرنا، إنما قليلة هي الحالات التي تصل لعلم السلطات، بسبب عجز الطفل عن التعبير. من ثم فالوضع يحتاج لوسائل هائلة وأجهزة مراقبة فعالة، للتعرف على أحواله وحمايته من ذويه، ويحتاج الأمر قبل ذلك للإرادة السياسية والمصداقية والرغبة في تطبيق القوانين.
الجدول 11: ويبين معدل حالات الزواج و الطلاق في كل ألف من السكان، وهو يؤكد فرضية أن نسب الطلاق أصبحت مرتفعة في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، ويبين بالأرقام نسب الطلاق من كل ألف من الزيجات (المصدر: قاعدة بيانات شعبة التنمية الاجتماعية والسكان باللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا: الأمم المتحدة).

والأرقام التي استشهدنا بها حول الأطفال المتخلى عنهم تصلح للاستدلال هنا أيضا. فمصير عدد هائل من أطفال الطلاق يكون الإيداع بالملاجئ. ونضيف إليها الأرقام التالية:
الجدول 12: ويعطي فكرة عن عدد الطلاق المقيد بمحكمة ابتدائية لإحدى المدن المغربية الصغيرة (وزان) ومدى ما خلفته من أطفال، من خلال سلسلة دراسات، وعدد دعاوى النفقة، ومتوسط النفقة (الهزيل) وأبحاث ميدانية أشرفنا عليها في إطار البحث الجامعي برسم السنوات من 1994 إلى1997.

وإذا كان يلاحظ بعض التراجع الطفيف في نسب الطلاق بين سنتي 1993 و1994، فالسبب يعود لإدخال قانون الأحوال الشخصية المغربي بعض القيود على مسطرة توقيعه، وأهمها ضرورة استصدار إذن قضائي للحصول على الترخيص بالطلاق. وهذا يبرر ضرورة وفائدة العمل على تقييد اللجوء للطلاق أكثر، إنقاذا للأطفال من التهميش والانحراف.
الجدول13: ويبين بشكل أكثر تجريدا نسبة الطلاق المسجلة بالمغرب، وهو يؤكد عدداً من الحقائق التي خلصنا إليها على أكثر من مستوى (المصدر مديرية الإحصاء، المغرب):

فالملاحظ أن نسب الطلاق رغم ما سجلته من تراجع طفيف في السنوات الأخيرة، فإنها ما زالت مرتفعة، وما زالت النساء أكبر المتضررين من الظاهرة. ويلاحظ أيضا أن نسبة الطلاق في المدن أكثر من البوادي. وذلك كنتيجة طبيعية للتحولات الاقتصادية ـ الاجتماعية التي تعيشها الأسرة في المدينة، خصوصا الأسرة المهاجرة من القرية، التي تصطدم بنمط للحياة مخالف تماما للنمط البسيط الذي تعودته. وإن هذه الأرقام تفسر ظاهرة أخرى وتتمثل في تزايد مقلق لنسبة الأسر الأحادية الوالد، حيث المرأة تواجه بمفردها مشاكل أطفالها وتتحمل وحدها المسؤولية عنهم. وإذا أضفنا إلى ذلك أن نسبة الأمية تتزايد عند النساء، تبين إلى أي حد تنعكس الآثار الوخيمة للطلاق على الأطفال. وهو الأمر الذي تفسره عدة أرقام، منها التالية:
الجدول  14: ويبين أهم أسباب إيداع الأبناء في الملاجئ الخيرية. والأرقام حصلنا عليها من خلال عينة شملتها دراسة أشرفنا عليها، (المصدر: جمعية العكاري الخيرية، مدينة الرباط، والأرقام برسم سنة 1994):

الجدول 15: ويبين المستوى الدراسي للوالدين المتنازلين عن أطفالهما، سنة 1994م (نفس المصدر السابق):

فالملاحظ أن الأرقام تنازلية وتعكس بعمق مدى ارتباط التفكك الأسري بالمستوى التعليمي للزوجين، ومدى ارتباط ظاهرة التخلي عن الأطفال بالأمية والجهل بمقومات الحياة الزوجية. وإن نفس هذه النتائج تأكدت لنا من خلال استجوابات أجريت تحت إشرافنا مع الأطفال الذين يعنيهم الأمر. بحيث استطاعوا بأنفسهم تحديد أسباب الطلاق وحصرها، والمؤسف أن يكون الأطفال على وعي بها ولا يعيها الآباء. وقد صنفوها كالتالي:
* انعدام الثقافة والوعي                    * انعدام الإحساس بالمسؤولية الزوجية
* الفقر الناتج عن ضعف الدخل            * التفاوت الاجتماعي والطبقي
الجدول 16:  ونصنف من خلاله عينة الأطفال المستجوبين المتواجدين بملجأ بالرباط كالتالي:

ومن خلال الجدول يتبين أن التفكك الأسري سبب هام لبقاء الأطفال بدون عائل ولا حاضن. ويكفي من خلال مقارنة بين نسبة الأطفال المتواجدين بالملجأ بسبب غياب الأب (%38/5)، مع من يتواجدون فيه بسبب غياب الأم (%2)، للتأكيد على أن أحد أهم عوامل التخلي عن الأطفال الاحتياج، بسبب عزوف الآباء عن الإنفاق على أبنائهم. وإن نفس السبب يؤدي لانقطاع الأطفال عن التمدرس والانضمام لأطفال الشوارع.
ومن خلال استجواب آخر أجري مع أطفال الطلاق، تأكد لنا مرة أخرى مدى خطورة التفكك الأسري كسبب للانقطاع عن التمدرس. وقد لخص أطفال الطلاق أسباب مغادرتهم للمدرسة كالتالي:
* عزوف الأب عن الإنفاق.
* عدم قدرة الأم لوحدها على تحمل أعباء وتكاليف التمدرس.
* احتياج الأسرة للطفل، لكسب العيش.
* الجهل والأمية وانعدام الوعي بضرورة وفائدة التعليم.
* انعدام الرقابة من الأب وانشغال الأم بالكسب.
* قضاء الطفل مجمل وقته بالشارع، إما للتسول أو مرافقة أصدقاء السوء.
* الافتقار للدفء الأسري.
* الافتقار لشخص يتابع الطفل في دراسته....
لايخفى مقدار ما يسببه تفكك الأسرة للطفل من أزمات نفسية واجتماعية، قد تنتهي به للتشرد، أو الانحراف ثم الجنوح... وقد أثبتت عدة دراسات العلاقة الوطيدة بين الطلاق وجنوح الأحداث. واستنتجت أن الطلاق يقف عادة وراء جرائم النشل والسرقة  والتسول والعنف وتعاطي المخدرات وترويجها، والدعارة... كما ثبت أن هؤلاء الأطفال عادة ما يكونون عرضة للاستغلال في ميدان العمل، وكثيرا ما يتلقفهم المتشردون  والمتسولون، فيعلمونهم الجنوح والرذائل كلها(1).
والواقع أن الأرقام التي أوردناها عن بعض الدول الإسلامية، خصوصا عن التفكك الأسري رغم كونها تبدو مقلقة، فهي في الحقيقة تدل على أن تلك الظواهر ما تزال محدودة  ومقدورا عليها، خصوصا إذا قارناها بالأرقام المسجلة في نفس المجال بالدول الغربية. ونذكِّر هنا بأن هذه البلدان هي المصدِّر الرئيسي لعديد من الظواهر، ومنها هذه. وبما أننا نسير على نهجها فسنصبر مثلها. إذ كل من سار على الدرب وصل.
 ولايعني قولُنا هذا التقليل من خطورة الوضع، ولاسيما ببعض البلدان الإسلامية. حقيقة أن قيمنا الروحية تحد من استيطان الظواهر المرضية بالحجم المهول الذي تعرفه الدول الغربية، لكن التزام قواعد العَوْلمة أو الخضوع لها من شأنه أن يعمم، ليس من حسنات التقدم العلمي والتكنولوجي وإيجابيات الحياة العصرية فحسب، وإنما أيضا كثير من المضاعفات الاجتماعية الخطيرة ومن السلوكات المريضة، ومن بينها التفكك الأسري والانحلال الخلقي. علما بأن هذين الأخيرين يعتبران من أخطرعوامل تزايد الأطفال المهمشين...وللاعتبار ندرج بعض الأرقام المسجلة بدول متقدمة، وهي ذات دلالة معبرة، رغم كونها مجرد صورة مصغرة عما يعاني منه العالم الغربي بكامله في هذا المجال:
الجدول 17: في فرنسا مثلا يقدر الباحثون ما يلي

الجدول 18: وندرج فيه ما خلصت إليه أبحاث مماثلة في بريطانيا

يتبين من الجدولين أعلاه مدى تراجع الإقبال على الزواج، وبالمقابل مدى ارتفاع المعاشرات الحرة، حتى أن نسبة هذه الأخيرة قفزت بفرنسا ـ في ظرف ثلاثة عقود ونيف من  % 3فقط إلى  %30... وهو مؤشر غاية في الدلالة، ويبين بوضوح مدى التدهور الذي سجلته الأسرة الأوربية. وتلقائيا سجل ارتفاع موازٍ في أعداد الأطفال غير الشرعيين  والأطفال الذين يعانون من التمزقات العائلية.
ولضيق المجال عن ذكر أمثلة أخرى، اكتفينا بهذه، ولنا اليقين بأن نفس الصورة تتكرر في باقي المجتمعات الغربية، بل إن خطورتها تزيد عن ذلك بكثير في عدة دول أخرى، بسبب تسامحها الزائد مع القيم الاجتماعية الأخلاقية والدينية. وللتأكيد وتوضيح الوضع أكثر، نورد قولا بليغا لباحث في الميدان، استخلص أنه: >في أوربا يمكن إجمال المؤشرات الديموغرافية كالتالي: زواج أقل وطلاق أكثر وولادات خارج إطار الزواج أيضا أكثر<، واستنتج آخر أن: >كل التطورات المسجلة والتقدم الحضاري المدهش... كل ذلك تم على حساب الأسرة في معنى الزوجين والأبناء، وهذه في نهاية المطاف، النتيجة الحتمية لأسرة أوربية سمتها: الزواج المتأخر والطلاق المبكر، وفقد الأمل في الرجعة... والمؤسف أكثر أن تلك الظواهر لا تزيد إلا تفاقما<(2).
وإذا كان لنا أن نجري مقارنة بين هذه الأرقام وتلك التي حاولنا من خلالها تشخيص الوضع ببعض الدول الإسلامية، يتأكد لنا أنه لا مجال للمقارنة، وأن التفكك الأسري الذي تعرفه بلداننا ما زال مع ذلك في بدايته، وما يزال مجرد استثناء، أي أنه حتى الآن مقدور عليه. لكن لا يجب أن يفهم من قولنا هذا الدعوة للاطمئنان أو عدم الاكتراث بالظواهر التي انتقلت إلينا مع أنماط الحياة المستوردة. بل إن الدول الإسلامية مطالبة بالتشبث أكثر من أي وقت مضى بقيمها الدينية، لإعادة التماسك للأسرة وتحقيق التوازن بين تلك القيم وأنماط الحياة العصرية، المصحوبة عادة بمشاكل وصعوبات متشعبة، تسهم في النهاية بشكل أو بآخرـ في تهديد استقرار الأسر، وبالتبعية في تهميش الأطفال....
وأكثر من ذلك نجد أن انعكاسات التفكك الأسري والتدهور الأخلاقي على الطفولة أقل حدة في الدول المتقدمة مما هو عليه الأمر عندنا. وذلك بفضل وفرة وتعدد وتكامل المؤسسات الاجتماعية والتربوية التي تتكفل بالأطفال المهمشين بسبب انهيار الأسرة،  وتلك التي تسهر على الحد من المضاعفات النفسية والاجتماعية والاقتصادية للظواهر أعلاه.
 أما في البلدان النامية، فبفعل ضعف البنيات التحتية وغياب الوعي بمشاكل الأطفال المهمشين، وبفعل استيطان ظواهر مرضية أخرى، كالأمية والفقر وانعدام الاستقرار... فإن تلك المضاعفات غالبا ما تكون أكثر إلحاحا ومدعاة للقلق. لذلك نكرر بأننا مطالبون بتدخل سريع، متوازن ومتكامل، لاحتواء الوضع والسيطرة عليه، وتفادياً لتفاقمه.
سادسا: الظروف الاجتماعية والاقتصادية كسبب رئيسي للتشرد
باستقراء الواقع يتأكد أن جل المُـقْتَرِفين لأعمال مُجرمة ينتمون للطبقات غير الميسورة. ومع أن الفقر لم يكن أبدا مرادفا للانحراف، إلا أن ظروف التهمــيش تنتشر أكثر في الأوساط الاجتماعية غير المحظوظة، فتقود الطفلَ المحروم من الأسرة أو العائل أو الحاضن للجنوح. وهو أمر سهل الإثبات، فبإلقاء نظرة على الأحداث الذين يساقون يوميا للمحاكم يتبين أنهم يقترفون أفعالهم إما للحصول على القوت، أو لشغل فراغ رهيب يعانون منه في غياب المشرف والرقيب....
ومعلوم أن أغلب القوانين المقارنه، ـ ليثبت انتسابه للجيل الحديث ـ، تبنى التدابير المتفق ـ عِلْميا وقانونيا ـ على أنها أفضل حل لتصحيح سلوك الجانحين وإعادة تأهيلهم وإدماجهم. وهنا أيضا ثبت إفلاس التدابير المتبناة وذلك لعدة أسباب منها عدم انطلاقها من واقع المجتمعات التي ستطبق فيها، ومنها التركيز على معالجة النتائج دون الأسباب....
فأسباب التشرد كثيرة، على رأسها:تفكك الأسر وتضاؤل التكافل الاجتماعي، أمية الوالدين وجهلهم بأصول التربية، انعدام وعيهم بخطورة ترك الأطفال في الشارع، ارتفاع عدد أفراد الأسرة وضيق المسكن. ومنها أيضا اليتم وعموما انعدام العائل أو الحاضن، التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها الدول النامية، النزوح، اللجوء....
ومع أن أزمة التشرد ليست حِكرا على دول الجنوب، لا يمكن إنكار أن حدتها وانعكاساتها تزيد بها، لعدة أسباب أهمها: غياب الوعي بخطورتها، ضعف البنيات التحتية للعمل الاجتماعي ـ الثقافي الذي يتكفل عادة بالأطفال المهددين بالتشرد، بدءاً من دور الإيواء حتى مراكز الإصلاح وإعادة التأهيل والإدماج في المجتمع وضمان فرص الشغل ومؤسسات الأنشطة الموازية....
سابعا: ارتفاع نسب الولادات في الأوساط غير المحظوظة
نسب الإنجاب تكثر بالأوساط غير المحظوظة. ولسنا نحتاج لتنقيب كثير للتأكيد على أن الانفجار الديموغرافي يرتبط بالفقر والأمية وانتشار الخرافة والجهل بأبسط المعلومات عن الإنجاب وتنظيمه وأصول التربية السليمة. فالمقارنة متيسرة سواء بين الفئات الاجتماعية الميسورة أوغير الميسورة المنتمية لنفس البلد، أو بين دولة متقدمة ونامية. وللإشارة إلى الظاهرة يكفي القول بأن خطط تنظيم النسل شرعت في السبعينيات لكنها لم تعط أية نتائج في الأوساط الأمية الفقيرة.
الجدول 19: ويعطي الدليل بالأرقام عن نسب النمو الديمغرافي بعينة من الدول الإسلامية (المصدر هيئة الأمم المتحدة: 1997م).

الجدول 20: ويؤكد من جهته مدى ارتباط الانفجار الديمغرافي بالأمية وانتشار الفقر، وقلة الإنفاق على التعليم والصحة.
فمن خلال الجدولين يتبين أن نسبة الولادة تزداد في الدول التي ينتشر فيها الفقر أكثر، ويضعف الدخل الفردي ويقل الإنفاق على الصحة والتعليم. وإن الأرقام الواردة فيه تفسر بعض الأرقام التي أوردناها في جداول أخرى حول ضعف نسبة التمدرس  وارتفاع نسبة الأمية لدى الكبار والصغار، بعدد من الدول الإسلامية. وتبين المقارنة أن الدول النامية التي انتهجت سياسات رائدة لمحو الأمية استطاعت التصدي لبعض من الظواهر السيئة التي تنعكس على الأطفال.
ويؤكد الجدول الأخير أيضا أن الإنفاق على الدفاع والتسلح غالبا ما يتم على حساب الإنفاق على الميادين الاجتماعية الأساسية وعلى رأسها الصحة والتعليم.لذلك فلا عجب أن نجد الدول التي تنفق أكثر على التسلح، هي الأكثر معاناة من الأمية والجهل  والمرض ووفيات الأطفال. وإن هذا يؤكد مقولة لهيئة الأمم المتحدة، من أنه ما دام عدد  الجنود يزيد أربع مرات على عدد المدرسين، فإن مناهج التعليم ستبقى هشة  وقاصرة(1).
مما لا شك فيه أن العوامل المذكورة أعلاه تتكاثف فيما بينها لتجعل ظروف العيش غاية في البؤس وتجعل الأسرة المفتقرة لكل شيء كثيرة الأفراد، فيعجز المَسْكن عن استيعابهم جميعا. الشيء الذي يضطر الأطفال للجوء إلى الشارع، حيث يجدون مرتعا للتسلية وقضاء الوقت الضائع، وما أكثره لديهم. ومع الأيام يتعود الطفل على الإقامة بالشارع، وبه يتعلم تعاطي المخدرات واحتراف الجريمة والتمرد على المجتمع الذي لم ينصفه. فينتهي به المطاف للانضمام إلى المنحرفين وإعلان إجرامه بدون أدنى حرج.
والمؤلم أكثر هو تنامي ظاهرة الطفلات المشردات بعد أن كان التشرد حِكراً على الأطفال الذكور. وبديهي أن الخطر على الطفلة أكبر، لأنها معرضة للانجذاب إلى الرذائل مع العلم أن العواقب لا تخصها وحدها، ما دامت معرضة في كل حين للحمل غير السليم. وقد سلف ذكره أن الحمل غير المسؤول من أخطر عوامل التخلي عن الأطفال وتهميشهم وتشردهم.
الجدول 21: ويبين النسبة المئوية لحجم الأسرة بالمسكن الواحد. ومع أن بعض الأرقام قديمة فهي ما زالت معبرة، لأن شرائح كبيرة من المجتمع، ـ كما أكدنا من خلال الجداول السالفة ـ ما زالت تنصرف عن استعمال وسائل تنظيم الحمل، وما زالت نسب النمو الديموغرافي لديها مرتفعة. لذلك نستشهد بها للاستدلال على اكتظاظ المساكن بالأفراد. (المصدر: قاعدة بيانات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، هيئة الأمم المتحدة)(1):

ومن خلال الجدول يتبين أن المسكن الواحد يضم عددا مرتفعا من الأفراد،  وأن الأسر التي يزيد عددها على ثمانية (8) أفراد تشكل أكبر شريحة، مقارنة مع الأسر المتوسطة أو القليلة العدد. والجدول من جهة أخرى يعكس ارتفاع نسبة الولادات، وفشل برامج تنظيم الأسرة بسبب  انتشار الجهل. ومن جهة أخرى فهو يفسر تفاقم ظاهرة الأطفال المشردين، لأن المسكن يضيق عن احتضانهم، فيلجأون للشوارع، ليجعلوا منها مأوى يتعلمون فيه كل أنواع الانحراف والجنوح.
ثامنا: النزوح  في اتجاه المدن أو الدول المصنعة
 إن ظروف العيش المزرية ترتبط، من جهة أخرى، بمشاكل النزوح التي تعرفها بحدة، المجتمعات الإسلامية. ولسنا بحاجة لكثير من البحث، للتأكيد على أن الدول النامية تتوحد في عدم اهتمامها بالقرى. مما اضطر سكان البوادي ـ بعد أن لم يجدوا حلا آخر لتغيير نمط حياتهم ـ  للهجرة نحو المدن أو الخارج.
وفي غياب دراسات مستقبلية و سياسات تتصدى للظاهرة، غرقت المراكز الحضرية بالأحياء العشوائية. وترجم ذلك إلى أزمة سكن خانقة وسكن غير لائق، إلى كثرة أفراد الأسرة، انخفاض الدخل، البطالة، عدم التمدرس، سوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية  والأخلاقية... وبذلك تكرس الجهل والأمية وانتقلا بدون مشقة للأجيال اللاحقة، حاملين معهما كل عوامل التفكك الأسري والتهميش والتشرد... فبقيت المجتمعات النامية تدور في نفس الحلقة المفرغة، حيث العوامل تتداخل فيما بينها، والمسؤولون لا يحسنون الربط بينها ولا تحديد أيها أسبق للوجود وأيها أفرز الثاني، وأيها أكثر أولوية وأكثر حاجة.
الجدول 22: ونستدل بالأرقام الواردة فيه للإشارة إلى ظاهرة تضخم سكان الحواضر، مقارنة بسكان البوادي، بسبب ارتفاع الهجرة القروية، وأيضا بسبب ارتفاع معدلات الولادة في الأحياء العشوائية. دون أن يعني ذلك نقصان وتيرة نمو سكان البادية، التي تتسع هي الأخرى بسبب الانفجار الديمغرافي(1).

والمؤسف أن ظاهرة النزوح مرشحة لأن تستمر، ووتيرتها معرضة، حتما، لأن تبقى مرتفعة، على الأقل في المستقبل القريب. وذلك بسبب استمرار البرامج التنموية، ـ بجل الأقطار الإسلامية ـ في إهمال الريف. والنتيجة الحتمية، أن ظاهرة الهجرة القروية ستبقى أحد أخطر عوامل تهميش الأطفال، وزيادة عدد المهمشين منهم في المستقبل. ولعل هذا كاف للتنبيه إلى ضرورة الاعتناء بالبوادي وتجهيزها بالبنيات التحتية اللازمة، والاهتمام بمشاكل شبابها ومستقبلهم، حتي لا يضطروا للبحث عن الرزق في المدن.
ولم يكن مصير أبناء المهاجرين إلى اتجاه الدول الغربية بالخصوص، أقل  مأساة من ذلك. فهؤلاء وجدوا أنفسهم فجأة في أحضان ثقافة غريبة تماما عن ثقافتهم. فكانت النتيجة أن تمزق الطفل بين أسرة (غالبا أمية) تصر على أن تورثه نفس مبادئها الخُلقية العقائدية الفكرية (بطرق غير علمية)، وبين مجتمع مليئ بالإغراءات والمسليات يعجز عن مقاومتها. هنا أيضا لسنا بحاجة لتعميق البحث للتأكيد على أن أكبر خسارة بالنسبة للأسر المهاجرة ـ باتجاه الدول الصناعية خاصة ـ كانت خسارة الأبناء. أبناء لم يستطيعوا الاندماج في المجتمعات المضيفة  نظرا لما ترسخ في أذهانهم من عادات وأفكار من صميم ثقافتهم الأصلية. فكانت النتيجة أن رفضت المجتمعات المستضيفة سلوكاتهم ولفظتهم في نهاية المطاف. والأدهى أنهم ينتهون عاجزين عن الاندماج أيضا بمجتمعهم الأصلي، بسبب عدم إتقانهم لعديد من مقوماته.
ويكفي للتدليل على ذلك أن جل أبناء المهاجرين يعانون من نفس مشاكل التهميش  وعدم الاندماج في المجتمع... الأمر الذي يأخذ عادة شكل عزوف عن الدراسة أو انقطاع مبكر عنها، وشكل تمرد على الأبوين، وعدم الاستقرار في العمل، وشكل تمزقات عائلية أفقية و عمودية، وشكل تعاطٍ للمخدرات، أو للدعارة، أو امتهان للحرف غير المشرفة، أو الجنوح....
لهذا السبب فضَّل عدد من المهاجرين عدم اصطحاب أسرهم معهم إلى بلد المهجر، أو أرغموا على ذلك. لكن مع الأسف لم يؤد هذا الحل لتقليص مشاكل أبناء المهاجرين. لأن الهجرة في هذه الفرضية تؤدي لفصل أفراد الأسرة عن بعضهم البعض، فيتعرضون جميعا للمتاعب. والطفل وهو في مقتبل عمره يعتبر أكبر ضحية. لأنه في طفولته الأولى وفي طور المراهقة بالذات، يكون في أمس الحاجة لأبويه معا، كي يساعداه على عبورها في أمان. وقد أثبتت الدراسات أن غياب الأب غالبا ما يسبب مشاكل لأطفاله. فتـحاول الأم وبـاقي أفـراد الأسـرة تعـويضهم عن الـحرمان بالمـبالغة فـي الــحـنان والتدليل والعطاءات المادية... مما يهيئهم نفسيا واجتماعيا للخمول وإهمال الواجبات المدرسية، فترتفع بينهم نسب الرسوب، وينتهي الأمر بجلهم للانقطاع المبكر عن الدراسة، ثم للانغماس في اللهو، فيتلقفهم أصدقاء السوء وأطفال الشوارع ويعلمونهم الرذائل جميعها، فينتهي الأمر بكثير منهم للانحراف والجنوح(1)....
تاسعا:  اللجوء والتـرحيل الجماعي
عدم الاستقرار السياسي ظاهرة تتوحد فيها أيضا جل الدول النامية بما فيها البلدان الإسلامية، بسبب التموجات الإيديولوجية وبحْثِ الشعوب عن مخرج من أزماتها. وعندما ينضاف لذلك التنافس على السلطة والتطاحن العرقي الإديولوجي والعنف، والعنف المضاد، والنزاعات الأهلية... لا يبقى مفاجئا أن يسجَّل العالم الإسلامي في أعلى قائمة الدول المفتقدة للاستقرار والأمن. وذلك بالرغم من أنها جميعَها تدين بدين الإسلام، دين السلام والتسامح والتعايش. وإذا قدر الباحثون أن عدة مئات من النزاعات التي ثارت بعد الحرب العالمية الثانية (250 حتى سنة 1991م) كان مسرحها الجنوب(2)، استطعنا أن نتصور أفواج  النازحين وغير المستقرين والذين قضوا الطفولة والشباب بالمخيمات، من أبناء المسلمين.
ومنظمة اليونيسف بعد أن حذرت من الواقع المؤلم الذي يعيشه أطفال العالم بسبب الحروب والنعرات العرقية، قدرت أن الطفل في جميع الحالات يعتبر أكبر متضرر من النزاعات المسلحة. وأن أثرها عليه لا حدود لها. وذلك سواء عاينها عن قرب أم لا بحيث إن عاينها فهي تعصف بنفسيته ومستقبله، فلا يتمكن مستقبلا من التخلص من مشاهد الرعب وما تثيره فيه من خوف وقلق، كقتل أفراد أسرته أو اغتصابهم أمامه، أو أي نوع آخر من أنواع الرعب والتعذيب. وهذه المشاهد قادرة بمفردها لأن تُفقِده الثقة في المجتمع وفي نفسه، مما ينعكس سلبا على حياته ومصيره ويقوده للتمرد أو الانحراف والانتقام... وكلها عوامل كافية للتهميش.
وحتى لو لم يشاهد الطفل المعارك والأسلحة، فهو يؤدي ثمنها باهظا. لأن الإنفاق على التسلح يتم غالبا على حساب الإنفاق على التعليم والصحة وعموما التنمية... من ثم خلصت منظمة اليونسيف إلى أن غالب الحروب الحديثة تمت بالتحديد في دول كان يجب أن تكون آخر من يفكر في خوضها(1). والحاصل أن الدول التي تنفق أكثر على التسلح هي أكثر الدول عجزا عن تحمل نفقاته.
 وهذا التخريج تعضده الأرقام التي أوردناها سالفا في بعض الجداول، ولاسيما تلك التي أعطينا من خلالها أرقاما عن نسب إنفاق الدول على التعليم والصحة والتسلح. فكانت الأرقام ناطقة، بحيث لمسنا أن الإنفاق على المجال العسكري يزيد في الدول الأكثر فقرا ومعاناة من التخلف، وكلما ارتفع مؤشر الإنفاق على هذا المجال إلا وانخفض تلقائيا مؤشر الإنفاق على المجالات الاجتماعية والتنموية.

وفي هذا الخصوص ثبت أن تبني الأطفال المشردين بسبب النزاعات ليس حلا مثاليا، ما دام يؤدي لإتلاف هوياتهم، ويعصف بنفسياتهم ومستقبلهم. من أجل ذلك أبرمت اتفاقية لاهاي سنة 1994م لحماية الأطفال وتبادل التعاون في مجال التبني الدولي. فأنشئت لجنة دولية تشرف وتراقب طلبات التبني القادمة من الخارج، واعتبر كل تبنٍ لا يمر عبر هذه القناة غير مشروع. 
ظاهر إذن أن تهميش الأحداث في الدول الإسلامية يرتبط بعوامل متعددة اجتماعية واقتصادية وسياسية، لذلك يجب العمل على إيجاد حل شمولي يراعي العوامل المختلفة. إنما الاكتفاء بما أوردناه حتى الآن من أسباب يعد تقصيرا في معالجة المشاكل. وذلك لاعتقادنا بوجود عوامل أخرى لا تبدو في الظاهر وثيقة الصلة بمشكلة تهميش الأطفال، إلا أنه بدراسة أبعادها يثبت كيف تسهم بحظ وافر في تعميق اللاتكيف، بشكل مباشر أو غير مباشر، من ثم وقبل التفكير في تصور حلول لأزمات الأطفال المهمشين يستحسن التعرف على باقي عوامل الإحباط.
طبيعي جدا إذن، أن يتمخض عن ظروف الحرب و العنف مئآت الآلاف من الأطفال المفتقرين لأوطان تأويهم، فأحرى لمساكن أو أسر تحميهم. وهنا بالذات يبدو الحل سياسيا بالمقام الأول. فالدول هي الملزمة بدراسة أوضاع عدم الاستقرار واستجلاء أسبابها وضبط أمورها، واستعادة ثقة الشعوب فيها، عن طريق تحسين الواضع وحفظ حقوق المواطن....
الجدول23: ويعطي أرقاما عن نسبة اللاجئين المسلمين ببعض المناطق من أفريقيا. وهي ذات دلالة بليغة (المصدر المندوبية السامية لإغاثة اللاجئين1992 م).

ولعل أكثر ما يذهل في الحروب والنزاعات هو تفريق الأسر وتشتيت الأطفال عن آبائهم. ويكفي للدليل على ذلك أنه في مختلف الحروب التي عرفتها مناطق عديدة في العالم، أُبعِد ملايين الأطفال عن أسرهم، و عدد قليل منهم أمكن إلحاقهم بعائلاتهم. ففي رواندا مثلا أحصت المنظمات الدولية سنة 1996م أزيد من 100.000 طفل افترقوا عن آبائهم بسبب النزاع المسلح، وبجهود جبارة من المنظمات الدولية العديدة المختصة، أمكن جمع شمل بعضهم.
من أجل ذلك دأبت منظمة الصليب الأحمر والهلال الأحمر ـ بتعاون مع المفوضية العليا لإغاثة اللاجئين واليونيسف ـ على البحث عن أفضل صيغة لتفادي افتراق الأطفال عن أسرهم. فحصل إجماعها على أن ترحيل الأطفال ـ وإن كان يبدو حلا مثاليا ـ فهو ليس كذلك دائما، بسبب ما يتعرض له الأطفال من أزمات نفسية واعتداءات جسدية وجنسية  واستغلال، أو تبنيهم بطرق غير مشروعة، بما يؤدي لطمس هوياتهم... وبالتالي فإذا كان الترحيل ضروريا، فيجب أن ترحَّل الأسرة مجتمعة، وعلى الأقل أن ينتقل الأطفال بصحبة الشخص المكلف برعايتهم، وفي أسوأ الحالات ألا يفرق بين الإخوة(1)....

الهوامش:
(1) في المغرب مثلا بالرغم من أن مدونة الأحوال الشخصية وضعت معايير لتقدير النفقة، مثل دخل الزوج،  وحالة الزوجة ومستوى المعيشة، فأحكام النفقة ما تزال لا تفي بحقوق الأطفال، إذ ما زالت تتوارح بـين 200 و300 درهم لكل طفل شهريا، وأحيانا أقل من ذلك، رغم كون الأب يتوفر على دخل محترم، مما خلق وضعية مقلقة للغاية، وتسبب في تشريد أطفال بالجملة.
(2) المراجع هنا كثيرة ونكتفي بالإشارة إلى: مصطفى العوجي: الحدث المنحرف أو المهدد بخطر الانحراف في التشريعات العربية: مؤسسة نوفل: بيروت، 1990، علي صفوت: الأحداث المنحرفون: دراسة مقارنة: بيروت، 1990؛ جمعة سيد يوسف ومعتز سيد عبد العال: علم النفس الجنائي: القاهرة 1995، يراجع أيضا:
Abderrazak Moulay RCHID: la Femme et la loi au Maroc: éd. le Fennec: 1991, V.  MARANGE: Les Jeunes: éd. le Monde: 1995, A. Le BON: Situation de lصImmigration      et de la Présence étrangère en France: D P I 1994, V. MALLANT: de la Dette au Don:      la Réparation Pénale à légard des Mineurs, Paris, éd. GNL. Joly, 1994....
(3) Déclaration du Représentant de la Mission Française au Maroc devant le colloque organisé par lصAsociation pour la Protection de la Famille Marocaine, Rabat, 27-29sep.1997.
 (4) M. Suterland: La Famile dans les bouleversements de notre temps: intervention à:       IصAnnée Internationale de Famille, Paris, 25/ 27 mai, 1994.
(5) François de SINGLY: La Symphonie du Nouveau Monde Familial: intervention à:  lصAnnée Internationale de Famille, Paris, 25- 27 mai, 1994.
(6) سلسلة دراسات لهيئة الأمم المتحدة عن المرأة في التنمية،أثر التحولات الاجتـماعية والاقتصــادية على الأســرة، 1994م.
7) (F.  GENDREAU: la Population de lصAfrique: éd. Kartala, Paris, 1993, ORSTOM: les Changements ou la Transition démographique dans le Monde Contemporain en Développement, Paris, 1986, R.CLAIRIN & J.  CONDE Manuel sur les Méthodes dصestimation des Statistiques démografiques imparfaites dans les pays en developpement: OCDE, Paris, 1986; M. LIPTON: Demography and Poverty: World Bank Staff Working Papers n!623: USA, 1983;  R. A-BULATAO: Reducing Fertility in Developing Countries: W B S W Papers n! 680 USA:1984
(8) تراجع سلسلة الدراسات التي أعدتها قاعدة بيانات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، هيئة الأمم المتحدة، حول المرأة والأسرة وأثر التحولات الاقتصادية ووالاجتماعية على الأسرة ببعض الدول العربية الإسلامية.
(9) المهدي المنجرة: الأبعاد العلمية والتكنولوجية: محاضرة بالمدرسة الوطنية للصناعة المعدنية: الرباط 19 فبراير1991.
(10) Garse MACHEL: Conséquences des Conflits Armés sur les Enfants, ONU,UNICEF, New York, 1996.
(11)  Garsa MACHEL: Conséquences des Conflits Armés sur les Enfants, 1996, op. cit. p. 20 et ss.
*************

المبحث الثاني: عوامل أخرى تزيد من تعقيد مشاكل التهميش
مُنذ أن خرجت الدول الإسلامية من هيمنة الاستعمار، وهي تتطلع للنهوض، إلا أن خطط التنمية المتبعة حتى الآن لم تنجح في إيجاد حل  نهائي لمشاكلها الاقتصادية والاجتماعية. والجدير بالتذكير أن مشاكل تهميش الأطفال السالفة الذكر، ليست غائبة عن صانعي الخطط، لكن الأهداف المبتغاة لم تتحقق. مما يدل على أن شيئا ما غير عادي يحدث. فهل باستطاعتنا وضع اليد على مكمن الداء؟.
ونوجز فيما يلي أسباب فشل الخطط التنموية وعجزها عن حل مشاكل الأطفال التي تحول دون اندماجهم في المجتمع.
أولا: التحرج من مواجهة  المشاكل وافتقاد الجرأة على إعلان الرأي
إن مشاكل اجتماعية كثيرة وخطيرة تطرح نفسها بحدة في جل المجتمعات الإسلامية، فيما نُصرُّ بوعي أو بدونه، على تغليفها بالكتمان، إما لإحساسنا ـ عن حق أو خطأ ـ أنها تمس بالأخلاق أو بالأمور المريبة المخجلة... وفي جميع الحالات فالذي لا شك  فيه هو أن السكوت عن المشاكل أخطر بكثير من الإفصاح عنها: فللحديث عنها مزية فتح باب التدارس والنقاش وبالتالي محاولة إيجاد الحلول. أما السكوت فخطره أن الظاهرة تستمر في التفاقم، والكل يستمر في إغماض العين إلى أن نفيق على آثار كارثية. آنذاك يبدأ التفكير في حلول مستعجلة، تكون مُرتَجَلَة في الغالب (1)....
 فخذ مثلا الإجهاض، وهو يمارَس بتوسع وفي ظروف غير صحية غالبا، بعديد من البلدان الإسلامية. مما يضاعف مخاطره على الأم ويرفع نسب اليتم. ومع أنه يصعب التكهن بأية أرقام ـ بسبب التكتم ـ فكل المؤشرات تكاد تنطق لوحدها وتعطينا أرقاما مخيفة، ويكفي دليلا أن العيادات التي تمارسه لا تشعر بأي حرج فيما تأتيه منه يوميا، ولسان حال المشرع يردد بجل الأقطار: >التجريم للإجهاض، والعقاب لمُمَارسِه، وأيضا للقابلِ به والمرأة الخاضعة له<.
والمؤسف أنه عندما يُسأل العارفون، يتحفظون كثيرا في الجواب مكتفين بالإحالة على أقوال الفقهاء القدماء الذين اختلفوا في بيان حكم الإجهاض. ذلك أنه كمــــا أسلفـنا،
 باستثناء المالكية والحنابلة، مال بعض الفقهاء لإجازة الإجهاض في الأربعين يوما الموالية للتخصيب، ومال بعضهم لإجازته ما لم تُزرَع الروح (أي قبل اليوم 120). كما أجمع الفقهاء على جواز الإجهاض كلما دعا له اضطرار معقول، ومثلوا لذلك بالخوف على حياة المرأة أوصحتها، والخوف على باقي الأطفال، والخشية من العار لدى البعض(1)... ومعلوم أن الاختلاف رحمة ودليل على أن الحكم الشرعي في هذه المسألة ليس قطعيا، وعلى أن باب الاجتهاد ليس موصدا.
ومعنى هذا أنه لو أُعمِل حكم الشرع لأدى لحل عديد من المشاكل التي يطرحها الأطفال غير الشرعيين والمشوهون، بفارق أساسي مع ما هو عليه الأمر حاليا بعديد من الدول الإسلامية: فعِوض أن يُمارَس الإجهاض في ظروف مشبوهة وغير صحية، كان سيمارَس في وضوح وباستشارة الأطباء الثقاة... وبذلك يُتفادى موت عدد من الأمهات ويُجَنَّب أعداد من الأطفال اليتم والتهميش....
ويلزم هنا التنويه بجرأة الفتوى التي أصدرها المجمع الفقهي الإسلامي في الدورة الثانية عشرة بجدة يوم 15 رجب 1410 هـ ـ 10 فبراير 1990م. فأجاز من خلالها الإجهاض إذا ثبت أن الجنين يحمل تشوهات، شريطة أن تؤكد ذلك لجنة طبية وأن يتم الإجهاض قبل انصرام مدة120  يوما الموالية للتخصيب (2).
في الوقت ذاته، وبفعل تحرج الناس من المواضيع الأخلاقية، حُرِم الشباب من فرصة التربية الصحية الأخلاقية، وتزامن ذلك مع الانفتاح على الغرب، مما عقَّد مضاعفات الانحلال الخلقي... وهذا ما يفسر الارتفاع المهول للأطفال غير الشرعيين  وتزايد الإقبال على الإجهاض وممارسته بعديد من الدول.
ولا يجب أن يفهم مما أسلفنا أننا من دعاة إباحة الإجهاض. بل إننا ندعو في المقام الأول، إلى تدارس الموضوع واستخلاص الرأي الأكثر انسجاما مع روح الشريعة الإسلامية ومع ضرورات العصر... وندعو بالتالي لتنظيمٍ تشريعي أكثر وضوحا وإحاطة بالموضوع، أكثر دقة وتحرزا، وأن يُرفَق التنظيم بالضمانات والمراقبة الصارمة. إننا ننشد تنظيما يراعي مختلف الظروف، ويسهر بالأولوية، على تحقيق مقاصد الشريعة، وهي هنا كثيرة، وعلى رأسها حماية حياة الأم وصحتها، وحفظ  كرامة الإنسان ـ وفي الوقت ذاته، وبقدر الإمكان ـ حفظ حق الجنين في الحياة أو بالأحرى  في حياة كريمة....
ونأخذ كمثال آخر للتحرج من مواجهة المواضيع الحساسة، تنظيم النسل: حيث يتحرج بعض الفقهاء المعاصرين من الخوض فيه أو الحسم بشأنه. فيكتفون بالاستشهاد بأحاديث تحث على التوالد، فيما كان من الواجب، قبل إعطاء الحكم الشرعي لتنظيم الإنجاب، استحضار أحكام شرعية أخرى لها علاقة بالموضوع.
فالأحاديث في هذا السياق كثيرة، وهي تتكامل فيما بينها، للحث على إقامة مجتمع إسلامي قوي ومتوازن، ليس من حيث العدد فحسب وإنما من حيث الكيف والنوعية: إذ ورد في الحديث أن المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف(1)، وأن اليد العليا خير من اليد السفلى(2). والأطفال المهمشون مرشحون في حالات كثيرة لأن يتحولوا إلى مواطنين ضعفاء مفتقدين لقوة المؤمن المرغوب فيه، عاجزين عن تحقيق قوة ومناعة المجتمع الإسلامي.
قال بعض السلف: >إذا أراد الله بعبد شرًّا، سلط عليه في الدنيا أنيابا تنهشه، يعني العيال(3)<. وفي إطار تفسير آية: {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} (ســــورة الــتحريم الآية 6)، قال الإمام الغزالي: أمرنا الله أن نقيهم النار كما نقي أنفسنا، والإنسان قد يعجز عن القيام بحق نفسه، وإذا تزوج تضاعف عليه الحق وانضافت إلى نفسه نفس أخرى، والنفس أمارة بالسوء، إن كثرت عليها الحقوق كثر الأمر بالسوء غالبا. ولذلك اعتذر بعضهم من التزويج وقال: أنا مبتلي بنفسي وكيف أضيف إليها نفسا أخرى..؟<(4).
والواقع أنه ليس هنالك من تناقض بين الحكم الشرعي بالترغيب في التزوج والترغيب عنه. بل هما حكمان متكاملان، إذ ارتبط الترغيب في الزواج بالقدرة على إقامة أسرة قوية متوازنة، وارتبط الترغيب عنه بالعجز عن ذلك. وفي توفيق مثالي بينهما قال الرسول الكريم: >من كان ذا طول فليتزوج<(1)، وقال >يامعشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء<(2). وفي نفس السياق قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: >لا يمنع من النكاح إلا عجز أو فجور<(3).
وقد ثبت أن الصحابة مارسوا العزل، على عهد الرسول صلى الله عليه  وسلم، فلم ينكر عليهم ذلك. وسألوه عنه صراحة فقال: >لا عليكم ألا تفعلوه<(4).
فالكثرة ليست مقصودة لذاتها، بل لتقوية أمة الإسلام بمواطنين ذوي المناعة والقوة... ولو كان الأمر خلاف ذلك وكان تنظيم النسل منافيا للشرع لما عزل الصحابة والرسول بينهم والقرآن ينزل، وما وجهت دعوة الصوم لمن لم يستطع الباءة.
والخلاصة أنه متى كان الإنجاب يحقق مقاصد الشريعة، فإنه ينهض مرغوبا فيه وموافقا لحكم >تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة<. أما إذا كان منافيا لمقاصده ـ بسبب ما قد يترتب عليه من إهمال للأطفال وعدم العناية بهم  والتخلي عنهم وتشريدهم ـ فإن الكثرة تكون غير مفيدة ولا نافعة للدين ولا للدنيا، ولا تشكل سببا للفخر ولا للمباهاة، لذلك فهي غير مطلوبة (5).
وسبق أن أعطينا مؤشرات كثيرة تبين أن عوامل التهميش تكثر في الأوساط التي تفتقد لمقومات الحياة المستقرة الكريمة، بسبب الفقر والأمية وكثرة الولادات وتقاربها والجهل بمقومات التنشئة السليمة. ومعنى هذا أن المقصد من التكاثر والتناسل قد يفتقد بسبب زيادة الأطفال المهمشين.
ثانيا: الاعتقاد بأن الدراسات المستقبلية منافية للشرع
المؤمن إنسان فطِن، والفطنة هي البصيرة أو الاستبصار أي توقع ما قد يحدث في المستقبل، وتحضير الحلول، لتفادي المفاجأة. وقد اشتهر عن فقهاء الإسلام القدامى أنهم كانوا يفترضون وقوع الحدث ويضعون له الحل المناسب. وهو ما اصطُلح عليه عرفا:   >بالفقه الافتراضي<أو >الفقه الأرأيتي<، اشتقاقا من السؤال: >أرأيت لو حدث كـذا، لكان الحكم كذا<.
لذلك يلزم التمييز بين الإيمان بالقضاء والقدر وبين التواكل والاستسلام. إذ يعتقد الكثيرون منا أن الإنسان مسيَّر في الحياة لا يملك قوة لتغيير مستقبله. وقد انتهى بنا المقام لاعتبار التخلف الذي ننحبس فيه جزءا من القضاء والقدر، لا نتيجة تقاعسنا  واستسلامنا وتواكلنا. وأُلصق الأمر هنا أيضا بالدين.
وقد تناسى الكثيرون أن الإسلام دين الفطرة السليمة. وأنه لا يُتصَّور في دين كهذا أن يُكرِّس قواعد متناقضة تدعو للعمل وتسائل المرء عن تقصيره وعمده، وفي الوقت ذاته يُجعَل القضاء والقدر حكماً مطلقا يشل عمل وإرادة الإنسان بكاملهما. فالصواب إذن أن مجال القضاء والقدر هو ما يخرج عن إرادة الإنسان وقُدرته، وما لا يملك أمامه حولا ولا قوة. أما ما يدخل في قدرة الإنسان فهو مخيَّر فيه لا مسيَّر، ملزم فيه بالعمل لا بالاستسلام، بالتوكل لا بالتواكل والخنوع.
من ثم فالاستبصار والترقب وأخذ الحذر والعمل لتحسين ظروف العيش والمستقبل...كل ذلك لا يتعارض مع مبدأ >انفراد الخالق بالعلم بالغيب<. لأن الفرق شاسع بين الأمرين. فالعلم الإلهي لا حدود له ولا آخر، أما الاستبصار والاحتياط فمجرد استجابة للأمر الإلهي بالبحث وتوظيف القدرات العقلية لتحسين الأوضاع واتقاء المضار وتجنب المفاجآت الخطيرة.
وإن الحِكم ذاتَها تُستقى من القرآن الكريم، في عدة آيات، منها: {وأعدُّوا لهم ما استَطعتم من قوةٍ ومن رِباطِ الخيل}(الأنفال60 )،>خذوا حِذْرَكم<(سورة النساء: الآية 71)،{وليأخذوا أسلحتهم} (سورة النساء: الآية 102)، في موضوع صلاة الخوف)، {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم}(سورة القصص: الآية47 )، {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} (سورة الحشر: الآية18 )، {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (سورة الرعد: الآية 13)....
وفي حديث >...اعقلْها وتوكَّل< (1) حضٌّ على العمل والتزود وعدم الاتكال وفيه تمييز واضح بين التوكل والتواكل... وهو حديث يدعمه ويكمله حديث: >لو أنكم تـتـوكلون  على الله حق التوكل، لرزقَكم كما يَرزُق الطيرَ، تغدو خصاما (جائعة) وتروح بطانا (ممتلئة البطون)<(2). ويفيد الحديثان أن التوكل على الله لا يعني الاستسلام والقعود والتواكل، وإنما معناه الحقيقي العمل والاحتياط قدر الإمكان، وترك ما يخرج عن إرادة الإنسان لقدرة الله ومشيئتة، وأن الرزق مرهون بالغدو والرواح، بالسعي والبحث، لا بالخمول والانتظار.
كما أعطى الرسول الكريم القدوة الحسنة ـ في الترقب والاحتياط والتطلع للمستقبل ـ في سيرته  وأعماله. إذ رغم أنه كان يتلقى الوحي، كثيراً ما استشار عقله، كما استـنار برأي الصحابة في السلم والحرب وعمل بمشوراتهم، مستثمرا بذلك طاقات  الإنسان، حاضا على الاستشراف والاستبصار، كي لا يتعطَّل العقل البشري.
من جهة أخرى خلط الناس بين الترقب والاحتياط للمستقبل، وبين النبوءة والرجم بالغيب، فانتهوا إلى تحريم الاستشراف، مخافة الدخول في العلم بالغيب، المنهي عنه.
فصحيح أن الإسلام حرَّم الكهانة والتنبؤ بالغيب، لكن الفرق شاسع بين الكهانة كشعوذة  وكادعاء للعلم بما سيأتي، وبين استشراف علمي مبني على مؤشرات وحسابات رياضية مدروسة، تسمح بالتنبؤ بالمستقبل، استشراف منزه عن النبوءة والرجم بالغيب. ونستدل على ما قلناه، بما روي عن الرسول#أنه قال: >لن يبقى بعدي إلا المبشرات<، فقالوا: وما المبشرات يارسول الله؟ قال: >الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرى له، جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوءة<(3)وقال عليه السلام: >رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة<(4). كما قال عليه السلام: >العلماء ورثة الأنبياء<، وهذه الأحاديث التي يستخلص منها الحث على الترقب والاستبصار، كما أنها تفسر الآيات.
الكثيرة التي تحض على العمل والاحتياط والإعداد للمستقبل، كما أوردنا بعضها أعلاه. ولو كان الاستشراف مكروها أو محرَّما لما خاطب الشرع في الإنسان العقل والمنطق والعلم(1)، ولما كلف الإنسان بالعمل وأخذ الحِذر {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} (سورة الحشر، الآية 18). {وأعدُّوا لهم ما استَطعتم من قوةٍ ومن رِباطِ الخيل}(سورة الأنفال، الآية 60){خذوا حِذْرَكم} (سورة النساء: الآية 71).
وفي اعتقادنا، هنالك سبب آخر زاد من ترسب تلك الأفكار المغلوطة عن الإسلام، في ذاكرة الشعوب المسلمة، وزاد من تعقيدها، وهو خلط الناس بين الإبداع والبدعة. فاستثمرت فئات تخشى التغيير والابتكار هذا الخلط لحث الناس على التقاعس ضمانا لمصالحها واستقرارها. فابتَكرت فكرة الخوف من السقوط في البدعة، وجعلت منها حلا مثاليا، خلَّصها من كل اجتهاد أو بحث أو إبداع أو ابتكار يهدد مصالحها. فكان أن أغلق باب الاجتهاد في فترة من فترات من تاريخ الأمة الإسلامية. والأخطر أن جزءًا من هذا الواقع ما زال قائما، حتى بعد أن أضحى العلم رأسمال الأمم... ويكفي دليلا على ترسُّب تلك المعتقدات الخاطئة وتعطل الاستبصار والاستشراف العلمي بجل الأقطار الإسلامية، فشل السياسات الاجتماعية في مجال الطفولة وغيره، المنتهجة حتى الآن. بحيث لو كان التخطيط اعتمَد الاستشراف العلمي والدراسات المستقبلية، لأمكنه ارتقاب الظواهر المختلفة والتحكم فيها.
إذ معلوم أن الخطط تصاغ عادة لتطبق في المستقبل، ولإنجاحها يلزم اعـتِماَد التوقع وحسابات رياضية دقيقة، تحصي الظاهرة وتقيس مقدار تطورها في الماضي والحاضر، فتقدِّر انطلاقا من ذلك، نِسَب نموِّها أو انحسارها في المستقبل....
فحيال الأطفال المهمشين مثلا، لا يمكن وضع خطط ملائمة تنجح في التكفل بهم جميعا وحلِّ مشاكلهم كافة، والحدِّ من الظاهرة استقبالا، بدون دراسات آنية وأخرى مستقبلية تحصي أعدادهم  بدقة، وترتقب الزيادات الممكنة، مع الحرص على التدقيق، وتضع الحلول المناسبة لكل عينة على حدة، وبنوع من الصدق...
إن هذا يثير في الواقع معضلة أخرى لصيقة بالسابقة، وهي عدم إحسان التعامل مع الأرقام وعدم التعود على التحدث بلغتها.
ثالثا: عدم إتقان  لغة  الأرقام
ومما يؤخذ على المسلمين اليوم الاعتماد في الكثير من أمورهم وبحوثهم على الجانب النظري دون الجوانب العملية التطبيقية والميدانية مما أصبح معه العلم مجرد شعارات جوفاء بعيدة عن الواقع ومجانفة للحقائق العلمية.
ونتج عنه أيضا أنهم عندما يحتاجون إلى أرقام لصياغة برامجهم، فهم يلجؤون أو يلتزمون باللجوء للمنظمات والمؤسسات الدولية لتزويدهم بالحلول بمعيتها. وذلك أن مراكز الرصد واستجلاء الظواهر متمركزة بدول الشمال، مع أن عديدا منها ممول من البلدان النامية. وهذا سِرُّ كون الأرقام الرسمية بعيدة عن الواقع، وسِرُّ تعثُّر الحلول المستوردة وعجزها عن تجاوز ولو جزء من أزماتنا.
فالحل يكمن في أن نتعلم نحن لغة الأرقام وهي ليست غريبة إطلاقا عن ثقافتنا الإسلامية التي نبغت في الرياضيات كنبوغها في باقي العلوم. حتى أن الفقهاء القدماء اعتبروا تعلُّم الحساب والهندسة تدريبا على صدق القول وصحته(1).
والحل يكمن أيضا في ضرورة إشراك المواطن واستشارة رأيه أثناء صياغة الأرقام والإحصاءات، كي تكون واقعية، صادقة ومعبرة عن الاحتياجات الحقيقية للمواطن. وهي الوسيلة الوحيدة الكفيلة بالتخلص من تبعية المستقبل، علما بأن التحرر من استعمار المستقبل أكبر عبئا وتعقيدا، وفي الوقت ذاته أكثر نفعا من إزاحته عن الماضي والحاضر.
 ومعنى هذا أنه للإحاطة بمشاكل الطفولة المحرومة، وصياغة حلول واقعية، يلزم الاعتماد على دراسات ميدانية صادقة، ترصد مختلف الظواهر وتستجلي أسبابها، وتحصي عدد الأطفال المنتسبين لكل فئة، في أفق إيجاد حلول مثمرة، قابلة للتطبيق وتستجيب للحاجات الفعلية لكل فئة من الأطفال المهمشين.
رابعا: عدم توجه التبرعات الخيرية للميدان الاجتماعي
إن الإسلام أقام نظاما مثاليا نجح عبر تاريخ الأمة الإسلامية في دعم عمل الدولة. واستند في ذلك لعدة مؤسسات منها الزكاة والوقف  والتعقيب  والعمرى والكفارات  وأعمال الإحسان والصدقات... ولسنا نحتاج لكثير بحث لنستخلص بأن هذه الأنظمة إما تعطلت نهائيا بكثير من البلدان الإسلامية، وإما وجهت وجهات محددة، بعديد من الأقطار، فالوقف مثلا وظف أكثر ما وظف في العبادات، دون الميادين الاجتماعية. ومعلوم أنه لو وظفت الزكاة والوقف كما يجب لاستطاعا تقليص عدد المحرومين.
حقيقة أن مشاكل كثيرة عملية، أخلاقية وتنظيمية تقبع وراء تراجع العمل الخيري، كافتقاد الثقة بين المواطن والأجهزة القائمة على جمع التبرعات وصرفها... وحقيقة أن العمل >الجمعِوي<(1) بدأ ينتعش بجل الدول الإسلامية، مع تدشين عهد الجمعيات الاجتماعية غير الحكومية، لكن ليس بالقدر الكافي بعد.
ولينظر الواحد منا هذا الخبر الإعلامي: >في كندا يوم 16-04-97، ثم في سويسرا في اليوم الموالي، اشترت منظمات إنسانية (مقابل 800دولار للواحد)، أزيد من أربعمائة مُسْتَرَقٍّ من بلد إسلامي جُلهم أطفال، لتحريرهم<، وأضاف الخبر فإن عدد المستعْبَدين بنفس البلد يقدر بأربعين ألف شخص، معظمهم أطفال، وأن أغلبهم يوجه للبيع في الدول الإسلامية الغنية (2).
هذا الخبر لم نقصد منه سوى الرمز للفرق بين نفعية وجدوى العمل الخيري بالدول المتقدمة ومدى تعطُّلِه في دولٍ كان دينها الأسبقَ للحض على تحرير الرقاب وتكريس المساواة بين الناس، دين جعل الإحسان أحد أركان اعتناق الإسلام وحُجة على الإيمان به.
وما يقال عن المثال أعلاه يصدق على باقي أسباب التهميش. فلو قورن عدد الأطفال المحرومين ماديا، بعدد الميسورين من المسلمين، لثبت لدينا بالدليل أن حل جزء من مشاكل الأطفال المهمشين كان سيقدر عليه. أما في ظل الظروف الراهنة فقليل منا من يدرك قيمة العمل الخيري، ونفعيته. نفس القول يصدق على التكفل بالأطفال المتخلى عنهم. إذ يلاحظ مع الأسف عدم إقبال الأسر الميسورة غير المنجبة على التكفل... فيما لو أجريت مقابلة بين المواطنين الميسورين العاجزين عن الإنجاب، والأطفال المحتاجين لأسر تحتضنهم وتحميهم من أسباب التهميش المختلفة، لحصلت الكفاية، ولأمكنت الاستجابة لحاجات الطرفين معا.
فمعنى هذا أن الأمر يحتاج لوساطة جادة ومخلصة بين الطرفين، لتمكينهما كليهما من الوصول لغايته. ومعلوم أن هذه الوساطة تتولاها عادة الإدارة، إلى جانب العمل الخيري المستقل. مما يؤكد أنه لو تكاثف العمل الخيري (الجَمْعَوِي) مع جهود الدولة لاستطاعا معا تقليص عدد الأطفال المهمشين. ولعل من أسباب تعطله عدم الوعي به وكون كل منا ينتظر أن تقوم الدولة لوحدها بذلك. ومن أسبابه أيضا تعقد عمل الإدارة واستحكام البيروقراطية بعديد من الأقطار....
والحاصل أن معضلة الشعوب الإسلامية تكمن في ترسُّب تلك العقليات التي حاولنا إبراز جانب منها. عقليات ترفض الإبداع، تحت غطاء الخوف من البدعة، وترفض الاستشراف والمستقبليات تحت تبرير التطاول على العلم الإلهي، عقليات تحضُّ على التواكل بعلة التوكل، وتحصر البِرَّ في ميدان العبادات دون سائرالمجالات الإنسانية...مع إن "الدين المعاملة". وكلها أمور مغلوطة عن الإسلام أدت للتقاعس، للاستسلام، للتواكل. وكان من نتيجتها أن كلا منا بات يعلق آماله على الخطط السياسية وبرامج الدولة كي تَحُل كافة مشاكلنا. وأننا في خضم عقدة الخوف من المجهول أو من السقوط في البدعة...فسحنا المجال واسعا لاستحكام البيروقراطية وبشكل رهيب... فلم يعد غريبا أن يتعطَّل مبدأ >كلكم راعِ وكلكم مسؤول عن رعيته<....
ومن المؤكد أيضا أن حل مشاكل الأطفال المهمشين رهين بتحررنا من تلك العقد وانعتاقنا من مركباتها بنشر الثقافة الإسلامية الصحيحة ونبذ البدع المتوارثة عن عهود الانحطاط والاستعمار.
وسنحاول في الفصل التالي بيان مايجب على الدول ـ متى أرادت التصدي لظاهرة الأطفال المهمشين ـ أن تبدأ به، والخطط الناجعة لحل مشاكلهم، وأولى هذه المشاكل بالحل سواء على المدى القريب أو البعيد.

الهوامش:
(1) وكأننا لا ننتمي لدين انطلق من مبدأ >لا حياء في الدين<، لدينٍ رفع الحرج عن كل شيء وتحدث في الأمور الأكثر حساسية وسرية... بذلك فنحن نوظِّف الحياء في غير ما أعد له.
(2) ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام: المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية: الكويت، 1983م، محمد علي البار: الجنين المشوه والأمراض الوراثية: دار المنارة، جدة،1991م، وكتابه: مشكلة الإجهاض: الدار السعودية، 1985م.
(3) يراجع قرار المجمع الفقهي الإسلامي: مجلة المجمع، ع 6، ج 1.
(4) رواه مسلم: كتاب القدر: باب في الأمر بالقوة وترك العجز....
(5) أخرجه البخاري: كتاب الزكاة: باب لا صدقة إلا عن ظهر قلب، ومسلم: كتاب الزكاة: باب: اليد العليا خير....
(6) إحياء علوم الدين: باب آداب النكاح.
(7) المصدر نفسه.
(8) أخرجه ابن ماجة.
(9) رواه البخاري: كتاب النكاح.
(10) إحياء علوم الدين: ج 2: ص59، باب آداب المعاشرة.
(11) أحاديث إحازة العزل رواها البخاري ومسلم وغيرهما.
(12) ويبدو هذا الحكم من ضمن الأحكام التي تستخلص من الحديث الصحيح: >توشك أن تُداعَى عليكم الأمم كما تُدَاعَى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أمن قلة نحن يومئذ يارسول الله؟  فقال: لا بل أنتم كثيرون ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن>رواه أبو داود: كتاب الملاحم باب 5: تداعي الأمم على أهل الإسلام). والغثاء مايجرفه السيل من أوساخ وحشائش وأعشاب وأشياء مبعثرة لا خير فيها ولا قيمة لها ولا رابط بينها وأوساخ... وعلى هامش آية: {فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء} (المؤمنون 41)، فسره سيد قطب بالحشائش والأشياء المبعثرة التي يجرفها السيل والتي لا قيمة لها ولا رابط بينها... وهؤلاء لما تخلوا عن الخصائص التي كرمهم الله بها، وغفلوا عن حكمة وجودهم، فلم يبق فيهم ما يستحق التكريم، فإذا هم غثاء كغثاء السيل ملقى بلا احتفال ولا اهتمام... سيد قطب في ظلال القرآن: دار الشروق، بيروت، 1984، ج 4، ص 1268.
(13) أخرجه الطبراني.
(14) رواه الترمذي في أبواب الزهد، باب التوكل على الله.
(15) الموطأ: وفي تفسير لآية >لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة<(يونس 64) قيل: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له. وإن كان ساد الاعتقاد بأن المقصود بالمبشرات والرؤيا ما يراه الإنسان في المنام، لكن معناها وسياقها يفيدان أن المفهوم يتسع لشمول كل أنواع الاستبصار.
(16) رواه البخاري: كتاب التعبير: باب الرؤيا الصالحة....
(17) مثلا: ياأولي الألباب، وردت في القرآن الكريم 16 مرة. يعقل، يعقلون، تعقلون: 30مرة. العلم، تعلمون...أزيد من  300مرة.....
(18)  ونكتفي بنقل قول بليغ لابن مسكويه: >فمن اتفق له في الصبا أن يربىَّ على أدب الشريعة... ثم ينظر بعد ذلك في كتب الأخلاق...ثم ينظر في الحساب والهندسة حتى يتعود صدق القول وصحته فلا يسكن إلا إليها. ثم يتدرج حتى يبلغ إلى أقصى مرتبة الإنسان، فهو السعيد الكامل. ومن لم يتفق له ذلك في مبدأ نشوئه ثم ابتلى بأن يربيه والده على رواية الشعر وقبول أكاذيبه...ثم صار بعد ذلك إلى رؤساء يقربونه على روايتها وقول مثلها ويجزلون له العطية...<: تهذيب الأخلاق لابن مسكويه، ص 35.
(19) لفظة متداوَلة بالمغرب ويقصد بها نشاط الجمعيات المدنية الهادفة للعمل الثقافي أو الاجتماعي أو الخيري...
(20) نشر الخبر بالصور عدد من وسائل الإعلام المرئي الدولية في 16 و17 أبريل 1997م.
***********














الفصل الرابع
استـراتيجيات كفيلة بتقليص معاناة الأطفال المهمشين

نادينا بضرورة التصدي للأسباب إن أردنا فعلا إيجاد حلول جذرية. لكن التركيز على معالجة الأسباب لا يعني إهمال العدد الهائل من الأطفال المهمشين الموجودين حالياً، وإرجاء النظر في قضاياهم إلى حين اجتثاث الأسباب. بل يلزم تبني استراتيجيات آنية مستعجلة تواجه الظاهرة كما هي مطروحة المبحث الأول، وأخرى متوسطة أو بعيدة المدى تسعى لاقتلاعها من جذورها وهي مطروحة المبحث الثاني.

المبحث  الأول: برامج  مستعجلة  لإنقاذ  الأطفال  المهمشين
إذا كان الطفل غير السوي مرشَّحا ليكون رجل مستقبل سيئ، فمعناه أنه كلما كثر عدد الأطفال المهمشين، زادت مخاطر التخلف. وهذا كاف لتبرير مطالبتنا بالإنفاق بسخاء على الطفولة. وسنحاول التوفيق بين ما يجب أن تقوم به الدولة (المطلب الأول)، وبين الدور المنوط بالمشرع (المطلب الثاني):
المطلب الأول: نفعية واستعجال الإنفاق على الطفولة
وضعية الأطفال المهمشين تقتضي الاستعجال، وكل دقيقة تأخير، تزيد تلقائيا من تكلفة العلاج... ونركز الأولويات الملحة في التالي:
أولا: رفع الميزانيات المخصصة  للطفولة
الدول الإسلامية تشكو من الضيق المادي والمديونية، فكيف تقتنع الدولة برفع إنفاقها على الطفولة المحرومة وعموما على المجالات الاجتماعية، التي تتطلب ميزانيات ضخمة؟
لعل أول مزية للإنفاق على الطفولة أنه يوفر على الدولة إنفاقات مستقبلية أضخم. فالطفولة المهمشة مرشحة لإنتاج مواطنين غير صالحين صحيا، غير صالحين سلوكا وفكرا... لذلك فأفضل لها أن تنفق ميزانية على تكييف الأطفال من أن تصرف أضعافها على الأمن والعلاج وإعادة التأهيل... باعتبار " الوقاية خير من العلاج" ونعيد الاستشهاد بالأرقام التي أوردناها سالفا على سبيل المقارنة بين بعض الدول الإسلامية، ودول أخرى نامية أنفقت بسخاء على التعليم ومحو الأمية والصحة، فكانت النتيجة أن انخفض تلقائيا معدل الأمية  وارتفع الدخل القومي وقل عدد الفقراء، وبالتالي لم تعد الدولة بحاجة للإنفاق على التسلح. وهذا يعكس أن الأمن يرتبط ـ وجودا وعدماـ بوعي وتنوير الشعوب، لا بكثرة الإنفاق على الميدان العسكري. ونكتفي بالإحالة على الأرقام في أماكنها بالجداول من رقم 10 إلى 17، وكلها ناطقة ومعبرة عن ذلك بوضوح.
ثانيا: التكفل الآنـي والمستعجل بالأطفال المحرومين
ويمكن استثمار أكثر من وسيلة، كإيجاد إدارات وجمعيات خيرية للوساطة بين الأطفال المتخلى عنهم، والأسر غير المنجبة الراغبة في التكفل... أما الأطفال الذين لا حظَّ لهم في أسرة بديلة فيعتبرون أبناء للدولة، حيث تلزم هي بالتكفل بهم وبضمان كافة حقوقهم المادية والمعنوية والتربوية... وهي مُطالَبة بتشجيع العمل الخيري الجمعوي لمساعدتها على تحمل أعباء الأطفال ماديا ومعنويا. وهي ملزمة في هذا المجال بنشر وعي صحيح عن جدوى العمل الخيري، وتوجيه أعمال الإحسان إلى المجال الاجتماعي ومجال الطفولة بالذات. وهي مطالبة أيضا بإرساء دعائم الثقة المتبادلة بين مختلف القطاعات المعنية من جهة، وبينها وبين المواطنين، من جهة أخرى.
ثالثا: الالتفات للأطفال في زمن الحرب
إن التهميش والتشرد تزيد وتيرتهما في ظروف الحرب، بسبب تعطل الدراسة،  وتعطل المؤسسات الاجتماعية التي تحتضن عادة الأطفال، وبسبب افتراق الأطفال عن أوليائهم... هكذا وفجأة يجد الآلاف منهم، بما فيهم المتمدرسون، أنفسهم في الشوارع يواجهون فيها بمفردهم كل أصناف مخاطر التهميش والانحراف والتمرد.
وقد أثبتت الأبحاث أن شبكات عديدة ومختلفة الأهداف تنشط إبان الحروب، فتستغل الأطفال بوحشية في مجالات كثيرة، جلها مشين وغير أخلاقي. وهذه الشبكات  تنتقي عينات الأطفال من بين المهمشين الذين يقضون معظم أوقاتهم بالشوارع بسبب الابتعاد عن أسرهم... أو وجودهم في الملاجئ، فتختطفهم وترغمهم على الالتحاق بالمعسكرات. كما يتعرضون لكل أنواع الاستغلال، ويجبرون على القيام بالأعمال الشاقة والخضوع للممارسات غير الأخلاقية الشائنة الشاذة.
وبالمقابل ثبت أنه في النزاعات المسلحة نادرا جدا ما يحصل الالتفات للأطفال أثناء التفاوض بين الأطراف المتنازعة، أو عند إبرام اتفاقيات وقف إطلاق النار. بل كان يجب أن توضع النقطة الأساسية التي يتم التفاوض بشأنها، سواء استمرت الحرب أو حصلت الهدنة فعلا.
ويجب على المنظمات والمؤسسات الإسلامية المتخصصة أن تتكاتف في العمل لرفع المعاناة عن الأطفال في المجتمعات الإسلامية. وقد بذلت بعض المنظمات جهودا طيبة للحد من ظاهرة تهميش الأطفال بسبب الحروب، وذلك في الصومال وجيبوتي وتنزانيا. ويتمثل هذا الحل في إقامة أقسام متنقلة للتدريس في مخيمات اللاجئين أو في المناطق الآمنة(1).
رابعا: دعوة المؤسسات غير الحكومية  للمساهمة
مما لاشك فيه أن الدولة في أمس الحاجة لمساعدات الهيئات والجمعيات المستقلة وتبرعات الميسورين من الأفراد والدول. والواقع أن العمل الخيري موجود بغالب الأقطار الإسلامية، لكنه يعاني من عدة عراقيل، لذلك يحتاج بدوره لمساعدات وتوجيهات المسؤولين. ولإنجاح مهمته يلزم تنسيق عمله مع الأولويات الملحة التي تسطرها خطط التنمية. وغير خاف أن الثقة هي عماد نجاح أية مهمة، لذلك فنجاعة العمل الخيري رهينة باكتساب أو استعادة ثقة المواطنين فيه وتصحيح نظرتهم عنه.
وهو أمر يحتاج لأدلة عَمَلية تُثبِت من خلالها المؤسسات الخيرية تصحيح سلوكاتها وتعطي صورة مشَرِّفة وأفضل مما هي عليه الآن. والنشاط الخيري من جهة أخرى تباطأ بسبب فقدان المؤسسات هي الأخرى، الثقة في الإدارات، أو التي تضطر للتعامل معها، لذلك فالأمر يتطلب أن تستعيد هي بدورها الثقه في الإدارة. وهذا من جهته يتوقف على الإصلاح الإداري وتفعيل المراقبة.
ومن جهة أخرى يجب توسيع مجالات الاهتمام بأعمال الخير والإحسان، وعدم قصره على حالات السلم فحسب. بل لعل إشراكه في ظروف الحرب والنزاعات أكثر إلحاحا. فأعمال الإحسان هنا بالذات، تستطيع أن تشارك بفعالية إلى جانب جهود الدولة والمجتمع المدني، لتسهيل مهمة التكفل بالأطفال وتربيتهم وتعليمهم، وحمايتهم من الشارع، بكل ما يحمله من مخاطر.
خامسا: إجبارية التعليم وتعليم البنات بالخصوص
الجهل والأمية من أخطر أسباب التهميش، بل أسواها على الإطلاق، وبها ترتبط كافة الظواهر الأخرى، كما أثبتنا ذلك بأكثر من دليل وبالجداول والأرقام. من ثم فالوضع بالدول الإسلامية يحتاج لبرامج جدية وفعالة لنشر التعليم بين الصغار، ولمحو الأمية عن الكبار، ونهج واتباع سياسات قصيرة، متوسطة وطويلة المدى للقضاء على الجهل والأمية كلية. ونذكِّر هنا بأن نسب التسجيل بالمدارس ما زالت لا تشمل جميع الأطفال البالغين سن التمدرس، مما يعني أن أمية الكبار ستبقى ظاهرة مستحكمة في العقود القادمة،  وتستدعي التصدي لها بحزم وجدية.
ولذلك يجب تبني برامج جادة وعملاقة، بشأن محو الأمية عن الكبار. وموازاة معها يجب ـ وباستعجال ـ تبني برامج أخرى لتعليم الأطفال غير المتمدرسين، الذين تجاوزوا سن التمدرس، عن طريق إدماجهم في مدارس خاصة لا تتقيد بمعايير التدريس التقليدية، كالسن والتوحد فيه بين تلامذة نفس الفصل...
كما يجب في هذا الصدد إرفاق خطط التعليم بالبنيات التحتية اللازمة، ودعمه بتوعية الأسر، خصوصا في البوادي بتعليم أبنائها وبناتها، مع تشجيع غير الميسورة ببعض الدعم المالي لمساعدتها على تحمل أعباء التمدرس. ويمكن الاستعانة بالإجبار إن اقتضى الحال، وفرض عقوبات على الممتنعين عن تعليم أبنائهم... وهنا لن يعاب على برامج الدولة خرقها للقانون والحريات العامة، ما دامت دساتير أغلب الدول تكرس الحق في التعليم وتضمنه. فالجديد الذي قد تحمله مثل هذه البرامج، هو أنها عوض أن تضمن الحق في التعليم بوسائل سلبية، ستتبنى مواقف إيجابية و أكثر فعالية لضمانه وحمايته.
ومعلوم أن المناطق النائية والبوادي بالدول الإسلامية تعرف أكبر نسب الأمية،  لذلك فالقضاءالكامل على هذه الآفة لايمكن بتجاهل هذه المناطق.
وبطبيعة الحال فنحن لسنا نطالب بأن يتم الاهتمام بالقرى على حساب المدن،  وإنما جعل ترابط وتوازن بينهما في إطار مخططات التنمية. ومعلوم أن للاهتمام بالقرى مزية أخرى، وهي تجنيب المدن مغبَّة الهجرة القروية. فسبب النزوح عادة هو البحث عن نمط أفضل للعيش وموارد إضافية. وعندما يصطدم النزوح الجماعي المرتفع بغياب الخطط والدراسات المستقبلية، فإنه يؤدي ـ كما أثبتنا ـ لنتائج مأساوية، تترجم في نهاية المطاف إلى تهميش للأطفال وتشردهم وجنوحهم. كما أنه يزيد من تضخيم وتعقيد أسباب التهميش التقليدية الموجودة في المدن....
وجدير بالتذكير أن تعليم الفتاة أكثر إلحاحا مما يُتَصور. لأنها مسؤولة، ليس عن نفسها فحسب، وإنما عن تسيير أسرتها وتربية جيل المستقبل. فكيف يمكنها أن تربي الطفل تربية سليمة وتجنيبه مخاطر التهميش، والجنوح، وهي لا تملك مقومات التنشئة السليمة. "إن فاقد الشيء لا يعطيه".
وتعليم البنات لا يمكن أن يكتمل دون التربية الصحية الخاصة بالمرأة، والمعلومات العلمية الصحيحة عن أصول التنشئة السليمة، لمساعدتهن على مجابهة مشاكل تربية وتعليم أطفالهن، وقبل ذلك معلومات عن أصول الزواج وكيفية تحقيق حياة زوجية مستقرة.
وما يقال عن التعليم يصدق على الأنشطة الموازية والتثقيفية والتكوين المهني  والصحة والتكفل بالمعاقين، لمساعدة كل فئات الأطفال المحرومين على تخطي أسباب الحرمان أو الإعاقة، التي تقودهم إلى التهميش، وبالتالي إلى الانحراف....
ونذكِّر هنا مرة أخرى بأن تركيز الإنفاق على التربية والتعليم والتثقيف والصحة  والتوعية...يعتبر أكثر جدوى ونفعية وأقل تكلفة من الإنفاق على المجالات التي تتكفل بالطفل بعد تهميشه وانحرافه. ذلك أن الإنفاق الأول يحمل في طيه الوقاية وبالتالي فهو يضمن للطفل حقه في التربية والتعليم، ويوفر مواطنين صالحين. أما الإنفاق على مراكز إعادة التربية وإعادة التأهيل، فمجرد علاج قد ينفع وقد لا يجدي. خصوصا وأنه مشروط بعدة مقومات أخرى، منها إعادة إدماج الطفل في المجتمع، وهو نادرا ما يتحقق في مجتمعاتنا، لعدة أسباب، من بينها عدم التنسيق بين الإدارات والقطاعات المختلفة، وعدم وعي المجتمعات بمشاكل الطفل المهمش ومعاناته....
المطلب الثاني: تـفْعِيــل الآلة القانونية
كي لا تبقى النصوص حِبرا على ورق يلزم أن تتدخل السلطات المختصة بما تملكه من قوة للسهر على تطبيقها وفرض احترامها. ويلزم هنا التذكير بالتالي:
أولا: التصدي للمخاطر التي تهدد الطفل المهمش
تُجمِع الدراسات الاجتماعية المنجزة في ظل المؤسسات الدولية المكلفة بالطفولة،  على أن نوعا جديدا من الاسترقاق شاع في العالم بأسره. والجديد فيه أنه لا يأخذ شكلا محددا واضح المعالم يمكن من خلاله التعرف على وجوده أو انعدامه، بل يأخذ أشكالا مختلفة يصعب حصرها والتصدي لها. ويرجع السبب إلى كونه غير معلن عنه، ويمارس عادة في الخفاء وتحت عدة أسماء وألوان. الشيء الذي يحول دون إعطاء أية أرقام عن استرقاق الأطفال في العالم. وإن كانت عديد من المؤشرات وبعض الأرقام تفصح عن الوجود الفعلي لواقع مرير يعيشه الأطفال البؤساء، ليس في العالم الثالث فحسب وإنما أيضا بعديد من الدول المتقدمة. بل لعل أكبر مستفيد من استرقاق الصغار هي الدول الأخيرة.
وقد بينت الأبحاث أن الأطفال المستعبدين يخضعون لممارسات غير إنسانية، لخصتها دراسة أعدتها إحدى المنظمات الدولية:(1).
* الرق التقليدي.
* بيع الأطفال.
* تشغيلهم وإخضاعهم لأعمال عنيفة تفوق طاقاتهم.
* استغلالهم للبغاء والزنى والصور الخليعة.
* استعمال الأطفال في النزاعات المسلحة.
* أسرهم لاستيفاء الديون.
*  تهريب الأطفال.
* المتاجرة بالأعضاء(2).
* إخضاعهم لنظم الميز العنصري.
كل هذا يحصل في ظل قوانين داخلية تضمن حقوق الأطفال وتحميهم من التعسفات، وفي ظل إعلانات حقوق الإنسان التي تحرِّم كل صور الاسترقاق، والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل 1989م، واتفاقية1926 م بشأن الاسترقاق، واتفاقية 1949م بشأن مناهضة الرِّق واستغلال الناس للدعارة.
وإدراكا من المؤسسات المتخصصة لخطورة الوضع وعدم كفاية الوسائل المتاحة،  حتى الآن، بادرت لتكوين فريق عمل من أجل محاربة صور الاسترقاق المعاصرة (1). فأكدت الأبحاث أن الأطفال الأكثر عرضة للاستغلال والاسترقاق هم الفقراء  والمهمشون عموما، وأطفال الملاجئ، والأيتام أو المنفصلون عن أسرهم لأي سبب آخر كالحروب والنزاعات المسلحة... كما تأكد أنهم يتعرضون للاختطاف والاغتصاب أو يرغمون على الالتحاق بالمعسكرات، إما لحمل السلاح أو للخدمة أو لتسلية الجنود، وتعتبر الإناث الأكثر عرضة للصنف الأخير من المخاطر(2).
ثانيا: تقييد ممارسة الطلاق وتعدد الزوجات
الطلاق أبغض المباحات. لذلك حرص الشرع على التضييق من اللجوء إليه. وقد اعتمد في ذلك  على الوقاية أكثر من العلاج. بحيث حرص على بيان أسباب  وعوامل نجاح الزواج، وحث على طلبها، وأقام قواعد لإثباته. كما وضع مجموعة شروط، وحثَّ على ضرورة توفرها أو ابتغائها في الزوج الآخر، ليحصل الوئام و تستمر العشرة في وُدٍ واحترام، ولتستقر الأسرة وتنعم الذرية بحياة سليمة، و تجنَّب عواصف الخلافات والاضطراب، وتجنب بالتالي مخاطر التهميش.
لكن قد لا تنفع الوقاية، ولتفادي الطلاق في الظروف الصعبة التي تجتازها علاقة الزوجية، وضع الإسلام آدابا لحسن المعاشرة وقواعد لتطييب العشرة، وحث كل زوج على تحمل طباع الزوج الآخر والتفاهم. كما وظَّف وسائل عدة لعلاج نشوز كلا الزوجين... وأخرى لإصلاح ذات البين بينهما عند استحكام الخلاف، منها بَعْث >حَكَم من أهله وحَكَم من أهلها<....
وللظروف المختلفة التي قد يجتازها أحد الزوجين أوكلاهنا فتنعكس سلبا على علاقتهما، حثَّ الشرع على ضرورة احترام نفسيته وإنظاره إلى حين يعود لوضعه الطبيعي. وهكذا حرم الشرع توقيع الطلاق في فترة الطمث أو النفاس أو إذا كان قد حصل جماع بعد الطهر(1). فاعتبر التلفظ به والإشهاد عليه لاغيين... إذ ثبت أن عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله#لعمر بن الخطاب: >مُرْهُ فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمسَّ، فـتلك العدة التي أمر الله أن تُطَلَّقَ لها النساء<(رواه البخاري في كتاب الطلاق).
وبالمقابل قد يكون الزوج في ظروف نفسية أو عصبية غير عادية، فلا يظهر أمامه من حل سوى الطلاق. هنا أيضا قضى الشرع بأنه يقع باطلا و لا ينتج أي أثر، كل طلاق(2) تلفظ به الزوج وهو في حالة غضب، أي إغلاق، أو إكراه أو إذا كان مفتقدا لطاقته العقلية.
والواقع أن الحكمة من تلك الحلول ـ وأخرى لم يتسع المجال لذكرها ـ تتمثل في  الحث على التريث والنهي عن التسرع في توقيع الطلاق في ظرف قد يكون عرضيا فقط، بسبب مرور أحد الزوجين بظروف نفسية أو عصبية استثنائية، والانتظار إلى حين يعود كلا الزوجين لوضعه الطبيعي، فيزن الأمور بميزان العقل فلا يلبث أن يتراجع عن موقفه.
من جهة أخرى ولإثناء الطرف الراغب في الطلاق بدون مبرر، وضع الشرع على عاتقه تحملات مادية، قد تنجح في نزع الفكرة من ذهنه... فالزوج الذي مُنح صلاحية إيقاع الطلاق من حيث المبدأ، ملزم بأداء النفقة للزوجة مع تمكينها من السكنى طوال مدة العدة، و بأداء المتعة، كتعويض لها عن الضرر. أما إذا كانت المرأة هي من يوقع الطلاق في صورة التمليك أو الخلع أو التطليق القضائي، فهي لا تتمتع بتلك الامتيازات، بل قد تلزم بأداء تعويض للزوج، كمقابل للخلع، أو غيره....
لكن المؤسف أن هذه الأصول والقواعد نادرا ما تستثمر. وهو ما يفسر ارتفاع وتيرة الطلاق بعديد من الأقطار الإسلامية، كما سبق ذكرها. لهذا فالنصوص بحاجة للبعث و التفعيل لمنع انهيار الزيجات. والوسائل كثيرة منها:
( نشر الثقافة الإسلامية والتربية السليمة عن الزواج وأهدافه وشروط نجاحه وتعريف كلا الزوجين بحقوقه، وقبل ذلك بحدود حريته، وبواجباته حيال أسرته وعياله... ويمكن إدماج هذه المعارف إما في إطار برامج التعليم أو وسائل الإعلام أو غيرها من الوسائل الملائمة.
(  إنشاء مراكز لتوجيه الأسرة ـ سنبين ذلك لاحقا ـ يكون دورها مساعدة الزوجين على تجاوز الخلافات.
( إنشاء مجالس عائلية لتقديم المشورة للقاضي في أمور الأسرة....
( عرض طلبات الطلاق والتعدد إجباريا على القضاء، وأن يلزم القاضي بإجراء محاولة للصلح قبل الإذن بأي منهما، وأن يستعين بمجلس العائلة ـ وليس في ذلك ما يعارض مقاصد الشريعة. علما بأن الإسلام أحرص من أي نظام آخر على ضمان استقرار الأسر وصون الأطفال من الضياع ـ لكن شريطة ألا يتحول تدخل القضاء إلى عرقلة تمنع انفصام الزيجات الفاشلة إذا تعذر إنقاذها (1). 
  (وضع قيود على التعدد، وتحميل الزوج الراغب في الطلاق، بدون مُبَرِّر، بتحملات مادية قد تثنيه عن تهوره وتتفادى تشريد الأطفال.
وللإشارة فالإنجاب يسجل أعلى نسب له في الأوساط الفقيرة لسبب هام، وهو كون المرأة لا تشعر بالأمان والاستقرار داخل بيت الزوجية، لتخوفها المستمر من الطلاق ومن زواج بعلها مرة أخرى. لذلك تعمد لكثرة الولادة لتحصين نفسها. ولا تدرك أن كثرة الولادة تعتبر في حالات كثيرة السبب المباشر لاستحكام الخلافات الموصلة للفرقة. وهذا يعزز ما قلناه من ضرورة تقييد اللجوء للتعدد والطلاق. وليس في ذلك خروج عن أحكام الشرع، ما دام الحكم الشرعي قيد تعدد الزوجات بشروط، إن طبقت استطاعت الحيلولة دون التعسف، وضمان استقرار الأسر، وبالتالي تخليص النساء من فكرة خاطئة: كون كثرة الإنجاب ضمان لهن، وأيضا تجنيب أعداد أخرى من الأطفال مغبة التهميش بسبب الطلاق أو الخلافات أو إهمال الأسرة أو الفقر....
ثالثا: إرفاق أحكام النفقة بالاستعجال والزجر
المؤسف أنه في ظل شريعة رحيمة بالصغار، يُحرَم أطفال الطلاق من أبسط حقوقهم. فيُبطَل بذلك، ليس مفعول القوانين فحسب وإنما أيضا، أحكام شرعية تدعو بإلحاح للالتزام بالنفقة وتنهى عن حرمان من تحت الكفالة من القوت(1). حتى اعتُبِر الحرمان من النفقة من أكثر الآثام: >كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول<(2). وأحكام أخرى تجعل من الحضانة والرعاية وحسن التربية والتعليم واجبات لا يتخلص منها المرء إلا إذا قام بها على أحسن وجه (3)....
فالحاجة هنا أيضا ماسة لتفعيل النصوص وإرفاق احترامها بالزجر. ومنْعِ خلافِ الزوجين من أن ينعكس على الأطفال فيما يخص الحضانة أو النفقة والاستقرار والتربية  والتعليم. ونذكِّر بأن عددا هائلا من الأطفال هُمِّشوا ويهمشون يوميا بسبب انفصام الزوجية، وبسبب امتناع العائل عن الإنفاق، كما سبق ذكرها. ونذكِّر أيضا بأنه يلزم إعادة النظر في طريقة تقدير النفقة، لملاءمتها مع مستويات الأسعار، لأن الأبحاث بينت أن أطفال الطلاق لا ينالون إلا نزرا قليلا لا يكفي لسد الرمق، مما يرمي بعدد هائل منهم في أحضان التهميش والرذيلة، وأن عددا هائلا منهم انتهى به الأمر للانحراف  والجنوح.
رابعا: صرامة إضافية لزجر الجرائم التي تمس الأطفال
إن الوضعية الراهنة للأطفال بعديد من المجتمعات الإسلامية تستدعي تكاتف العمل لحمايتهم من أخطار كثيرة تهددهم، نمثل لها: بالاختطـاف، الأسر، الاسترقاق، إهمال الأسرة، التقصير في العناية، العنف، تشغيل الأحداث في المجالات غير الأخلاقية كالدعارة أو ترويج المخدرات....
والواقع أن جل هذه الأفعال محرم في الإسلام ومُجَرَّم في القانون المقارن، لكن عمليا نادرا ما تحصل المتابعة. لذلك يجب إيجاد بدائل عَمَلِية وإجرائية أخرى، للعمل بالنصوص. من ذلك مثلا: إنشاء أجهزة للمراقبة، وتخويل النيابة العامة صلاحية التدخل تلقائيا لتحريك الدعوى ضد الأشخاص الذين يمارسون أعمالا مشينة ضد الأطفال، وجعلها  نَاطِقاً بلسانهم، نظرا لعجزهم عن التعبير عن معاناتهم....
كما يلزم برأينا التصدي لمستحدثات التكنولوجيا وتنظيمها. ذلك أن عديدا منها مورس بدون ضوابط أو قيود، فتتحول إلى عوامل إضافية لتهميش الأطفال. من أمثلة ذلك التلقيح التقني بنطف شخص أجنبي، الذي يؤدي لاستيلاد أطفال غير شرعيين ومجهولي الهوية، مما يعرضهم لنفس المخاطر التي تعترض أبناء الزنى والأطفال المتبنين، عند معرفتهم لأصلهم البيولوجي. وإذا ما تدخل المشرع فهو مطالب بتجريم الممارسات المخالفة للشرع، وبإرفاق ذلك بالزجر والمراقبة (1)....
خامسا: تعامل أفضل مع الأحداث الجانحين
أكثر الجرائم المقترفة من طرف الأطفال تكون الغاية منها سدُّ الرمق. وإن الزجَّ بهم في السجن مع الكبار لا يفعل أكثر من تسهيل تعلُّمهم الجريمة وتقنياتها، واحترافها. لذلك يبدو جد مستعجل إعادةُ النظر في التدابير الزجريه والوقائية. وغير خاف أن مؤسسات إعادة التأهيل تعاني من عراقيل كثيرة، الشيء الذي يمنعها من القيام بالدور المنتظر منها. وهنا أيضا لا ضير من طلب مساعدة القطاع غير الحكومي للنهوض بها.
بل حتى لو قامت مراكز إعادة التربية والتأهيل بواجباتها على أحسن وجه، فلا يمكن إدماج الحدث، إذا لم توفر له وسائل للعيش تغنيه عن الارتزاق من الجريمة. لذلك يلزم توفير مناصب الشغل للأحداث ذوي الأسبقية، بعد مغادرتهم مؤسسات إعادة التربية والتأهيل، وتتبع حالاتهم والأخذ بيدهم إلى أن يجتازوا مرحلة الخطر، ومساعدتهم على العثور على الشغل. فقد ثبت بالدليل أنه إذا انحرف الحدث وأودع السجن أو الإصلاحية، ثم أعيد لنفس وسطه، دون أن يدمج فيه، فإنه لا يلبث أن يتمرد على المجتمع الذي رفضه وظلمه. فيتعذر عليه التكيف مع نواميسه، ثم يتحول إلى محترف للجريمة لا ينفع معه علاج.
سادسا: التصدي بحزم أكبر لظاهرة  المخدرات
تكرر سالفا أن أكبر خطر يهدد الأطفال المهمشين هو الانحراف. ومن بين  الأسباب التي تؤدي إلى الانحراف تعاطي المخدرات. لذلك يصعب اجتثاث الظاهرتين معا بالاقتصار على حل مشاكل التهميش السالفة، بل يلزم التصدي لأحد أسباب التهميش غير المباشرة، وأحد عوامل تعقيده، أو أحد عواقبه، وهو انتشار المخدرات  واستهلاك الشباب لها.
وبالإضافة إلى ذلك أن المخدرات تهدد حتى الأطفال الذين لا يعانون من أيٍ من أسباب التهميش التي عددناها. بل إنها تستقطب بالأساس الطفل المنتمي لوسط اجتماعي ميسور، بالنظر لغلاء ثمنها، فترمي به في أحضان الانحراف. بحيث يكون سبب تعاطي المخدر والإدمان عليه قرناء السوء، أو انشغال الوالدين عن أبنائهما وانهماكِهما في العمل خارج البيت، أو افتقار الطفل لأبسط قواعد التربية بسبب جهل الأم بالخصوص، أو فساد أخلاق الوالدين...كما قد يكون السبب أحد عوامل التهميش السابق تعدادها... ففي جميع هذه الفرضيات يتعرض الطفل لتعاطي المخدرات، بكل ما يقترن به من سوء الصحبة وابتعاد عن المدرسة. فينتهي به الأمر للانحراف و الجنوح.
من ثم فإلى جانب ما طالبنا به من عناية إضافية بالأطفال وما اقترحناه من حلول للحد من التهميش، يلزم التعامل بصرامة أكبر مع المخدرات، والضرب بقسوة على أيدي مروجيها وكل مشتغل بها، ومنع إنتاجها من الأساس في الدول التي تنتجها، والتصدي لاستيرادها بالنسبة للدول الأخرى... ويجب موازاة مع ما سبق تبني خطط جادة تسعى لنشر الوعي بين الشباب عن حقيقة المخدرات، ولفت انتباه الآباء لما قد يهدد أبناءهم من أخطارها....

الهوامش:
 (1) Graça MACHEL: Conséquences des Conflits Armés sur les Enfants, ONU, UNICEF, New York, 1996,  op. cit. p. 22.
(1) ONU: Formes Contemporaines dصEsclavage: Fiche dصinformation, n!14, oct. 1995/ 3.000: G E 95/ 18.971.
(2) لمزيد من الاطلاع وللإثبات تراجع أطروحتنا حول >نقل و زرع الأعضاء: دراسة قانونية مقارنة<: أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في العلوم القانونية، كلية الحقوق، الرباط، أكدال، المغرب، 1997.
(1) Groupe de Travail pour la Lutte contre les Formes dصEsclavage Contemporains.
(2) MACHEL: Conséquences des Conflits Armés sur les Enfants, op. cit, p., 28.

(1) والحكمة من تحريم الطلاق في الطهر إذا كان قد حصل جماع، مزدوجة: فمن جهة يكون هنالك احتمال حصول الحمل، علما بأن الأشهر الأولى منه تعتبر من أصعب اللحظات التي تجتازها المرأة إن على مستوى الصحة البدنية أو النفسية. وبذلك يكون تحريم الشرع للطلاق غاية في تفهم وضعية المرأة الصعبة وفي حمايتها... ومن جهة أخرى، فاحتمال حصول الحمل معناه أن الطلاق سيتسبب في حرمان الطفل الذي سيولد من جو الأسرة وكل ما يلحق به من حقوق ومصالح تحميه من التهميش. وتحريم الطلاق هنا دعوة للتريث إنقاذا لهما معا....
(2) لما ثبت عن الرسول ص من قوله: >لا طلاق في إغلاق<. والإغلاق هو شدة الغضب، لدرجة يقفل الإنسان باب الإدراك والتبصر، والتعقل، فلا يدري ما يقول  ولا ما يفعل، ولا عاقبة ذلك.
(1) فمعلوم أن إجراءات الطلاق القضائي أصبحت طويلة جدا بعديد من الدول الأوربية. حتى إن مشروع الانفصام قد يدوم لعدة سنوات، تتحول إلى جحيم. وبذلك أضحى تدخل القضاء في أمور الأسرة عرقلة كبرى ذهبت بالمقصود منه. وهذه تجارب حري بنا الاعتبار بها.
(1) {...وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}(سورة البقرة: من الآية 233)، {لينفق ذو سعة من سعته}(سورة الطلاق: الآية 7)....
(2) رواه أبو داود: آخر كتاب الزكاة بلفظ من يقوت، وهو عند مسلم بلفظ آخر: كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته: كتاب الزكاة: باب فضل النفقة على العيال.
(3)  ففي الباب أحاديث كثيرة، منها: > ما نَحَل والد ولده أفضل من أدب حسن <؛ >لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع< (رواهما معا الترمذي: كتاب البر 33)، >أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم< (ابن ماجة: كتاب الأدب)...
(1) ولذلك مزية أخرى، وهي توجيه الراغبين في الإنجاب بالتخصيب التقني نحو التكفل بالأطفال المتخلى عنهم.
*************

المبحث الثاني : سياسات ضرورية على المدى المتوسط والبعيد
سبق أن ذكرنا أن القضاء على ظاهرة التهميش والحرمان تقتضي استئصال مسبباتها. لذلك إذا كنا ركزنا في المقترحات السالفة على الحلول المستعجلة الهادفة لإدماج الطفل المهمش، فالدافع كان هو إنقاذ أطفال هُمِّشُوا فعلا، أما الحل المثالي فيكمن في الوقاية. لذلك نعطي أنفسنا حق تصور استراتيجيات قد تنفع في الحد من أسباب تزايد الأطفال المهمشين، ومن ثم توجيه الدعوة للقطاعات المختلفة المعنية لتنسيق عملها، وإحداث تكامل فيما بينها، من أجل التصدي بفعالية للأسباب والعوامل غير المباشرة للتهميش:
أولا : من أجل إعداد مواطنين صالحين
لتحقيق هذا الهدف يبدو لنا ضروريا التركيز على مايلي:
 1. محاربة الأمية: الأمية بلا منازع، تعدُّ من أكبر معوقات. وليس صدفة أن الدول التي تعرف أعلى نسب الأمية تدرج في أسفل قائمة الدول النامية. وليس صدفة أيضا أن البلدان المتقدمة بلغت ما بلغته بعد القضاء النهائي على الأمية وبفضل نشر التعليم. لذلك يلزم التركيز أساسا على محو الأمية.
الجدول21  : ويؤكد ما أثبتناه في الجداول السابقة أن نسبة التحاق الأطفال المتراوحة أعمارهم بين 6 و11 سنة بالمدارس، ما تزال تدعو للقلق. وبالتالي فالأمية ستبقى جاثمة على المجتمعات الإسلامية في العقود المقبلة، مما يدعم مقولتنا بأنه من أولى الأولويات تبني برامج عملية فعالة لمحو الأمية عن الكبار وعن الأطفال غير المتمدرسين. (المصدر: اليونسكو 1994م):
((((((((جدول -026))))))))))

2 . التوعية كأيسر سبيل للتقدم : وفي مجال الطفولة يلزم التركيز على التالي:
 أ) التوعية الصحية: بهدف الوقاية من الأمراض والحوادث التي تؤدي غالبا للإعاقة أو ولادة أطفال مشوهين، وبالتالي زيادة أعداد غير المتكيفين، ومحو الخرافات التي ترسبت في فكر الشعوب عن الإنجاب ووسائل تنظيم الحمل والعلاج والاعتقاد بالشعوذة... والغاية منها أيضا اتقاء الحوادث والأمراض المقدور عليها، والتي تؤدى في الغالب بالبالغين، فتزيد تلقائيا أعداد الأطفال المهمشين بسبب اليتم... .
ب) نشرالتربية الصحية: لقد ذكرنا فيما مضى أن نِسَبَ الحمل تكثر عند الفتيات الصغيرات وغير المتعلمات، نظرا لافتقارهن لأبسط المعلومات الصحية. وتوجيه الشباب وتمكينه من تربية صحية سليمة، لحمايته من الرذيلة وعواقبها وحماية الفتيات من الحمل غير السليم.
3.تعديل برامج تنظيم الأسرة بإشراك الزوجين معا وتحميلهما مسؤولية تنظيم الأسرة على أساس المبدأ الإسلامي وقياسا عليه الذي ينهى عن العزل اتقاء حصول الحمل دون اتفاق الزوجين ورضاهما معا.
كما يجب التركيز في ذلك على الأوساط القروية باعتبار أنها تعاني من أعلى نسب للأمية والجهل وبالتالي من التفجر الديموغرافي.
ثانيا : دمج المرأة في مخططات التنمية
في جل الشعوب الإسلامية ترسبت أفكار سلبية عن المرأة، بسبب ما ألصق بالدين من خرافات وما رُوِّج عنها من معلومات مغلوطة جعلتها المسؤولة الوحيدة عن كل الاختلالات والانحرافات(1)، مما أدى لتهميش دورها بجل الأقطار، فحُرِمَت ـ جراء ذلك ـ من التعليم ومن فرصة تعلُّم الحياة والمشاركة فيها، وأصبحت عاجزة عن حل مشاكلها وحماية نفسها وعيالها... فكانت النتيجة أن الاختلالات بقيت وربما تعقدت أكثر رغم تنحية المرأة عن الحياة اليومية. بل لعل هذه التنحية أحدَ أهم عوامل تردي الأوضاع الاجتماعية بالعالم الإسلامي، وأحدَ أخطر عوامل التهميش، وكذا تزايد أعداد الأطفال المهمشين، ما دام وجودهم وتزايد أعدادهم يرتبط بأوضاع ينتشر فيها الجهل والأمية  والخرافة والفقر. ولا غرو، فإذا كانت الأم مدرسة، ـ بإجماع الكل ـ فإنها إذا كانت جاهلة، كانت مدرسة للجهل والخرافة والشعوذة والتهميش... .
وقد سوى الإسلام بين الرجل والمرأة في معظم شؤون الحياة ولم يفرق بينهما إلاحيث تدعو إلى هذه التفرقة طبيعة كل من الجنسين. كما كرم الإسلام المرأة بعناية مميزة. وفي الباب آيات وأحاديث عديدة منها: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف...} (سورة البقرة، الآية 228)، {المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ...} (سورة التوبة، الآية 71)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >إنما النساء شقائق الرجال< (رواه أبوداود والترمذي)، >من كانت له أنثى فلم يئدها، ولم يهنها...لم يؤثر ولده عليها، أدخله الله الجنة< (رواه أبو داود). >من كان له ثلاث بنات فأنفق عليهن وأحسن إليهن ... أوجب الله له الجنة)(1).
ولكن إشراك المرأة في خطة التنمية الشاملة يجب العمل على دخولها مجالي التعليم والعمل الملائم حتى تكتسب العلم والمعرفة والثقة بنفسها وثقة المجتع بها وبقدرتها على تحمل المسؤولية ومواجهة ضرورات الحياة. وبذلك يمكن للمرأة تربية الطفل تربية سليمة وحمايته في الظروف المختلفة.
ثالثا : الاهتمام بالبادية
الجدول  22: ويبين نسب الأمية ببعض البلدان الإسلامية. ومن خلاله تتبين نسب التعليم لدى الإناث والذكور، وفي الريف والحضر.(المصدر: قاعدة بيانات شعبة التنمية الاجتماعية والسكان باللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا: هيئة الأمم المتحدة 1994م): ((((((((((جدول -27)))))))))))))

ويبدو من خلال الجدول أن نسبة الأمية تزيد في البادية لتناهز الضِّعف أحيانا. ومعنى هذا أن الجهود التي بذلتها الدول للتنمية ستبقى بدون جدوى، إذا لم تؤخذ البادية في الاعتبار وبجدية. ورغم تحسين نمط الحياة وظروف العيش، والقضاء على الأمية في المدن نسبيا، فإن البوادي مازالت تعاني من آفة الأمية  والجهل والخرافة، مما ينعكس سلبا على المجتمعات الإسلامية، وبالدرجة الأولى على أطفالها.
رابعا:  التركيز على الأسرة في برامج التنمية
مع الانفتاح على الثقافات الأجنبية تعرضت الأسرة بالمجتمعات الإسلامية لشرخ كبير. ولهذا يجب العمل بما يلي:
1. دعوة الجهات المهتمة بالأسرة لتنسيق عملها، لاستكناه أسباب الاختلال
معلوم أن أسباب وعوامل الاختلال متنوعة، فمنها ما هو اجتماعي واقتصادي وقانوني... مما يستلزم استدعاء المهتمين من مختلف الميادين لإيجاد الحلول، ثم توعية الشعوب بمقومات الأسرة السليمة. ونكرر أن أحد أسباب فشل البرامج عندنا هو تشتت الجهود وتمزق العمل، وعدم التفكير حتى الآن في إحداث تعاون بناء وجدي بين الميادين المختلفة المعنية بقطاع معين. وبما أن مشاكل الطفولة تشترك فيها عدة قطاعات، تتنوع وتتكاثر بقدر تكاثر أسباب التهميش، فقد ترسخت قناعتنا بأنه بدون تنسيق العمل بينها، ستبقى كل الجهود قاصرة. والدعوة هنا موجهة لكل التخصصات والقطاعات والمؤسسات المكلفة بالأسرة والتعليم والتكوين وإعادة التأهيل... للتعاون فيما بينها، والاقتداء بالخطط الاجتماعية ـ الاقتصادية التي ترسمها الدول.
2. إنشاء مؤسسات لتكوين الأسرة 
صحيح أن الأمومة والأبوة مسائل غريزية لا تحتاج لمدرسة كي تُمارَس. إنما لاتقائهما كثيرا ما يحتاج المرء للاستشارة. فسابقا كانت الأسرة ممتدَّة تضم الأقارب أيضا. فكانت تستدعي هؤلاء للتدخل كلما احتاجت لذلك، إما للتوجيه وإسداء المشورة في أمور الحياة اليومية، أو لإعانتها على حل مشاكل الأطفال، أو لفَضّ الخلاف.أما مع تحول نمط العيش، فإنها لم تعد تسع أكثر من الآباء والأبناء. بحيث نادرا ما يوجد من يستشار لإنقاذ كيانها. ولعل هذا أحد أسباب كثرة اللجوء للطلاق، خصوصا في المدن، وأحدَ أسباب استحكام الخلافات الزوجية وتمزق الأسرة، وبالتالي تعريض الأطفال لمختلف أنماط التهميش.
من هنا تبدو نفعية إنشاء مراكز لتكوين الأسرة، تُؤسسها الدولة أو الجمعيات الاجتماعية الأهلية. ويُستحسن أن تضم في عضويتها علماء نفس واجتماع وقانونيين وفقهاء من الرجال والنساء، إلى جانب أقارب الزوجين المعنيين...
ونتصوَّرها مؤسسة تقوم بدور مماثل للذي كان مسندا للعشيرة أو للأسرة الكبيرة. بحيث تقوم بإسداء المشورة في مشاكل التربية والأزمات النفسية التي يجتازها الصغار، وحل مشاكل اللاتكيف التي قد تنتاب الطفل عرضيا، فتصبح مزمنة إذا لم تُعالَج... كما تنفع لإصلاح ذات البين وإنقاذ الأسرة...
بهذه الطريقة >فمؤسسات الأسرة< أو مراكز توجيه الأسرة تنهض بمثابة ملجأ لِصَقْلِ غريزة الأمومة والأبوة، وتدارك النقص الذي يعاني منه معظم الآباء فيما يخص أصول التنشئة العلمية السليمة. وهي أيضا وسيلة لإنقاذ الزيجات وتفادي التهميش إما بسبب الانحراف أو تفكك الأسرة... .
خامسا : تبني استراتيجيات عن الشباب
ويبدو لنا ضروريا التركيز على التالي:
1 . تشجيع البحث في ميدان الطفولة: وذلك بهدف استجلاء مشاكلها وإحصاء عينات الأطفال المحرومين، والمهمشين والمنحرفين وعدد المنتسبين لكل فئة، حسب عوامل التهميش، من أجل إيجاد الحلول المناسبة المجدية لكل عينة... فبدون أرقام دقيقة و إحصاءات حقيقية تضمحل كل الجهود و يصعب التنسيق بين مختلف الميادين. ونوجه الدعوة إلى مراكز البحث العلمي، لأن تتعامل مع الإحصاءات والدقة في صياغتها، حتى لا يظل البحث، نظريا وخياليا بعيداً عن الواقع والحقيقة.
2 . اتقاء الانحراف: هنالك وسائل وقائية كثيرة تنفع في تجنيب الشباب الانجذاب نحو الجنوح. منها دعم برامج التربية والتعليم بمواضيع تـثني عن الانحراف وتبين عواقبه، لكن بأسلوب علمي محبَّب؛ ومنها إقامة دُور للشباب والرياضة وتوسيع الموجود منها، ونشرها في الأحياء التي يتعرض أطفالها أكثر للانحراف، لمساعدتهم على اجتياز المراحل الصعبة من المراهقة.
3 . حل مشاكل اللاجئين: وذلك باستجلاء أسباب اللجوء واستئصالها. وهي في الواقع أسباب سياسية أكثر من أسباب أخرى وحلُّها بيد المسؤولين والدول التي يجب أن تلجأ إلى الوسائل السلمية لفض النزاعات، ومنح اللاجئين فرص العودة إلى أسرهم وأوطانهم.
سادسا : تكثيف الحوار بين المؤسسات الرسمية ومراكز البحث العلمي
يجب أن تعتمِد الدول على الدراسات الأكاديمية الوطنية، لأنها أدرى بغيرها من واقع بلدها، وأن تكُفَّ عن استدعاء الخبرات الأجنبية كلما احتاجت لإحصائيات أو أرقام في مسألة معينة. وهذا وحده الكفيل بتحقيق تعاون فعلي بين الدولة ومؤسسات البحث العلمي الوطنية، وبالتالي النهوض بالبحث العلمي ومنحه المصداقية والثقة في النفس...
بهذه الطريقة يمكن أن تتكاثف الجهود للتغلب على أسباب تهميش الأطفال وجنوح الأحداث وجعل أبحاث المؤسسات العلمية إلى الواقع الملموس.كما يجب أن تتحلى هذه البحوث بالأمانة العلمية والصدق والمعلومات الدقيقة دون اللجوء إلى المغالطة  والمبالغة.
سابعا : تفعيل التعاون الجهوي
أثبتت التجارب أن مساعدات الشمال لم تُفِدْ دول الجنوب لتخطي عوامل التخلف. لسبب بسيط هو التباين الاجتماعي الثقافي والفكري وعدم تلاؤم الحلول الجاهزة المستورَدَة من الغرب مع واقعنا، وأيضا لاعتماد الحلول المستورَدة على المعلومات غير الصحيحة في الغالب.
لذلك فالدول الإسلامية مطالبة بخلق تعاون إقليمي (جهوي)، على أساس جغرافي أو ثقافي... وللتعاون معنى واسع يشمل تبادل الخبرات لتفادي الأخطاء التي سقطت فيها الأقطار الأخرى. كما يشمل تبادل الأبحاث العلمية والخطط المنتهجة في مجال الطفولة  ورصد أسباب التهميش وتقييم الحلول المتبعة والمقارنة بينها واختيار الجيد منها، أو بالأحرى ما يناسب خصوصيات المجتمع...
ثامنا : شروط أساسية لإنجاح  المخططات
إن نجاح أي عمل أو تطوير، مشروط بمجموعة من المبادىء والأخلاقيات، نذكر أهمها فيما يلي:
 وجود الإرادة السياسية: من أخطر عوامل فشل البرامج، غياب الإرادة السياسية لدى المسؤولين للنهوض ببلدانهم، وافتقاد بعض الإدارات للجدية اللازمة لإنجاح المخططات. لذلك فبدون جدية في التعامل مع قضايا الطفولة، سيكون مصير البرامج التنموية المستقبَلية كمصير سابقاتها.
ولعل أول خطوة هي التعود على محاسبة النفس وامتلاك الجرأة لتحمل المسؤولية، والتراجع عن سياسة التنصل منها. كما يلزم التخلص من العادة المستحكمة بعديد من الدول وهي تبرئة كل فرد وكل قطاع ذمته والرمي بالعبء واللوم على باقي القطاعات أو الإدارات، أو على القضاء والقدر، عندما لا يوجد شخص أو قطاع  يمكن إلقاء اللوم عليه. كما يلزم تصحيح أفكار الناس عن التوكل، الذي أخذ في الغالب مفهوم التواكل، وهو سلوك لا مكانة له في ديننا.
التعامل بجرأة مع المشاكل: إذا تحقق الشرط السابق وشرعنا في مواجهة المشاكل بموضوعية، ستكون مقومات الثقة في النفس قد بدأت تترسخ، وعندها سنمتلك الجرأة لمجابهة القضايا مهما كانت صعبة. ومجابهتها بشجاعة لا بد وأن تؤدي لإيجاد الحلول الملائمة...
 الشمولية وبعد النظر: إن أزمتنا الحقيقية هي أزمة عقلية وثقافة وعقلانية ايضاً سببها الأساسي عدم وجود مشروع شمولي يأخذ في الاعتبار مختلف المشاكل. وسببها أيضا غياب نظرة شمولية جماعية متوحدة متكاملة. فحل المشاكل جذريا يقتضي تبادل الخبرات ووجهات النظر بين الخبراء والمسؤولين والجهات العلمية والسياسية المختلفة والتنسيق فيما بينها.
الهوامش
(1) فالمرأة بعد أن عاشت عهودا زاهرة ونبغت في العلوم وشاركت في الحياة  والحروب مشاركة فعالة، من عهد الرسول إلى عهد بني أمية، تعرضت لانتكاسة في العهد العباسي الثاني، لسببين رئيسيين: أولهما تأثر وضعها بالانحطاط العام. وثانيهما وهو الأخطر هو الإفراط في الجواري وتعدد الزوجات بدون شرط والتسري والطلاق، مما نتج عنه الإفراط في اختلاط الأنساب. ونتج عن ذلك تنافس بين النساء لكسب الرجال، وانحصر اهتمامهن وتطلعاتهن في ذلك. فأضحت أخلاقهن  من السوء حتى عرفن بالكيد والدهاء وقصور العقل. فكانت ردات الفعل مختلفة: فالأسر المحافظة رأت أن أفضل حل هو أن تُقعِد بناتها في البيت، فكانت بداية سجن المرأة وتنحيتها عن الحياة. فيما استمرت نساء أخريات في تشويه صورة المرأة بسوء أخلاقهن. ومع ذلك فقد ظلت نساء أخريات على الطريق ولم يمنعهن الاحتجاب من التعلم والتفقه في الدين وباقي العلوم وتعليمها الناس. بحيث يذكر ابن عساكر(القرن السادس الهجري) مثلا، أنه نفسه أخذ العلم والحديث عن نيف وثمانين عالمة: للتوسع يراجع: د. محمود إبراهيم: الفتاة المسلمة... محاضرة مقدمة لندوة الفكر الإسلامي،1391/1971، المشار لها سابقا. ص290 .
(1) أنظر إحياء علوم الدين: ج 2، ص 36. ورياض الصالحين من كلام سيد المرسلين.














خاتمة
لم ننشُد من خلال هذه الدراسة المقتضبة الإحاطة بكافة مشاكل الأطفال المهمشين أو المحرومين، وذلك بكل بساطة لأن الموضوع يستدعي دراسات من تخصصات مختلفة لاستكناه كافة الأسباب والمعوقات التي تحرم الطفل من حياة طبيعية.
 لذلك ندعو لإنشاء لجان أو هيئات متعددة الاختصاصات، على مستوى كل دولة وأيضا على مستوى إقليمي وجهوي لتدارس قضايا الأطفال. وهذا برأينا أيسر وأقصر سبيل لتوحيد النظرة والخروج بحلول شمولية.
 من جهة أخرى، وبالنظر لكون المواثيق الدولية تعتبر بمثابة مِشعل وبالنظر لخصوصيات المجتمعات الإسلامية، فإننا ندعو الدول والمنظمات والمؤسسات المتخصصة، للتفكير في ميثاق يستجيب لخصوصيات ثقافتنا، كي تستنير به الدول الأعضاء عند صياغتها لقوانينها الداخلية.
 وللتدليل على حاجة الدول الإسلامية لمواثيق إقليمية أو جهوية خاصة بها، فمثلا مسئلة " التبني" الذي رأيناه، أن بعض المنظمات الدولية والمؤسسات المتخصصة في الغرب وضعت عنه تصورات مغلوطة، الشيء الذي جعل بعض المواثيق الدولية تعتبره محرَّما مطلقا من الشريعة الإسلامية.
 على أن ما قد يصدر من مواثيق أو إعلانات عن حقوق الطفل لا يمكن أن يعطي ثماره إذا لم ترافقه النيات الحسنة و الرغبة الأكيدة في حل مشاكل الأطفال. أما إذا كان قدر النصوص أن تظل مجرد حروف ميتة كما هو الشأن حاليا، فلا فائدة من صياغتها أصلا.
وبمعنى هذا أنه إذا لم ينشأ تعاون فعال بين المسؤولين وصانعي البرامج وصائغي النصوص، وباقي الميادين العلمية والثقافية والاجتماعية، فلا يجب أن نمني أنفسنا بنجاح مستحيل.
**************




المصادر والمراجع

1. القرآن الكريم
2. كتب الأحاديث النبوية
3. ابن عابدين: حاشيته على رد المحتار، ج 2.
4. الاتحاد العربي للأخصائيين الاجتماعيين: من أجل المعاقين، بنغازي، 1975م.
5. أحمد أجوييد: جريمة الزناء في الشريعة والقانون المغربي،أطروحة، الرباط، 1986م.
6. أحمد فتحي بهنسي: سلسلة مؤلفات عن: الجرائم، القصاص، العقوبة، المسؤولية جنائية، السياسة الجنائية في الفقه الإسلامي، مؤسسة الحلبي، القاهرة، 1969/61م.
7. أكاديمية المملكة المغربية: القضايا الخلقية الناجمة عن التحكم في تقنيات الإنجاب، دورة 10، أكادير، المغرب، نوفمبر، 1986م.
8. آمال جلال: بعض الجوانب القانونية لرعاية الطفولة، المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد، ع 5.
9. أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، دار الكتب العلمية، بيروت.
10. جمعة سيد يوسف ومعتز سيد عبد العال: علم النفس الجنائي، القاهرة، 1995م.
11. رجاء ناجي: قتل الرأفة أو الخلاص:دراسة قانونية مقارنة. رسالة لنيل الماجستير في العلوم القانونية، كلية الحقوق، الرباط، 1987م.
12. رجاء ناجي: >نقل وزرع الأعضاء: دراسة قانونية مقارنة<، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في العلوم القانونية، كلية الحقوق، الرباط، أكدال، 1997م.
13. الشويرجي: رعاية الأحداث في الإسلام والقانون المصري، المعارف،               الاسكندرية، 1985م.
14. العصبة المغربية لحماية الطفولة: أيام للتفكير حول الطفل المحروم من الأسرة، 1991م.
15. علي صفوت: الأحداث المنحرفون، دراسة مقارنة، بيروت، 1990م.
16. محمد أبو زهرة: العقوبة في الفقه الإسلامي: دار الفكر العربي (بدون تاريخ).
17. محمد حسن ربيع: الإجهاض في نظر المشرع الجنائي، القاهرة، دار النهضة، 1995م.
18. محمد علي البار: خلق الجنين بين العلم والقرآن، القاهرة،1980 م.
19. محمد علي البار: مشكلة الإجهاض، الدار السعودية، 1985م.
20. محمد علي البار: الجنين المشوه والأمراض الوراثية، دار المنارة، جدة،1991 م.
21. محمود إبراهيم: الفتاة المسلمة، ومتطلبات التربية في مجتمع اليوم: ندوة الفكر الإسلامي، وهران، الجزائر، جمادى الأوى، 1391 هـ/ يوليوز، 1971م، ص300 - 286.
22. مصطفى العوجي: الحدث المنحرف أو المهدد بخطر الانحراف في التشريعات العربية، مؤسسة نوفل، بيروت، 1990م.
23. المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية: ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام، الكويت، 1983م.
24. المهدي المنجرة: الأبعاد العلمية والتكنولوجية محاضرة ألقيت بالمدرسة الوطنية    للصناعة المعدنية، الرباط، المغرب، 19 فبراير1991م.
25. نظام الدين عبد الحميد: جناية القتل العمد بين الشريعة والقانون الوضعي،         أطروحة، بغداد، 1985م.
26. هيئة الأمم المتحدة: قاعدة بيانات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا،  سلسلة دراسات حول المرأة والأسرة وأثر التحولات الاقتصادية والاجتماعية على الأسرة ببعض الدول الإسلامية، 1990-1994م.
27. الإحصائيات مأخوذة عن منشورات المنظمات الدولية المتخصصة: مثل المندوبية السامية لإغاثة اللاجئين، 1992م، اليونيسف، اليونسكو....

المراجع باللغات الأجنبية
1. Association H. CAPITANT: La Protection de lصEnfant , Journées Egyptiennes, Travaux de T.XXX, 1979.
2. A. Le BON: Situation de lصImmigration et de la Présence étrangère en France, D P I , New York, 1996.
3. A.BULATAO: Reducing Fertility in Developing Countries, World Bank Staff Working , Papers n!. 680 USA, 1984.
4. R.CLAIRIN & J. CONDE: Manuel sur les Méthodes dصestimation des Statistiques démografiques imparfaites dans les pays en développement, OCDE, Paris, 1986.
5. DEKHEUWER-DEFOSSEZ: Les Droits de lصEnfant, Que sais-je, 1996.
6. DUVAL-ARNOULD: Le Corps de lصEnfant, Lib. Dr. Privé, Paris, 1994.
7. F. GENDREAU: La Population de lصAfrique, éd. Karthala, Paris, 1993.
8. LIPTON: Demography and Poverty: World Bank Staff Working,Papers n! 623, USA, 1983.
9. Graça MACHEL: Conséquences des Conflits Armés sur les Enfants, 1996.
10. MALLANT: de la Dette au Don: la Réparation Pénale à lصégard des Mineurs, Paris, éd. GNL. Joly, 1994....
11. MANSEAU: LصAbus Sexuel et lصinstitutionnalisation de la protection  de la  Jeunesse, ISBN 1990.
12. MARANGE: Les Jeunes, éd. le Monde, 1995.
13. A. Moulay RCHID: la Femme et la loi au Maroc, éd. le Fennec, 1991.
14. NEIRINC: La Protection de la Personne de lصEnfant contre ses Parents, Paris ,1984. 15. ONU: Formes Contemporaines dصEsclavage: Fiche dصinformation, n!14, oct. 1995/ 3.000: G E 95/ 18.971.
16. ORSTOM: les Changements ou la Transition démographique dans le Monde Contemporain en Développement, Paris, 1986.
17. UNICEF: La Situation des Enfants dans le Monde, 1997

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم