الدكتور علي أبولعكيك
مما لا شك فيه أن المرأة المسلمة اليوم أصبحت تواجه من
تحديات الحياة أمرها و أقساها. و من صور هذه التحديات المنافسة الشديدة من قبل
المرأة الأوروبية في اختطاف أبناء المسلمين و احتضانهم في بيئتها و استغلالهم
جنسيا دون ضابط شرعي أو أخلاقي ، و مرد ذلك في نظرنا إلى تدهور الحياة الاقتصادية
في عدد من البلدان الإسلامية خاصة الإفريقية منها ، إلى جانب ضعف الشعور الإسلامي
في النفوس، و تحكم الجانب المادي في السلوك ، و الإعجاب ببريق الحضارة الأوروبية
المادية ، و كذلك الحرية الفردية و الديمقراطية ، و تطبيق حقوق الإنسان في الواقع.
وإن المأساة الإنسانية التي تعيشها الجالية الإسلامية في أوروبا في ميدان العلاقات
الاجتماعية و نظام الأسرة منها على الخصوص ، تزداد يوما تعد يوم و تتفاقم ، و
صورها تكاد لا تنحصر : فمن الزواج المختلط ، إلى الزواج المصلحي إلى الزواج الأبيض
إلى غير ذلك من أنواع الزواج الفاسد .
و هكذا يقبل الشباب الإسلامي اليوم على أنواع من العلاقات
الاجتماعية ، منها ما هو مقبول شرعا مع كثير من التحفظات عليها ، و منها ما يرفضه
الشرع الإسلامي و يحرمه بتاتا لما فيه من أضرار و خطورة على حياة الفرد و المجتمع.
و إذا كانت العوامل الاقتصادية تضغط على كثير من الشباب
المسلم ، فيجنح إلى ربط علاقات آثمة مع يهودية أو نصرانية أو مشركة أو وثنية ،
فإنه يحق للواحد منا أن يسأل أو يتساءل عن موقف الإسلام من ذلك في إطار النظرة
الشمولية للإسلام ، للكون و الإنسان و الحياة بصرف النظر عن جنسه و لونه و معتقده[1].
و إذا كانت السنوات الأخيرة من القرن العشرين تطفح بكثير
من الأنشطة الثقافية و العلمية الداعية إلى تقارب الشعوب و الدول و ترسيخ دعائم
التسامح بين الملل و الديانات ، فإنه منا لاشك فيه ؛ أن العوامل السياسية لها النصيب
الأوفر في عقد الكثير من اللقاءات الدولية ، و لعل مرد ذلك في تقديرنا يرجع إلى
القلق المتزايد الذي أصيبت به بعض الأوساط السياسية العالمية من جراء تصاعد موجات
الإرهاب و العنف الذي تقوم به الصهيونية العالمية و تنسبه إلى بعض الطوائف
الإسلامية البريئة التي اغتصب الصهاينة أرضها و حرموها من حقها في العيش في وطنها
السليب ، و ما كان لهذا الانحراف أو التطرف أن ينمو و يتصاعد لو عرف الحكماء و
المفكرون و القادة السياسيون المسلمون كيف يحتوونه و يصححون مساره ، فيتحقق بذلك
السلام و الأمن و الاستقرار على أرض الواقع ، و تحيى من جديد بذور المحبة و الأخوة
بين الإنسان وأخيه الإنسان بصرف النظر عن دينه و جنسه و لونه ، فيتحقق بذلك
التعايش بين الإنسان و أخيه الإنسان ، و ذلك من خلال علاقته بمختلف أهل الديانات و
الملل و النحل ، سواء كانت علاقة اجتماعية أم دينية أم سياسية أم فكرية. هذا
الإطار العام الذي ينبغي أن تتخذه اليوم نموذجا أمثل لكل لقاء و حوار هادئ ،
لاسيما في ظل هذه التحولات السريعة و المدهشة التي يعيشها عالمنا المعاصر ، الذي
أصبحت فيه العالمية هي السمة المميزة للحضارة المعاصرة.
إن كل لقاء بين المسلمين و غيرهم داخل ديار الإسلام أو خارجها
، حيث الجاليات الإسلامية في ديار غير ديار الإسلام ، لابد له أن يخضع لمنهج الإسلام و أحكامه و تصوراته
الخاصة في التعامل الإنساني بين الشعوب و الدول ، على اعتبار أن الدعوة الإسلامية
دعوة عامة وشاملة ، تتعايش في ظلها كل الأجناس البشرية ، لأنها دعوة بقوم و تنهض
على الحكمة و الموعظة الحسنة ، كما قال الله عز و جل : " أدع إلى سبيل ربك
بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن "[2]
. و هو نفس المنهج الذي ينبغي أن يسلكه المسلمون اليوم مع اليهود و النصارى ، سواء
داخل ديار الإسلام أو خارجها ، مع مراعاة ما جاء في الكتاب و السنة. " قل يا أهل الكتاب
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ، ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا
يتخذ بغضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولوا فقالوا اشهدوا بأنا مسلمون
" [3].
ومع استحضار قوله تعالى : " و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع
ملتهم"[4].
و إذا كانت هذه نظرة الإسلام لليهود و النصارى ، و هي
بلا شك نظرة اعتبار و تقدير و أمن و أمان سواء داخل ديار الإسلام أو خارجها ، فإن
نظرة أهل الذمة للمسلمين لا ترقى إلى هذا المستوى الإسلامي ، و إنما تظل حبيسة بين
جدران الكراهية و الحقد و العنصرية ، كما يصرح بذلك مفكروهم و علماؤهم. يقول آدم
متز : " إن أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية وبين أوروبا التي كانت كلها
على المسيحية في العصور الوسطى ، وجود عدد هائل من أهل الديانات الأخرى بين
المسلمين و أولئك هم "أهل الذمة" الذين كان وجودهم من أهل الأمر حائلا
بين شعوب الإسلام وبين تكوين وحدة سياسية ، و قد ظلت كنائس اليهود و النصارى و
أديرتهم أجزاء غريبة ، و استند أهل الذمة إلى ما كان بينهم و بين المسلمين من عهود
، و ما منحوه من حقوق فلم يرضوا بالاندماج في المسلمين ، و قد حرص اليهود و
النصارى على أن تظل "دار الإسلام" دائما غير تامة التكوين ، حتى إن
المسلمين ظلوا دائما يشعرون أنهم أجانب منتصرون لا أهل وطن ، و حتى إن الفكرة
الإقطاعية لم تمت ، بل كان وجود النصارى بين المسلمين سببا لظهور مبادئ التسامح
التي ينادي بها المصلحون المحدثون ، و كانت الحاجة إلى المعيشة المشتركة و ما
ينبغي أن يكون فيها من وفاق ، مما أوجد من أول الأمر نوعا من التسامح الذي لم يكن
معروفا في أوروبا في العصور الوسطى ، و مظهر هذا التسامح نشوء علم مقارنة الأديان
: أي دراسة الملل و النحل على اختلافها ، و الإقبال على هذا العلم بشغف "[5].
و لعل هذا النص يعبر عن نظرة الضيقة التي ينظرها
المسيحيون للمسلمين ، فإذا كنا نجد فيه من جانب اعترافا ضمنيا بما يكنه الإسلام من
احترام و تقديس و اعتبار لأهل الذمة داخل الدولة الإسلامية أو خارجها ، فإننا نجد
فيه من جانب آخر نظرة الكراهية و الحقد التي يعكسها سلوك اليهود و النصارى بالنسبة
للمسلمين في كل مكان.
فإذا كان الإسلام يبيح للمسلمين معاشرة أهل الكتاب في
أكل ذبائحهم و التزوج ببناتهم ، فإن الدين المسيحي لم يكن يبيح للمسلم الزواج
بالنصرانية سواء كانت ذات كتاب أم لا. يقول الأستاذ آدم متز : " ولم يكن ثمة
تزاوج بين المسلمين و غير المسلمين ، و ذلك لأن القانون المسيحي لم يكن يجيز
للمرأة النصرانية أن تتزوج بغير نصراني لئلا تنتقل هي و أولادها إلى غير المذهب ،
و لا كان يجوز للنصراني بحسب قانون الكنيسة أن يتزوج بغير نصرانية الإرجاء إدخالها
هي و أولادها في النصرانية ، أما زواج المسيحي من مسلمة فكان مستحيلا ، على أنه
كان في الدولة الإسلامية ما يضمن لكل ديانة من ديانات أهل الذمة كيانها الخاص
"[6].
و الحقيقة التاريخية التي لا يتجادل فيها اثنان ، و تبقى
غرة في جبين التاريخ الإنساني و الحضاري ، أن الإسلام من خلال نصوص الكتاب و السنة
لا يتوانى لحظة واحدة عند سعيه لإقامة علاقات طيبة مع غير المسلمين ، لتحقيق
التعاون البناء في سبيل الخير و العدل و البر و الأمن و حماية الحرمات و غير ذلك[7].
يقول سيد قطب عند تعرضه لتفسير الآية الخامسة من سورة
المائدة : " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، و طعامكم
حل لهم ، و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، إذا
آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين و لا متخذي أخذان. و من يكفر بالإيمان
فقد حبط عمله و هو في الآخرة من الخاسرين". و هنا نطالع على صفحة من
صفحات السماحة الإسلامية في التعامل مع غير المسلمين ، ممن يعيشون في المجتمع
الإسلامي في دار الإسلام ، أو تربطهم به روابط الذمة و العهد من أهل الكتاب ، أن
الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية ، ثم يعتز لهم فيصبحوا في المجتمع
الإسلامي مجفوين ، معزولين منبوذين ، إنما يشملون بجو من المشاركة الاجتماعية و
المودة و المجاملة و الخلطة. فيجعل طعامهم حلالا للمسلمين ، و طعام المسلمين حلال
لهم كذلك ، ليتم التزاور و التضايف و المؤاكلة و المشاربة ، وليظل المجتمع كله في ظل
المودة والسماحة ، و كذلك يجعل العفيفات من نسائهم ، و هن المحصنات بمعنى العفيفات
من الحرائر ، طيبات للمسلمين ، و يقرن ذكرهم بذكر الحرائر من العفيفات من المسلمين
، و هي سماحة لم يشعر بها إلى أتباع الإسلام من بين سائر الديانات و النحل.
و هكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح
بقيام مجتمع عالمي ، لا عزلة فيه بين المسلمين و أصحاب الديانات الكتابية ، و لا
حواجز بين الأصحاب بالعشرة و السلوك[8].
و نظرا لما تكتسيه العلاقات الاجتماعية من أهمية خاصة ،
فقد أولاها الإسلام عناية فائقة ، و تنظيما دقيقا ، و لم يتركها لأهواء الناس تفعل
بها ما تشاء إرضاء للنزوات و الشهوات ، التي أحاطتها أحكام الشريعة بكثير من
الضمانات التي تحفظ العرض و النسل ، فقد حرم الإسلام كل علاقة غير شرعية بين الذكر
والأنثى ، سواء تعلق الأمر بين المسلمين و المسلمات أو بين المسلمين و غيرهم من
أهل الكتاب. و وضع لهذه العلاقات الاجتماعية ضوابط شرعية تحفظ المجتمع من الفساد و
الانحلال ، الذي يؤدي حتما إلى كثير من الأمراض الاجتماعية التي يشكو منها العالم
اليوم ، فمن ذلك الأحكام الشرعية المتعلقة بالزواج بين المسلم و غير المسلمة أي بالكتابية
، و هو ما يسميه التشريع الوضعي المعاصر "بالزواج المختلط" ، هذا
المصطلح الدخيل لا وجود له في كتب الفقه المعتمدة. فما هو الزواج المختلط ؟ وما ها
هي النصوص الشرعية التي تحكمه ؟
يقصد بالزواج المختلط ، الزواج الذي يكون أحد طرفيه
معربي الجنسية و طرفه الثاني أجنبيا يحمل جنسية
بلد آخر ، فيكون من حقها إبرام عقد زواجهما بالمغرب ، ما دام هذا العقد ليس
ممنوعا في نظر قانون الأحوال الشخصية
للزواج المغربي ، و الجدير بالذكر أن المشروع المغربي نظم كيفية الإشهاد على هذا
الزواج بظهير 4 مارس 1960.
حيث نص في المادة الأولى منه على ما يلي :
" إن الأنكحة بين المغاربة و الأجنبيات من جهة ، و
المغربيات و الأجانب من جهة أخرى إذا لم تكن ممنوعة في قانون الأحوال الشخصية
الجاري على الزوج المغربي ، يجوز أن يقوم بمراسيم انعقادها بطلب من الزوج ضابط
الحالة المدينة وفقا لمقتضيات ظهير 4 شتنبر 1915 ".
غير أن المشرع علق هذا الزواج المختلط الذي يبرمه ضابط
الحالة المدنية على ضرورة الإشهاد عليه مسبقا من طرف عدلين وفقا للمدونة و لأن أحد
طرفيه مغربي ، و هذا ما نصت عليه المادة الثانية من ظهير 4 مارس 1960 بقولها :
" إن انعقاد النكاح حسب صيغة الحالة المدنية يتوقف مع
ذلك كله على سابق الإشهاد به طبق الشروط المنصوص عليها من حيث الجوهر و الصيغة في
قانون الأحوال الشخصية الجاري على الزوج المغربي ".
و يتضح من خلال ما سبق أن إشهاد ضابط الحالة المدنية إذا
كان يكفي لانعقاد الزواج المختلط بالنسبة للزوج الأجنبي ، فإنه لا يكفي بالنسبة للزوج
المغربي ، بل لابد فيه من إشهاد عدلين ليكون ذلك الزواج منعقدا بالنسبة له [9]
، هذا هو الزواج المختلط بصورة مجملة كما ينص على ذلك التشريع المغربي.
و إن ظاهرة زواج المسلم بغير المسلمة أو الكتابية ،
ظاهرة ليست جديدة و لا غريبة على المجتمع الإسلامي ، بل ظاهرة قديمة و متجذرة في
التاريخ الإسلامي ، فلقد سجل هذا التاريخ و منذ العصر الراشدي زواج بعض الصحابة من
الكتابيات ، فقد تزوج سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة
الكلبية و هي نصرانية أسلمت عنده ، و تزوج حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يهودية من
أخل المدائن ، وسئل جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن نكاح المسلم اليهودية و
النصرانية فقال : تزوجنا بهن زمان الفتح بالكوفة مع سعد بن أبي وقاص[10]
. غير أن هذه الظاهرة كادت تختفي في الأعصر الإسلامية المتأخرة ، ولكنها ظهرت من
جديد و بشكل خطير يدعو إلى كثير من الاندهاش و بدون مراعاة للضوابط الشرعية التي
تضبط العلاقات الاجتماعية بين المسلمين و غيرهم من أهل الديانات الأخرى ، و لقد
تفشت بكثير في القرن العشرين في صفوف الجالية الإسلامية خاصة بأوروبا و كندا و الولايات المتحدة ، و اتخذت صورا وأشكالا مختلفة
بعيدة كل البعد عن الأحكام الشرعية التي نظمتها و أعطتها ما تستحق من العناية والدرس.
فقد أجمع العلماء على إباحة الزواج بالكتابية يهودية
كانت أم نصرانية سندهم في ذلك قول الله عز وجل : " اليوم أحل لكم الطيبات
و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم و طعامكم حل لهم و المحصنات من المومنات ، و
المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين
و لا متخذي أخذان ، و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله و هو في الآخرة من الخاسرين
"[11].
و المراد بالمحصنات في هذه الآية العفائف كما ذهب إلى
ذلك جمع من السلف منهم الحسن والشعبي و إبراهيم و السدي و غيرهم [12].
و روى عن أبي
نجيح عن مجاهد أن المراد بالمحصنات في الآية الحرائر ، و لهذا حكى ابن رشد إجماع
الصحابة بالكتابية الحرة إلا ما كان من ابن عمر [13].
فقد سئل عن نكاح اليهودية و النصرانية ، فقال : "
إن الله حرم المشركات على المسلمين ، و لا أعلم من الشرك شيئا أعظم من أن تقول
ربها عيسى ابن مريم ، و هو عبيد الله "[14].
فعن ميمون بن مهران أنه قال : قلت لابن عمر : إنا بأرض يخالطنا فيها أهل الكتاب ،
أفننكح نساءهم و نأكل طعامهن ؟ قال : فقرأ علي آية التحليل و آية التحريم ، قال :
قلت : إني أقرأ ما تقرأ. أفننكح نساءهم و نأكل طعامهن ؟ قال : فأعاد علي أية
التحليل و آية التحريم ، و يعني بآية التحليل : " و المحصنات من الذين أوتوا
الكتاب من قبلكم "[15]
و بآية التحريم : " و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن "[16].
و معلوم أن ابن عمر كان من المتوقفين ، فلما رأى الآيتين
في نظامهما إحداها تقتضي التحليل والأخرى تقتضي التحريم ، توقف و لم يقطع بإباحة.
و عليه ، فآية التحليل يقصد بها حمل الناس على التزوج
بالعفائف لما فيه من تحقيق الود و الألفة بين الزوجين و إشاعة السكون و الاطمئنان.
و لعل السبب في إباحة الزواج بالكتابية بعكس المشركة ،
هو أنها تلتقي مع المسلم في الإيمان ببعض المبادئ الإسلامية ، من الاعتراف بالإله و
الإيمان بالرسل و باليوم الآخر و ما فيه من حساب و عقاب ، فوجود نواحي الالتقاء و
جسور الاتصال على هذه الأسس ، يضمن توفير حياة زوجية مستقيمة غالبا ، ويرجى
إسلامها لأنها تؤمن بكتب الأنبياء و الرسل في الجملة.
و الحكمة في كون المسلم يتزوج بالكتابية دون العكس ، هي
أن المسلم يومن بكل الرسل و الأديان في أصولها الصحيحة الأولى ، و هذا لا يشكل
خطرا على عقيدة زوجته أو على مشاعرها ، أما غير المسلم فلا يؤمن بالإسلام ، و في
هذا خطر كبير على عقيدة زوجته و على الأولاد [17].
و معلوم أن مدونة الأسرة نصت في فقرتها الرابعة من
المادة 39 على منع زواج المسلمة بغير المسلم، و المسلم بغير المسلمة ما لم تكن
كتابية ، و اعتبرته من الموانع المؤقتة ، فإذا اعتنق الإسلام ارتفع المانع ، و جاز
لها التزوج به. أما إذا كان مشركا أو وثنيا أو كتابيا ، فإنه لا يجوز للمرأة
المسلمة الزواج منه بإجماع الفقهاء عملا بقوله تعالى : " و لا تنكحوا
المشركين حتى يؤمنوا ، و لعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ، أولئك يدعون إلى
النار و الله يدعو إلى الجنة و المغفرة بإذنه "[18].
و بقوله تعالى أيضا : " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات
فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهم ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا
هن حل لهم ولا هم يحلون لهن"[19].
قال الجصاص في قوله تعالى : " فإن علمتموهن مؤمنات
فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم لا يحلون لهن " في هذه
الآية ضروب من الدلالة على وقوع الفرقة باختلاف الدارين بين الزوجين ، أي أن يكون
أحد الزوجين من أهل دار الحرب و الآخر من أهل دار الإسلام ، و ذلك لأن المهاجرة إلى
دار الإسلام قد صارت من أهل الإسلام ، وزوجها باق على كفره من أهل دار الحرب ، فقد
اختلفت بهما الدار ، وحكم الله بوقوع الفرقة بينهما ، بقوله : " فلا
ترجعوهن إلى الكفار" ، و لو كانت الزوجية باقية لكان الزواج أولى بها بأن
تكون معه حيث أراد ، كما يدل عليه قوله : " و آتوهم ما أنفقوا "
، لأنه أمر برد مهرها على الزوج ، و لو كانت الزوجية باقية لما استحق الزوج رد
المهر ، لأنه لا يجوز أن يستحق البضع و بذله ، كما يدل عليه قوله تعالى : " ولا
جناح علنكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن " ، فلو كان النكاح الأول
باقيا لما جاز لها أن تتزوج كما يدل عليه أيضا قوله تعالى : " و لا تمسكوا
بعصم الكوافر". و العصمة : المنع ، فنهانا أن تمتنع من تزويجها لأجل
زوجها الحربي[20].
أما إذا كان الزوجان مسلمين و ارتد أحدهما عن الإسلام
إلى دين سماوي آخر ، فالمشهور ي مذهب مالك أنه يفرق بينهما بطلاق بائن ، سواء كانت
الردة من الزوج أو من الزوجة ، قبل الدخول أو بعده ، بل حتى و لو بدلت المسلمة
دينها الإسلامي بالمسيحية أو اليهودية ، لأن من ارتد عن دينه اعتبر عديم الملة و
الدين[21].
فإذا كان قصدها الردة هو الوصول إلى الطلاق فإنها لا تجاب إليه ، معاملة لها بنقيض
قصدها.
و مجمل القول و محتواه عن الأحكام الشرعية التي تنظم
العلاقات بين المسلمين و غيرهم من أهل الكتاب ، خاصة في باب الزواج بالكتابيات ،
أن الآية القرآنية التي استند عليها الفقهاء في هذه المسألة ، هي الآية الخامسة من
سورة المائدة ، هذه الآية التي تبيح بشكل صريح زواج المسلم بالكتابية ، لكن بشرطين
أساسيين :
الشرط الأول : تحقيق العفة في كل من الأزواج و الزوجات ، و هذا الشرط هو المعبر عنه في
الآية بالمحصنات بالنسبة إلى الزوجات ، وبمحصنين غير مسافحين و لا متخذي أخذان إلى
الأزواج.
الشرط الثاني : خاص بالأزواج ، و يتجلى في المهور التي يجب عليهم دفعها إلى اللائي
أرادوا التزوج بهن من حرائر الكتابيات العفيفات ، و غيرهم من حرائر المسلمات
العفيفات اللائي ساهمن في تكوين الأسرة المسلمة ، التي مدت المجتمع بالنشء الصالح
، الذي بنى الحضارة الإسلامية التي استمدت قوتها وروحها من التوابث الإسلامية ،
التي ظلت قائمة في وجه الزحف الصليبي و الصهيوني. و التي أقامها الإسلام على أساس
من كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم.
و صدق الله العظيم القائل في محكم كتابه : " يا
أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا
كثيرا و نساء "[22].
د. علي أبولعكيك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك
وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).
صدق الله مولانا الكريم