الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

أحكام النسب بين قواعد الشريعة ومدونة الاسرة - بحث مميز - جـ 2






الفرع الثاني: وسائل نفي النسب


* المبحث الأول:   نفي النسب عن طريق إثبات اختلال شروط الفراش.
* المبحث الثاني:   نفي النسب بواسطة اللعان.
* المبحث الثالث:   نفي النسب بالاعتماد على الخبرة الطبية.



تمهـيـد:
إذا كان المشرع قد حدد وسائل إثبات النسب من خلال المادة 158 من مدونة الأسرة، وهي الفراش، وإقرار الأب، وشهادة عدلين، وبينة السماع أنه ابنه ولد على فراشه من زوجته وبكل الوسائل المقررة شرعا، بما في ذلك الخبرة القضائية فإنه ــ وعلى العكس من مدونة الأحوال الشخصية القديمة التي كانت تحيل بشأن وسائل نفي النسب إلى أحكام الفقه الإسلامي، عندما نصت من خلال مقتضيات الفصل 91 على ما يلي: « يعتمد القاضي في حكمه على جميع الوسائل المعتمدة شرعا في نفي النسب » ــ قد عمل أيضا على تحديد وسائل نفي النسب في المدونة الجديدة للأسرة من خلال موادها 151 و153 و159 وذلك بصفة حصرية حيث نصت المادة 153 من مدونة الأسرة الجديدة على ما يلي: « يثبت الفراش بما تثبت به الزوجية، يعتبر الفراش بشروطه حجة قاطعة على ثبوت النسب، لا يمكن الطعن فيه إلا من الزوج عن طريق اللعان، أو بواسطة خبرة تفيد القطع، بشرطين:
* إدلاء الزوج المعني بدلائل قوية على ادعائه؛
* صدور أمر قضائي بهذه الخبرة».
ويتضح مما سبق بيانه أن وسائل إثبات النسب هي أكثر عددا من وسائل نفي النسب، بالإضافة إلى أن الفقه والقضاء قد أحاط هذه الوسائل الأخيرة بالعديد من الشروط التي من شأنها عمليا أن تضيق كثيرا من نطاقها وأن تشل إعمالها.
ومن البديهي أن هذا التوسع في مجال إثبات النسب والتضييق فيما يتعلق بمجال نفيه، يندرج كمبدأ عام في إطار مبادئ الفقه الإسلامي، التي جعل الشارع دائما متشوفا للحوق الأنساب، وبالتالي حفظ أعراض النساء ما أمكن من جهة أولى، وحفظ مركز الولد حتى لا يضيع نسبه من جهة أخرى [44]. وإذا كانت القاعدة العامة أن النسب لا يحتاج إلى تأكيده، فهو ثابت مادامت العلاقة الزوجية قائمة، أما إذا نازع أصحاب المصلحة من أب، أو ورثة، أو غيـرهم في نسب الابن وكان موضوع هذا النزاع نفي النسب فإن هذا الأخير لا يكون إلا بحكم قضائي طبقا للمادة 151 من مدونة الأسرة الجديدة [45].
وسوف نرى من خلال الأحكام القضائية الصادرة في الموضوع أن القضاء عموما، وسيرا على النهج الذي اختطه الفقه الإسلامي، لا يحكم بنفي النسب بكل سهولة ويسر، وذلك تأكيدا للسياسة الشرعية المتبعة في هذا المجال، التي كثيرا ما تعتبر النصوص القانونية المتعلقة بالنسب عموما في صالح المرأة والولد أو الحمل، وذلك لضرورة الاستقرار وتثبيت مركز الأسرة داخل المجتمع.
وقد فعل المشرع خيرا حينما جعل الخبرة الطبية إذا صدرت بأمر قضائي كافية لإثبات أو نفي النسب، وذلك انسجاما مع التطور العملي الكبير الذي يعرفه الطب في مجال إثبات النسب ونفيه، بعدما كان في السابق في ظل مدونة الأحوال الشخصية لا يقبل إلا بالوسائل المقررة شرعا، والتي لم تكن من بينها الخبرة الطبية كوسيلة لإثبات أو نفي النسب، مما جعل القضاء سابقا لا يأخذ أبدا بالخبرة الطبية كوسيلة من وسائل إثبات النسب من فقهائنا القانونيين بضرورة اعتماد هذه الوسيلة لإثبات أو نفي النسب، وذلك لكونها وسيلة تحسم الأمر بصفة يقينية.
وللإشارة فإن الفقه ناقش وسيلة قريبة من الخبرة الطبية، وهي القياقة التي تعني الاستدلال على ثبوت النسب بالشبه في الخلقة بين الأب والولد التي يلحقه به القائف [46]، وهي وسيلة من وسائل إثبات النسب ونفيه في بعض الأحوال لدى العرب، وقد اهتمت بها العديد من المراجع الفقهية، بينما تجاهلتها أخرى، ويبقى أن القيافة حدس، والحدس لا تبنى عليه الأحكام في الشريعة الإسلامية [47]، ولهذا استبعدها المشرع المغربي من وسائل نفي وإثبات النسب.
المبحث الأول:
نفي النسب عن طريق إثبات اختلال شروط الفراش
يعتبر فراش الزوجة أقوى أسباب النسب القانوني إلى الأب، بل يكاد يكون السبب الوحيد القائم في الحياة العملية، ولقد رأينا سابقا أن قاعدة الولد للفراش هي مستمدة في أصلها من حديث نبوي شريف لقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع: (" الولد للفراش وللعاهر الحجر")، وهكذا فإن الفراش يعتبر حجة قاطعة على ثبوت النسب، إذا ما توفرت شروطه مجتمعة، وذلك من خلال ما يستفاد صراحة من المادتين 153 و154 من مدونة الأسرة، وأول هذه الشروط أن يوجد مبدئيا عقد زواج صحيح، وثانيها ألا تنصرم مدة الحمل، وثالثها إمكانية اتصال الزوجة بزوجها وحملها منه.
لكن ماذا يقع للنسب حينما يختل شرط من شروط الفراش؟ أي: عدم وجود عقد زواج صحيح ( المطلب الأول ) أو انصرام مدة الحمل ( المطلب الثاني ) أو عدم إمكانية حمل الزوجة من زوجها ( المطلب الثالث ).
المطلب الأول: عدم وجود عـقـد زواج صحيح
         إن عقـد الزواج هـو مناط الفراش، يدور معه وجودا وعدما، حتى صار عقـد الزواج لدى جانب من الفقه مرادفا للفراش، فالزنى جريمة والنسب نعمة والجريمة لا ترتب نعمة أبدا.
ومن هذه الناحية، يمكن للشخص أن ينفي النسب عنه كلما استطاع إثبات عدم وجود رابطة زوجية أثناء الحمل أو الولادة، وهذا الإثبات ليس في حقيقته حكرا على الرجل والمرأة المعنيين بأمر الحمل أو الولد، ومن ذلك الورثة مثلا بعد وفاة الرجل أو المرأة.
ومن ضمن القرارات التي صدرت عن المجلس الأعلى في هذا الصدد، نذكر: « يكون تعليلا صحيحا وكافيا الحكم الذي يقضي برفض الطلب في دعوى يطلب فيها زوجان تسليم بنت بالاستناد إلى أنهما أبواها شرعا، بعلة عدم إثبات المدعيين ازدياد البنت من صلبهما وهما على فراش الزوجية» [48] .
ونشير إلى أنه لم يكن للقضاء المغربي في النازلة أعلاه أن يطلب من الزوجين إثبات ازدياد البنت من صلبهما وهما على فراش الزوجية ولو كانت البنت في حيازتهما، غير أنها في الحـقيقـة كانت في حيازة امرأة أخرى تدعي هي بدورها أمومتها [49].
وجاء في قرار المجلس الأعلى: «.. لما ثبت أن الزواج بعد الوضع فإن المولود لا يلحق نسب المدعى عليه، ولو أقر ببنوته..» [50] .
وعلى العـكـس من هـذا نصت المدونة الجديدة في المادة 156: « إذا تمت الخطوبة، وحصل الإيجاب والقبول، وحالت ظروف قاهرة دون توثيـق عقد الزواج وظهـر حمل بالمخطوبة، ينسب للخـاطب للشبهة إذا توافرت الشروط التالية:
أ ــ إذا اشتهـرت الخطبة بين أسرتيهما، ووافـق ولي الـزوجـة عـليها عند
    الاقـتـضاء.
         ب ــ إذا تبيـن أن المخـطوبـة حـملت أثناء الخطبة.
         ج ــ إذا أقـر الخطيبان أن العـمل منهما.
تتم معاينة هذه الشروط بمقرر قضائي غير قابل للطعن.
إذا أنكر الخاطب أن يكون الحمل منه، أمكن اللجوء إلى جميع الوسائل المقررة شرعا في إثبات النسب »، ويبدو الفرق واضحا جدا بين القرار أعلاه وبين المادة 156 من مدونة الأسرة الجديدة.
ومن المؤكد أن الاتصال بين الخطيبين يرتبط مداه بدرجة الوعي والأخلاق لـدى الطرفين وبالأخص الفتاة، لكن في الحياة العملية كثيرا ما يتصل الخاطب بخـطيبته جنسيا أثناء الخطوبة، بل وفي خارج إطار الخطوبة أحيانا، وبعد حملها أو ولادتها يسرعان إلى إبرام عـقـد الزواج تهربا من الفضيحة وأقوال الناس وكثيرا ما يفـاجئهما ضابط الحالة المدنية برفض تسجيل الولد في كناش الحالة المدنية على أساس أن هناك عدم تناسق واضح بين تاريخ الولادة وتاريخ عقد الزواج حيث إن الأول متقدم على الثاني أو معاصر له، فيضطر الطرفان إلى رفع دعوى أمام القضاء فتنتهي إجراءاتها بعدم قبولها للسبب ذاته.
لكن القضاء واستجابة للمستجـدات الـتـي أتـت بها الـمدونة الجـديـدة للأسرة، أصبح يقـبـل بإثبات النسب عن طريق الشبهة في الخطوبة وذلك بتوفر الشروط الـثلاثـة الآتـيـة:
         1 ــ إشهار الخطبة بين الأسرتين: وتـبـدأ وسائل الإشهـار من يـوم الخـطـبـة خصوصا إذا صحبها تجمع أسري، أو فـرح وخـلافـه، كما تشتهر بتـردده على بيت أسرتها وغيرها مما يفيد في إشهار أمرهما.
         2 ــ أن يكون الحمل خلال الخطبة: بمعنى أن الحمل ظهر بعد الخطبة وبعد الإيجاب والقبول، وأن يكون في أقل مدة الحمل من تاريخ إشهار الخطبة.
         3 ــ إقرار الخطيبين بالحمل: لا يكفي الشرطان السابقان، بل لابد من إقرار الخطيبين بذلك، الخاطب يقـر أن ذلك الحمل منه نتيجة اتصال جنسي، وتقـر المخطوبة بذات الأمر، حيث تعترف بأنه لم يمسها شخص غيره، وأن هذا المسيس كان خلال فترة الخطبة، وهذا ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في قرارها رقم 1913/03 بتاريخ: 03/11/2004: « وحيث إنه وفق المشار إليه فإنه تنبني الشبهة المفضية إلى نسبة الحمل للخاطب إذا حالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج في وقته المحدد، وتوافر الإيجاب والقبول والشروط المنصوص عليها في الفصل 156 من مدونة الأسرة، وذلك بموافقة الولي كلما كانت ضرورية، واشتهار الخطبة بين الناس، وحمل المخطوبة خلال هذه الخطبة، وإقرار الخطيبين بالحمل، وحيث إن ذلك ثابت حسب تصريح الطرفين أثناء جلسة البحث وكذا ما هو منصوص عليه في النكاح المستدل به، وحيث إن المستأنف عليه خلال هذه الـفـتـرة لم ينف نسب البنت إليه بمجرد ظهـور الحـمـل وقـبـل إبـرام عـقـد الـنكـاح، وحـيث إنه تبعا للمشار إليه أعلاه، فإن نسب البنت لاحـق بالمستأنف عليه، وتترتب عليه جميع الآثار وكـذا الوسائل المقـررة شرعا بالـنفقـة والتوارث وغيره وبتسجيلها في دفتر الحالة المدنية..»
وتخضع هذه الشروط للمعاينة بمقرر قضائي، قابل للطعن من الأطراف، أما إذا أنكر الخاطب أن الحمل منه، في هذه الحالة ولكي يثبت النسب، لابد من الإثبات بجميع الوسائل الإثباتية الشرعية التي تكون عقيدة القاضي في إقرار النسب من عدمه بما في ذلك الالتجاء إلى الخبرة القضائية [51].
المطلب الثاني: انصرام مدة الحمل
         لقد سبق أن قلنا إن الفقهاء قد أجمعوا، رغم اختلاف مذاهبهم، على أن أقل مدة للحمل هي ستة أشهـر، وهذا ما أكدته مدونة الأسرة في المادتين 154 و155 منها، وعليه فمتى ولدت الزوجة قبل مرور ستة أشهر من تاريخ العقد عليها، فإن النسب لا يلحق بالزوج مطلقا إلا في حالة إثبات النسب بالشبهة في الخطوبة كما وضحناه أعلاه، وفي المقابل فإن أقصى مدة الحمل هي سنة، وعليه فمتى فارق الزوج زوجته لكونه قد طلقها أو توفي عنها، ثم أتت بولد بعد سنة من الفراق، فإن النسب لا يثبت من الزوج كقاعدة.
المطلب الثالث: عدم إمكانية الاتصال بين الزوجين
جاء في المادة 154 في فقـرتهـا الأولى من مدونة الأسرة الجديدة: « يثـبـت نـسب الـولـد بـفـراش الـزوجـيـة: « إذا ولـد لستة أشهـر من تاريخ العـقـد وأمـكـن الاتصال، سواء أكان العـقـد صحـيحـا أم فـاسدا».
وعـبـارة ( أمـكـن الاتصال ) يفـسرهـا فـقهـاء المذهـب المالـكي بالخـصوص بإمكانية الاتصال المادي، وذلك ردا على رأي أبي حنيفة الذي يقول أن النسب يثبت للولد الذي ازداد بعد ستة أشهر من العـقـد، ولو لم يكن الاتصال بين الزوجين، كما إذا كان أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب.
ولكن يبدو أن العبارة قابلة للتفسير بإمكانية الاتصال المادي بين الزوجين وبإمكانية الاتصال المعنوي أي بإمكانية الإنجاب، إضافة إلى ذلك فإن تعذر الاتصال قد يتحقق عقب العـقـد مباشرة، وقد يتحقق بعد بدء الحياة الزوجية على أن إثبات عدم امكان الاتصال بعد بدء الحياة الزوجية يبدو أكثر صعوبة، وعلى كل فإن نفي النسب لا يقبل كما سبق القول، إلا في حالة القطع بأن الولد ليس من صلب المدعى عليه [52]، بحيث يمكن للزوج أن يلتجئ إلى مسطرة اللعان، أو إثبات ذلك بخبرة طبية، شريطة أن يدلي بحجج قوية يقتنع معها القاضي بإحالة القضية على الخبرة حيث لا يمكن إجراؤها بأمر قضائي.
المبحث الثاني: نفي النسب بواسطة اللعان
اللعان نظام قانوني يهدف من ضمن ما يهدف إليه إلى نفي النسب، وهو نظام إسلامي خالص، لا نظير له في باقي التشريعات السماوية أو القوانين الوضعية الغير الإسلامية الأخرى.
وحسب بعض الفقه، فإن ما جرى العمل به في الأندلس وفي المغرب هو تعطيل نظام اللعان، وإن قررت مدونة الأسرة الجديدة على غرار مدونة الأحوال الشخصية السابقة خلاف ذلك، على ما يتضح من مقتضيات المادة 153 والتي تجعل اللعان من بين الأسباب التي ترتب فرقة مؤبدة بين الزوجين المتلاعنين [53] .
ـــ فما هو مفهـوم اللعان و مسطرته ( المطلب الأول ) ؟
ـــ وما هي شروطه وآثاره ( المطلب الثاني ) ؟
ـــ وفي الأخير ما هو تأثير اللعان على حـق الطفـل في النسب وموقـف القـضاء منه ( المطلب الثالث )؟
المطلب الأول: مفهوم اللعان ومسطرته.
اللعان هو شهادات مؤكدات بالإيمان مقرونة من جانب الزوج باللعنة، وبالغضب من جانب الزوجة قائمة مقام حد القذف في حقه، ومقام حد الزنا في حقها، لهذا سوف نقوم بتقسيم هذا المطلب إلى مفهوم اللعان (الفقرة الأولى) ومسطرة اللعان (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: مفهوم اللعان
         حماية لأعراض النساء العفيفات من ألسنة الناس، أوجب الله سبحانه وتعالى حد القذف على كل شخص سولت له نفسه قذف امرأة من نساء المسلمين أو غيرهن، كاتهامها بالزنى مثلا، ومن دون أن يستطيع إثبات ما يدعيه بالطرق المحددة شرعا، قال سبحانه وتعالى: (" والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ") [54] . وقد كان من اللازم تطبيق الحكم المضمن بالآية الكريمة في حالة قذف أية محصنة ولو كانت زوجة في عصمة القاذف، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد استثنى الأزواج الذين يبادرون إلى التمسك بلعان زوجاتهم بالكيفية المحددة شرعا.
واللعـان من الناحـية اللغـوية: يفيد الطرد والإبعاد، وفي الاصطلاح: شهادات مؤكـدات بالأيمان مقـرونة من جـانـب الـزوج باللعـنـة، وبالغـضب من جانب الـزوجـة، قائمة مقـام حـد الـقـذف في حـقـه، ومـقـام حـد الـزنى في حقهـا، يـؤديهـا الـزوجـان أمام القـاضي [55].
وقد أشار المشرع المغربي من خلال مقتضيات المادة 153 من مدونة الأسرة إلى اللعان باعـتباره سببـا رئيسيا من أسباب التحـريم المؤبـد بين الزوجـين دون أن يبين مفهومه أو يحدد مسطرته وأحكامه، ومن هذه الناحية فلا مناص لنا من الرجوع إلى أحكام الفقه المالكي تطبيقا للمادة 400 من مدونة الأسرة.
الفقرة الثانية: مسطرة اللعان
         إذا قذف الزوج زوجته بالزنى أو بنفي نسب ولدها منه، أو بهما معا، ولم يثبت ذلك بأربعة شهود، وطلب إقامة حد الزنى عليها، وطلبت هي إقامة حد القذف عليه، فالواجب حينئذ اللعان [56].
واللعان يجب أن لا يتم إلا بحكم يصدر عن سلطة القضاء وبناء على طلب من الزوج، وعلى القاضي الذي رفعـت الدعـوى أمامه أن يستدعي الطرفين ــ أي الزوج والزوجة ــ وفـقـا للـقـواعـد المضمنة في قانون المسطرة المدنية، ويطبق بصددهـا الأحـكـام الـمضمـنة في آيـة الملاعـنة المنصوص عليها في القرآن الكـريم
حيث يقول جـل وعـلا: ("والذين يـرمـون أزواجهـم ولم يكن لهم شهـداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الـكاذبيـن ويـدرأ عنها العـذاب أن تشهـد أربع شهـادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ") [57].
وصورتها أن يحلف الزوج أربع مرات أنه صادق في اتهامه لزوجته والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان كاذبا في ادعائه، وإذا أصرت الزوجة على تكذبيه فيجب عليها بدورها أن تحلف أربع مرات بأنه كاذب فيما يدعيه وفي الخامسة أن غضب الله عليها إن كان صادقا فيما رماها به.
ومبرر هذا الاستثناء، أن الزوج لا يلتجئ إلى هذه الوسيلة عند تيقـنه من أن الحمل ليس منه، لأن اتهـام زوجـته يعـود عليه هو كذلك بالضرر المحـقـق، وينـال من اعـتبـاره الاجـتماعي، بـل قـد ينـغـص عـليه الحـيـاة بالـتشكـيـك في عـلاقـتـه بالأطفـال الآخـريـن. إضافة إلى ذلك، فإن النفـي المجـرد لا يقـبـل لتأييده باللعـان وإنما يتعـيـن أن يسـتنـد إلى رؤية الزنى أو إلى عـدم اتصال بين الزوجـين مدة تفـوق الفـتـرة القـصوى للحمل ويثبت عـدم الاتصال بالوقـائع التي يتعـذر معهـا تحـققـه كغـيبـة الـزوج أو اعـتـقـالـه مثلا.. [58].

المطلب الثاني: شروط اللعان وآثاره
إن للعان شروط يجب توفرها عند قيام القاضي بنفي النسب، وكذلك له آثاره التي تنجم عنها، لهذا قمنا بتقسيم هذا المطلب إلى فقرتين شروط اللعان ( الفقرة الأولى)، وآثار اللعان ( الفقرة الثانية ).
الفقرة الأولى: شروط اللعان
لا يكون اللعان إلا بناء على حكم القاضي به، فإن اتفق الزوجان على الملاعنة دون اللجـوء إلى القـضاء، فلا يترتب على ذلك اللعـان، أي أثـر من آثـار نفـي النسب [59].
والقاضي لا يحكم باللعان لنفي الحمل أو الولد إلا بتوفر مجموعة من الشروط أهمها: أن يكون الزوج مسلما عاقلا بالغا ممن يمكن أن يطأ، ويصح من الأخرس بالكتاب أو بالإشارة، وأن يدعي المشاهدة وعدم المسيس [60]، كما يشترط في الزوجة أن تكون منكرة للزنا الذي اتهمت فيه، وأن يقع اللعان في حالة العصمة ولو من زواج فاسد أو وطء بشبهة، ويمكن اللعان في عدة الطلاق البائن والرجعي، هذا فيما يخص دعوى رؤية الزنا، أما في دعوى نفي الحمل أو الولد يجوز اللعان ولو بعد العدة إلى أقصى مدة الحمل [61]، وأن يقع اللعان بمجرد رؤية الزنا أو ظهـور الحمل والعلم به معجلا، وقد أعطى المالكية أجل يومين لرفع دعوى اللعان، وألا يسبق نفي الولد الإقرار به صراحة أو ضمنا، فإن حصل ذلك فلا يسوغ بعده للزوج أن ينفي نسب الولد، كمن طلق وأراد السفر وقبل سفره أدى نفقة الحمل، فليس له إنكار الحمل بعد ذلك [62]، وألا يدعي الزوج أنه استبرأ زوجته [63] وألا يتصل بها بعد استقراره على ملاعنتها، وإلا فإن دعـواه ترفض [64]، كما يشترط ألا يكون الولد غير لاحق شرعا بالزوج، كما لو أتت به لأقل من أدنى أمد الحمل أو لأكثر من أقصى أمد الحمل، ومتى توفرت هذه الشروط جاز للقاضي الحكم باللعان بين الزوجين.
الفقرة الثانية: آثار اللعان
         ومتى تـم اللعـان وفـقـا للشروط والكـيفـية المطلوبة رتب آثـارا هامة أهمهـا:
سقـوط حد القذف على الزوج بحلفه، وسقوط حد الزنا على الزوجة بحلفها، وتقع الفرقة بين الزوجين بحكم القاضي طبقـا للمادة 159 من مدونة الأسرة بدون طلاق، ويحرم عليهما الزواج تحريما مؤبدا، وينتفي الزوج وحده سواء حلفت الزوجة أيمان اللعان أو نكلت عنها، غير أن الولد الملاعن عليه له وضعية خاصة بحيث لا يمكن له الانتساب إلى أبيه، كما أنه لا يمكن القول بأنه " ابن زنا " بل إن من رماه أو أمه بذلك يحد [65]، وابن الملاعنة لا توارث بينه وبين أبيه بإجماع المسلمين لانتفـاء النسب الشرعي، وإنما التـوارث بينه وبين أمه، فعـن ابن عمر:« أن رجلا لاعن امرأته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق النبي بينهما وألحق الولد بالمرأة » رواه البخاري وأبو داود [66] . لكن إذا أقر به الزوج الملاعن بعد اللعان وفق مقتضيات المادة 160 من مدونة الأسرة فإن الولد ينسب إليه ولو بعد موت هذا الأخير [67]، إذا ثبت تعريف اللعان وشروطه وكذا مسطرته وآثاره نتساءل كيف يؤثر اللعان على حق الطفل في النسب ؟
المطلب الثالث:
تأثير اللعان على حق الطفل في النسب وموقف القضاء منه
مما لا ريب فيه أن الهدف من إكثار الفقه الإسلامي من شروط اللعان هو حماية الأنساب من الإنكار الكيدي وحماية مركز الأولاد، إلا أن ما يضر بمركز هؤلاء هي المسطرة المتبعة في اللعان ( الفقرة الأولى) وهذا ما جعل القضاء يبعدها من التطبيق العملي ( الفقرة الثانية ).
الفقرة الأولى:
أثر مسطرة اللعان على نسب الطفل ومدى إمكانية تعديلها
يبدو أن مسطرة اللعان غير صالحة للتطبيق في العصر الراهن (أولا) فهل من إمكانية لتجاوزها أو على الأقل لتعديلها (ثانيا).

أولا: عدم ملائمة مسطرة اللعان لنفي النسب في العصر الراهن
كما تبين لنا فإن مسطرة اللعان تكون بأن يشهد الزوج بالله أربع مرات على نفي حمل زوجته أو ولدها عن نسبه، ويزيد في المرة الخامسة: (" لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ") ثم تشهد الزوجة بالله أربع مرات أيضا أن زوجها كاذب فيما أشهد الله عليه، وتزيد في الخامسة: ("غـضب الله عليها إن كان من الصادقين")، والواقع أن هذه الأقوال التي تصدر عن المتلاعنين هي أيمان على أن الملاعن جازم بصدقه في نفي النسب عمن ذكر، وأن الملاعنة جازمة بكذب الزوج في ذلك إلا أن الغريب في الموضوع أن المدعي وهو الزوج الطالب لنفي النسب يكتفي منه باليمين المتعددة على الحكم له بما طلب، وسند الفقه في ذلك أنه لولا قبول هذه الأيمان من الزوج والحكم له بمقتضاها لالتحق بنسبه من ليس منه عملا بمقتضى القاعدة (الولد للفراش)، إذ لولاه لم يجد الزوج سبيلا إلى قطع الدخيل فيه، وذلك يؤدي إلى اختلاط الأنساب وهو ممنوع في سائر الشرائع المقدسة، فلا طريق لانتفاء هذه [68]الضرورة إلا عن طريق اللعان ــ وقد يظهر بالزوجة حمل بعد لعان رؤية الزنا، فإن الوليد يلحق بالزوج إذا أتت الزوجة به لأقل من ستة أشهر من يوم الزنا أو داخل سنة من يوم الطلاق، وما يلاحظ أن ادعاء الزوج واقعة الزنا ينبغي إثباته وهذا أمر عسير في الشريعة الإسلامية، إن لم نقل مستحيل، إذ على المدعي إثبات دعواه بأربعة شهود على الأقـل من الرجال وأن يؤدوا اليمين بأنهم شهدوا هذا الفعل يتم كاملا، وكذلك في القانون الجنائي المغربي إذ أن المادة 493 منه قد حصرت وسائل إثبات جريمة الخيانة الزوجية في الاعتراف القضائي أو المكتوب،
وفي المحضر الرسمي الذي يحرره ضابط الشرطة القـضائـية في حالة تـلبس، ومن تم لا يجوز إثباتها عن طريق الشهـود، الأمر الذي قـد يدفـع الزوج الملاعـن إلى اللجـوء إلى طلب إجـراء الملاعـنة من أجل نفي الحمل أو الـولـد [69]ـــ ولهـذا لما نـزلـت آية اللعان بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم من نزلت فـيه وقال له:
(" أبشر فـقـد جـعـل الله لك مخـرجـا ") وأنه لا يـقـدم الزوج عليه إلا إذا كان متيقنا بسببه في الواقع نظرا للوازع الديني [70].
أما اليوم حيث تأكد فساد كثير من الذمم التي أصبحت تنزلق عن المحجة البيضاء وعن قيم وتعاليم ديننا الحنيف، وتراجع الوازع الديني لدى غير قليل من الناس عديمي الضمائر وكثر الناقمين والماكرين الذين يغيب عن ذهنهم عقاب الله الأخروي عن تصرفاتهم الدنيئة، فيلجؤون لهذه المسطرة السريعة والسهلة ويحلفوا أيمانا كاذبة كيدا لزوجاتهم أو إضرارا بأولادهم أو تهربا من المسؤولية وتحمل أعبائهم، ورغم ذلك نجد أنه ليس من الحكمة عند فقهائنا ــ إلى يومنا هذا ــ أن يثبت النسب من زوج يقرر أن هذا الولد لم يخلق من مائه، ويرد نسبه ويدفعه عن نفسه، ويقسم الأيمان على صدق قوله، ويؤكد ذلك بالدعاء على نفسه باللعنة من الله والطرد من رحمته، وليس من الحكمة أن نرهقه بتقديم إثبات على دعواه ولا يستطيع إن حاوله [71] ..؟؟ ! في الحقيقة أصبحت مسطرة اللعان خطيرة جدا على أطفالنا خصوصا في الحالات التي ذكرناها سابقا، لذا نتساءل ما هو الضمان والسبيل لحماية حقهم الشرعي والقانوني في النسب ؟

ثانيا: نحو حماية أفضل لنسب الطفل ضمن مسطرة اللعان
يبدو أن اللعان قد فـقـد فعلا قيمته ما دام يقوم على الشك لا اليقين، وأحيانا يعـد انتقـاما ليس إلا، كما وضحنا ذلك، فالشك يظهـر لنا من خلال أن الزوج إذا كان        
في استطاعته أن يشهد على سبيل القطع أن زوجته قد ارتكبت الزنا فإن الأمر على خلاف ذلك بالنسبة لواقعة نفي الولد، لأن الزوج لا يستطيع أن يؤكد على سبيل القطع أن الولد ليس منه حتى ولو كان صادقا في اتهامه لزوجته بواقعة الزنا، إذ قد تكون الزوجة مرتكبة للزنا فعلا إلا أن الولد قد يكون ابنه بأن يكون الحمل قد حدث منه، وهذا ما جعل الفقه كما رأينا أنه يخضع في هذه المسطرة لعدد من القيود والشروط للحد من الشك، ويمنع الزوج من اللعان، إذا وجدت قرائن بسيطة تدل على عدم الجدية في إنكاره، كعدم استبراء المرأة قبل ظهور الحمل والسكوت بعد العلم بالحمل ولو يوما أو يومين، والاستنتاج البديهي من هذا الاجتهاد الذي طبق به الفقه آية اللعان هو أنه متى توفرت وسيلة قادرة على كشف الحقيقة يكون لكل من الزوجين الحق في المطالبة بها لتبرئه ساحته من تهمة الكذب التي لا يبعدها عنه أداء أيمان اللعان [72].   
ومن المعلوم أن اللعان حكم شرعي وردت بشأنه نصوص قطعية، في القرآن والسنة النبوية، ولكن المؤيد أيضا أن الأمر يتعلق بنوع الأحكام المعبر عنها بالوسيلة الصرفة، وهي أحكام تتميز بكونها ليست مقصودة لذاتها نهائيا ومن ثم فهي قابلة للتغيير إذا فـقـدت الوسيلة قيمتها ووظيفتها، وترتيبا على ذلك فإننا نرى أنه متى تبين أن زماننا يتيح لنا تنظيم هذه الوسيلة وتنفيذ هذه التدابير التوسلية الصرفة، ببدائل أكثر نجاعة وفاعلية ومصداقية وأكثر تحقيقا للمقصود فلا شك في أن الأخذ بها وإقرار أحكامها وإحلالها محل ما جرى به العمل في الصدر الأول عمل مشروع، وتعبير غير ممنوع، لأن ما غيرناه لم يكن تعبديا ولم يكن مقصودا وليس هو مصلحة في ذاته و إنما مصلحته فيما يفضي إليه، ونعني هنا بالدرجة الأولى ضرورة الاستعانة اليوم بالتقنيات الطبية الحديثة مع الإبقاء على اللعان للوصول لنتائج يقـينية تبـدد الشك، فالمفروض أن تطبق هـنا قاعـدة ( الشك يزول باليقـين )
فإذا علم بناء على تلك النتائج أن الولد ليس منه يمكن من إجراء اللعان لنفي الولد لأنه ثبت يقينا أن الولد ليس منه، أما إذا علم من تلك النتائج أن الولد منه، فلا يمكن من إجراء اللعان لأجل نفي الولد، وإنما يمكن من اللعان كإجراء شرعي لدرء الحد عن الزوجين، وللتفريق بينهما، لأن الزوج لربما يكون متأكدا من صلة زوجته غير المشروعة بغـيره، وهنا يكون من حقه إجراء اللعان دون نفي الولد، ومن تم فإن الركون للنتـائـج الطبية قد يحـقـق غايتين إحداهما: إمكانية تراجع الملاعن قبل الـفحـص، وثانيهما: إمكانية إثبات الفحص عكس مزاعـم الملاعـن، وبذلك تتحـقـق الغاية من مقاصد الشريعة الإسلامية التي تتشوف للحـوق النسب، وبهـذا نكون قـد فهـمنـا النـص على أساس ضرورات التـطـور الاجتماعي والعلمي دون أن يعني ذلك إهماله أو تجاوزه وإنما هو النفاذ إلى جوهره وما وراءه [73].
إذا كان ما قلناه أعلاه يتعلق بموقف الفقه من مسطرة اللعان، فما هو موقف القضاء المغربي منها ؟


الفقرة الثانية: موقف القضاء المغربي من اللعان

الواضح أن اللعان تـرك في التطبيق وانصرف عنه العمل القضائي ( أولا ) فما هو السبب وراء ذلك ( ثانيا ).
أولا: انصراف المجلس الأعلى عن التطبيق العملي للعان       
ما لاحظناه بخصوص انصراف المجلس الأعلى عن التطبيق العملي للعان يرجع بالأساس إلى ما اطلعنا عليه من استشهادات الكثير من الفقهاء بخصوص هذا الانصراف في كتبهم، ويرجع أيضا فيما اطلعنا عليه ــ حسب مطالعتنا المتواضعة ــ من القرارات المنشورة حيث لم نجد ولو قرارا واحدا للمجلس الأعلى قضى بالقبول شكلا ومضمونا في اللعان، في حين نشر الكثير من القرارات الصادرة بنقض أحكام استئنافـية قضت باللعان، مستندا في ذلك إلى انعدام شرط من
شروط اللعان التي وضعها الفقه الإسلامي، فقد اشترط اللعان من الزوج فور العلم به و إلا فالنسب يلحق به، وفي ذلك يقول المجلس الأعلى: «..إذا علم الزوج بالحمل وسكت فلا يسمع قوله بنفي النسب ولا يمكن من اللعان » [74] .
وأيضا يجب ألا يكون الولد غير لاحق شرعا بالزوج، كما لو أتت به الزوجة لأقل مدة من أدنى أمد الحمل بعد العقد عليها، وهو ستة أشهر أو لأكثر من أقصى أمد الحمل وهو سنة بعد الفراق حسب المادة 154 من مدونة الأسرة، حيث جاء في قرار للغرفة الشرعية بالمجلس الأعلى: « الوضع لأقل من ستة أشهر.. ينفي النسب بغير لعان.. ويفسخ النكاح..» [75] . لأن الولد في مثل هذه الحالة غير لاحق أصلا وبالتالي لا يحتاج إلى نفي من طرف الزوج.
كما لم يعتد المجلس الأعلى بالحكم الصادر بالخيانة الزوجـية لنفي النسب حيث يقـول: « التصريح بالطلاق وتقـديـم شكاية غير كافـييـن لنفي النسب طالما أن الزوجة في عصمة الزوج، والوضع في أمده القانوني، ففي هاته الحالة لا يمكن للزوج نفـي النسب إلا بإجراء مسطرة اللعان، الشيء الذي لم يقم به الطاعـن وأمـام انعـدام هذه المسطرة فـإنه لا تأثيـر لادعاء الخـيانة لـقـولـه صلى الله عليه وسلم: (" الولد للفراش وللعاهر الحجر ") [76] .
يظهر من هذه القرارات التي ذكرناها أن المجلس الأعلى يتشدد أشد الحرص على إعمال كل الشروط التي وضعها الفقه لصحة اللعان ويثيرها تلقائيا ولم يقض في أي قرار بصحة اللعان، فأين يكمن السبب وراء ذلك ؟

ثانيا: السبب وراء موقف المجلس الأعلى من اللعان
         إن تقييم حقيقة موقف المجلس الأعلى من اللعان لم يكن محل إجماع من طرف الفقه، حيث نجد رأيا فقهيا يقول: إن كثيرا من قرارات المجلس الأعلى نقضت أحكاما استئنافية قضت باللعان وأحيانا يكون النقض غير واضح التعليل فهل يأخذ المجلس الأعلى ــ ضمنا لا صراحة ــ بما ذهب إليه صاحب العمل الفاسي بقوله: « واترك لفاسق وغيره اللعان» وعدد صاحب لامية الزقاق ضمن ما جرى به العمل « واترك اللعان مطلقا أو لفاسق» ؟ بمعنى هل صرفت نية المجلس الأعلى لإلغاء اللعان بالمرة من التطبيق العملي تماشيا مع تشوف الشريعة الإسلامية للحوق الأنساب وثبوتها وحفظ مركز الطفل حتى لا يضيع نسبه ؟ [77].
في حين يذهب رأي آخر خلاف الرأي الأول حيث يعلل انصراف المجلس الأعلى عن التطبيق العملي للعان إلى الشروط التعجيزية التي أحاطها الفقه الإسلامي والمالكي - بصفة خاصة- باللعان والتي من شأنها عمليا أن تضيق كثيرا من نطاقه وأن تشل إعماله: فكيف يمكن للشخص العادي ــ غير الملم بتفاصيل الفقه الإسلامي في هذا الإطار ــ أن يلاعن في الحمل أو الولد وفقا لكل الشروط الفقهية للعان ؟ زد على ذلك بعض المعيقات العملية التي تحول دون ذلك، فأجل اللعان يوم أو يومين كما هو معروف، مثل هذا الأجل القصير جدا لا يكفي في وقتنا الحاضر تبعا للنظام القضائي والمسطرة الجاري بها العمل للتفكير في هذا الأمر والاتصال بمحام وتحرير مقال وإيداعه بالمحكمة علما أن المحاكم لا تعمل يومي السبت والأحد والأعياد، كما أن الشخص الذي غادر للخارج وترك زوجته بمجرد العقد عليها، ثم يفاجأ بخبر ولادتها وهو بالمهجر، فكيف يسمح له هذا الأجل أن يلاعن زوجته ؟ علما أن الشخص العادي غير عارف بهذا الأجل أصلا، وهذا يعني بمفهوم المخالفة أنه متى كان الزوج من المتشبعين والملمين بتفـاصيل أحكام الفقه
في هذا المجال فإنه سيلاعن لا محالة وفقا لكل الشروط الموضوعة لذلك، وآنذاك سوف لن يجد المجلس الأعلى تعليلا لرفض الملاعنة وسيقضي دون شك بذلك [78].
ويبدو أن كلا الرأيان منطقيان إلا أننا نميل ــ حسب رأينا المتواضع ــ إلى تبني الرأي الأول، وذلك لعدة اعتبارات أهمها: أنه ليس من الصدفة وإلى يومنا هذا عدم وجود أي قرار للمجلس الأعلى يقضي باللعان، بل لابد من وجود دافع قوي وراء موقفه غير تبرير أصحاب الرأي الثاني، لأن مدة خمسين سنة ونيف من تأسيس المجلس الأعلى ــ ولا وجود لأي قرار يؤيد إعمال مسطرة اللعان ــ مدة كافية لدحض تعليل أصحاب الرأي الثاني، ويبدو أن المجلس الأعلى متشوف للحوق النسب، ويحرص أشد الحرص على حفظ مركز الطفل حتى لا يضيع نسبه لمجرد دعوى قد تكون كاذبة أو مجرد انتقام من الزوجة وكيدا لها، وهو ما سيؤثر لا محالة على مركز الطفل.
وبما أن نظام اللعان هو نظام يفرض وجوده من حيث القانون ويغيب على مستوى التطبيق العملي للقضاء، فإننا نعود لما قلناه بضرورة تغيير مسطرة اللعان وتدعيمها بالخبرة الطبية، حماية لنسب الطفل من الإنكار الكاذب وأيضا حتى لا يلحق نسب الأب بغير ابنه.

المبحث الثالث:  نفي النسب بالاعتماد على الخبرة الطبية
أثارت إشكالية اعتماد الخبرة الطبية كوسيلة شرعية لإثبات أو نفي النسب في مدونة الأحوال الشخصية السابقة، جدلا واسعا ما بين جل الفقهاء المؤيدين لضرورة اعتماد الخبرة الطبية كوسيلة من الوسائل المقررة شرعا لإثبات أو نفي النسب ــ تماشيا مع المنطق وروح الحداثة العـقـلاني الذي أصبح يميز عالمنا وبالأخص الثورة التي عرفها الطب الحديث في مجال ثبوت النسب أو نفيه عن الأب من خلال الخبرة الجـينـية، التي تحدده بشكل يقـيني ــ وما بين القرارات القضائية التي كانت دائما تستبعد الخبرة الطبية كوسيلة لإثبات أو نفي النسب، وتجد تعليل ذلك في مدونة الأحوال الشخصية [79]، التي تنص على أنه (" يعتمد القاضي في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعا في نفي النسب ")، وليس من بين هاته الوسائل وسيلة التحليل الطبي، وأن ما جاءت به مدونة الأحوال الشخصية  خاص بما إذا بقيت الريبة في الحمل بعد انقضاء سنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة لمعرفة ما في البطن هل هو علة أم حمل [80].
لكن المشرع المغربي تدارك هذا النقص من خلال مدونة الأسرة الجديدة في المواد 153 و158 وذلك بقبوله للخبرة الطبية كوسيلة شرعية لإثبات أو نفي النسب شرط صدور أمر قضائي بها، وذلك إحساسا منه بضرورة مواكبة التشريع لمستجدات هذا العصر وتقنياته الحديثة في مجال الطب الشرعي ــ خصوصا ما عرفه علم الهندسة الوراثية من تطورات، بات معها يقينا إثبات النسب أو نفيه ــ بعدما تعالت أصوات
فقهية كثيرة تطالب بضرورة هذه المواكبة، حتى لا نكون خارج الزمن، لاسيما وأن الأمر يتعلق بوسيلة إيجابية تقينا مرارة نسبة الولد لغير أبيه واختلاط الأنساب، وتحسم في معرفة الأب والأم البيولوجيين للولد المزداد بصفة يقينية.
وقد أقر المجلس الأعلى بتاريخ 9 مارس 2005 الالتجاء إلى إجراء خبرة طبية، حيث جاء في هذا القرار أنه « وأمام اختلاف الزوجين بشأن تاريخ ازدياد الابن المذكور، فإنه كان على المحكمة أن تبحث في جميع وسائل الإثبات المعتمدة شرعا منها الخبرة التي لا يوجد نص قانوني صريح يمنع المحكمة من الاستعانة بها والمحكمة لما اكتفت بالقول ردا على ملتمس إجراء الخبرة، بأن ما تمسك به الطالب يخالف أصول الفقه والحديث الشريف، دون اعتماد نص قاطع في الموضوع، فإنها لم تضع لما قضت به أساسا وعرضت قرارها بذلك للنقض » [81] .  
فهل يمكن نفي النسب عن طريق إثبات العقم بواسطة الشهادة الطبية (المطلب الأول) وما هو أثر النتائج العلمية لفحص الأم على إثبات النسب ونفيه (المطلب الثاني).

المطلب الأول: نفي النسب عن طريق إثبات العقم بواسطة الشهادة الطبية       
من أهم النزاعات التي طرحت أمام القضاء المغربي بخصوص نفي النسب بواسطة شهادة طبية تثبت عقم الزوج، نزاع نجمل وقائعه كالآتي:
بتاريخ 17 يوليوز 1979 ادعت السيدة... علي مفارقها السيد... ذاكرة أنه فارقها بتاريخ 22 أبريل 1979، وهي حامل، طالبة الحكم عليه بأداء نفقة الحمل، وأجاب المدعي عليه مع تقديم مقال مضاد ذاكرا بأنه طلق المدعية وهي غير حامل طالبا إلغاء طلبها والحكم بنفي الحمل لأنه عقيم لا يلد.
أدلت المدعية بشهادتين طبيتين من مستشفى الحسن الثاني بأكادير تفيدان أنها دخلت هذا المستشفى بتاريخ 13 دجنبر 1979 حيث وضعت بنتا، وقد انتهت الإجراءات بحكم ابتدائية أكادير الذي قضى في الطلب الأصلي على المدعى عليه بأن يؤدي للمدعية 500 درهم الباقية من نفقة ولادتها وبرفض الطلب المضاد وبالتالي رفض طلب نفي النسب.
استأنف المحكوم عليه حكم ابتدائية أكادير مشيرا إلى أن المحكمة قد ناقشت القضية من حيث الفترة الزمنية الفاصلة بين تاريخ الطلاق والوضع، أي أقصى مدة الحمل، في حين أنه قد ركز دفوعاته على أنه قام بتحليلات طبية على نفسه منذ سنة 1971 أثبتت كلها أن نطفته خالية من بويضات التناسل. وقد التمس المستأنف من محكمة الاستئناف إجراء خبرة طبية للتأكد مما ذكر، وقد تم له ما طلبه وأثبتت الخبرة الطبية أنه عقيم لا يلد، وعلى الرغم من ذلك فقد أيدت محكمة الاستئناف بأكادير الحكم الابتدائي على أساس أن التحليلات الطبية التي تثبت العقم لا يعتمد عليها من الناحية الشرعية لنفي النسب. وجاء في الطعن الذي رفعه المدعى عليه أمام المجلس الأعلى: « وحيث يطعن طالب النقض في الحكم المذكور بعدم الارتكاز على أساس وعدم التعليل لأنه لم يورد النص الشرعي الذي ألغى الخبرات الطبية في الموضوع، وأنه على العكس من ذلك، فإن النصوص الشرعية تأخذ بعين الاعتبار ما قد يصل إليه الأطباء في تحليلاتهم فيما يخص الحمل، وذلك ما نصت عليه مدونة الأحوال الشخصية أنها جعلت للقاضي وهو ينظر في مادة النزاع أن يستعين ببعض الخبراء من الأطباء للتوصل إلى الحل الذي يفضي إلى الحكم.. »، وقد رفض المجلس الأعلى هذا الطعن بناء على ما يلي: «..إن ما قضى به الحكم المطعون فيه يجد أساسه  في مدونة الأحوال الشخصية [82]: الذي ينص على أن القاضي يعتمد في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعا في نفي النسب، وليس من بين هاته الوسائل وسيلة التحليل الطبي، وأن ما نص عليه الفصل 76 من المدونة خاص بما إذا بقيت الريبة في الحمل بعد انقضاء سنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة لمعرفة ما في البطن هل علة أم حمل ؟ وبذلك تكون الوسيلة غير مبنية على أساس » [83] .
*  تعليق الأستاذ محمد الكشبـور على هذا القرار:
إن القاضي يختص عادة بتوزيع العدالة بين أفراد المجتمع، وليس من المفروض فيه أن يكون شخصا في غير علوم القانون والتي لا تمت إلى تخصصه الأصلي بصلة كالهندسة والزراعة والميكانيكا والمحاسبة والطب، وعليه فإذا عرض عليه نزاع ما يستلزم الفصل فيه خبرة خاصة، جاز له أن يستعين بأهل المهنة المتخصصين للإدلاء برأيهم في صورة تقرير يقدمونه إلى المحكمة.
وقد نظم المشرع المغربي إجراءات الخبرة ضمن إجراءات التحقيق وتحديدا من قانون المسطرة المدنية [84]، بحيث بين كيفية تعيين الخبير، وأسباب تجريحه، والمسطرة التي يجب عليه إتباعها أثناء ممارسته لمهمته، ومن الناحية المبدئية، فالخبرة قد قررت من أجل الاستئناس بها فقط، فهي لا تلزم القاضي و إلا أحللنا الخبير مكانه، يفصل في المنازعات بين الأفراد، ذلك أنه قد جاء في قانون المسطرة المدنية [85] أن رأي الخبير ملزم لقاضي الموضوع، وإن كان عليه من الناحية الإجرائية أن يبـرر موقـفـه كـلمـا استبعـد خبـرة أجـريت بكـيفـية قـانونية وصحـيحـة، وفي مجـال نفي النسب، لم نعثر على أي حكم يعتمد الخبرة الطبية في ذلك النفي، بل وعلى العكس من ذلك، لم نقف سوى على الأحكام التي تستبعدها، والقرار الذي نحن بصدد التعـليق عليه، خيـر دلـيـل على ما نقـوله.
          وإذا انتقلنا إلى مبادئ الفقه الإسلامي، نجدها سباقة إلى تبني هذا الموقـف أي أنها لم تعتمد أبدا الخبرة الطبية كوسيلة لنفي النسب، بل والأكثر من ذلك ــ وحسب مطالعتنا المتواضعة ــ لم نقف على أي فقيه داخل مذهب من المذاهب الفقهية المعروفة، يقرر أن الخبرة الطبية تصلح لإثبات النسب أو نفيه، وإن كان الفقه الإسلامي يأخذ بالخبرة الطبية في مجال العيوب والجراحات، ونعتقد أن للفقه الإسلامي عذره في ذلك، فالملاحظ أنه عند نزول القرآن الكريم وتكوين السنة النبوية وحتى في العهد الذي بدأ فيه تدوين هذا الفقه، لم تكن للطب مكانة ذات شأن في المجال الذي نبحث فيه بالخصوص.
فالمشرع القرآني، وهو الله عز وجل، ورغم أنه اعتبر الدين الإسلامي خاتمة للأديان السماوية ومحمدا خاتم الأنبياء والرسل، لم يخاطب العرب عهدئذ إلا بقدر ما تستوعبه عقولهم، ومن هذا المنطق، واعتمادا على ما كان عليه الطب من ضعف، لم نجد للخبرة المتصلة به أثرا ضمن مصادر الفقه الإسلامي، ورغم أن العرب فيما بعد قد قطعوا في الدراسات الطبية والممارسات المرتبطة بها أشواطا بعيدة المدى، حيث يعتبرون رواده الأولين، فإنه ظل وحتى في وقت ازدهار الفقه الإسلامي مبنيا في جل استنتاجاته على الاحتمال، ولذلك فإن أصحاب المذاهب السنية الكبرى وتابعيهم لم يأخذوا بالخبرة الطبية في مجال جد خطير، وهو مجال النسب، أما اليوم، وقد أصبح الطب في العديد من أموره مبنيا على اليقين، حيث أحرز تقدما منقطع النظير في أغلب مجالاته، فإن استبعاده من طرف القضاء قد يدعو غير المهتمين إلى الدهشة والاستغراب.
والذي نحبذه هو أنه يجب على المشرع ــ متى أتيحت له فرصة إعادة النظر في بعض أحكام مدونة الأحوال الشخصية ــ أن يتصل بالمهتمين بالميدان الطبي أو أن يستصدر فتوى من هيئة متخصصة وطنية أو دولية، لتوضح لنا هل الخبرة في ميدان النسب إثباتا ونفيا، هي مسألة مبنية على اليقين أو على مجرد الاحتمال بحيث نأخذ بها ونقننها في الحالة الأولى ونستبعدها في الحالة الثانية ذلك أن تجاهل ما حققه الطب من معجزات في القرن الذي نعيش فيه خطأ لا يغتفر أبدا.
إن وظـيفـة القـاضي تتمثل في فضه للـنزاعـات بين الخـصوم بكـيفـية عـادلـة، ولن يتأتى له ذلك إلا بوقوفه على حقيقة ما يدعيه كل خصم أو لا  وقبل كل شيء، ومتى ظهرت وسيلة جديدة تعيننا على الوصول إلى الحقيقة ــ وهي مناط العـدالة ــ لما صح لنا تجاهلها اعتمادا على أن الفقه الإسلامي لم يسبق له أن أخذ بها، لأن موقفا كهذا يضر بهذا الفقه ولا يخدمه في شيء.
ثم كيف يعقل أن يأخذ الفقه الإسلامي بالقيافة ــ وهي مجرد فراسة لا غير ــ ولا يأخذ بالخبرة الطبية المتخصصة في مسألة إثبات النسب ونفيه في الوقت الراهن ؟ ومن البديهي أن العلم قد قطع أشواطا كبيرة في هذا المجال [86].  
*  تعليق الأستاذ أحمد الخمليشي على هذا القرار:
إن ما ورد في هذا القرار يبدو محل مناقشة، فقد جاء في مدونة الإمام مالك: « قلت هل يلزم الخصي أو المجبوب الولد إذا جاءت به امرأته ؟ قال: سئل مالك عن الخصي هل يلزمه الولد، قال: قال مالك أرى أن يسأل أهل المعرفة بذلك، فإن كان يولد لمثله لزمه الولد، و إلا لم يلزمه ». ألحق فقهاء المذهب المالكي بالخصي العاهات والعيوب الخلقية الأخرى في الجهاز التناسلي التي يشكك في تأثيرها على القدرة الإنجابية لدى الرجل، والعيوب الظاهرة للجهاز التناسلي هي التي كان يمكن أن يثار الجدل بشأنها، أما العيوب الداخلية فلم يكن في الامكان التعرف عليها.
والإمام مالك قال إن المرجع هو (أهل المعرفة) ومن فقهاء المذهب من رأى أن أهل المعرفة هم النساء على اعتبار أنهن عن طريق التجربة أدرى بالموضوع بينما رأى البعض الآخر أن الحق هو سؤال أهل المعرفة كحذاق الأطباء إذ لا معنى لسؤال النساء في مثل هذا كما هو معلوم ضرورة.
وإذا كان هذا هو موقف الفقه في اعتماد الخبرة القائمة على مجرد التجربة الظاهرية والمحدودة بطبيعتها، يكون من الصعب القول بأن التحليل الطبي في وقتنا الحاضر ليس من الوسائل (الشرعية) لنفي النسب، والحال أن هذا التحليل ــ عكس خبرة أهل المعرفة المتحدث عنها في الفقه ــ يقوم على وسائل علمية يقينية [87] .
ومن خلال التعليقين أعلاه، يظهر لنا أن المشرع المغربي كان يجانب الصواب حينما كان يغض الطرف عن الخبرة الطبية كوسيلة يعتمد عليها لإثبات أو نفي النسب، خصوصا أمام قوة الحجج الفقهية والمنطقية التي أيد بها الفقيهين رأيهما حول مسألة اعتماد الخبرة الطبية لإثبات أو نفي النسب، سيرا على خطى أغلب الفقه أنذاك، فيما يتعلق بموضوعنا.
لكن الشرط الأساسي الذي يجـب على القـضاء الحـفـاظ عـليه اليـوم لقـبـول الخـبـرة الطبية ــ بعـد أن أصبح يقـبل بهـا بـعـد صدور مـدونة الأسـرة الجـديـدة شريطة صدورها بأمـر قـضائـي ــ هـو اقـتـنـاع القـاضي واطمئنانه إلى صحـة ما ورد فيها تحـليلا واستـنتـاجـا، ولذلـك لا تقـبـل الشهـادة الطبية بالعـقـم دون بيـان أسبابه والوسائـل المستعملة للتعرف على هذه الأسباب، وما يؤكد وجود العقم وقت نشوء الحمل موضوع النزاع، لكن يـبقـى التحـليـل المنجـز عـلى البصمات الـوراثية
les empreintes génétiques) ) هو الذي يثبت بصفة يقينية وجود أو عدم وجود العلاقة البيولوجية بين الشخصين اللذين يجرى عليهما، لذلك من المنطقي ودرءا للشك والشبهات، أن يقوم القاضي باستبعاد الشهادة الطبية، التي تثبت العقـم
وتعويضها بالتحليل المنجز على البصمات الوراثية أو ما يسمى بالخبرة الجينية نظرا لنتائجها الحتمية والتي أصبح القضاء المغربي يعتمد عليها حيث جاء في حكم المحكمة الابتدائية بسيدي بنور: « وحيث إن ادعاء المدعى عليه بكون الحمل ليس منه وأن المولود (م) ليس ابنه يبقى مجردا لعلة أن المدعى عليه كان على علم بالحمل أثناء إبرام عقد الزواج، وسكوته على ذلك دون سلوك مسطرة نفي النسب عنه يعتبر إقرارا ضمنيا منه بالحمل. وحيث إن المحكمة ودرءا لكل شك بين الزوجين ارتأت إجراء خبرة جينية بين الابن (م) والمدعى عليه (خ.خ) عهد القيام بها للمختبر الوطني للشرطة العلمية الذي أفاد في تقريره على أن الابن (م) هو ابن المسمى (خ.خ) لثبوت بنوة الطفل بنسبة تفوق 99.99 في المائة » [88] .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم