الجمعة، 30 مايو 2014

واقع و آفاق السياسة الجنائية في مجال الأسرة - ذ. عبد المنعم الأزمي الإدريسي




ذ. عبد المنعم الأزمي الإدريسي
 قاض بالمحكمة الابتدائية بتاونات
         مركز غفساي
وباحث بكلية الحقوق بفاس
             
 مقدمة:        
       تعتبر الأسرة كخلية اجتماعية نواة كل مجتمع كيفما كانت مرجعيته العقائدية أو الإيديولوجية، فكلما صلحت هذه النواة صلح المجتمع كله، وكلما فسدت حل الفساد بالمجتمع كله ورغم التحولات التي عرفها المجتمع المغربي، بقيت الأسرة محافظة على استمراريتها في أداء رسالتها داخل المجتمع، بخلاف الوحدات الاجتماعية الأخرى التي عرفت نوعا من التفكك والاندثار مثل القبلية والعشيرة، مع الإشارة إلى أن مفهوم الأسرة بدوره تقلص من العائلة الممتدة التي يعيش داخلها الجد والأبناء والأحفاد، إلى الأسرة النووية التي يقتصر فيها الزوجين على إنجاب طفلين أو ثلاثة
على أبعد تقدير.
        ولما كانت الأسرة وحدة أساسية في تشكيل المجتمع فقد كان ضروريا اعتمادها ضمن استرتيجية الدولة عند سنها ووضعها للسياسة الجنائية، ومن هنا فقد كان المشرع المغربي دائم الاهتمام بالأسرة في هذا المجال مما أدى تأسيس سياسة جنائية خاصة الأسرة (المحور الأول) إلا أن ذلك يبقى غير كافي بالنظر للتطورات الذي تعرفها مؤسسة الأسرة داخل المجتمع المغربي مما يتعين معه تطوير السياسة الجنائية في مجال الأسرة (المحور الثاني)
المحور الأول: واقع السياسة الجنائية في مجال الأسرة
        إن الحديث عن واقع السياسة الجنائية الخاصة بالأسرة (الفقرة الثانية) يقتضي منا تناول نشأة وتطور السياسة الجنائية بالمغرب بصفة عامة (الفقرة الأولى).
الفقرة الأولى: مفهوم و تطور السياسة الجنائية بالمغرب
        قبل الحديث عن تطور السياسة الجنائية بالمغرب (ثانيا) لابد من تحديد هذا المفهوم(أولا).
أولا: مفهوم السياسة الجنائية
        لقد كان أول من استعمل مصطلح السياسة الجنائية هو العالم الألماني فويارباخ Feurbach وذلك للدلالة على الوسائل التي يمكن اتخاذها في وقت معين وفي بلد من أجل مكافحة الإجرام[1].
        وعرفها الفرنسي مارك أنسل Marc Ancel بأنها تهدف إلى تطوير القانون الجنائي الوضعي وتوجيه كل من المشرع الذي يسن القانون والقاضي الذي يقوم بتطبيقه والمؤسسات العقابية التي تضطلع بتنفيذ التدابير التي يقضي بها هذا القاضي. ويعتبر هذا التعريف أكثر دقة من سابقه لكونه يوسع من نطاق السياسة الجنائية فيجعلها تهدف إلى حصر القواعد التي تحدد على ضوئها صياغة النصوص القانونية سواء فيما يتعلق بالتجريم أو الوقاية من الجريمة ومعالجتها، فتصبح بحكم ذلك هي التي تحدد المبادئ اللازم السير عليها في تعريف الجريمة لاتخاذ التدابير المانعة والعقوبات المقررة لها[2].
        والهدف من كل سياسة جنائية هو الحد من الظواهر الإجرامية المختلفة لذلك لا يمكن وضع سياسة جنائية قارة ودائمة لأن الجريمة تتطور باستمرار والمحترفون في تحايل مستمر على القانون[3].
        وتهتم السياسة الجنائية بالجريمة في مراحلها الثلاث وهي مرحلة ما قبل وقع الجريمة وذلك بسن إجراءات تمنع من وقوعها، ثم مرحلة وقوعها وذلك بتشريع إجراءات البحث عن مرتكبها ومحاكمتهم، ثم مرحلة بعد وقوعها بإجراءات تنفيذ العقوبات والتدابير الوقائية المحكوم بها على مرتكبي الجرائم.
ثانيا: تطور السياسة الجنائية بالمغرب
        لقد دخل مفهوم السياسة الجنائية بالمغرب للتشريع الجنائي المغربي لأول مرة بمقتضى المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 والذي جاء فيها على إشراف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك والذين يسهرون بدورهم على تطبيقها.
        إلا أنه انطلاقا من تعريف السياسة الجنائية المشار إليه أعلاه، فيمكن القول إن ملامح السياسة الجنائية بالمغرب تبلورت منذ عهد استقلال المغرب بصدور قانون المسطرة الجنائية ثم القانون الجنائي وقانون توحيد القضاء وتعريبه ومغربته، والهدف من ذلك هو إرساء دعائم قضاء جنائي موحد وحديث أساسه مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وأن المتهم برئ حتى تثبت إدانته.
        ولقد أخذ مفهوم السياسة الجنائية يتطور، سواء تعلق الأمر بقواعد التجريم والعقاب الموضوعية أو بالقواعد الإجرائية للمحاكمة وتنفيذ العقوبة وذلك بشكل يوازي التصورات الجديدة للدولة في مجال حقوق الإنسان والمرأة والطفل والأسرة، الأمر الذي دفع بالمشرع الجنائي المغربي إلى سن سياسة جنائية حديثة تستجيب لهذه التطلعات وذلك بتعديل مجموعة من القوانين الجنائية مع العمل على جعل مقتضياتها ملائمة للمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب والمتعلقة باحترام حقوق الإنسان[4] وحقوق المرأة[5] وحقوق الطفل[6] ومكافحة الإرهاب[7].
        وانطلاقا من هذه التصورات فقد تم تعديل قانون المسطرة الجنائية والقانون الجنائي وقانون المؤسسات السجنية وإصدار القانون المتعلق بالإرهاب[8]، وقانون تجريم التعذيب[9] وقانون الجرائم المعلوماتية[10] ثم قانون الحريات العامة[11] وقانون الهجرة.
        إلا أن ما يميز هذه التعديلات المدخلة على القانون الجنائي بصفة خاصة والمتمثلة في إضافة وإلغاء أخرى وتعديل فصول أخرى، هو عدم احتوائه لمجموعة من الجرائم المرتبطة ببعض مظاهر الحياة العصرية، أو تلك التي تنص عليها الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها المحكمة المغربية، كما أن المقتضيات الزجرية أصبحت توجد متفرقة على مجموعة من النصوص الخاصة، لذلك يتعين مراجعة القانون الجنائي مراجعة شمولية، وإعادة تبويبه وترقيميه حسب المواضيع التي ينظمها بشكل يسهل على القاضي الذي يطبقها التمكن منها وذلك البحث عن عقوبات بديلة للعقوبات الحبسية.
الفقرة الثانية: واقع السياسة الجنائية في مجال الأسرة
        تتموقع الأسرة داخل السياسة الجنائية في التشريع الجنائي المغربي في موقعين أساسيين أولهما، يعتبرها وحدة اجتماعية أساسية يتعين حمايتها من عوامل التفكك (أولا) والثاني يعتبرها وسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي ومكافحة الإجرام (ثانيا).
أولا: واقع حماية الأسرة في السياسة الجنائية
        لقد شكلت الأسرة على الدوام ركيزة أساسية للمجتمع وضمان مهمة للسكينة والاطمئنان وأحد العناصر الحضارية الجديدة بالتقدير والاحترام والحماية لاعتبارها الخلية الأولى في المجتمع لذا حرص المشرع الجنائي على حمايتها من كل ما يمكن أن يهددها في وجودها وكيانها واستمرارها وتماسكها فقد أولاها اهتماما من خلال القانون الجنائي ومن خلال النصوص الخاصة والمكملة له لضمان هذه الحماية[12].
        وتضطلع الأسرة بدور مهم في توجيه السياسة الجنائية باعتبارها نواة تقع وسط العلاقة بين الدولة والفرد، وهكذا تكون الأسرة سببا في متابعة الجاني ومعاقبته نتيجة ارتكابه لفعل جرمي يهدد كيان هذه الخلية، ومرة أخرى تمنع القانون الجاني من التدخل حفاظا على الرابطة العائلية التي تجمع الجاني بالضحية.
        وحتى في الحالات التي تكون فيها الأسرة سببا لإيقاع العقاب على الجاني الذي يرتكب فعلا جرميا ضدها، فإن العقوبة تختلف فتكون متشددة إذا كان الجاني والمجني عليه من أسرة واحدة، أو عائلة واحدة مثل قتل الأصول والاعتداء عليهم، وقد يكون الرابطة الأسرية والعائلية سببا لتخفيف العقوبة مثل قتل الأم لوليدها وذلك اعتقادا من المشرع أن التشدد في العقوبة في هذه الحالات قد لا يتلاءم مع خصوصية المحيط العائلي التي تهيمن عليه علاقات خاصة أساسها التضامن والتكافل والاحترام المتبادل.
        إلا أن الواقع العلمي أظهر ضعف فاعلية النصوص الجنائية المتعلقة بحماية الأسرة نظرا لبعض مظاهر التحلل والانحلال الذي أصاب بعض الأسر المغربية ونظرا لكون المقتضيات الجنائية الخاصة بحماية الأسرة ترجع إلى أواخر 1962 مما يستوجب إعادة النظر في السياسة الجنائية الخاصة بحماية الأسرة من خلال تجديد القانون الجنائي انطلاقا من دراسات مختلفة تهم جميع جوانب الأسرة[13].
ثانيا: واقع دور الأسرة في السياسة الجنائية في مكافحة الإجرام
        تعتبر الأسرة إحدى الركائز الأساسية التي تعتمد عليها السياسة الجنائية في وضعها لاستراتيجيات مكافحة الجريمة، انطلاقا من  دورها التربوي المتمثل في التنشئة السوية للفرد داخل المجتمع فمختلف التشريعات الجنائية تعتمد الأسرة كوسيلة من وسائل مكافحة الجريمة ويأخذ دور الأسرة في هذا الإطار وجهين الأول وقائي، يتمثل في اعتبارها وسيلة للضبط الاجتماعي للأفراد وذلك بتحميلها مسؤولية تربية ورعاية أفرادها وتوجيههم التوجيه الصحيح والسليم، ليكونوا أفرادا صالحين داخل مجتمعهم، والرقابة الاجتماعية التي تقوم بها الأسرة على أفرادها لمنعهم من الانحراف وولوج عالم الجريمة يفترض قوة ومتانة هذه الخلية، فلا يمكن لأسرة متفككة ومنحلة أن تقوم بدورها الوقائي لمنع أفرادها من الانحراف، وقد كشفت الدراسات أن المنحرفين ينحدرون في الغالب من أسر متفككة يغيب عنها أحد الوالدين سواء نتيجة للوفاة أو الطلاق أو الهجرة وأن هذه الأسر غالبا ما يشيع بداخلها انحراف من نوع ما[14].
        وفيما يتعلق بالدور الثاني للأسرة في السياسة الجنائية فيتعلق بعلاج الجريمة ومرتكبوها، ويتعلق الأمر هنا بالأساس بالأحداث الجانحين فقانون المسطرة الجنائية يعطي للأسرة مكانة مهمة في تسيير إجراءات البحث والمحاكمة وتنفيذ التدابير المحكوم بها في حق الأحداث، وهكذا ألزم مشرع المسطرة الجنائية ضابط الشرطة القضائية بإشعار الأبوين بإلقاء القبض على الحدث أو بالاحتفاظ به تحت الحراسة النظرية إذ اقتضته ضرورات البحث، وعلق تطبيق النيابة العامة للصلح الجنائي على موافقة الولي القانوني للحدث[15] كما ألزم حضور الأبوين أثناء محاكمة الحدث استثناء من مبدأ سرية محاكمة الأحداث[16] ويزداد دور الأسرة في علاج جرائم الأحداث بسن إمكانية تسليم الحدث الجائح لأبويه ولأسرته سواء كانت أصلية أو بديلة[17] كتدبير مؤقت أو تدبير للحماية والتهذيب، كما أعطى للأسرة إمكانية التقدم بطلب إرجاع الحدث إليها بعد إدانته بالسجن.
        ومن الأدوار العلاجية للأسرة في إطار السياسة الجنائية لمكافحة الجريمة ما أقره قانون السجون من ضرورة المحافظة على الروابط العائلية للمعتقل مع أسرته وعائلته لما في ذلك من فائدة كبيرة في مساعدة المعتقل على إعادة اندماجه في المجتمع بعد خروجه من السجن وعدم عودته لطريق الجريمة.
المحور الثاني: آفاق السياسة الجنائية في مجال الأسرة
        إن أمر سن سياسة جنائية حديثة خاصة بالأسرة، أصبح ملحا لموازاة التطور الذي عرفته مؤسسة الأسرة في الجانب المدني المتعلق بصدور مدونة الأسرة وإنشاء قضاء متخصص للبث في النزاعات الأسرية، لذلك يجب تفعيل كل المقتضيات القانونية الجنائية التي من خلالها تفرض الحماية الواجبة للأسرة والطفل بسن بدائل لمنطق الزجر والعقاب عن طريق إقرار عدالة تصالحية فيها يتعلق بالحماية الجنائية للأسرة (الفقرة الأولى) والبحث عن طرق بديلة للعقوبات السالبة للحرية في جرائم الأسرة (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: إقرار عدالة تصالحية في جرائم الأسرة
        إن إقرار عدالة تصالحية في جرائم الأسرة في إطار سياسة جنائية حديثة تهدف إلى حماية الأسرة والحفاظ على الروابط التي تجمع أفرادها رغم إخلال أحدهم بالتزاماته التي ينتج عنه فعل جرمي، يقتضي من المشرع تفعيل مسطرة الصلح في مثل هذه الجرائم (أولا) وإيجاد مؤسسة الوساطة (ثانيا).

أولا: تفعيل دور الصلح في جرائم الأسرة
        إذا كانت السياسة العقابية لها دور في ردع الجاني في بعض الجرائم التي تستوجب ذلك، فإنه في بعض الجرائم ذات الطبيعة الخاصة تكون العقوبة سببا في تفكك مجموعة من الروابط التي تجمع بين الجاني والضحية ومنها الرابطة الزوجية أو الأسرية، لذلك فقد برز حديثا توجها جديدا يشجع على استخدام الصلح بين الأطراف في المجال الجنائي خاصة في الجرائم البسيطة.
        وقد تبنى مؤتمر الأمم المتحدة معاشر لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين خلال شهر أبريل 2000 بقيينا مثل هذا التوجه واستحدث خطط عمل وطنية وإقليمية ودولية لدعم ضحايا الجريمة تشمل على آليات للوساطة والعدالة التصالحية[18].
        وقد اعتبر المشرع المغربي من جانبه الصلح سببا من أسباب سقوط الدعوى العمومية عندما ينص القانون صراحة على ذلك[19]، ومن الحالات التي أجاز المشرع إجراء الصلح بين الخصوم فيها ما نصت عليه المادة 41 من ق.م.ج الذي نص          على أنه يمكن للمتضرر أو المشتكى به، قبل إقامة الدعوى العمومية وكلما تعلق الأمر بجريمة يعاقب عليها بسنتين حبسا أو أقل أو بغرامة لا يتجاوز حدها الأقصى            5000 درهم أن يطلب من وكيل الملك تضمين الصلح الحاصل بينهما في محضر، وفي حالة موافقة وكيل الملك وتراضي الطرفين على الصلح، يحرر وكيل الملك محضرا بحضورهما وحضور دفاعهما، ما لم يتنازلا أو يتنازل أحدهما عن ذلك ويحال على رئيس المحكمة للتصديق عليه بمقتضى أمر قضائي لا يقبل أي طعن، وبموجب هذه المسطرة توقف إقامة الدعوى العمومية في مواجهة المشتكى به.
        من هنا يتبين أن المشرع المغربي أجاز إجراء مسطرة الصلح بين الأطراف في الميدان الجنائي وربط ذلك بالجرائم البسيطة التي يعاقب عليها بأقل من سنتين، وهو ما يوجب تفعيل الصلح بين الخصوم بصفة خاصة عندما يكون بينهما رابطة أسرية للحفاظ ما أمكن على تماسكهما واستقرارها، فالنيابة العامة عليها في مثل هذه الجرائم أن تقترح على الخصوم إجراء مسطرة الصلح بينهما للحيلولة دون إجراء المتابعة في حق المتهم لما لذلك من  آثار وخيمة على علاقتهما إذا كان بينهما رابطة أسرية.
        كما أجاز المشرع[20] إذا كان الأمر يتعلق بمتابعة من أجل جنحة من الجنح  المشار إليها سابقا في حالة تنازل المتضرر أن تحكم بإيقاف سير الدعوى العمومية         في  مواجهة المتهم.
        وبالنظر لدور الأسر ووظيفتها في المجتمع فعلى المشرع أن يعمل على إدراج إمكانية إجراء مسطرة الصلح في مختلف الجرائم التي تقع داخل المحيط الأسري، لأن إيقاع العقوبة على أحد أفراد الأسرة يؤدي حتما إلى تفكك الأسرة وانحلالها وتشرد أفرادها، وذلك إعمالا لمصلحة الأسرة في التماسك والاستقرار والتي تؤدي حتما إلى استقرار المجتمع الذي باسمه تمارس الدعوى العمومية ويتم الحكم وتنفيذ العقاب، فالمقاربة الزجرية للجرائم التي تقع داخل المحيط الأسري أبانت عن محدودية مفعولها في الحفاظ على الأسرة مما يطرح بحدة تفعيل العدالة التصالحية عند سن السياسة الجنائية الخاصة بالأسرة.
ثانيا: إيجاد مؤسسة الوساطة
        الوساطة نظام يستهدف الوصول إلى اتفاق أو مصالحة أو توفيق بين أشخاص      أو أطراف ويستلزم تدخل شخص أو أكثر لحل المنازعات بالطرق الودية[21]،               ويعتبر القانون الفرنسي من بين التشريعات التي اهتمت بتقنين هذه المؤسسة وأدخلتها             في صلب إجراءاتها الجنائية[22]، وهكذا أضاف الفقرة 7 للمادة 41 من قانون          الإجراءات الجنائية بموجب القانون رقم 525-99 بتاريخ 1999/6/23 والذي جاء فيها:                                  
"يستطيع مدعي الجمهورية .... قبل أن يتخذ قرارا في شأن الدعوى الجنائية وبموافقة الأطراف أن يقرر إجراء وساطة إذا تبين له أن مثل هذا الإجراء يمكن أن يضمن تعويض الضرر الذي أصاب المجني عليه ويضع نهاية للاضطراب المترتب على الجريمة ويساهم في تأهيل مرتكب الجريمة".
        وتتم إجراءات الوساطة بقيام مدعي الجمهورية مباشرة أو عن طريق مأمور الضبط القضائي أو وسيط لعضو النيابة العامة، بتذكير الجاني بالوقائع والالتزامات المترتبة على القانون ويوجهه لمؤسسة صحية أو اجتماعية أو مهنية، وأن يطلب منه تصحيح موقفه حيال القانون واللوائح وأداء تعويض الأضرار المترتبة على فعله الجرمي، وفي حالة نجاح مهمة الوساطة يتم تحرير محضر بذلك يوقع عليه الوسيط والأطراف وتسلم نسخة منه لكل وأحد من الأطراف، ويتم إيقاف الدعوى العمومية، وفي حالة عدم الوفاء بالالتزام نتيجة لسلوك الجاني كان لعضو النيابة العامة أن يطبق نظام التسوية الجنائية أو تحريك الدعوى العمومية.
        وتعد الوساطة بهذه المسطرة وسيلة من وسائل معالجة ظاهرة الإجرام البسيط وأعطت لعضو النيابة العامة خيارا جديدا للخيارات المتاحة أمامه لمواجهة الجريمة وهي حفظ الدعوى الجنائية أو تحريك المتابعة للوصول إلى معاقبة الجاني بالعقوبات المقررة قانونا فأضاف المشرع خيارا جديدا وهو أن يعلق تحريك الدعوى الجنائية على عدم وجود اتفاق بين الخصوم عن طريق الوساطة والضابط في اختياره هو جسامة الفعل المرتكب[23].
        وهذا النظام يشكل نمطا تفاوضيا لحل النزاع الجنائي بين الأطراف للوصول لتعويض عادل للمجني عليه عن الأضرار اللاحقة به من جراء الفعل الجرمي، كما يعطي هذا النظام للمجني عليه دورا أساسيا ومهما في تسيير الإجراءات الجنائية المتعلقة بالفعل الذي تعرض له وبالتالي تحقيق العدالة الجنائية، خاصة في الجرائم ذات الطبيعة الخاصة مثل جرائم الأسرة.
        وبخصوص المشرع المغربي وقف وفق عند مسطرة الصلح التي منحها للنيابة العامة في إطار المادة 41 من ق.م.ج. وذلك رغم أهمية مؤسسة الوساطة في فض النزاعات بصفة عامة والنزاعات الجنائية بصفة خاصة ففوائدها تتمثل في:
        - التخفيف من وقع الفعل الجرمي على الضحية والمجتمع
        - إعطاء الفرصة للجاني للتكفير على ذنبه بتعويض الضحية.
        - التخفيف على قضاء الحكم من عدد النزاعات المعروضة عليه وذلك بحلها في مرحلة ما قبل إجراء المتابعة.
        - منح المجني عليه دور في متابعة أو عدم متابعة الجاني.
        وبخصوص مجال الأسرة فإن هذه المؤسسة سيكون لها دور مهم وأساسي في فض مجموعة من النزاعات الجنائية ذات الطبيعة الأسرية والحيلولة دون عرضها على القضاء الذي يفصل فيها بموجب العقوبة، ومنها جنح إهمال الأسرة بجميع أشكالها والعنف بين الزوجين، الاعتداء على الأصول أو الفروع، فكل هذه النزاعات يمكن حلها عن طريق الوساطة، مما يؤدي إلى الحفاظ على تماسك واستقرار الأسرة وعدم تفككها بإجراء المتابعة ضد أحد أفرادها الجاني وتطبيق العقاب في حقه.



الفقرة الثانية: الطرق البديلة للعقوبات السالبة الحرية
        قبل الحديث في أشكال بدائل العقوبات السالبة الحرية (ثانيا) يتعين إبراز مبررات هذه البدائل (أولا).
أولا: مبررات بدائل العقوبات السالبة الحرية
        بعد الاكتظاظ الكبير الذي تعرفه مختلف المؤسسات السجنية بالمغرب نظرا لارتفاع معدل الاعتقال الاحتياطي[24] والعقوبات السالبة للحرية النافذة، بدأت الأصوات تتعالى من أجل إيجاد بدائل للعقوبات السالبة للحرية، لأن العقوبة الحبسية في ظل وضعية السجون الحالية يجعلها بعيدة عن وظيفتها التربوية لإعادة تأهيل المعتقل
        وهذه الأصوات ترى أن السجن ليس هو الحل الوحيد للعقاب ولا يجب اللجوء إليه إلا عند الضرورة القصوى وذلك لتخفيف الاكتظاظ داخل السجون وعدم إتقال كاهل الدولة بتولي السهر على السجناء وتهيئ متطلباتهم اليومية
        كما أن النتائج السلبية للعقوبة الحبسية المتمثلة في شعور المدان بالانتقام وصعوبة اندماجه داخل المجتمع بعد قضائه للعقوبة يشكلان مبررا إضافيا لهذه الأصوات المنادية لإيجاد بدائل للعقوبات السالبة الحرية وتساهم هذه البدائل في التقليل من عدد نزلاء المؤسسات السجنية ولعب دور فعالا في إعادة تهذيب سلوك المنحرفين والحيلولة دون الزيادة في تفاقم تصرفاتهم وإيجاد أرضية لإصلاحهم وإعادة إدماجهم في المجتمع، لأن سياسة الاعتقال تؤدي إلى جمع مرتكبي أفعال مخلة بالقانون في مكان واحد وهذا يحول دون تقويم سلوكهم بما يستوجبه الموقف من السرعة يضاف إلى ذلك التأثير على بعضهم وهو ما يطرح مجموعة من الصعوبات أمام المسؤولين ويجعل مهمتهم في الإصلاح تكاد تكون مستعصية إن لم نقل شبه مستحيلة[25].
        كما أن من بين المبررات التي يمكن اعتمادها في المطالبة بإيجاد بدائل للعقوبات السالبة للحرية هو طبيعة بعض الجرائم التي تقع داخل المحيط الأسري بين أفراد أسرة واحدة، ويكون الزج بأحدهم داخل السجن بداية لتفكك وانحلال هذه الأسرة كيفما كان الفعل المرتكب ولو كان بسيطا.
ثانيا: أشكال بدائل العقوبات السالبة للحرية
        بالرجوع للقانون الفرنسي الذي يعتبر مصدرا للتشريع المغربي في مجال السياسة الجنائية بشقيها الموضوعي أو الإجرائي، نجده يحدد مجموعة من البدائل للعقوبات السالبة للحرية ونذكر منها:     
×    العمل لفائدة المصلحة العامة.
×    الوضع تحت المراقبة لإلكترونية.
×     الوضع في الفضاء الخارجي.
×     نصف الحرية.
×     وقف وتخفيض العقوبة وتبعيضها.
×     رخص الخروج تحت الحراسة.
×     رخص الخروج.
×     الإفراج الشرطي.
×     المتابعة الاجتماعية القضائية.
فكل هذه التدابير يتم اللجوء إليها في إطار القانون الفرنسي كبدائل لتطبيق العقوبات الحبسية على مجموعة من الجناة وهو ما يشكل تقدما واضحا للسياسة الجنائية الفرنسية في تحاملها مع إشكالية العقوبات السالبة للحرية.
    أما بالنسبة للمغرب فلا يزال التفكير في مثل هذه البدائل في بدايته باستثناء نصه على بعض منها في  قانون المسطرة الجنائية وقانون المؤسسات السجنية، وهكذا نص على تدبير الوضع تحت المراقبة القضائية كتدبير استثنائي يحول دون وضع المشكوك فيه رهن الاعتقال الاحتياطي[26].
    كما نصت على تدبير الإفراج المقيد بشروط يستفيد منه المحكومون بعقوبات سالبة للحرية والذين برهنوا بما فيه الكفاية على تحسن سلوكهم[27] ونص قانون المؤسسات السجنية على إمكانية منح المعتقلين رخصا للخروج بإذن  من وزير العدل بمناسبة الأعياد الدينية والوطنية لما في ذلك مساعدة للمعتقل في إعادة إدماجه داخل وسطه الأسري[28].
    وبالرغم من نص المشرع على هذه التدابير كبدائل للعقوبات السالبة للحرية، إلا أن ذلك يبقى غير كاف، وهو ما يؤكده الاكتظاظ الحاد الذي تعرفه مختلف المؤسسات السجنية، خاصة بمرتكبي الجرائم البسيطة والتي لها طابع خاص، مثل جرائم الأسرة، لذلك ينبغي التفكير جديا في إدخال مجموعة من البدائل للعقوبات الحبسية مثل الذي اعتمدها المشرع الفرنسي بالنظر لأهميتهما في تهذيب الجاني ومساعدته على اندماجه في المجتمع وأسرته من جديد، كما أن هذه البدائل من شأنها أن تحافظ على الروابط الأسرية وتحميها من التفكك بفعل تطبيق العقوبات الحبسية في حق أحد أفرادها.












[1]- أحمد فتحي سرور: أصول السياسة الجنائية فكرتها ومذاهبها وتخطيطها دار النهضة العربية القاهرة 1972            ص: 13.
[2]- جعفر العلوي: علم الإجرام مكتبة المعارف الجامعية السنة 2002 ص: 13 .
[3]- تقديم ندوة السياسة الجنائية بالمغرب واقع وآفاق جمعية نشر المعلومات القانونية والقضائية –سلسلة الندوات والأيام الدراسية العدد 3 المجلد الأول الطبعة 2 سنة 2004 ص: 6.
[4]- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 والعهدين الدولية للحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لسنة 1966.
[5]- اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لسنة 1979.
[6]- اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الجمعية للأمم المتحدة بتاريخ 1989/11/20.
[7]- القانون رقم 03.03 المتعلق بمكافحة الإرهاب الصادر الأمر بتنفيذ الظهير الشريف رقم 1.03.140 بتاريخ 28 ماي 2003 الجريدة الرسمية عدد 5112 بتاريخ 29 ماي 2005ص: 1755.
[8]- القانون رقم 43.04 المتعلق بمناهضة  التعذيب الصادر الأمر بتنفيذه بمقتضى الظهير الشريف 1.06.20 بتاريخ 2006/2/14 والمنشور بالجريدة الرسمية عدد 5398 بتاريخ 2006/2/23 ص: 492.
[9]- القانون رقم 07.03 المتعلق بالجرائم المتعلقة بنظم المعالجة الآلية للمعطيات الصادر الأمر بتنفيذه بظهير 2003/11/27 الجريدة الرسمية عدد 5171 بتاريخ 03/12/12 ص: 4284.
[10]- قانون رقم 77.00 الصادر الأمر بتنفيذه ظهير عدد 102.207 بتاريخ 02.10.3  المغير والمتمم بموجبه قانون الصحافة والنشر ظهير 1958/11/15  الجريدة الرسمية عدد 5075 بتاريخ 2003/1/20 .
[11]- القانون رقم 02.09 المتعلق بدخول وإقامة الأجانب بالمملكة المغربية وبالهجرة الغير المشروعة والصادر الأمر بتنفيذه رقم 1003.196 بظهير 11 نونبر 2003.


[12]- محمد مرزوكي السياسة الجنائية في مجال الأسرة والأحداث ومساعدة الضحايا "السياسة الجنائية بالمغرب واقع وآفاق مرجع سابق ص: 333 وما بعدها.
[13] - محمد مرزوكي: مرجع سابق ص: 337.
[14] - جعفر العلوي: مرجع سابق ص: 138.
[15] - المادة 460 من ق.م.ج.
[16] - المادة 461 من ق.م.ج.
[17] - المادة 479 من ق.م.ج.
[18]- مصطفى حلمي: السياسة الجنائية والعدالة التصالحية والطرق البديلة لحل النزاعات ندوة السياسة الجنائية بالمغرب واقع وآفاق: مرجع سابق المجلد 2 الطبعة 1 لسنة 2005 ص: 353.
[19]- المادة 4 من ق.م.ج.
[20]- المادة 372 من ق.م.ج.
[21]- مدحت رمضان بدائل الدعوى الجنائية والعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة (تبسيط الإجراءات الجنائية) ندوة السياسة الجنائية بالمغرب واقع وآفاق مرجع سابق ص: 301 المجلد 2.
[22]-  ظهرت مؤسسة الوساطة في القانون الفرنسي لأول مرة بموجب القانون رقم 2-93 الصادر بتاريخ 4 يناير 1993 وعدل بموجب القانون رقم 515-99 بتاريخ 1999/6/23 الذي عدل كذلك بموجب القانون رقم 204.2004 الصادر بتاريخ 2004/3/9.
[23]- مدحت رمضان: مرجع سابق ص: 316.
[24]-  مثلا في المغرب نجد أن من بين الأشخاص الذين يتم اعتقالهم يتم الإفراج على عدد منهم دون أن تصدر في حقهم عقوبات سالبة الحرية وهكذا فخلال سنة 2003 تم الإفراج على ما مجموعه 17715 معتقلا من بين الوافدين على المؤسسات السجنية موزعين حسب القرارات الصادرة في حقهم على الشكل التالي: السراح المؤقت 3717 عدم المتابعة 99، سقوط الدعوى العمومية 715 البراءة 3981، الغرامة 312، الإعفاء من المسؤولية 108، عقوبة حبسية موقوفة 87,83، وكان بالأحرى تفادي إيداع هذا العدد الكبير من الأشخاص في السجن والتخفيف بالتالي من ظاهرة الاكتظاظ التي تعرفها السجون عندنا، التقرير السنوي حول السجون 2003 ص14- 15 أشار إليه ذ عبد الجليل الفداني في موضوعه بدائل الدعوى العمومية وبدائل العقوبات السالبة للحرية، ندوة السياسة الجنائية واقع وآفاق مرجع سابق ص: 70.
[25] - ذ. مصطفى حلمي: مرجع سابق ص: 358.
[26]- نصت المسطرة الجنائية على تدبير الوضع تحت المراقبة القضائية في الفرع الأول من الباب التاسع في المواد من 160 إلى 174.
[27]- نصت المسطرة الجنائية على تدبير الأفراح المقيد بشروط في الباب الرابع من الكتاب السادس في المواد بين 622 إلى 632.
[28]- المادة 36 من قانون المؤسسات السجنية الصادرة بظهير 1999/8/25.


المجلة الإلكترونية لندوات محاكم فاس - العدد 5 أكتوبر 2007 - ص: 68-78 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم