الخميس، 10 أكتوبر 2013

دور البصمة الوراثية في ﺇثبات النسب باﻹقرار


اعداد:  كريمة مغات
باحثة في صف الدكتوراة بكلية الحقوق جامعة سطات


ﺇذا كان النسب، يثبت بالفراش الصحيح، وما يلحق به، وكذا بشهادة العدلين، وبينة السماعﻔﺈنه يثبت كذلك باﻹقرار. وﺇذا كان الفراش، ليس طريقا من طرق ﺇثباته فحسب، بل يعتبر سببا منشئا له. ﻔﺈن اﻹقرار هو أمر كاشف له، يظهر أن النسبكان ثابتا من وقت الحمل بسبب الفراش الصحيح أو مايلحق به.

 ﺇن البحث في هذا الموضوعلن يرتبط بعرض وصفي لأحكام اﻹقراركوسيلة ﺇثبات في النسب. حيث المراجع الفقهية والقانونية العامة والخاصة مستفيضة في الأمر، ولا حاجة إلى التكرار.وﺇنما سندرس أحكام اﻹقرارفي ﺇطار ماله علاقة بدور البصمة الوراثية، في ﺇثبات النسب. من حيث كيف يمكن للبصمة الوراثية، أن يتحقق لها دور،في ﺇثبات النسب باﻹقرار.
                                
أولا: مفهوم اﻹقراربالنسب وطبيعته

1ـاﻹقرار لغة: هو اﻹذعان للحق، واﻹعتراف به، فيقال أقر بالحق اعترف به(1)               

2ـاﻹقرارشرعا: اﻹخبارعن ثبوت حق للغير، على نفس المقر.

وقد عرف الأحناف اﻹقرار، بأنه ﺇخبارعن ثبوت الحق، لا ﺇنشاء له. فالمقر، يخبر بالحق لغيره، ولا ينشئ ذلك الحق. لذلك، ﻓﺈن حكم اﻹقرار عند الأحناف، هو ظهور الحق، الذي أقر به المقر، لا ﺇثباته ابتداء. حيث ﺇن اﻹقرار، لايكون سببا لمدلوله، وﺇنما هو دليل، يقوم اﻹستحقاق عليه، في زمن سابق. ﺇذ اﻹقرار، ﺇخبار بأمر، وليس ﺇنشاء لحق. (2)

3ـاﻹقرار بالنسب: هو أن يقر شخص، ببنوته لشخص آخر، مجهول النسب. (3 )

وقد جاء في تعريف ﻟﻹستلحاق، في نطاق المذهب المالكي، مايلي: «ﺇقرار ذكر مكلف، أنه أب لمجهول، ﺇن لم يكذبه عقل، لصغره، أو عادة ».(4 )
حيث يتبين، من تعريف اﻹستلحاق في عرف الفقهاء، أنه عبارة عن ﺇقرار، واﻹقرار في الفقه، هواﻹعتراف بما يوجب حقا على قائله بشرطه.
 
 
4ـطبيعة اﻹقرار بالنسب

إن ماهية «اﻹقرار»عند الفقهاء، هي «ﺇخبار»، ويتفق في ذلك مع «الدعوى»، أو «اﻹدعاء»، ومع  «الشهادة» بالمفهوم الفقهي، فكلاهما أيضا «ﺇخبار». فالعبارات الثلاث: اﻹقرار، والدعوى، والشهادة، تشترك في هذا المعنى، ﺇلا أنها تفترق في مدى الأثر، أو الحكم، أو النفع، المترتب على كل عبارة من هذه العبارات على حدة. والمعيار في التمييز بينها، هو أنه ﺇذا كان هذا الأثر، قاصرا على المخبر أي قائل الخبر فهو ﺇقرار، وﺇن لم يقتصر أثره على قائله، بل يتعداه ﺇلى غيره، فيميز بين ما ﺇذا كان له نفع، فيما أخبر به فيسمى دعوى، أو لم يكن له نفع فيه، فهو شهادة.(5)

وعليه، وانطلاقا من التحليل السابق، لعبارة «ﺇقرار»،الواردة في تعريف اﻹستلحاق، يقع التساؤل عن طبيعته، حيث للرد عن هذا التساؤل، ﻓﺈن الأمر يقتضي أولا النظر ﺇلى علاقة اﻹستلحاق، بكل من طرفيها، ﻓﺈذا نظرنا ﺇلى اﻹستلحاق من ناحية الولد المستلحَق، نجد أن هذا التصرف، (أياﻹستلحاق) لصالحه،لأنه يثبت له نسبا وأبا معروفا بعدما كان مجهولا بدلا من أن يبقى محروما منه، مع مايترتب على هذا الحرمان، من مضار بالنسبة له. فاﻹستلحاق بذلك، يعتبر ﺇقرارا لفائدة الولد، وتترتب نتائجه، بمجرد صدوره من المقر، ﺇذا توفرت الشروط الأخرى، المقررة في صحة اﻹستلحاق. لكن ﺇذا نظرنا ﺇلى اﻹستلحاق، من جانب المستلحِق، نجد أن هذا التصرف، الصادر عنه، يرتب له هو اﻵخر مصلحة، تتمثل في تحقق أبوته للولد المستلحَق والفوز بضمه ﺇليه. ومادام هذا اﻹقرار يرتب مصلحة للمقر، فهو من هذه الوجهة «ادعاء» وليس ﺇقرارا، لأنه من المقرر فقها، أن من شروط اﻹقرار أن لايرتب مصلحة، أو فائدة للمقر، وﺇلااعتبر«ادعاءا». ومن القواعد العامة في الدعاوى، أن اﻹدعاء، يجب ﺇثباته، فلا يحكم لصاحبه بمجرده، وﺇلايرفض قوله بقاعدة «البينة على المدعي»، فهو الذي يتحمل عبء ﺇثبات ما يدعيه،ﺇلا أن هذه القاعدة، لاتطبق في ادعاء شخص، أبوته لولد، بل يصدق في قوله، لمجرد هذا اﻹدعاء، وذلك خلافا للقاعدة المذكورة.

ﺇذن، يستخلص من كل ذلك، أن «اﻹستلحاق » ذو طبيعة مزدوجة، فهو من جهة «إقرار»، ومن جهة أخرى «ادعاء»، مصدق صاحبه، دون ﺇثبات، على خلاف القاعدة العامة، التي توجب عدم تصديق اﻹدعاء، ﺇلا باﻹثبات. والتساؤل يثور، عن اﻹعتبارات التي جعلت المستلحِق يصدق فيادعائههذا، وذلك استثناءا من قاعدة «البينة على المدعي»، حيث ﺇنه من استقراء أقوال الفقهاء،نجد أنه يستند ﺇلى اعتبارات، في تعليلهم لهذا اﻹستثناء، منها:

– أن اﻹستلحاق، تقرر فيه تغليب جانب «اﻹقرر»، على جانب «اﻹدعاء»، لما في ذلك من مصلحة معتبرة شرعا، خاصة بالنسبة للولد، المقر به، لأنه كشف عن نسبه، بعدما كان مجهولا، فمصلحته
تقتضي، أن لايبقى دون نسب.

– أن الشرع، متشوف ﺇلى حفظ الأنساب، وستر الأعراض، ولهذه الغاية، أخذ بالنادر، وطرح الغالب، في كثير من الصور، المتعلقة بموضوع النسب، والتي من بينها هذه الصورة.(6)

ثانيا: شروط الإقرار بالنسب

سيتم باقتضاب، تناولشروط اﻹقرار بالنسب، على صعيد الفقه اﻹسلامي، في إطار المذاهب الأربعة، وﻜﺫا في نطاق مدونة الأسرة.

1ـ شروط الإقرار بالنسب في الفقه الإسلامي:

في المذهب المالكي:

في مذهب الإمام مالك، يشترط لصحة الإقرار، كسبب للحوق النسب، وﺫلك، انطلاقا من النصوص الفقهية، الآتي ذكرها، ومن تعريف الإقرار، المتقدم ذكره، الشروط التالية:

ـ أن يكون المقر هو الأب:

في نطاق ﻫذا المذهب، ينحصر من يثبت النسب بإقراره، في الأب وحده، دون غيره من الأقارب. ويقول الشيخ خليل في ﻫذا الشأن: « إنما يستلحق الأب مجهول النسب » ويقول شارحه، ومنهم الشيخ الحطاب:« أتى بأداة الحصر، لينبه أن اﻹستلحاق، لا يصح إلا من أب فقط، وﻫذا هو المشهور، وخرج بأداة الحصر، استلحاق الأم » قال ابن عرفة :« واستلحاق الأم لغو».(7)
من خلال ما ﺫكر، يتضح أن الأم، لا يقبل منها اﻹستلحاق في المذهب المالكي، أي الإقرار بولد، كما لا يقبل من باقي الأقارب، في المشهور من ﻫذا المذهب.

ـ أن يكون الولد المقر به مجهول النسب:

ينصرف ﻫذا الشرط، إلى معنى كون الولد، لا يكون له نسب، معروف، وثابت، لشخص آخر، غير المقر. ﻟذلك لا يستلحق معلوم النسب،(8) أما الولد مقطوع النسب، كولد الزنا، فاستلحاق الزاني لولده من الزنا، أمر مختلف فيه، بين فقهاء المسلمين على قولين، حيث ذهب الجمهور،ﺇلى عدم صحة استلحاق الزاني لولده من الزنا، رجح ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما، صحة استلحاق الزاني ﻹبنه من الزنا، وبالتالي ثبوت نسبه منه.

ـأن لا يكذب المقر عقل أو عادة:
 
ﻫذا الشرط، يعني عدم وجود قرائن قوية، تجعل الإقرار غير صحيح. ومثلوا ﻠذلك، بوجود فارق في السن، بين المقر، وبين المقر به. بحيث لا يتصور عقلا، ولادته منه، كما ﺇﺫا كان ﻫذا الفارق بينهما في السن، ست سنوات.  

ـ أن لايتضمن الإقرار، تحميل النسب، على غير المقر.
في المذهب الشافعي:

 أما في نطاق مذهب الإمام الشافعي، فيقبل الإقرار من:
أـالأب، بنفس الشروط المشار إليها في المذهب المالكي، مع إضافة شرط آخر، وهو تصديق الولد،إذا كان بالغا. ولا يكتفي في تصديقه، أن يكون مميزا، كما هو الشأن عند الحنفية،ﺍﻠذين يكتفون بتصديق الولد المميز. وأن يكون عاقلا، لاعتبار تصديقه، وإلا فلا يتطلب ﻫذا التصديق.

بـالأقارب الآخرين من غير الأب، كالإخوة، والأعمام، وأبناء الأعمام، بالشروط التي يشترطها في إقرار اﻹبن، مع إضافة شروط أخرى.

في المذهب الحنفي:

 إن الأشخاص،ﺍﻠذين يثبت النسب بإقرارهم، في إطار مذهب أبي حنيفة، هم:
أـ الأب، الذي يقر بولده.
بـ اﻹبن، الذي يقر بوالده، أو بأمه.
جـ الأم، التي تقر بولدها.
دـ البنت، التي تقر بأبيها، أو بأمها.
فيقبل في ﻫذا المذهب من هؤلاء، الإقرار بالنسب، أي إقرار الأصل بالفرع، والفرع بالأصل.
ـ يجب أن يكون الشخص المقر به، مجهول النسب.

ـيجب أن يكون الإقرار، محتملا للصدق، بحيث يمكن عقلا، أو عادة، أن ينسب الولد المقر به، إلى المقر، بمعنى، أن لاتكون هناك قرائن قوية، على ﻜذبه.

ـ تصديق المقر به، للمقرفي إقراره،إذا كان مميزا، دون اشتراط بلوغه.(9)

في المذهب الحنبلي:

المذهب الحنبلي، يماثل المذهب الشافعي، فيما يخص الأشخاص ﺍﻠذين يثبت النسب بإقرارهم، وكذلك فيما يخص شروط ﻫذا الإقرار، مع اختلاف بسيط، في بعض التفاصيل الخاصة بالبنت والأم، وباقي ذوي الفروض. ويستزاد على ذلك، ما يضيفه ابن قدامة ـ وهو من المذهب الحنبلي ـ من شرط، يتعلق بإقرار الأب، وهو ألا تكون هناك منازعة، في ﻫذا الإقرار، من طرف الغير. (10)
           
2ـشروط الإقرار بالنسب في مدونة الأسرة:

تتحدد الشروط، التي أقرتها مدونة الأسرة، فيما يتعلق بالإقرار بالنسب، في المادة 160 كالآتي:
« يثبت النسب، ﺒﺈقرار الأب، ببنوة المقر به، ولو في مرض الموت، وفق الشروط اﻵتية:
1 ـ أن يكون الأب المقر عاقلا.
2 ـ ألا يكون الولد المقر به، معلوم النسب.
3 ـ أن لايكذب المستلحق ـ بكسر الحاء ـ عقل أو عادة.
4 ـ أن يوافق المستلحق ـ بفتح الحاء ـ ﺇذا كان راشدا حين اﻹستلحاق، وﺇذا استلحق، قبل أن يبلغ سن الرشد، فله الحق، في أن يرفع دعوى نفي النسب، عند بلوغه سن الرشد.

ﺇذا عين المستلحق الأم، أمكنها اﻹعتراض، بنفي النسب عنها، أواﻹدلاء، بما يثبت عدم صحة اﻹستلحاق.
لكل من له مصلحة، أن يطعن في صحة توفر شروط اﻹستلحاق المذكورة، مادام المستلحق حيا ».

يتضح من ﻫذه المادة، أن شروط الإقرار بالنسب، التي ﺃﺨذت بها مدونة الأسرة، قد اقتبستها من مذاهب الفقه الإسلامي الأربعة، دون التقيد في ذلك، بالمذهب المالكي، وما دام أنه قد تمت الإشارة، إلى شروط الإقرار بالنسب، أواﻹستلحاق، في المذاهب الأربعة، فسيتم استبعاد، إعادة التفصيل فيها، من خلال مدونة الأسرة،ﻟﻹكتفاء ببعض اﻹيضاحات، كاﻵتي:
ـ يتميز المذهب المالكي، بأن استلحاق الولد فيه، هو أمر خاص بالأب، دون غيره من الأقارب، كالأم أو الجد. غير أن المشرع، في مدونة الأسرة، قدﺃﺨذ بإقرار الأم بالنسب، حسب ما ورد في المادة 147 من مدونة الأسرة، والتي جاء فيها:
  تثبت البنوة بالنسبة للأم، عن طريق:

إقرار الأم، طبقا لنفس الشروط المنصوص عليها في المادة 160، وهي المادة المتعلقة بشروط اﻹستلحاق، الصادر عن الأب.
ـ إن الشرط المتعلق، بألا يكون الولد، معلوم النسب. يبدو أن المقصود به، هو نفس العبارة الواردة في الفقه، وهو أن يكون الولد، مجهول النسب، حيث يخرج ﺒﻫذﻩ العبارة، الحالات التالية:
أـ كون الولد، ثابت النسب من غير المقر، أي أن أباه معروف، وهو غير المقر، سواء ثبت ذلك بالفراش، أوالشبهة. أما إذا كان ثابتا بالإقرار، فالأمر في ﻫذه الحالة يتعلق بإقرارين، صادرين من شخصين، والقول بصحة أحدهما، دون الآخر، يرجع لاختصاص المحكمة، التي لها الفصل، في ﻫذه المنازعة
بـ كون الولد، ممنوعا شرعا إلحاقه بالمقر، كالولد الذي يأتي نتيجة علاقة غير شرعية، بين المقر وبين المرأة التي ولدته،ـ أي ناتج عن الزناـ ويعبر الفقهاء عنه، بكونه مقطوع النسب، لأن الشرع، قطع نسبه عن الزاني،ﻭﻫذا قول الجمهور. مع الإشارة، إلى أن هناك اتجاها آخر في الفقه، خاصة في المذهب الحنفي، يرى جواز استلحاق الزاني، ولده من الزنا،إذا توفرت شروط معينة، وقد أيد ﻫذا اﻹتجاه، بعض الفقهاء من العصر الحديث.(11)
ـ إن تصديق الولد المقر به، للمقر، في إقراره إذا كان راشدا، هو شرط غير معتمد، لصحة اﻹستلحاق في المذهب المالكي، خلافا للمذاهب الفقهية الأخرى، والتي تشترط ﻫذا التصديق،إذا كان الولد مميزا، أو بالغا. أما في فقه المالكية، فلا يشترط التصديق مطلقا، بل يصح الإقرار، ولو أنكر الولد، وهو عكس ما سارت عليه مدونة الأسرة، التي تبنت موقف الجمهور، من خلال المادة 160.(12)
 
ثانيا: ظنية الإقرار وفعالية اﻹستعانة بالتحليل الجيني في ﺇثبات النسب

قد يحدث في الواقع، أن يغادر الزوج، بيت الزوجية، لسبب قانوني كالطلاق، أو بدون سبب شرعي، ﺇلى مكان آخر مجهول، وقد تكون الزوجة حاملا منه، أو تكون قد وضعت وليدا، لم يسجله بعد في كناش الحالة المدنية، ﺇلى غير ذلك من الأسباب، والحالات، التي يتجلى فيها بوضوح، أن الولد للفراش. أي نشأ تبعا لعقد نكاح صحيح، أو فاسد، أو من وطئ بشبهةـ مادام أن كل هذه الحالات تلحق بالزواج الصحيح من حيث ثبوت النسبـ وبعدما يتضح أن الأب، لم ينف الولد عنه، ولم يكن هناك ما يدعو الأب، لعدم اﻹعتراف بولده، سوى، أن هناك ظروفا، جعلت الزوج، يغادر بيت الزوجية، أو المدينة، أو حتى البلد، قبل أن يسجل إبنه، في كناش الحالة المدنية، فيصبح الولد، مجهول النسب. ونفس المشكل يطرح، حين ينفي الزوج ولده، عن طريق اللعان، كيدا بزوجته، وﺇضرارا بالولد. (13)
لذلك كله، اعتمد الفقهاء اﻹستلحاق أو اﻹقرار، كوسيلة شرعية ﻹثبات النسب الشرعي، كما أخذ به المشرع، ونظمه بالمواد، 160، 161، 162 مدونة الأسرة.
 ونجد له تطبيقات كثيرة، في اﻹجتهاد القضائي، منها:
ـ " ﺇقرار الأب بالبنوة، يعمل به في لحوق النسب، وهذه القاعدة، مؤسسة على الأصول العامة في مذهب اﻹمام مالك …"(14)
 ـ " النسب يثبت باﻹقرار، كما يثبت بالفراش أو البينة، ولو بنكاح فاسد، أو بشبهة، وتترتب عنه جميع نتائج القرابة، وتستحق معه النفقة، والتوارث …" (15).
وبعد اﻹطلاع، على النظام الشرعي، والقانوني ﻟﻹقرار، كوسيلة من وسائل ﺇثبات النسب، يتضح أن البصمة الوراثية، يبرز لها دور مهم، في ﺇثبات النسب باﻹقرار، لأن هذا الأخير، يعتبر كذلكوسيلة ظنية لاتفيد القطع واليقين، في اﻹثبات.(16)
نستشهد ونعلل بصحة هذا القول، أن ظنية اﻹقرار، كانت أمرا معلوما لدى الفقهاء، حيث كانوا يدركون جيدا، أن اﻹقرار بالنسب، لايفيد الصدق دائما، من المقر، أي أن هناك احتمالية، في مطابقته للواقع، فالقول المعتبر مثلا في الفقه الحنفي، المعمول به، أن النسب، يثبت بالدعوة، من غير أن يبين المقر، وجه النسب، سواء أكان المقر صادقا في الواقع، أم كاذبا، فيكون عليه ﺇثم ادعائه، حيث استقر الأحناف، على أن النسب يثبت باﻹقرار،ولو كان كذبا.(17)وبذلك، يظهر أنهم كانوا يعلمون، بأن اﻹقرار قد يفيد الصدق، وقد يفيد الكذب من المقر، أي أنه ظني، لايفيد القطع دائما، وكانوا يرجحون صدق المقر، احتياطا منهم في ثبوت النسب، وعدم ضياع الولد.
   ﺇضافةﺇلى أنه، ﺇذا كان ﺇقرار الأب، بنسب ابنه له، يترتب عنه، ثبوت النسب، ﻓﺈن ذلك يتوقف، على شروط محددة، يجب أن تتوافر فيه، ورد النص عليها، ضمن مقتضيات المادة 160 من مدونة الأسرة.
حيث يتضح، بالتدقيق في ﻫذه الشروط، أن من المؤشرات الظنية ﻟﻹقرار، في ﺇثبات النسب، مايتعلق باشتراط، ألا يكذب المستلحق عقل، أو عادة، حيث يبدو، أن ﻫذا الشرط، هو من الشروط المتفق عليها فقها، ويعبر عنه البعض، بكون الولد، محتمل الثبوت من نسب المقر، فلا يكذبه الحس، أو العقل في الظاهر.ومما يكذبه العقل، كون الأب المقر، أصغر من الولد المقر به، أو أن بينهما فارقا بسيطا في السن، بحيث يستحيل  للمقر به عقلا، أن يكون ﺇبنا للمقر. ومما تكذبه العادة، أن يقر رجل، بنسب ولد، من بلد، أو مكان، لم يسبق له أن أقام به، أو زاره، أو أن يثبت، بأن الرجل المقر، لم يسبق له على اﻹطلاق، أن تزوج، أو أنه خصي، أو مجبوب، أوعنين، من زمن متقدم، على زمن بدء الحمل، بالولد المقر به.(18)فهذا الشرط ﺇنما حدد، لضبط صدق المقر، من كذبه، والقطع في احتمالية ﺇقراره، لظنية هذا الأخير، حيث يتوقف، قبول ﺇثبات النسب باﻹقرار، على عدم معارضته الدليل الحسي، والبصمة الوراثية، بعد ثبوت حقيقتها العلمية، تعد حكما حسيا، لكونها شاهدة حقيقية، يجب ألا تعارضها سائر الأدلة، وهي بذلك، في حكم الشرط، لصحة الأخذ باﻹقرار.
 
فعلى الرغم، من أن اﻹقرار، يعد سيد الأدلة، ﺇلا أن هناك من الحالات، التي لا يتفق فيها ﺇقرار الشخص، مع ما يتوافر من أدلة، وكثيرا ما ترد المحكمة، مثل هذا النوع من اﻹقرار:
" ﺇن محكمة اﻹستئناف، بنت حكمها، بنفي نسب الولد، على أن عقد الزواج، لم تمض عليه المدة الشرعية، الكافية للحوق الولد، وأن ﺇقرار الزوج ببنوته، بتسجيله في دفتر الحالة المدنية، يعتبر ﺇقرارا، غير صحيح، لتصادمه، مع ازدياد الولد، قبل المدة المعتبرة شرعا "(19)
 " ﺇن اﻹقرار بالبنوة، يخضع لقواعد الفقه الإسلامي، وليس ﻟﻹقرار، الوارد، في ظهير اﻹلتزامات والعقود.
ﺇن الولد المزداد قبل ﺇبرام عقد النكاح، لايمكن لحوق نسبه ﺇلى الزوج، ولو أقر ببنوته، وكان من مائه، لأن ﺇبن الزنى، لايصح اﻹقرار ببنوته. "(20)
وعليه، يتضح أن اﻹقرار، يعد من المؤشرات التخمينية، والتي لا يمكن قياسها، فكما لايمكن قياس درجة الصدق، وقوة اﻹيمان، ﻓﺈنه لايمكن قياس اﻹقرار، في ﺇثبات النسب. لاسيما،أنه يكون مبنيا  في بعض الحالات،على محاباة، أو ﺇكراه، أو لدرأ ضرر. لذلك، يمكن القول،ﺇن اﻹقرار،مبني على غلبة الظن، مع احتمال عدم تطابقه مع الواقع، لذا، يمكن أن يكون باطلا. فقد لايكون الأب صادقا في ﺇقراره، لسبب ما، أي أن ﺇقراره، قد لايكون مطابقا للواقع، بخلاف الأمر عليه في البصمة الوراثية، فهي كدليل مادي، تكون مطابقة للواقع، ولا تقبل العود، ولا اﻹنكار.
لذلك، ﻓﺈن دور البصمة الوراثية في ﺇثبات النسب باﻹقرار، ﺇنما يتمثل في الكشف عن صدق المقر من عدمه، حيث ﺇن كشف التحليل الجيني، يبين في حالة مطابقة الصفات الوراثية للأب، مع الصفات الوراثية ﻟﻹبن، صدق ﺇقرار الأب، وبالتالي ثبوت نسب الولد باﻹقرار. ويكشف ﺇن انتفت المطابقة، عدم صدق الأب، وأن ﺇقراره، مخالف للواقع، ما يستلزم نفي الولد عنه.
لذلك،يستخلص من كل ما سبق،أنه يجب أن تكون البصمة الوراثية، موازية ﻟﻹقرار، فتصدقه، أو تنفيه، وبهذا يكون لها دور، وقيمة ملموسة، في ﺇثبات النسب باﻹقرار.(21)
 

الهوامش
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الجوهري: الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية، دار العلم، بيروت، 1979،  الجزء2، ص 790.
(2)أحمد نصر الجندي: المرجع السابق، ص 34.
(3)ممدوح عزمي: دعاوى ثبوت الزوجية، ثبوت النسب، م.س، ص70.
(4) أحمد الصاوي: بلغة السالك لأقرب المسالك، دار الفكر، بيروت، ت.ط.غ، المجلد الثاني، ص 180–181.
(5)المرجع السابق: ص 176.
(6)  محمد أكديد:اﻹستلحاق في الفقه والقانون، الأيام الدراسية حول مدونة الأسرة، دار السلام، الرباط،2004،ع5، ص37–38.
(7) الحطاب: مواهب الجليل شرح مختصر خليل، دار المعرفة، ت.و.م.ط.غ.م، 5/239.
(8) الحطاب: م.س، 5/238.
(9)  محمد أكديد:م.س، ص 43 ،44.
(10) المرجع السابق: ص 46.
(11) المرجع السابق: ص48 – 49.
(12) المرجع السابق: ص53.
(13)خالد بنيس: مدونة الأحوال الشخصية، الولادة ونتائجها، بابل للطباعة والنشر،الرباط،1989، ص 89. ﺇن الحالات التي توجب اﻹقرار، أمر نادر الوقوع، لأن أغلب الأشخاص المجهولي النسب اليوم، هم من بين من يطلق عليهم بأولاد السفاح، الذين نشأوا عن علاقة غير شرعية. خالد بنيس: م.س، ص 90.
(14) قرار المجلس الأعلى عدد 12، بتاريخ 29 أكتوبر، 1962 منشور بمجلة القضاء والقانون عدد 65، ص 108.
(15) قرار المجلس الأعلى عدد 435، الصادر بغرفتين، بتاريخ 22 شتنبر 2004 ، الملف الشرعي 235/ 1/ 2002.
(16) يوسف وهابي: المرجع السابق،ص 25.
(17)ممدوح عزمي: م.س، ص 83.
(18)خالد بنيس: م. س، ص98. محمد أكديد: م.س، ص47.
(19)قرار عدد 1045، بتاريخ 10 /9 /91، ملف الأحوال الشخصية والميراث 6355/ 87، غير منشور، ورد ذكره في اﻹجتهاد القضائي في مدونة الأحوال الشخصية 1995 ، ط 1، ﺇدريس بلمحجوب، ص 61–62.
(20)قرار المجلس الأعلى عدد 446، بتاريخ 30/ 3 /1983، في الملف عدد 54758، منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 48،  ص 77.
(21)ﺇبراهيم أحمد عثمان: م.س، ص17.محمد فريد الشافعي: م.س، ص28.
 عن : MarocDroit.com

ﺇثبات النسب بالبصمة الوراثية بين الحق في السلامة الجسدية والحياة الخاصة


اعداد: كريمة مغات
باحثة في صف الدكتوراة بكلية الحقوق جامعة الحسن الأول سطات



ﺇثبات النسب بالبصمة الوراثية بين الحق في السلامة الجسدية والحياة الخاصة
ﺇن اللجوء ﺇلى ﺇجراء التحليل الجيني، كوسيلة ﺇثبات ونفي للنسب، لايمكن أن يحجب عنا رؤية بعض الصعوبات التي تعترضه، ﺇذ ﺇنه من المتوقع، أن يثير الخصم بعض العقبات، التي يحاول بها اﻹفلات، من الخضوع ﻹجراء التحليل الجيني، لاسيما، عندما يكون سيئ النية.

إﺫتتعلق أهم الصعوبات القانونية، التي تواجه البصمة الوراثية، أمام القضاء، من حيث أن اللجوء ﺇلى هذه الوسيلة، في ﺇثبات أو نفي النسب، يقتضي، تحليل الحامض النووي للشخص المعني، والموجود في خلية من خلايا جسده، أيا كان المصدر، دما، أو سائلا منويا، شعرا، أو عظاما. يعني أن الأمر، يتطلب، أخذ جزء من الجسم، ﻹخضاعه للتحليل الجيني، وهو مايعتبره البعض، مساسا بحق اﻹنسان في السلامة الجسدية، والحق في الحياة الخاصة، اللذان يوفر لهما القانون، الحماية، وتنص اﻹتفاقيات الدولية لحقوق اﻹنسان، على ضرورة احترامهما.
والواقع، أنه بقدر ﺇمكانية التغلب على هذه الصعوبات، بقدر ما يتم تمهيد الطريق أمام القضاء، لأن يحكم بالعدالة،ويحقق للشريعة اﻹسلامية، سعيها في حفظ الأنساب من الضياع، أو اﻹختلاط. حيث سيتم من خلال هذا البحث، محاولة تدليل، كل صعوبة من هذه الصعوبات.

المبحث الأول: التحليل الجيني والمساس بالحق في السلامة الجسدية والحق فيالحياة الخاصة

يقصد بحقوق الشخصية، مجموعة الحقوق، التي تنصب على مقومات، وعناصر الشخصية، في مظاهرها المختلفة، المادية، والمعنوية. وهي لصيقة بشخص اﻹنسان، وهي حقوق، تثبت ﻟﻹنسان، بمجرد وجوده،ولمجرد كونه ﺇنسانا، ولذا، أطلق عليها، الحقوق الطبيعية، أو حقوق اﻹنسان.(1)
حيث هناك عدة تساؤلات تطرح نفسها، تتعلق، بمدى أحقية رفض ﺇجراء التحليل الجيني، لكونه يشكل مساسا بالحق في السلامة الجسدية، والحق في الحياة الخاصة ؟ وعن القيمة القانونية لهذا الرفض، أمام القضاء ؟ وفيما ﺇذا كان ﺇجبار الشخص، الخضوع للتحليل الجيني، يعد ﺇنكارا حسيا واضحا، لحرمة الجسد، وحرمة الحياة الخاصة ؟ كل هذه التساؤلات، وغيرها، سيتم التعرض لها، بعد أن يتم، تحديد، مفهوم الحق في السلامة الجسدية، والحق في الحياة الخاصة.
 
 
المطلب الأول: مفهوم الحق في السلامة الجسدية بين الشريعة اﻹسلامية والقانون الوضعي

يفرض أمر التحقق، من مدى مساس التحليل الجيني بالسلامة الجسدية، ضرورة البدء، بتحديد مفهوم ﻫذا الحق، في كل من الشريعة اﻹسلامية، والقانون الوضعي.
 
الفقرة الأولى: مفهوم الحق في السلامة الجسدية في الشريعة اسلامية

لقد بلغت الحماية الشرعية لجسد اﻵدمي، في ظل أحكام التشريع اﻹسلامي، أسمى معانيها في الحياة، بل حتى بعد الممات.(2) حيث لعظم هذه الهيئة، على الخالق سبحانه وتعالى، فقد منع سبحانه عن اﻹنسان، كل عدوان من اﻵخرين، ومنعه هو ذاته، من العدوان ضد نفسه،(3).بل أوجب عليه، تعهد هذا الجسد، بالرعاية، والمحافظة، يقول الرسول : «…ﺇن لبدنك عليك حقا» . ولقد حرم اﻹسلام، مجرد الأذى، ولو كان بسيطا، فكل فعل، يمس جسم اﻹنسان، أو يؤثر، على سلامته، يعتبر محرما، كالضرب، والجرح، وما إلى ﺫلك. (4)
ويعتبر الحق في سلامة الجسد، طبقا لتقسيم فقهاء الشريعة اﻹسلامية للحقوق، من الحقوق المشتركة بين الله والعبد. حيث لو رضي العبد ﺇسقاط حقه في سلامة جسده، فلا ينفذ ﺇسقاطه له. حيث إن حق الشخص في سلامة جسده، ليس حقا فقط، بل عليه واجب في ذلك، لاختلاط حقه، بحق الله تعالى.(5)

الفقرة الثانية: مفهوم الحق في السلامة الجسدية في القانون الوضعي 

يعتبر القانون الوضعي، الكيان الجسدي، معصوما، وتشمله الحماية القانونية، سواء الحماية المدنية، أو الجنائية. حيث يقتضي، مبدأ حماية السلامة الجسدية، تجريم كل فعل، أو امتناع، يؤذي هذه السلامة. والحماية، تبتغي سير الحياة في جسم اﻹنسان، على نحو طبيعي، لما في ذلك،من مصلحة أكيدة للفرد والمجتمع، وهذه المصلحة، هي مناط الحماية.والحماية، بمعناها المتقدم، تقتضي أن يحتفظ اﻹنسان، بتكامله الجسدي، وألا يصاب بألم بدني، أو نفسي. على النحو  اﻵتي:

أولا:اﻹحتفاظ بالمستوى الصحي العام

 وهو يعني، أن يحتفظ اﻹنسان، بسير أعضائه، وأدائها لدورها، كاملا، دون خلل، أو انحراف، أو علل. وهذا هو الحد الأدنى، الذي يعتبر أي فعل، أو امتناع، يقلل منه، مساسا بالحق في سلامة الجسد.
 
ثانيا:التكامل الجسدي

 يطلق لفظ الجسد، على مجموعة الأعضاء التي يشملها. حيث تتكون هذه الأعضاء من أنسجة، وتتكون الأخيرة بدورها من خلايا. حيث ﺇن الخلية، هي الوحدة الأساسية، في جسم اﻹنسان، وأعضاء الجسم، هي التي من خلالها يقوم الجسد، بأداء الوظائف الفيسيولوجية، والسيكولوجية، كما أن الأعضاء، لاتعني تلك الأعضاء الظاهرة من الجسد، أو المعروفة داخله، بل تشمل كذلك الأنزيمات، والهرمونات،
والجينات، حيث تؤدي كلها وظائف في جسم اﻹنسان. وحماية هذه الأعضاء، لاتعني حماية أداء العضو لوظيفته، بل هي حماية للعضو في ذاته، بغض النظر، عن أداء، أو عدم أداء وظيفته، انطلاقا من مبدأ حرمة الجسد.
ولما كانت أجهزة اﻹنسان، تعمل في وحدة متناغمة، ومعقدة في الترابط، ﻓﺈن أي مساس بسير هذه الأعضاء، أو أي منها، هو اعتداء على الحق في السلامة الجسدية ﻟﻹنسان. وكل عبث بمادة الجسم، على نحو، يخل بتماسك الخلايا، أو يضعفها، هو مساس، بالحق في السلامة الجسدية.

ثالثا: الراحة البدنية

الراحة البدنية، تعني عدم الشعور بألم ما، أي أن يتحرر اﻹنسان من الألم. ومن ثم، فكل فعل يحدث ألما، هو مساس بالجسم. ولذلك، ﻓﺈن ﺇحداث هذا الألم، مؤثم، ولو لم يرتب خللا بصحة من وقع عليه الألم، مثل قذف ﺇنسان ببعض الماء، حتى وﺇن كان الماء نظيفا، ذلك أن المساس بالسلامة الجسدية، متحقق في هذه الحالة. وكما في حالات عدم اﻹحساس بالألم، كوخز السكران ﺒﺈبرة مثلا، لايوجد ﺇحساس بالألم، لكن المساس بالسلامة الجسدية، واقع فعلا.

رابعا: الراحة النفسية

لعل السلامة الجسدية وراحة الجسد، تكمنان أصلا في اﻹحساس بالراحة النفسية، والذهنية، ذلك أن ﺇيذاء النفس، هو في الأصل مساس بسلامة الجسد كله، وهو أبلغ الأخطار على صحة اﻹنسان، وذلك لأن النشاط النفسي، هو أبرز مايميز اﻹنسان، عن كل ماسواه من كائنات حية.

وعليه،ﻓﺈن الخضوع لتحليل البصمة الوراثية، للتحقق من النسب، يفرض ـ كما سبق ـ أخذ عينة من جسم المعني بالأمر،ﻟذلك، كان الخضوع للفحص الجيني، مثار جدل لدى رجال القانون، لأنهم اعتبروه ماسا بالسلامة الجسدية للخاضع له.(6)
 
المطلب الثاني: مفهوم الحق في الخصوصية بين الشريعة اﻹسلامية والقانون الوضعي

كما هو الشأن بالنسبة للحق في السلامة الجسدية، يفرض أمر التحقق من مدى مساس التحليل الجيني، بالحق في الخصوصية، ضرورة البدء بتحديد مفهوم ﻫذا الحق، في كل منالشريعة اﻹسلامية، والقانون الوضعي.
 
الفقرة الأولى: مفهوم الحق في الخصوصية في الشريعة اسلامية

من المعلوم أن فقهاء المسلمين، لم يستعملوا لفظ الحق في الخصوصية ـ أو الحياة الخاصة أو حق الشخصية ـ فهم لم يستعملوا هذا المصطلح، بل ولم يستعملوا تركيبة أخرى، قريبة منه. وعدم استعمال الفقه لهذا المصطلح، لايعني، أنه لم يعترف، بهذا النوع من الحقوق، ـ ولكنه قد انضوى تحت مفهوم الحق عموما في الفقه اﻹسلامي ـ  بل الأمر على خلاف ذلك(7)، حيث إن الشريعة اﻹسلامية، شديدة اﻹحتفاء بالخصوصية، ﺇيمانا منها بكرامة اﻹنسان، وبحقه، فيشخصية أسراره وممارسته حرياته، لذلك، فقد وضعت العديد من القيود، لمنع العابثين،من التلاعب بحقوق الناس(8).

 حيث عرف للحق في الخصوصية، تطبيقات عديدة في الشريعة اﻹسلامية، ولعل من أبرز تطبيقات الحق في الحياة الخاصة، حق الفرد في حرمة مسكنه، والعيش ﺁمنا(9).

ومن تطبيقات هذا الحق، النهي عن التطفل على حياة الأفراد، بالمسارقة البصرية، واقتحام المساكن، واﻹطلاع، على مايطويه الفرد، على غيره من أسرار في العادة. وقد تقررت بالأحاديث الكثيرة، الواردة عن النبي ، من ذلكما ورد في الصحيحن من حديث الزهري، «أنه اطلع رجل في حجرة رسول الله   ومعه مدرى(10)يحك بها رأسه، فقال : لو أعلم أنك تنظرني، لطعنت بها في عينك، ﺇنما جعل الاستئذان من أجل النظر».(11) فهذه النصوص، تقر حق الفرد، في مقاومة اﻹعتداء الواقع على حياته الخاصة، ودفعه، لأنه اعتداء، على حقه في الأمن، واﻹحتفاظ بأسراره.

ومن تطبيقات الحق في الخصوصيةﮐﺫلك، النهي عن التجسس والغيبة، وتتبع عورات اﻵخرين. (12) ويقول الرسول الكريم : " لاتؤذوا المسلمين، ولاتعيروا، ولاتتبعوا عوراتهم، ﻓﺈنه من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته" (13)

ومن تطبيقات الحق في الخصوصية، حفظ الأسرار، وعدم ﺇفشائها، ولعل أول مايطالعنا بهذا الصدد، هو حق كل من الزوجين على اﻵخر، ألا ينقل أسراره، ولايفشيها، سيما تلك التي تتعلق بالجماع ونحوه.(14)فالكثير من النصوص القرﺁنية، والأحاديث الشريفة، تظهرحرص الشريعة اﻹسلامية، على ضمان الحق في الحياة الخاصة، وحمايته.

الفقرة الثانية: مفهوم الحق في الخصوصية في القانون الوضعي

يعتبر الحق في الخصوصية، في القانون الوضعي،(15) من الأفكار المرنة، التي يختلف مضمونها من مجتمع ﺇلى ﺁخر، حسب رقي هذا المجتمع، ومدى اهتمامه، واحترامه لحقوق اﻹنسان. وﺇذا كان من المتفق عليه، أن نطاق الحياة الخاصة، يتمتع بالحماية القانونية، حيث يجب أن يظل بعيدا عن تدخل الغير، وعن العلانية. ﺇلا أن تعريف الحق في الخصوصية، أو في حرمة الحياة الخاصة، مازال من أدق الأمور، ﺇذ من الصعوبة بمكان، وضع تعريف جامع مانع، للحق في الخصوصية، ﺇزاء اختلاف معايير النظر ﺇلى هذا الحق.(16)

 هذا، ويرتبط الحق في الخصوصية، بالحق في السلامة الجسدية، فكلاهما، ينتمي ﺇلى طائفة الحقوق، اللصيقة بالشخصية اﻹنسانية. ﺇذ ﺇن الحق في الخصوصية، يحمي جسم اﻹنسان، في شقه المعنوي، فلا يجبر اﻹنسان، على الكشف عن خصوصياته، ﺇلا برضاه الحر، وبالطريق الذي رسمه القانون، وفي حدود اﻹتفاقيات الدولية. فلا عبث في جسم اﻹنسان، للكشف عن خصوصياته، أو معرفة سر من أسرار جسده، أو للكشف عن دليل ما. فكل صور المساس بالسلامة الجسدية، تمثل من زاوية أخرى، مساسا بحرمة الحياة الخاصة ﻠﻹنسان، ومن ثم، فهما متكاملان، ومتناسقات، بل هما وجهان لعملة واحدة.(17)

وتجدر اﻹشارة، ﺇلى أن التقدم العلمي، والتطور التكنولوجي، قد بلغا شأوا بعيدا، واقتحما ﺁفاقا جديدة، كانت تعتبر في يوم من الأيام، ضربا من ضروب الخيال. وهذا التقدم العلمي، قد أصبح يمس حرية اﻹنسان، ويمثل خطرا حقيقيا، على كرامته، ذلك أنه، أمكن تعرية هذا الأخير، وكشف أسراره، حيث تجاوز الأمر، مجرد ابتداع العلم لمسائل متطورة، لها القدرة على كشف الجوانبالنفسية، التي يطويها اﻹنسان، في شعوره مع نفسه، وكذا ارتياد ماضيه، والكشف عنه، (18)بل تجاوزالأمر ذلك،ﺇلىتوصل العلم، ﺇلى وسيلة تحليل الحمض النووي(19)، التي تكشف، عن معلومات جد خاصة باﻹنسان، تشمل ملفه التاريخي كاملا، تتعلق بصفاته الوراثية، ومعلومات خاصة، عن خصائصه الطبية، والسلوكية، وعن الأمراض المصاب بها، وغيرها من المعلومات، التي تشكل جزءا، من مكونات الحياة الخاصة للشخص، والتي لايحق لأحد أن يطلع عليها، الأمر الذي ساهم بقدر ما، في ﺇحداث أزمة الحياة الخاصة.

والتساؤل الذي يطرح نفسه، هو ﺇلى أي مدى، يعتبر تحليل الحمض النووي، تدخلا، أو مساسا بالحياة الخاصة ؟لاسيما،أن اﻹعتراض الأساسي، على اختبار الحمض النووي، يتمثل في أن هذا الأخير، يؤدي ﺇلى البحث عن الصفات الوراثيةcaractéristiques génétiques héréditairesحيث إن اﻹلمام بتركيب الحمض النووي، يكشف، ويعطي معلومات حول الصفات الوراثية، وأن هذه المعلومات، هي ذات طابع شخصي جدا، نظرا لكونها، معلومات وراثية Information génétique ،فهذه الخواص، تجعل من البصمة الوراثية، معلومة ﺇسمية .Information nominative(20)ﻟﻫذا، يرفض الخصم في بعض الحالات، ﺇجراء تحليل الحمض النووي، بدعوى، أنه يمس حرمة الحياة الخاصة،إضافة إلى السلامة الجسدية.
فما هو موقف القانون، وکذا القضاء العربي، والغربي، ﺇزاء رفض الشخص، الخضوع ﻹجراء الفحص الجيني، تمسكا بمبدأي السلامة الجسدية، والحق في الحياة الخاصة؟ وهل للقضاء، أن يجبره على ﺇجراء الفحص؟

المطلب الثالث: موقف القانون والقضاء من رفض التحليل الجيني لمساسه بحرمة الجسد وحرمة الحياة الخاصة

مما لاشك فيه، أن معارضة إجراءالتحليل الجيني، من قبل الخاضع له، لمساسه حقه في السلامة الجسدية، أو حياته الخاصة، قد عرضت لطرح مواقف مختلفة، قانونيا، وقضائيا.

الفقرة الأولى: موقف القانون من رفض الخضوع للتحليل الجيني     

يفرض أمر التحقق من النسب، أخذ عينة، من جسم المعني بالأمر. والتساؤل يثور، عن الحل، ﺇذا رفض الشخص، نزع عينة من جسمه، أي ﺇذا رفض الخضوع للتحليل الجيني، هل باﻹمكان إجباره على ﺫلك؟

اختلفت الأنظمة القانونية الغربية، التي ناقشت فكرة ﺇمكانية اﻹجبار، على الخضوع لتحليل الحمض النوويADN، كاﻵتي:

ذهب القانون المدني الفرنسي،(21) ﺇلى أنه، يجب الحصول على موافقة مسبقة، للشخص الخاضع لفحص بصمته الوراثية (المادة 16 ـ 11 من القانون المدني)، حيث يجب أن تكون الموافقة، صادرة عن ﺇرادة حرة، واعية، وأن تكون صريحة، ومكتوبة.

وقد ذهب القانون اﻹنجليزي، وكذا اﻹيرلندي، ﺇلى أنه، لايجوز اﻹجبار، على الخضوع للفحص الجيني. حيث يجب موافقة كتابية، على قبول الخضوع لهذا اﻹختبار، لكن رفض الشخص، يتخذ قرينة ضده. وطبقا للقانون اﻹيرلندي، ﻓﺈن أي رفض، من جانب المعني بالأمر، للخضوع، يعتبر ﺇثباتا للدليل، الذي له علاقة بالرفض، فالقانون اﻹيرلندي، يعرف نظام اﻹستدلال العكسيL’inférence adverse.
 
الفقرة الثانية: موقف القضاء من رفض الخضوع للتحليل الجيني     

لقد أوجد البعض،حلا ﺁخر، لم يجبر خلاله الشخص، على الخضوع، لتحليل البصمة الوراثية، بل ذهب فيه، ﺇلى تجريم، ومعاقبة، الرفض في حد ذاته، على أساس، أن هذه العقوبة، قد تحث الشخص، على التعاون، والمثول ﻠﻹختبار، في ﺇطار التعاون مع السلطات القضائية. (22)
 
ولقد جاء حكم محكمة باريس، في هذا اﻹطار، بشأن نزاع، عرض عليها، وكانت وقائعه، تتعلق بدعوى، رفعتها أم، بشأن ﺇثبات بنوة ولدها، وقد طلبت من المحكمة، خضوع الأب المدعى عليه، لفحص الدم، للتحقق من نسبه، ولم يعارض الأب المدعى عليه بداية، ﺇلا أنه عاد وغير رأيه،ورفض الخضوع لهذا الفحص، الأمر الذي دفع المحكمة، لفرض غرامة تهديدية، قدرها 200 فرنك، في كل مرة، يمتنع فيها، عن تلبية طلب الخبير، المكلف بهذه المهمة، للحضور أمامه.

وبالطعن في هذا الحكم، أمام محكمة استئناف باريس، قضت المحكمة، بتأييد الطعن، وجاء في حيثيات الحكم:«…ﺇن المبدأ الأساسي، وهو حرمة الجسم الانساني، يتعارض مع لجوء القاضي المدني ﺇلى ﺇجراء الضغط، واﻹجبار، حتى ولو كان هذا اﻹجراء، من طبيعة مالية، لحمل الشخص على الخضوع، للمساس بجسمه، وحتى ولو كان هذا المساس بسيطا».

لكن يبقى، أن المادة 11 من قانون اﻹجراءات المدنية الفرنسي، تجيز للمحكمة، في حالة رفض المدعى عليه، اﻹمتثال لأوامرها، تمسكا بمبدأ حرمة الجسد، أن تستخلص ماتراه من نتائج.
وعلى الفور، يثور التساؤل، حول مفهوم هذه النتائج؟ وبمعنى ﺁخر، هل يمكن للمحكمة، أن تتخذ من موقف الأب المدعى عليه، برفض الخضوع لتحليل دمه، دليلا، على أنه الأب الحقيقي؟ أم يجب أن يقتصر الأمر، على اعتبار هذا الرفض، قرينة، تدعم بأدلة أخرى؟والحقيقة، أنه لايمكن أن يفسر امتناع الأب المدعى عليه، من الخضوع لهذا الفحص، سوى أنه الخوف، كما تقول محكمة استئناف نيم، من أن يرى هذا اﻹجراء، يشير ﺇلى أنه، هو الأب البيولوجي، لولد، هو قطعة منه.(23)

أما الملاحظ، في العمل القضائي المغربي، فقد ذهب، ﺇلى اعتبار رفض الخضوع، ﻹجراء تحليل البصمة الوراثية، قرينة، ضد المعني بالأمر، كما جاء في العديد من الأحكام، والقرارات القضائية:

ـ «…وحيث ﺇن المدعى عليه، توصل بواسطة نائبه باستدعاءين، من أجل أداء أتعاب الخبرة، الأول بتاريخ… والثاني بتاريخ… غير أنه لم يفعل، رغم انصرام الأجل المضروب له، مما يعتبر معه ذلك،بمثابة ﺇقرار ضمني من طرفه، بثبوت نسب اﻹبن ﺇليه، وبكونه ازداد من صلبه، وعلى فراشه».(24)

ـ «…وحيث استجابت المحكمة لطلب الخبرة الجينية، التي طلبتها المستأنفة، للتحقق من انتساب الولد ﺇلى المستأنف عليه، لكنها لم تودع أتعابها المكلفة بها، رغم ﺇشعارها بذاك، فيكون امتناعها عن أداء هذه الأتعاب، قرينة فورية تعضد جانب المستأنف عليه، وتجسد عدم جدية منازعتها في انتساب الولد للمستأنف عليه، مما يقتضي رد دفوعها المثارة بهذا الشأن». (25)
                       
كذلك الأمر، في القضاء المصري، الذي اعتبر، رفض الخضوع، ﻹجراء التحليل الجيني في النسب، قرينة، ضد المعني بالأمر. حيث أصدر رئيس محكمة اﻹستئناف، حكما، ﺒﺈلحاق نسب الطفلة…، ابنة …، ﺇلى الفنان …. والعجيب، أن الحكم، الذي أصدره القاضي، ارتبط في أذهان المصريين، بأنه جاء نتيجة اﻹعتماد، على نتائج تحليلات الحمض النووي، وهو أمر لم يكن صحيحا، حيث ﺇن الأب، رفض الخضوع ﻹجراء البصمة الوراثية، وهو الرفض، الذي تعامل معه القاضي، على أنه قرينة ضد الأب.(26) وهو نفس توجه المحاكم الفرنسية.

وهوﮐﺫلك،نفس ماتبناه القضاء التونسي، الذي اعتبر، أن رفض المدعى عليه، الخضوع للتحليل الجيني، المأذون به، من قبل المحكمة، ﺇقرار من المطلوب، على ثبوت نسب الطفل ﺇليه.(27)
وفي تقدير الباحث، أن الحل للوصول ﺇلى الحقيقة في كشف النسب، لايتمثل في اعتبار رفض الشخص، الخضوع للتحليل الجيني، قرينة ضده. حيث لايمكن اعتبار الرفض، دليلا ملموسا، وﺇنما الحل يتمثل في ﺇجبار الشخص عند رفضه على ﺇجراء التحليل الجيني، للأسباب التالية:

1 ـ غالب فقه القانون الوضعي، وكذا الفقه اﻹسلامي، يتفقون على أن حق اﻹنسان على جسده، ليس حقا خالصا. ففي الشريعة اﻹسلامية،هو من الحقوق، التي يجتمع فيها حق الله ـ المجتمع ـ وحق العبد، وحق الله فيها غالب.(28)أما في فقه القانون الوضعي، ﻓﺈنه بالرغم، من أن حق اﻹنسان في السلامة الجسدية، هو حق فردي، وأن هذا اﻹنسان، هو صاحب الحق، أو المصلحة في سلامة جسده، ﺇلا أن للمجتمع، حق ارتفاق، على ذات الجسد، ذلك أن تمتع اﻹنسان بهذا الحق، مرتبط بالنظام العام، داخل المجتمع. فللفرد، ألا تتعطل وظائف الحياة في جسده، وله أن يحتفظ بمادة جسمه، وله أن يحرر من كافة اﻵلام البدنية، والنفسية، ولكن كل أولئك، لايمنع من اﻹعتراف، بالقيمة اﻹجتماعية لهذا الحق.

واﻹعتراف بالصفة الاجتماعية لحق اﻹنسان في سلامة جسده، هو الذي خول الشارع، انتهاك هذا الحق، لعلو مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد، كما هو الحال، في ﺇجبار الفرد، على التطعيم ضد الأمراض المعدية، وما يفرض من فحوص طبية، على راغبي الزواج، تجنبا، لخلق نسل مريض.وكذلك، ماتفرضه سلطات المجتمع، من بعض اﻹنتهاكات الصارخة للحق في السلامة الجسدية، من أجل كشف الحقيقة، بحجة، أن مصلحة المجتمع في الوصول ﺇلى الحقيقة، أسمى من مصلحة الفرد، في حماية سلامته الجسدية، وحقه في الخصوصية. (29)

2 ـ ﺇن اﻹجبار، على فحص المحتوى الوراثي، لايقتضي في الواقع، مساسا ضارا بالجسد، لأن المكون الوراثي، كما سبق البيان، يمكن معرفته، من خلية واحدة، من جسد الشخص، وقد تتوافر هذه الخلية، من شعرة،أو شكة ﺇبرة، أو مادونها. وهو مايعني، أن اﻹجبار على فحص المحتوى الوراثي، لايتضمن في الواقع، مساسا بالسلامة الجسدية، للمعني بالأمر، بقدر، مايتضمن، مخالفة ﻹرادته، والتي قد تنصرف، ﺇلى التهرب من تهمة، أو التنصل، من حق واجب.

وعليه، يصعب في هذا اﻹطار، التسليم، بوجاهة الحجة، الخاصة بحرمة الجسد، وعدم جواز المساس به، فلاشك أن هذه اﻹعتبارات تتطلب ﺇعادة النظر، في الدلالة التقليدية لمبدأ حرمة الجسد، والحد من جبروتها، وطغيانها على سير العدالة ومقتضياتها الطبيعية، والمنطقية. والواقع أن هذا مابدأ الفقه الحديث، في النظر ﺇليه بعين اﻹعتبار، خصوصا في حالة قابلية الخلايا الصالحة للفحص، ﻠﻹنفصال الطبيعي عن الشخص المعني، دون أي مساس بجسده، فيمكن حينئد فحص هذه الخلايا، دون مراعاة لمعارضة الشخص المعني. بينما لايزال التوجه الداعي، ﺇلى ضرورة الحفاظ الدائم، على الحرية الفردية، قائما ويرى أن ذلك ﺇن لم يتضمن مساسا بحرمة الجسد ماديا فهو يتضمن مساسا بحرمته المعنوية، وهما مالايكمن فصلهما دائما.(30)

3ـ مع أن الفحص الجيني، لايتضمن مساسا بالسلامة الجسدية، فلو افترضنا أنه يحقق ضررا معنويا نفسيا وليس ماديا، ﻓﺈنه لن يكون بحجم وبقدر الضرر في الواقعة محل التقاضي. أي لايمكن، أن يقارن بالضرر الذي سببه للولد والأم والمجتمع بضياع أو اختلاط النسب، نتيجة رفضه الخضوع للتحليل الجيني، والقاعدة الفقهية تقول: تطبيق قاعدة دفع الضررين.

4ـ ﺇن الشخص، الذي بيده حق يمنعه، مع قدرته على الوفاء به، دون تضرر، فقد ذهب ابن القيم ﺇلى جواز ﺇجباره، على دفع هذا الحق، بمالايضر الحواس، ولا يؤثر على سلامة البدن. (31)
5ـ تختلف النظرية اﻹسلامية، عن القوانين الوضعية حول حق النسب. فحفظ مقصد النسب، من الضروريات الخمس في الشريعة اﻹسلامية، وهو من الحقوق، التي يجتمع فيها حقان حق الله ـ المجتمع ـ وحق العبد، لكن حق الله غالب. بمعنى، أن حق النسب، تتحقق به مصلحة المجتمع،وفي نفس الوقت، به مصلحة خالصة للفرد، ولكن المصلحة العامة، ترجح فيه على المصلحة الخاصة.(32) ومن ثم، ﻓﺈن هذا النوع من الحقوق، يضاف ﺇلى الله تعالى، وذلك لترجيح المصلحة العامة، على المصلحة الخاصة.

   6ـ المفارقة الغريبة أن حفظ النسب، وحفظ النفس، في الشريعة اﻹسلامية، من المقاصد الخمس، الضرورية، التي يجب المحافظة عليها، وكلاهما، من الحقوق المشتركة بين الله والعبد، وﺇن كان حق العبد أرجح في حفظ النفس، لذلك لولي أمر المجني عليه، أن يسقط حقه في الدعوى، وفي تنفيذ العقوبة. خلافا للنسب، الذي فيه حق الله غالب، وحق العبد مرجوح، وبالتالي، ليس للعبد، ﺇسقاط حقه فيه، لما يترتب عليه، من ﺇسقاط حق الله، لذلك،يتصور الباحث، أنه ﺇن كان اﻹجبار على ﺇجراء التحليل الجيني لازما، فيجب أن يكون في حفظ النسب، لأن حق الله فيه أرجح، وهذا يخالف، تصورالقوانين الوضعية، التي تلزم المتهم، حال ارتكاب جريمة قتل عمد، مثلا، الخضوع للتحليل الجيني، رغما عن ﺇرادته، لأنه بفعلته، يكون قد ارتكب جريمة، تمس المجتمع، حيث ﺇنها جعلت حفظ النفس، حقا للمجتمع.أما في حال دعوى بشأن النسب، فلايجبر الشخص، على ﺇجراء التحليل الجيني، رغما عنه، لأنها لم تجعل النسب، يتعلق به حق المجتمع.

7ـ أن الخضوع للتحليل الجيني، لايشكل مساسا بالحق في حرمة الحياة الخاصة، لما يقابل القيام بهذا اﻹجراء، من التزام التقيد بالسر المهني.

وعلى هذه الأسس، يبني الباحث رأيه الشخصي، بخصوص رفض الشخص، ﺇجراء التحليل الجيني، لكشف حقيقة النسب، بأن رفضه، لايجوز، لأن فيه ﺇسقاط لحق الله، حيث ﺇنه، في جميع الأحوال التي يكون فيها الحق دائرا بين الله والعبد،لايجوز للعبد، ﺇسقاط حقه، ﺇذا ترتب عليه، ﺇسقاط حق الله تعالى(33). وهذا خلافا للنظرية الوضعية، والتي لا تعرف لحقوق الله موقعا، وهي  تقدس الفرد، والحقوق الفردية، على حساب حق المجتمع، لذلك، اعتبرت التشريعات الغربية، والعربية التي تدور في فلكها، أنه، لايمكن ﺇجبار الشخص، على الخضوع للتحليل الجيني، ليس لأنه يمس بسلامة الجسد، أو بالحياة الخاصة، وﺇنما تطبيقا لمبادئ النظرية الفردية، التي تغالي في تقديس الفرد وحريته، وتنظر للمجتمع دائما، من وجهة نظر الفرد، فتبالغ في تقدير أهميته، كشخصية مستقلة، لها كيان منفصل، عن كيان اﻵخرين.(34)
 
 الهوامش
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد سعد خليفة: الحق في الحياة وسلامة الجسد،دارالنهضة العربية، القاهرة،1996، ص 69–70.
(2) فقد نهى الاسلام عن التمثيل بالجثة، وشرع الغسل، والتكفين، والصلاة على الميت، كما حرم نبش القبور. حسن سعد محمد عيسى:لحماية الدولية لحق اﻹنسان في السلامة الجسدية،دار النهضة العربية،القاهرة ،1999، الطبعة الأولى، ص 46.
(3)أنظر سورة البقرة:ﺁية 195.
(4) محمد سعد خليفة: المرجع السابق، ص 62 –63.
(5) حسن سعد محمد عيسى: المرجع السابق، ص 55–56.             
(6) حسن سعد محمد عيسى: م. س،  ص 17– 18 – 20.
Christine Hennau Hublet et Bartha Maria Knoppers: op.cit. p:132,436,437,438.(7) عبد اللطيف الهميم: احترام الحياة الخاصة: الخصوصية في الشريعة اﻹسلامية والقانون المقارن،دارعمان،عمان، 2004، ص 97–98.
(8) المرجع السابق: ص 165.
(9) أنظر سورة النور: اﻵية 27–28.
(10) وهي حديدة، يسوى بها شعر الرأس، وقيل هو شبط المشط، وقيل هي أعواد تحدد، تجعل شبه المشط.أنظر: شرح النووي على مسلم: 14 /137، لسان العرب لابن منظور :14/255.
(11) صحيح البخاري: 11/20، كتاب اﻹستئذان، باب اﻹستئذان من أجل النظر.
(12)أنظر سورة الحجرات: اﻵية12.
(13) رواه الترمذي عبد الله بن عمرو، في كتاب البر، باب ماجاء في تعظيم المسلم، سنن الترمذي رقم 2033.
(14)عبد اللطيف الهميم : م.س، ص 98–99–101. حسن سعد عيسى: م.س،  ص 63–64.
(15)تنص المادة الثامنة من الميثاق الأوربي لحقوق اﻹنسان، على احترام الحياة الخاصة.
(16) حسن سعد محمد عيسى: م.س، ص41. حسام الدين كامل الأهواني: الحق في احترام الحياة الخاصة: الحق في الخصوصية،دار النهضة العربية، القاهرة،1978،ص 36.
(17) حسن سعد محمد عيسى: م .س،  ص 42.
(18)عبد اللطيف الهميم: م. س،  ص 38.
 (19) يرى البعض، أنه ﺇذا كان الفقهاء، قد نصوا على استحباب اتخاذ السجلات لقيد الحقوق، والأحكام، ونص بعضهم، على وجوب ذلك،ﺇذا تعلق الأمر، بحق ناقص الأهلية، أو عديمها، فمن الضروري، استصدار قرار إداري، يمنع استخراج شهادة بقيد ميلاد طفل،ﺇلا بعد ﺇجراء البصمةالوراثية، لترفق، وتلصق بتلك الشهادة، على أن تكون بصمة الطفل، مطابقة لبصمة الأبوين،اﻟﻟﺫين تبتت علاقتهما الشرعية، في وثيقة الزواج. وﻫﺫا الأمر، يستوجب باليقين، أن تسجل البصمة الوراثية، لكل من الزوجين، بمجرد العقد، وقبل الدخول. وتقرن تلك البصمة الخاصة بالزوجين معا، بقسيمة الزواج الرسمية، حتى إﺫا ما رزقهما الله بمولود، توجها لتسجيل اسمه، مع بصمته الوراثية، التي يجب أن تتطابق مع بصمة والديه، الثابتة في عقد الزواج، على أساس أن ﻫﺫا،هو أقل حق، يمنح لطفل القرن الحادي والعشرين،اﻟﺫي ولد في ظل الثورة العلمية. فان من حق هدا الطفل، اﻹنتماء إلى أبوين حقيقين، كما أن من حق الزوج، ألا ينسب اليه،إلا من كان من صلبه.http://ww1.islamonline.net.حرمة الحياة الخاصة ومدى الحماية التي يكفلها له القانون: أطروحة لنيل درجة الدكتوراه، جامعة القاهرة، القاهرة، 2000 ،ص 6.
(20) جميل عبد الباقي الصغير: أدلة اﻹثبات الجنائي والتكنولوجيا الحديثة: أجهزة الرادار، الحاسبات اﻵلية،البصمة الوراثية.النهضة العربية، القاهرة ،2002 ، ص 74– 75.
(21) لم يبق المشرع الفرنسي بعيدا عن التقدم العلمي، وﺇنما حاول اﻹستفادة منه على المستوى القانوني، وخاصة فيما يتعلق ﺒﺈثبات ونفي النسب، وهكذا فبواسطة القانون رقم 65 ـ94 الصادر في 29 يوليوز 1994، المتعلق بحرمة الجسم البشري، أضاف المشرع الفرنسي، ثلاث مواد ﺇلى القانون الفرنسي، وتتمثل هذه المواد فيما يلي:
1 ـ المادة 10ـ16:وقد نصت، على أن البحث الجيني المحدد لخصائص الشخص، لايمكن ممارسته ﺇلا لأسباب طبية، أو علمية، ويجب الحصول على موافقة الشخص المعني قبل ﺇجراء التحليلات الجينية عليه.
2 ـ المادة 11ـ16:وقد نصت على أن تحديد هوية الشخص، عن طريق بصمته الجينية، لايمكن أن يتم، ﺇلا في ﺇطار ﺇجراءات التحقيق، التي تفرضها دعوى قضائية، أو خدمة أهداف طبية، أو علمية.
في المواد المدنية، ﻓﺈن هذا التحديد، لايمكن أن يتم، ﺇلا تنفيدا للأمر ﺒﺈجراء بحث، يأمر به القاضي في دعوى تتعلق بالنسب، وشريطة الموافقة المسبقة للمعني بالأمر.
3 ـ المادة 12 ـ16:وقد جاء فيها، أن التحليلات الجينية، لايمكن أن تتم ﺇلا من جانب أشخاص مقبولين ومسجلين بجدول الخبراء. محمدالكشبور: البنوة والنسب في مدونة الأسرة،مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء،2007 ص 193–194.
(22)جميل عبد الباقي الصغير:  م س ،ص 76 إلى 83.
(23)محمد محمد أبو زيد : م.س، ص111–112113114– 115.
(24) قرار محكمة اﻹستئناف الدارالبيضاء رقم 1184، بتاريخ 29/05/2006، في الملف رقم 809/04، (قرار غير منشور).
(25)قرار محكمة اﻹستئناف الدرالبيضاء رقم 2615، بتاريخ 29/11/2006، في الملف رقم 1765/06، (قرار غير منشور).
 (26) جريدة الوطن: عدد2669، الأحد محرم 1429ە، الموافق 20 يناير 2008.
(27)ماجدة بن جعفر: م.س، ص8.
(28) محمد سعد خليفة: م. س،ص71.
(29) حسن سعد محمد عيسى: م .س، ص26.
(30) محمود عبد الرحيم مهران: م. س ، ص219– 222–223.
(31)ابن القيم: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، دار الجيل، بيروت، 1998.
(32)ﺁدم عبد البديع ﺁدم حسن: م. س،ص133.
(33) اﻹمام القرافي: الفروق،دار المعرفة، بيروت، ج1/ ص 141.
(34) ﺁدم عبد البديع ﺁدم حسن: م. س،ص128.