الأحد، 7 يوليو 2013

الاجهاض أحكامه وآثاره - جـ4

تتمة ...



المبحث الرابع
الإجهاض وحالات الوراثة
لقد سبق الإسلام علم الطب الحديث في علم الوراثة ، وما جاءت به نظرياته المعاصرة من وقائع وحقائق لم يكن إلا مجرد تفصيل وبيان لما أجمله الإسلام في هذا العلم بما يفيد عن حقيقة التوارث ، وانتقال العديد من عناصر التكوين العضوي والسلوكي بين من انتظموا في تسلسل عضوي ، وإن بعدت بينهم مسافة الزمن في هذا التسلسل ·
وقد دل على ذلك الحوار الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ضمضم بن قتادة الفزاري الذي تأذى -كما يبدو- من لون ولده وعَرَّض بنفي نسبه منه حين جاء على خلاف ما كان يتصوره فيه قال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل لك من إبل ؟) قال: نعم · قال: (فما ألوانها ؟) قال: حمر · قال: (هل فيها من أورق ؟) قال: نعم · قال: (فأنى ذلك) قال: لعله نزعة عرق · قال: (فلعل ابنك هذا نزعة عرق) (1)· وفي هذا الحوار إرشاد وبلاغ نبوي بحقيقة التوارث بين أعضاء الأسرة وبهذا لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفي النسب مسألة سهلة وإنما أرشده إلى إمكانية النفي إذا قامت الأدلة الشرعية عليه بدليل قوله عليه الصلاة والسلام (لعل) وبمعنى آخر إذا أثبت علم الطب في تطوره انتفاء الصلة بين الوليد والزوج تحقق الأثر الشرعي للنفي ·
وقد حرص الإسلام على تلافي تسلسل التوارث عندما يكون في أصل النسب مرض معد أو سلوك أو صفة غير مقبولة · ولهذا أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيهه على قضايا الزواج أن أهم الخصال التي تطلب من أجلها المرأة خصلة الدين في قوله في الحديث الذي رواه أبو هريرة: (تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) (1)· وفي قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي رواه يحيى بن سعيد بن دينار عن أبي وجيزة يزيد بن عبيد عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري: (إياكم وخضراء الدمن) فقيل له: وما خضراء الدمن ؟ قال: (المرأة الحسناء في المنبت السوء) (2)· وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (تخيروا لنطفكم) (3)· وقد تطرق الفقه إلى مسألة توارث الأمراض بشيء من التفصيل فأجاز لأي من الزوجين فسخ عقد النكاح إذا كان في أحدهما مرض مُعْدٍ لم يعرفه من قبل (4)· والذي يهمنا هنا هو مسألة الإجهاض وهل يجوز إذا كان في أحد الزوجين مرض يمكن انتقاله إلى الولد بالوراثة ؟
وبمعنى آخر هل يجوز إجهاض الجنين المصاب أحد أبويه بمرض نقص المناعة أو إدمان أمه بالمخدرات أو أي من الأمراض النفسية مثلاً ؟
قلت : ولم أجد فيما قرأته في هذه المسألة رأياً لأحد الفقهاء ولعل الجواب عليها يتفرع إلى مسألتين :
الأولى- مسألة الجنين قبل نفخ الروح فيه فإذا قسنا هذه المسألة على ما ذكره بعض فقهاء المذهب الحنفي -كما مر ذكره- من جواز الإجهاض قبل نفخ الروح في الجنين إذا انقطع لبن أمه وهي مازالت ترضع طفلها الآخر وليس في قدرة زوجها استئجار مرضعة له فإن معنى ذلك جواز إجهاض الجنين قبل نفخ الروح فيه إذا كان مرض أحد أبويه سينتقل إليه، ويستوجب هذا توفر شرطين: أولهما- أن يكون المرض مُعْدياً على وجه اليقين ، الثاني- انتقال المرض إلى الولد بالضرورة ·
ويؤخذ على هذا أنه مهما توفرت الأدلة على انتقال المرض وتأكيد عدواه فإن هذه الأدلة تظل ناقصة لأنها تحتمل الخطأ فقد تبرأ بإذن الله الأم من مرضها العضال أثناء الحمل ثم لا يكون حينئذ حجة للإجهاض، وقد يلهم الله أحداً من خلقه لمعرفة علة المرض العضال وعلاجه فتسقط الحجة حينئذ في الإجهاض · وقد لا تنقل عدوى المرض من الجنين وقد يسقط الجنين قبل تمامه إذا لم تكن حياته قد قدرت في أطواره الأولى ·
ولا تعارض بين هذا وبين إقرار الإسلام لمسألة التوارث فالأمر النبوي بالتخير للنطف أمر بالالتزام ابتداء فإذا غلبت الإنسان نفسه ولم يتخير في زواجه ، أو لم يعلم عن حقائق هذا الزواج إلا بع وجود آثاره فإن الأمر لا يمتد إلى هذه الآثار أي أن الحمل من زواج لم يتخير فيه الإنسان لا يعني إجهاضه لأن ذلك يعني ارتكاب أمر منهي عنه ·
المسألة الثانية مسألة الجنين بعد نفخ الروح فيه · وهذه المسألة آكد من الأولى فإذا كانت المحاذير واضحة في مسألة الإجهاض قبل نفخ الروح فيه فهي أوضح بعد النفخ لأن الجنين في هذه الحال يعتبر نفساً مؤمنة لها حق الحياة ، ولا يؤثر في هذا الحكم إن كانت النفس متكاملة التكوين أو ناقصته كالأشل والمريض ومن في حكمهما وينبغي التنبيه إلى مسألة مهمة هي تغير الظروف ووجوب تغير الأحكام والعلل والأسباب التي بنيت عليها فحين أجاز بعض فقهاء المذهب الحنفي -كما رأينا- الإجهاض قبل نفخ الروح فيه ينوه على عدم قدرة الأب استئجار مرضعة لولده حين ينقطع لبن أمه بسبب حملها الآخر · فإذا تغيرت الظروف ولم يعد استئجار المرضعة سائداً إمَّا بحكم تغير العادات ، أو بسبب تكاليفه ومن ثم حل محل ذلك الإرضاع الصناعي بتكاليف يقدر عليها الأب فإنهم حينئذ سيحرمون الإجهاض لزوال العلة ·
وإذا حبذ الاجتهاد عدم الزواج من الأقارب كما نصح عمر بن الخطاب رضي الله عنه بني السائب بأن ينكحوا الغرائب من الزوجات حتى تكون سلالتهم أقوى في تكوينها بقوله: (أراكم قد أضويتم فانكحوا الغرائب) (1)· فإن هذا الاجتهاد يتغير إذا توصل الطب في أي زمن إلى تلافي انتقال التوارث بين سلاسل النسب وبالتالي تنتفي العلة التي بُنِيَ عليها الاجتهاد ·
ومع ذلك فإن هناك حقائق لا يمكن تغييرها مهما تطور العلم والبحث فيها ؛ لأنها طبائع لا تتغير بزمن ، ولا تخضع لاجتهاد فغذاء الإنسان مثلاً له أثر مباشر ومؤكد في تكوينه فمن يأكل لحوم الحيوانات المتوحشة والمفترسة سيتأثر بها ولهذا حرم الإسلام أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير · والمرأة التي تنمو في بيئة غير صالحة تظل على      ما هي عليه فيصبح سوئها جزءاً من سلوكها وقلما يسلم من ذلك إلا من سلمه الله ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزواج بها لغلبة ما تطبعت به من سوء على سلوكها والشواهد العملية على هذا كثيرة في كل زمان ومكان ·
الفرق بين مسألة الإجهاض في حالات الوراثة وقضايا الاغتصاب :
وقد يقول قائل ما هو الفرق بين القول بإمكانية التسامح النسبي في الإجهاض بعد حدوث الاغتصاب وعدم التسامح في الإجهاض في حالات الوراثة ؟
قلت : والجواب على هذا من عدة وجوه :
أولها- أن الاغتصاب حالة اعتداء وقعت دون إرادة المرأة فهي إكراه يرفع عنها الخطأ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (2)· وهذا السبب لا يتوفر في حالات التوارث ·
وثانيها- يُعتبر الحمل في قضايا الاغتصاب مصدراً لألم المرأة وسبباً لاحتمال فساد صحتها ، ومرض عقلها ، والحفاظ على النفس وعلى العقل من الضرورات الشرعية التي أكد الإسلام عليها ، وهذا السبب المحتمل في حمل الاغتصاب لا يوجد في حالات الوراثة ·
وثالث الوجوه- أن مسألة مرض الجنين نتيجة التوارث مسألة ظنية في الغالب فقد ينتقل المرض إلى الوليد وقد لا ينتقل أمَّا قضية الاغتصاب فهي واقعة ، والحمل المتأتي منه سيظل كذلك واقعة مستمرة الآثار ·
ورابع الوجوه- أن الإجهاض في قضايا الاغتصاب غير مطلق بل مقيد بما ينتج عنه من أثر على المرأة أي أن تكون نفسها أو عقلها محلاً للخطر كما ذكر ·
خلاصة البحث
وخلاصة ما سبق أن الحكم الإلهي كما اقتضى امتداد نمو الخلق إلى أجل مسمى فقد اقتضى حماية هذا النمو في كماله من التعدي عليه حيث حرم القتل في أي صورة من صوره غير المشروعة · كما اقتضى الحكم الإلهي حماية هذا النمو قبل كماله فحرم قتل الجنين ، لأنه في حكم النفس المؤمنة التي عظم الله شأنها ، وحرم قتلها ، وأنه لولا المحافظة على الأجنة في بطون أمهاتها ، ومنع التعدي عليها لما حصل للأنفس أن تصل إلى مستواها من الكمال والوجود ، ولأصبح هذا خروجاً على طاعة الله ومنافاة لحكمته في الخلق ، وإعمار الأرض ·
ومن الواضح أن الإجهاض يُعد في هذا العصر إحدى المشكلات الاجتماعية التي تواجه العديد من البلدان خاصة ما يحدث منه إرادياً كالتعدي على الجنين من أمه ، أو من الطبيب أو من غيرهما ·
ورغم ما صاحب ويصاحب هذه المشكلة من دراسات فإن إباحة الإجهاض الإرادي لم تزل تثير في العديد من دول العالم جدلاً يتردد بين مؤيد ومعارض ، ولهذا الإجهاض حالتان :
الأولى- إجهاض مسبَّب تبيحه النظم في عدد من الدول بناء على مقتضيات وأسباب مختلفة منها السبب الطبي ويدخل تحته صور كثيرة كالخطر على الأم ، أو تشوه الجنين ، أو إصابة الأم بمرض وراثي · ومن هذه الأسباب حالات الحمل بعد الاغتصاب ، والرغبة في الحد من النسل لأسباب اقتصادية أو اجتماعية · ومن الواضح أن مسألة الإباحة من عدمها تتأثر مباشرة بالفكر السائد في أي مجتمع ، فالمجتمعات المحافظة تحظر الإجهاض ما لم يكن مبنياً على ضرورة طبية قصوى على عكس المجتمعات المادية التي لا تهتم بهذا ·
والحالة الثانية للإجهاض- الإجهاض المحرَّم وهو ما يحدث على خلاف الأحكام الخاصة بالإجهاض المباح أو العلاجي ، وقد وصلت أرقام هذه الحالة إلى عدة ملايين خلال العقدين الماضيين · ولهذه الظاهرة أسباب منها ضعف الضوابط الدينية ، وتفشي الاتصال الجنسي غير المشروع ومعالج آثاره بالإجهاض إضافة إلى ظواهر التشرد وتفكك الأسرة والفقر، واتجاه بعض الأسر إلى تحديد الإنجاب اتباعاً للأنظمة التي تحكمها أو من تلقاء ذاتها بسبب فقرها ·
وللإجهاض آثار سيئة من أخطرها الالتهابات ، وتعرض المرأة للجراثيم، واحتمال التسمم ، والعقم ، والأمراض النفسية والأسرية ، وتناقص العدد البشري للأمم ·
وقد وضع الفقهاء عدة تعريفات للجنين وتكاد كلها تجمع على وجوب الخلق فيه حتى تترتب له الآثار الشرعية ويميل بعض فقهاء المذهب الحنفي إلى التوسع في تعريف الجنين فيرون أن الماء في الرحم ما لم يفسد فهو معد للحياة · ويتعرض الجنين في بطن أمه للتعدي المادي كإدخال شيء في رحمها أو عصرها ، أو ضربها · كما يتعرض للتعدي المعنوي كالخوف أو التأثير النفسي ولم يرَ الفقهاء فرقاً بين الفعلين ·
وقد يكون التعدي المادي من قتل الأم أو الطبيب عن طريق الخطأ كشرب الأم دواء لا تعرض أضراره ، أو إهمال الطبيب أو خطئه في التشخيص وقد يكون التعدي عمداً يقصد به قتل الجنين ، وفي القصاص من العامد خلاف بين الفقهاء فمنهم من يراه ومنهم من لا يراه ·
وقد يكون التعدي كاملاً مما يؤدي فوراً إلى موت الجنين ، وقد يكون ناقصاً كالضرب أو الجذب الذي يتراخى أثره فيحدث الإجهاض بعد مدة، أو لا يحدث ولكن يصاب الجنين بعاهة جسدية أو عقلية ·
ويشترط لحدوث التعدي الكامل انفصال الجنين، وتوفر القصد، وثبوت السبب بين الفعل وأثره · وقد شدد معظم الفقهاء على نفي الضمان في حال الشك · ومن الواضح أن الحالات التي يمكن أن تكون محلاً للشك في زمن مضى قد لا تكون اليوم كذلك بعد أن تقدم علم الطب ووسائل التشخيص ·
والقاعدة الشرعية في الإجهاض تحريمه مطلقاً بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل ويُعد فعل ذلك جريمة وجناية على إنسان مؤمن· وللفقهاء آراء عدة بالنسبة للإجهاض قبل بلوغ الحمل هذه المدة فمنهم من يرى أن الضمان (الغرة) لا يجب إلا باستبانة بعض الخلق أو ما كان فيه صورة آدمي ومنهم من يرى أن كل ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الضمان (الغرة) ·
ولقاعدة التحريم استثناء مبناه كمال الشريعة ويسرها · والتخفيف عن المكلف ما لا يطيقه فإذا كانت المحافظة على الجنين تعني موت أمه جاز إجهاضه للضرورة ولو بعد نفخ الروح فيه ، لأن مصلحة الأم أولى وآكد ويشترط لتطبيق قاعدة الضرورة وجود حالة مرضية تتطلب بالضرورة إجهاض الجنين بعد أن تعذر علاجها ، وثبت خطرها بشهادة طبية معتبرة ·
ومن الاستثناء من قاعدة التحريم ، حالة الحمل التي تعرضت له المرأة تحت الإكراه الملجئ ، وأصبحت حالة الأم الصحية أو العقلية تستدعي التخلص منه بحكم الضرورة ودرء مفسدة محضة ·
وإذا كان ثمة ضرورة محتملة في حالات الاغتصاب وفقاً لما يقدره فيها النظر الشرعي فليس ثمة ما يمكن القول به عن وجود ضرورة في حالات الوراثة فمع أن الإسلام حرص على تلافي تسلسل التوارث عندما يكون في أصل النسب سلوك أو صفة غير مقبولة ، ومع أن الفقهاء نصوا على فسخ عقد النكاح في حالات المرض المعدي فإن مسألة انتقال العدوى عن طريق التوارث تظل دائماً مسألة ظنية ، واحترام النفس أمر عظمه الإسلام، وشدد العقاب على من يتهاون فيه · لهذا فليس هناك من دليل شرعي يجيز الإجهاض خشية انتقال العدوى سواء كان هذا الإجهاض للجنين (قبل) أو (بعد) نفخ الروح فيه ·
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خاتم أنبيائه ورسله محمد الأمين وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين ·

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم