السبت، 6 يوليو 2013

الاجهاض أحكامه وآثاره - جـ3

تتمة ...


المبحث الثالث
تحريم الإجهاض
يحرم الإجهاض بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل، ويعتبر بعد هذه المدة جريمة وجناية على إنسان مؤمن· وممن شدد في العقوبة في حال العمد الإمام ابن حزم حيث قال: (فإن قال قائل: فما تقولون فيمن تعمدت قتل جنينها وقد تجاوزت مائة وعشرين ليلة بيقين فقتلته أو تعمد أجنبي قتله في بطنها فقتله فمن قولنا: إن القود واجب في ذلك ولابد ولا غرة في ذلك إلا أن يعفى عنه فتجب الغرة فقط لأنها دية لا كفارة في ذلك؛ لأنه عمد وإنما وجب القود لأنه قاتل نفس مؤمنة عمداً فهو نفس بنفس وأهله بين خيرتين إما القود وإما الدية أو المفاداة كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل مؤمناً) (1)·
وللفقهاء آراء عدة بالنسبة للإجهاض قبل بلوغ الحمل مائة وعشرين ليلة ففي المذهب الحنفي أن الغرة لا تجب إلا باستبانة بعض خلق الطرح فإذا لم يستبن بعض خلق الطرح فلا إثم وفي باب الكراهة من الخانية (ولا أقول به إذ المحرم لو كسر بيض الصيد ضمنه لأنه أصل الصيد فلما كان مؤاخذاً بالجزاء فلا أقل من أن يلحقها إثم هنا إذا أسقطت بلا عذر إلا أنها لا تأثم إثم القتل (2)·
وفي المذهب المالكي -ذكرنا آنفاً- أن كل ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه غرة (3)· وفي المذهب الشافعي خلاف حول إسقاط الحمل الذي لم يبلغ مائة وعشرين يوماً وقد فرق الغزالي بين العزل والإجهاض فما قبل نفخ الروح يبعد الحكم بعدم تحريمه أما بعد نفخ الروح فما بعده إلى الوضع فلا شك في التحريم (4)·
وفي المذهب الحنبلي أشرنا آنفاً إلى أن المرأة إذا أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي فلا شيء فيه ، لأنه لا يعلم أنه جنين وإن شهد ثقات من القوابل أن في الطرح مبدأ خلق آدمي لو بقي تصور فأصح الوجهين أنه لا شيء فيه ؛ لأنه لم يتصور بعد فلم يجب فيه كالعلقة لأن الأصل براءة الذمة فلا تشغل بالشك (1)·
الإجهاض وحالات الضرورة :
الشريعة الإسلامية شريعة كمال ، وشريعة أمان ، وشريعة تسامح تأمر باليسر عند العسر ، وتدفع الحرج عند الضيق وفي قواعدها ومصادرها الأصلية والفرعية ما ييسر للإنسان المخرج من الضيق، ويخفف عنه التكليف عند الضرورة· فبعد ما بَيَّنَ الله للمسلم ما حرمه عليه من أكل الميتة والدم ولحم الخنزير ، وكل ما أهل به لغير الله وما في حكم ذلك أباح له تناول ما حرمه عليه عندما تشتد به الحاجة ، وتلجئه الضرورة تيسيراً له من العسر ، ورفقاً به من الضرر وقد بيَّن الله ذلك في كتابه العزيز فقال تعالى فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (2)· وقال تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج(3)· كما بيَّنه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن توتى معصيته) (4)· وقد رتب بعض الفقهاء على ذلك (وجوب) تناول الميتة وهي محرمة إذا خاف الإنسان على نفسه الهلاك ولم يجد غيرها مما يحفظ به نفسه (5)·
والضرورات كما يقول الإمام عز الدين بن عبد السلام مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصالحها وقد بنى الفقهاء على مسألة الضرورة قواعد عدة منها قولهم: إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما · وقولهم يزال الضرر الأشد بالضرر الأخف ، والضرورات تبيح المحظورات · وتدرك الضرورة بثبوت المصلحة من ارتكاب المحظور وأن تكون هذه المصلحة أكبر من المصلحة المهدرة ، وأن تقدر الضرورة بالقدر الذي تدرك به معنى وحساً · وفي حالة إجهاض الجنين للضرورة سنشير بإيجاز إلى حالتين الأولى حالة الخطر على الأم في حالة المحافظة على الجنين والثانية حالة الاغتصاب ·
الخطر على الأم بسبب الجنين :
إجهاض الجنين -كما مرّ معنا- محرم بالإجماع إذا بلغ عمره مائة وعشرين يوماً · وتحريمه مبني على نفخ الروح فيه بعد هذه المدة، واعتباره نفساً مؤمنة لها بحكم الحال وإكمال حقوق الإنسان من نسب وميراث ووصية ووقف ونحو ذلك إلا أن في المحافظة على أمه مصلحة أعم وآكد من المحافظة عليه فهو جزء متصل وهي كيان منفصل ، وهو فرع لم يكتمل وهي أصل قد اكتمل ، وفوات الفرع أهون من فوات الأصل فلهذا جاز إجهاضه ولو بعد نفخ الروح فيه إذا كانت المحافظة عليه تؤدي إلى موت أمه أو ضررها بما يقرب من الموت ·
ولتطبيق قاعدة الضرورة في الإجهاض ينبغي توفر شروط ثلاثة: أولها- وجود حالة مرضية تتطلب بالضرورة إجهاض الجنين للمحافظة على أمه كما لو تعرضت لعارض طبي يوجب علاجه إجهاض الجنين ، أو كان في انتظار ولادة الجنين خطر يهدد الأم كتمزق رحمها ، أو اشتداد مرض تعاني منه أو نحو ذلك مما يعرض حياتها للخطر في حال استمرار الحمل · والشرط الثاني تعذر علاج الأم واعتبار الإجهاض الحل الوحيد لإنقاذها من الخطر · الشرط الثالث- ثبوت الخطر بشهادة طبيبين عدلين متخصصين أو شهادة طبيب عدل متخصص في مكان لا يوجد فيه إلا هو·
حالات الاغتصاب :
تعتبر جرائم الاغتصاب من أشد المشكلات التي تعاني منها المرأة في الزمن المعاصر لما يسببه لها من أضرار نفسية واجتماعية · ويحدث جرم الاغتصاب على نحو فردي حين يقع على امرأة بعينها ، وتعاني من هذا الجرم المرأة في كل بلاد العالم · كما يحدث جرم الاغتصاب على نحو جماعي كما في حالات الغزو والعدوان ، وحالات الاضطراب والانتقام الجماعي ، وتعرض نساء طائفة أو جماعة معينة لحوادث الاغتصاب وفي مثل هذه الأحوال هل يجوز الإجهاض ؟
قلت : وقبل الجواب على هذا السؤال ينبغي أن نعرف طبيعة هذا الجرم وآثاره فهو جريمة تحاربها كل الشرائع السماوية والنظم الوضعية لما فيها من تعد على حرمة الإنسان ، وامتهان لكرامته ، وما يمثله ذلك من الظلم الذي حرمه الله وحذر منه وتوعد بالعقاب الشديد عليه وجريمة الاغتصاب كأي جريمة أخرى لها آثار على المحل الذي وقعت عليه ومن هذه الآثار ما لا يمكن تداركه ، ومنها ما يمكن تداركه أو على الأقل التخفيف منه؛ فالقتل يحدث أثراً نهائياً لا يمكن تداركه ، والعقاب عليه يتم بالقصاص منه، والإتلاف الكلي لعضو من الجسد لا يمكن تداركه ، ولكن من الجراح ما يمكن تداركه بعلاجه فيزول أثره وهنا تكون الجريمة أخف ·
وطبيعة جرم الاغتصاب تنتج أثرين: أولهما- التعدي وإحداث الجريمة وهذا لا يمكن محوه · والثاني- الحمل حال حدوثه وهذا يمكن محوه بإجهاض الجنين ولكن هل يجوز هذا شرعاً ؟
قلت : والجواب على هذا من وجهين: الأول- يجوز الإجهاض قبل مضي مائة وعشرين يوماً على الحمل وقد أجاز اللخمي من علماء المالكية استخراج ما في داخل الرحم من الماء قبل الأربعين يوماً (1)· وقد ذكرنا من قبل أن من فقهاء المذهب الحنفي من يبيح الإجهاض قبل نفخ الروح إذا انقطع لبن الأم بسبب الحمل وهي ترضع طفلها الآخر وليس لزوجها قدرة على استئجار مرضعة له ويخاف هلاكه (1)·
وإذا قسنا مسألة الإجهاض في حال الاغتصاب على مسألة جوازه في حال انقطاع لبن الأم فإن الجواز في المسألة الأولى آكد لأنه حمل وقع قسراً وكرهاً بينما الحمل في المسألة الثانية وقع بمحض الرغبة ببذل وسيلتها ·
الوجه الثاني- حالة الجنين بعد مرور مائة وعشرين يوماً فمع أن التقدم الطبي أصبح ظاهرة في هذا العصر بحيث تستطيع المغتصبة معرفة حملها في بدايته قبل بلوغ الجنين مائة وعشرين يوماً إلا أنها لأسباب مختلفة قد لا تعرف ذلك إلا بعد بلوغه هذه المدة حتى أصبح نفساً لها حق الحياة ·
قلت : ولم أعثر على نص للفقهاء -رحمهم الله- في هذه المسألة وإن كنت أجزم أنهم بحثوها مما لم أعثر عليه · وقد سمعت رواية عن حالات الاغتصاب الجماعي ومفادها أن الفقهاء في بلد مسلم في شمال القارة الأفريقية أفتوا حديثاً بجواز الإجهاض للنساء اللائي حملن بعد تعرضهن للاغتصاب على إثر حوادث الحدود التي وقعت بين هذا البلد وإحدى جاراته وإذا صح صدور هذه الفتوى كما روي فإن سندها وارد في مسألة الضرورة دفعاً لما سيصيب الأمة من أضرار بسبب وجود أطفال غير شرعيين فيها مما أجاز ارتكاب مفسدة لدفع مفسدة أعظم وفقاً لقاعدة أهون الشرين ·
أما في الحالات الفردية فإنها لا تخلو من أمرين :
الأمر الأول- إن كان المجتمع الذي وقعت فيه جريمة الاغتصاب لا يتأثر بوجود أطفال غير شرعيين فيه -كما هو الحال في عدد من المجتمعات المعاصرة- أو كانت الأم المغتصبة لا تتأذى من حمل وتربية طفل غير شرعي فحينئذٍ يحرم الإجهاض لزوال علة الضرورة وعدم احتمال المفسدة ·
الأمر الثاني- إن كان المجتمع الذي وقعت فيه هذه الجريمة لا يقبل آثارها ، أو كان بقاء الحمل يؤدي إلى أذى المغتصبة كما لو كان في استمرار حملها له يؤدي إلى مرضها من جراء معاناتها مما يعرض حياتها للخطر ، أو كان في استمرار حملها له خطر على عقلها بسبب ما أصاب نفسيتها من ألم يؤثر على قواها العقلية ، أو كان في استمرار حملها له عواقب ضارة على أسرتها كنشوء فتنة أو نحو ذلك من الأخطار الكبرى فعندئذ يجوز الإجهاض بعد توفر الضرورة له لما في ذلك من درء مفسدة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره · محمود حسن ودرء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن (1)·
وعلى أي حال فإن الضرورة في هذه المسائل تقدر بقدرها الشرعي إذ لا ينبغي أن تنتظر المغتصبة حتى يبلغ حملها شهره الثامن أو التاسع ·
وهنا ينبغي التنبيه إلى الفارق بين المغتصبة على الفعل المسبب للحمل وبين القابلة به فالأولى وقعت عليها الجريمة كرهاً ملجئاً فالتخفيف عنها بالتخلص من آثارها المستمرة أمر تتسع له قواعد الشريعة والثانية اختارت الفعل بإرادتها فوجب عليها تحمل آثاره الشرعية بما فيها تحريم الإجهاض ولعل هذا هو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أمر المرأة المقرة بالزنا أن تنتظر تنفيذ الأثر الشرعي حتى تلد طفلها ثم ترضه والله أعلم ·

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم