السبت، 2 مارس 2013

الأحكام الشرعية للعلاقات الاجتماعية بين المسلمين و غيرهم من أهل الديانات الأخرى " الزواج المختلط نموذجا "


الدكتور علي أبولعكيك
مما لا شك فيه أن المرأة المسلمة اليوم أصبحت تواجه من تحديات الحياة أمرها و أقساها. و من صور هذه التحديات المنافسة الشديدة من قبل المرأة الأوروبية في اختطاف أبناء المسلمين و احتضانهم في بيئتها و استغلالهم جنسيا دون ضابط شرعي أو أخلاقي ، و مرد ذلك في نظرنا إلى تدهور الحياة الاقتصادية في عدد من البلدان الإسلامية خاصة الإفريقية منها ، إلى جانب ضعف الشعور الإسلامي في النفوس، و تحكم الجانب المادي في السلوك ، و الإعجاب ببريق الحضارة الأوروبية المادية ، و كذلك الحرية الفردية و الديمقراطية ، و تطبيق حقوق الإنسان في الواقع. وإن المأساة الإنسانية التي تعيشها الجالية الإسلامية في أوروبا في ميدان العلاقات الاجتماعية و نظام الأسرة منها على الخصوص ، تزداد يوما تعد يوم و تتفاقم ، و صورها تكاد لا تنحصر : فمن الزواج المختلط ، إلى الزواج المصلحي إلى الزواج الأبيض إلى غير ذلك من أنواع الزواج الفاسد .
و هكذا يقبل الشباب الإسلامي اليوم على أنواع من العلاقات الاجتماعية ، منها ما هو مقبول شرعا مع كثير من التحفظات عليها ، و منها ما يرفضه الشرع الإسلامي و يحرمه بتاتا لما فيه من أضرار و خطورة على حياة الفرد و المجتمع.
و إذا كانت العوامل الاقتصادية تضغط على كثير من الشباب المسلم ، فيجنح إلى ربط علاقات آثمة مع يهودية أو نصرانية أو مشركة أو وثنية ، فإنه يحق للواحد منا أن يسأل أو يتساءل عن موقف الإسلام من ذلك في إطار النظرة الشمولية للإسلام ، للكون و الإنسان و الحياة بصرف النظر عن جنسه و لونه و معتقده[1].
و إذا كانت السنوات الأخيرة من القرن العشرين تطفح بكثير من الأنشطة الثقافية و العلمية الداعية إلى تقارب الشعوب و الدول و ترسيخ دعائم التسامح بين الملل و الديانات ، فإنه منا لاشك فيه ؛ أن العوامل السياسية لها النصيب الأوفر في عقد الكثير من اللقاءات الدولية ، و لعل مرد ذلك في تقديرنا يرجع إلى القلق المتزايد الذي أصيبت به بعض الأوساط السياسية العالمية من جراء تصاعد موجات الإرهاب و العنف الذي تقوم به الصهيونية العالمية و تنسبه إلى بعض الطوائف الإسلامية البريئة التي اغتصب الصهاينة أرضها و حرموها من حقها في العيش في وطنها السليب ، و ما كان لهذا الانحراف أو التطرف أن ينمو و يتصاعد لو عرف الحكماء و المفكرون و القادة السياسيون المسلمون كيف يحتوونه و يصححون مساره ، فيتحقق بذلك السلام و الأمن و الاستقرار على أرض الواقع ، و تحيى من جديد بذور المحبة و الأخوة بين الإنسان وأخيه الإنسان بصرف النظر عن دينه و جنسه و لونه ، فيتحقق بذلك التعايش بين الإنسان و أخيه الإنسان ، و ذلك من خلال علاقته بمختلف أهل الديانات و الملل و النحل ، سواء كانت علاقة اجتماعية أم دينية أم سياسية أم فكرية. هذا الإطار العام الذي ينبغي أن تتخذه اليوم نموذجا أمثل لكل لقاء و حوار هادئ ، لاسيما في ظل هذه التحولات السريعة و المدهشة التي يعيشها عالمنا المعاصر ، الذي أصبحت فيه العالمية هي السمة المميزة للحضارة المعاصرة.
إن كل لقاء بين المسلمين و غيرهم داخل ديار الإسلام أو خارجها ، حيث الجاليات الإسلامية في ديار غير ديار الإسلام ، لابد  له أن يخضع لمنهج الإسلام و أحكامه و تصوراته الخاصة في التعامل الإنساني بين الشعوب و الدول ، على اعتبار أن الدعوة الإسلامية دعوة عامة وشاملة ، تتعايش في ظلها كل الأجناس البشرية ، لأنها دعوة بقوم و تنهض على الحكمة و الموعظة الحسنة ، كما قال الله عز و جل : " أدع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن "[2] . و هو نفس المنهج الذي ينبغي أن يسلكه المسلمون اليوم مع اليهود و النصارى ، سواء داخل ديار الإسلام أو خارجها ، مع مراعاة ما جاء في الكتاب و السنة. " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ، ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بغضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولوا فقالوا اشهدوا بأنا مسلمون " [3]. ومع استحضار قوله تعالى : " و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم"[4].
و إذا كانت هذه نظرة الإسلام لليهود و النصارى ، و هي بلا شك نظرة اعتبار و تقدير و أمن و أمان سواء داخل ديار الإسلام أو خارجها ، فإن نظرة أهل الذمة للمسلمين لا ترقى إلى هذا المستوى الإسلامي ، و إنما تظل حبيسة بين جدران الكراهية و الحقد و العنصرية ، كما يصرح بذلك مفكروهم و علماؤهم. يقول آدم متز : " إن أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية وبين أوروبا التي كانت كلها على المسيحية في العصور الوسطى ، وجود عدد هائل من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين و أولئك هم "أهل الذمة" الذين كان وجودهم من أهل الأمر حائلا بين شعوب الإسلام وبين تكوين وحدة سياسية ، و قد ظلت كنائس اليهود و النصارى و أديرتهم أجزاء غريبة ، و استند أهل الذمة إلى ما كان بينهم و بين المسلمين من عهود ، و ما منحوه من حقوق فلم يرضوا بالاندماج في المسلمين ، و قد حرص اليهود و النصارى على أن تظل "دار الإسلام" دائما غير تامة التكوين ، حتى إن المسلمين ظلوا دائما يشعرون أنهم أجانب منتصرون لا أهل وطن ، و حتى إن الفكرة الإقطاعية لم تمت ، بل كان وجود النصارى بين المسلمين سببا لظهور مبادئ التسامح التي ينادي بها المصلحون المحدثون ، و كانت الحاجة إلى المعيشة المشتركة و ما ينبغي أن يكون فيها من وفاق ، مما أوجد من أول الأمر نوعا من التسامح الذي لم يكن معروفا في أوروبا في العصور الوسطى ، و مظهر هذا التسامح نشوء علم مقارنة الأديان : أي دراسة الملل و النحل على اختلافها ، و الإقبال على هذا العلم بشغف "[5].
و لعل هذا النص يعبر عن نظرة الضيقة التي ينظرها المسيحيون للمسلمين ، فإذا كنا نجد فيه من جانب اعترافا ضمنيا بما يكنه الإسلام من احترام و تقديس و اعتبار لأهل الذمة داخل الدولة الإسلامية أو خارجها ، فإننا نجد فيه من جانب آخر نظرة الكراهية و الحقد التي يعكسها سلوك اليهود و النصارى بالنسبة للمسلمين في كل مكان.
فإذا كان الإسلام يبيح للمسلمين معاشرة أهل الكتاب في أكل ذبائحهم و التزوج ببناتهم ، فإن الدين المسيحي لم يكن يبيح للمسلم الزواج بالنصرانية سواء كانت ذات كتاب أم لا. يقول الأستاذ آدم متز : " ولم يكن ثمة تزاوج بين المسلمين و غير المسلمين ، و ذلك لأن القانون المسيحي لم يكن يجيز للمرأة النصرانية أن تتزوج بغير نصراني لئلا تنتقل هي و أولادها إلى غير المذهب ، و لا كان يجوز للنصراني بحسب قانون الكنيسة أن يتزوج بغير نصرانية الإرجاء إدخالها هي و أولادها في النصرانية ، أما زواج المسيحي من مسلمة فكان مستحيلا ، على أنه كان في الدولة الإسلامية ما يضمن لكل ديانة من ديانات أهل الذمة كيانها الخاص "[6].
و الحقيقة التاريخية التي لا يتجادل فيها اثنان ، و تبقى غرة في جبين التاريخ الإنساني و الحضاري ، أن الإسلام من خلال نصوص الكتاب و السنة لا يتوانى لحظة واحدة عند سعيه لإقامة علاقات طيبة مع غير المسلمين ، لتحقيق التعاون البناء في سبيل الخير و العدل و البر و الأمن و حماية الحرمات و غير ذلك[7].
يقول سيد قطب عند تعرضه لتفسير الآية الخامسة من سورة المائدة : " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، و طعامكم حل لهم ، و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين و لا متخذي أخذان. و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله و هو في الآخرة من الخاسرين". و هنا نطالع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية في التعامل مع غير المسلمين ، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي في دار الإسلام ، أو تربطهم به روابط الذمة و العهد من أهل الكتاب ، أن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية ، ثم يعتز لهم فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين ، معزولين منبوذين ، إنما يشملون بجو من المشاركة الاجتماعية و المودة و المجاملة و الخلطة. فيجعل طعامهم حلالا للمسلمين ، و طعام المسلمين حلال لهم كذلك ، ليتم التزاور و التضايف و المؤاكلة و المشاربة ، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة ، و كذلك يجعل العفيفات من نسائهم ، و هن المحصنات بمعنى العفيفات من الحرائر ، طيبات للمسلمين ، و يقرن ذكرهم بذكر الحرائر من العفيفات من المسلمين ، و هي سماحة لم يشعر بها إلى أتباع الإسلام من بين سائر الديانات و النحل.
و هكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي ، لا عزلة فيه بين المسلمين و أصحاب الديانات الكتابية ، و لا حواجز بين الأصحاب بالعشرة و السلوك[8].
و نظرا لما تكتسيه العلاقات الاجتماعية من أهمية خاصة ، فقد أولاها الإسلام عناية فائقة ، و تنظيما دقيقا ، و لم يتركها لأهواء الناس تفعل بها ما تشاء إرضاء للنزوات و الشهوات ، التي أحاطتها أحكام الشريعة بكثير من الضمانات التي تحفظ العرض و النسل ، فقد حرم الإسلام كل علاقة غير شرعية بين الذكر والأنثى ، سواء تعلق الأمر بين المسلمين و المسلمات أو بين المسلمين و غيرهم من أهل الكتاب. و وضع لهذه العلاقات الاجتماعية ضوابط شرعية تحفظ المجتمع من الفساد و الانحلال ، الذي يؤدي حتما إلى كثير من الأمراض الاجتماعية التي يشكو منها العالم اليوم ، فمن ذلك الأحكام الشرعية المتعلقة بالزواج بين المسلم و غير المسلمة أي بالكتابية ، و هو ما يسميه التشريع الوضعي المعاصر "بالزواج المختلط" ، هذا المصطلح الدخيل لا وجود له في كتب الفقه المعتمدة. فما هو الزواج المختلط ؟ وما ها هي النصوص الشرعية التي تحكمه ؟
يقصد بالزواج المختلط ، الزواج الذي يكون أحد طرفيه معربي الجنسية و طرفه الثاني أجنبيا يحمل جنسية  بلد آخر ، فيكون من حقها إبرام عقد زواجهما بالمغرب ، ما دام هذا العقد ليس ممنوعا  في نظر قانون الأحوال الشخصية للزواج المغربي ، و الجدير بالذكر أن المشروع المغربي نظم كيفية الإشهاد على هذا الزواج بظهير 4 مارس 1960.
حيث نص في المادة الأولى منه على ما يلي :
" إن الأنكحة بين المغاربة و الأجنبيات من جهة ، و المغربيات و الأجانب من جهة أخرى إذا لم تكن ممنوعة في قانون الأحوال الشخصية الجاري على الزوج المغربي ، يجوز أن يقوم بمراسيم انعقادها بطلب من الزوج ضابط الحالة المدينة وفقا لمقتضيات ظهير 4 شتنبر 1915 ".
غير أن المشرع علق هذا الزواج المختلط الذي يبرمه ضابط الحالة المدنية على ضرورة الإشهاد عليه مسبقا من طرف عدلين وفقا للمدونة و لأن أحد طرفيه مغربي ، و هذا ما نصت عليه المادة الثانية من ظهير 4 مارس 1960 بقولها :
" إن انعقاد النكاح حسب صيغة الحالة المدنية يتوقف مع ذلك كله على سابق الإشهاد به طبق الشروط المنصوص عليها من حيث الجوهر و الصيغة في قانون الأحوال الشخصية الجاري على الزوج المغربي ".
و يتضح من خلال ما سبق أن إشهاد ضابط الحالة المدنية إذا كان يكفي لانعقاد الزواج المختلط بالنسبة للزوج الأجنبي ، فإنه لا يكفي بالنسبة للزوج المغربي ، بل لابد فيه من إشهاد عدلين ليكون ذلك الزواج منعقدا بالنسبة له [9] ، هذا هو الزواج المختلط بصورة مجملة كما ينص على ذلك التشريع المغربي.
و إن ظاهرة زواج المسلم بغير المسلمة أو الكتابية ، ظاهرة ليست جديدة و لا غريبة على المجتمع الإسلامي ، بل ظاهرة قديمة و متجذرة في التاريخ الإسلامي ، فلقد سجل هذا التاريخ و منذ العصر الراشدي زواج بعض الصحابة من الكتابيات ، فقد تزوج سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة الكلبية و هي نصرانية أسلمت عنده ، و تزوج حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يهودية من أخل المدائن ، وسئل جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن نكاح المسلم اليهودية و النصرانية فقال : تزوجنا بهن زمان الفتح بالكوفة مع سعد بن أبي وقاص[10] . غير أن هذه الظاهرة كادت تختفي في الأعصر الإسلامية المتأخرة ، ولكنها ظهرت من جديد و بشكل خطير يدعو إلى كثير من الاندهاش و بدون مراعاة للضوابط الشرعية التي تضبط العلاقات الاجتماعية بين المسلمين و غيرهم من أهل الديانات الأخرى ، و لقد تفشت بكثير في القرن العشرين في صفوف الجالية الإسلامية خاصة بأوروبا و كندا  و الولايات المتحدة ، و اتخذت صورا وأشكالا مختلفة بعيدة كل البعد عن الأحكام الشرعية التي نظمتها و أعطتها ما تستحق من العناية والدرس.
فقد أجمع العلماء على إباحة الزواج بالكتابية يهودية كانت أم نصرانية سندهم في ذلك قول الله عز وجل : " اليوم أحل لكم الطيبات و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم و طعامكم حل لهم و المحصنات من المومنات ، و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين و لا متخذي أخذان ، و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله و هو في الآخرة من الخاسرين "[11].
و المراد بالمحصنات في هذه الآية العفائف كما ذهب إلى ذلك جمع من السلف منهم الحسن والشعبي و إبراهيم و السدي و غيرهم [12].
 و روى عن أبي نجيح عن مجاهد أن المراد بالمحصنات في الآية الحرائر ، و لهذا حكى ابن رشد إجماع الصحابة بالكتابية الحرة إلا ما كان من ابن عمر [13].
فقد سئل عن نكاح اليهودية و النصرانية ، فقال : " إن الله حرم المشركات على المسلمين ، و لا أعلم من الشرك شيئا أعظم من أن تقول ربها عيسى ابن مريم ، و هو عبيد الله "[14]. فعن ميمون بن مهران أنه قال : قلت لابن عمر : إنا بأرض يخالطنا فيها أهل الكتاب ، أفننكح نساءهم و نأكل طعامهن ؟ قال : فقرأ علي آية التحليل و آية التحريم ، قال : قلت : إني أقرأ ما تقرأ. أفننكح نساءهم و نأكل طعامهن ؟ قال : فأعاد علي أية التحليل و آية التحريم ، و يعني بآية التحليل : " و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "[15] و بآية التحريم : " و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن "[16].
و معلوم أن ابن عمر كان من المتوقفين ، فلما رأى الآيتين في نظامهما إحداها تقتضي التحليل والأخرى تقتضي التحريم ، توقف و لم يقطع بإباحة.
و عليه ، فآية التحليل يقصد بها حمل الناس على التزوج بالعفائف لما فيه من تحقيق الود و الألفة بين الزوجين و إشاعة السكون و الاطمئنان.
و لعل السبب في إباحة الزواج بالكتابية بعكس المشركة ، هو أنها تلتقي مع المسلم في الإيمان ببعض المبادئ الإسلامية ، من الاعتراف بالإله و الإيمان بالرسل و باليوم الآخر و ما فيه من حساب و عقاب ، فوجود نواحي الالتقاء و جسور الاتصال على هذه الأسس ، يضمن توفير حياة زوجية مستقيمة غالبا ، ويرجى إسلامها لأنها تؤمن بكتب الأنبياء و الرسل في الجملة.
و الحكمة في كون المسلم يتزوج بالكتابية دون العكس ، هي أن المسلم يومن بكل الرسل و الأديان في أصولها الصحيحة الأولى ، و هذا لا يشكل خطرا على عقيدة زوجته أو على مشاعرها ، أما غير المسلم فلا يؤمن بالإسلام ، و في هذا خطر كبير على عقيدة زوجته و على الأولاد [17].
و معلوم أن مدونة الأسرة نصت في فقرتها الرابعة من المادة 39 على منع زواج المسلمة بغير المسلم، و المسلم بغير المسلمة ما لم تكن كتابية ، و اعتبرته من الموانع المؤقتة ، فإذا اعتنق الإسلام ارتفع المانع ، و جاز لها التزوج به. أما إذا كان مشركا أو وثنيا أو كتابيا ، فإنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج منه بإجماع الفقهاء عملا بقوله تعالى : " و لا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ، و لعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ، أولئك يدعون إلى النار و الله يدعو إلى الجنة و المغفرة بإذنه "[18]. و بقوله تعالى أيضا : " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهم ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن"[19].
قال الجصاص في قوله تعالى : " فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم لا يحلون لهن " في هذه الآية ضروب من الدلالة على وقوع الفرقة باختلاف الدارين بين الزوجين ، أي أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الحرب و الآخر من أهل دار الإسلام ، و ذلك لأن المهاجرة إلى دار الإسلام قد صارت من أهل الإسلام ، وزوجها باق على كفره من أهل دار الحرب ، فقد اختلفت بهما الدار ، وحكم الله بوقوع الفرقة بينهما ، بقوله : " فلا ترجعوهن إلى الكفار" ، و لو كانت الزوجية باقية لكان الزواج أولى بها بأن تكون معه حيث أراد ، كما يدل عليه قوله : " و آتوهم ما أنفقوا " ، لأنه أمر برد مهرها على الزوج ، و لو كانت الزوجية باقية لما استحق الزوج رد المهر ، لأنه لا يجوز أن يستحق البضع و بذله ، كما يدل عليه قوله تعالى : " ولا جناح علنكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن " ، فلو كان النكاح الأول باقيا لما جاز لها أن تتزوج كما يدل عليه أيضا قوله تعالى : " و لا تمسكوا بعصم الكوافر". و العصمة : المنع ، فنهانا أن تمتنع من تزويجها لأجل زوجها الحربي[20].
أما إذا كان الزوجان مسلمين و ارتد أحدهما عن الإسلام إلى دين سماوي آخر ، فالمشهور ي مذهب مالك أنه يفرق بينهما بطلاق بائن ، سواء كانت الردة من الزوج أو من الزوجة ، قبل الدخول أو بعده ، بل حتى و لو بدلت المسلمة دينها الإسلامي بالمسيحية أو اليهودية ، لأن من ارتد عن دينه اعتبر عديم الملة و الدين[21]. فإذا كان قصدها الردة هو الوصول إلى الطلاق فإنها لا تجاب إليه ، معاملة لها بنقيض قصدها.
و مجمل القول و محتواه عن الأحكام الشرعية التي تنظم العلاقات بين المسلمين و غيرهم من أهل الكتاب ، خاصة في باب الزواج بالكتابيات ، أن الآية القرآنية التي استند عليها الفقهاء في هذه المسألة ، هي الآية الخامسة من سورة المائدة ، هذه الآية التي تبيح بشكل صريح زواج المسلم بالكتابية ، لكن بشرطين أساسيين :
الشرط الأول : تحقيق العفة في كل من الأزواج و الزوجات ، و هذا الشرط هو المعبر عنه في الآية بالمحصنات بالنسبة إلى الزوجات ، وبمحصنين غير مسافحين و لا متخذي أخذان إلى الأزواج.
الشرط الثاني : خاص بالأزواج ، و يتجلى في المهور التي يجب عليهم دفعها إلى اللائي أرادوا التزوج بهن من حرائر الكتابيات العفيفات ، و غيرهم من حرائر المسلمات العفيفات اللائي ساهمن في تكوين الأسرة المسلمة ، التي مدت المجتمع بالنشء الصالح ، الذي بنى الحضارة الإسلامية التي استمدت قوتها وروحها من التوابث الإسلامية ، التي ظلت قائمة في وجه الزحف الصليبي و الصهيوني. و التي أقامها الإسلام على أساس من كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم.
و صدق الله العظيم القائل في محكم كتابه : " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء "[22].
د. علي أبولعكيك



[1]  - انظر في ظلال القرآن للسيد قطب ، ج7/143
[2]  - سورة النحل ، الآية : 125
[3]  - سورة آل عمران ، الآية : 64
[4]  - سورة البقرة ، الآية : 120
[5]  - الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ، ج1/75
[6]  - الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ، ج1/77
[7]  - وهبة الزحيلي ، الفقه الإسلامي و أدلته ، ج9/941
[8]  - في ظلال القرآن ، 2/92
[9]  - لحسن الخضيري : الوجيز في أحكام الزواج ، ص : 169
[10] - وهبة الزحيلي : الفقه الإسلامي و أدلته ، ج7/153
[11]  - سورة المائدة ، الآية : 5
[12]  - الجصاص : أحكام القرآن ، ج2/459
[13]  - بداية المجتهد ، ج2/33
[14]  - أحكام القرآن للجصاص ، ج2/460 ، ابن حجر فتح الباري ، ج1/522
[15]  - سورة المائدة ، الآية : 5
[16]  - سورة البقرة ، الآية : 221
[17]  - الفقه الإسلامي و أدلته ، ج7/153
[18]  - سورة البقرة ، الآية : 221
[19]  - سورة الممتحنة ، الآية : 10
[20]  - أحكام القرآن ، ج3/654
[21]  - الجزيري : الفقه على المذاهب الأربعة ، ص 226
[22]  - سورة النساء ، الآية : 1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم