الأربعاء، 11 مارس 2015

العدل وعلاقته بالمساواة في فقه الاسرة (جـ 1) - ذ/ حسن الشعيبي.

 
بحث مقدم بالندوة الثالثة عشر 
" تطور العلوم الفقهية " 
تحت عنوان 
"الفقه الاسلامي : المشترك الإنساني والمصالح " 
التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان خلال الفترة من 6-9/أفريل/2014

إعداد
حسن بن علي بن سيف الشعيبي

مارس 2014م
مقدمة

الحمدلله الذي أنارت شموس عدله كل الأكوان،و سبحانه من غمر الموجودات بالرحمة و الفضل و الإحسان،أحمده سبحانه على ما من به من الهدى و العرفان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من كل لسانه و بيانه عن إدراك دقائق عدله و الإحسان ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث بالحكمة والميزان، و القائم لله بالقسط خليفة الرحمن،صلى الله و سلم عليه و على آله وأصحابه ومن سار على نهجهم و اقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد :
فهذا بحث قصدت فيه بيان العدل وعلاقته بالمساواة في فقه الأسرة،ولعمري إنه لموضوع أكبر من أن تفي بحقه هذه الورقات، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
وقد كان الباعث على هذا دعوة كريمة تلقيتها من وزارة الأوقاف و الشؤون الدينية، للمشاركة في الندوة الثالثة عشر –تطور العلوم الفقهية- تحت عنوان: "الفقه الإسلامي:المشترك الإنساني و المصالح"بورقة عمل بعنوان:"العدل وعلاقته بالمساواة في فقه الأسرة" .
فبدأت بالبحث عن دراسات سابقة في هذا الموضوع، لكني لم أظفر بدراسة كاملة مستقلة – حسب اطلاعي القاصر- و غاية ما وجدته هو نبذ متفرقة في بطون الكتب ، ومقالات لبعض الكتاب و المفكرين على الشبكة العنكبوتية.
وسيكون منهجي في البحث كما يلي:
1-   عزوة الآيات إلى السور مع رقم الآية.
2-   تخريج الأحاديث من مصادرها الأصلية.
3-   توثيق النصوص من مصادها.
4-   ختمت البحث بخاتمة لخصت فيها البحث.
و بعد التأمل و القراءة ظهر لي أن تكون خطة البحث و تقسيماته على النحو التالي:
·        المقدمة
·        تمهيد في بيان مكانة العدل في الإسلام و علاقته بفقه الاسرة
·        المبحث الأول: في التعريفات و الفرق بين العدل والمساواة
-        المطلب الأول: تعريف العدل في اللغة و الاصطلاح
-        المطلب الثاني: تعريف المساواة في اللغة والاصطلاح
-        المطلب الثالث: تعريف علم فقه الأسرة
-        المطلب الرابع: الفرق بين العدل و المساواة
·        المبحث الثاني:العدل و المساواة في النكاح
-        المطلب الأول: العدل و المساواة في الحقوق الزوجية
-        المطلب الثاني: العدل والمساواة في تعدد الزوجات
·        المبحث الثالث: العدل و المساواة في الطلاق و العدة
-        المطلب الأول : العدل والمساواة في الطلاق
-        المطلب الثاني: العدل والمساواة في العدة
·        المبحث الرابع : العدل والمساواة في حقوق و عطايا الأبناء
-        المطلب الأول: العدل والمساواة في العطاء المادي
-        المطلب الثاني: العدل والمساواة في العطاء المعنوي
·        المبحث الخامس : ا العدل والمساواة في الميراث
·        خاتمة
وأخيرًا فقد حاولت من خلال هذا البحث الإسهام في إبراز بعض جوانب هذا الموضوع ، فما كان من صواب فمن الله - عز وجل - وما كان من زلل فمن نفسي، وأستغفر الله، ولا غرو؛ فإن العصمة والكمال لمن تفرد بالجلال، وهو حسبي وعليه الاتكال،{وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}([1]).
 
تمهيد:
لقد قامت شرعة الاسلام كلها على العدل و محاربة الظلم ، فنحن نجد الكثير من الآيات القرانية و الأحاديث تلح على العدل وتدعو إليه،والعدالة من القواعد الحكيمة التي فرضها الإسلام على أتباعه وحرص على أن يتخلقوا بها، وذلك في جميع نواحي الحياة ،لأنه الميزان الذي تقوم عليه السماوات والأرض..
وقد ورد الأمر من الله سبحانه وتعالى في إقامة العدل بشكل مطلق، كما ورد الأمر منه سبحانه وخاصاً بولاة الأمر في أن يعدلوا بين الناس، كما ورد الأمر للمؤمنين بأن يعدلوا في أعمالهم وفي أقوالهم وفي جميع تصرفاتهم، وكذلك نجد أن الأمر بالعدل جاء أيضا في أحكام الأسرة . وهذه الأوامر نجدها في عديد من الآيات القرآنية..
فتلك التي تنص على إقامة العدل بشكل مطلق وردت في قوله تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ([2]).
وقوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ ([3]).
وتلك التي تنص على إقامة العدل في الحكم وردت في قوله تعالى : ﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ ([4]).
والأمر للرسول الكريم بالعدل لم يرد بصفته نبياً ومبلغاً عن ربه، وإنما ورد الأمر بصفته وليّ أمر المسلمين، فهو أمر لكل من يلي أمور المسلمين بأية صفة كانت له.
وفي قوله تعالى : ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ ([5]).
وفي قوله تعالى : ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ ([6]).
وتلك التي تنص على إقامة العدل مع النفس والوالدين والأقربين وردت في قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ ([7]).
وفي قوله تعالى في: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ([8]).
وتلك التي تنص على إقامة العدل في القول وردت في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ([9]).
وتلك التي تنص على إقامة العدل في التعامل وردت في قوله تعالى : ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ ([10]).
وفي قوله تعالى : ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ ([11]).
وتلك التي تنص على إقامة العدل بين طائفتين من المؤمنين يقتتلون وردت في قوله تعالى : ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ ([12]).
وغير ذلك من الآيات التي تأمر بإقامة العدل في القول والعمل والتصرف.
وكما ﻳﺪﻋﻮ اﻹﺳﻼم إﱃ اﻟﻌﺪل ﰲ اﻟﻌﻼﻗﺎت بين اﻟﺒشر ﺟﻤﻴﻌﺎ ،فإنه أرسى مبدأ العدل داﺧﻞ ﻧﻄﺎق اﻷسرة، كيف لا يدعو إلى إقامة العدل في الأسرة ، وهي نواة المجتمع ، فإذا قام العدل فيها أصبح المجتمع قويا و عم العدل في المجتمع ككل، وجاءت آيات قرآنية تبين العدل في أحكام الأسرة منها:
العدل بين الزوجات فيما إذا كن أكثر من واحدة ورد في قوله تعالى : ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ ([13]).
وقال تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾([14]) .
وقال تعالى: ﴿فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا﴾([15]) .
وقوله تعالى: ﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ﴾([16]).
وقوله تعالى: ﴿  ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله([17]).

المبحث الاول : التعريفات والفرق بين المساواة والعدل
المطلب الأول: تعريف العدل في اللغة والاصطلاح
أولا: العدل في اللغة
العدل خلاف الجور، وهو القصد في الأمور، وما قام في النفوس أنه مستقيم، من عدل يَعْدِلُ فهو عادل من عُدولٍ وعَدْلٍ، يقال: عَدَلَ عليه في القضية فهو عادِلٌ. وبسط الوالي عَدْلَهُ  .
والعَدْلُ: الحكم بالحق، يقال: هو يقضي بالحق، ويعدل، والعَدْلُ والعِدْلُ والعَدِيلُ سواء، أي النظير والمثيل، فعِدل الشيء مثله من ضده، أو مقداره. والتعادل: التساوي، وعدَّلته تعديلاً فاعتدل: سوَّيته فاستوى، وعَدَلْتُ فلاناً بفلان، إذا سوَّيت بينهما، وتعديل الشيء، تقويمه، يقال: عدَّلته تعديلاً، فاعتدل، إذا قومته فاستقام([18]).
ثانيا :العدل في الاصطلاح
جاء في معجم مصطلحات الإباضية للعدل في حق الانسان عدة معاني منها:
 "ترك الميل عن الحق ،واتباع الوسط ،بلا إفراط و لا تفريط في الاعتقاد والقول و العمل و الخلق"([19]).
عرفه الجرجاني بقوله: " هو عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط "([20]).
المطلب الثاني: تعريف المساواة
يدور معنى المساواة على المماثلة والمعادلة يقول الراغب الأصفهاني  المساواة المعادلة المعتبرة بالذرع والوزن والكيل يقال هذا الثوب مساوٍ لذلك الثوب وهذا الدرهم مساو لذلك الدرهم وقد يعتبر بالكيفية نحو هذا السواد مساوٍ لذلك السواد ...... واستوى يقال على وجهين :
أحدهما : يسند إليه فاعلان فصاعدا نحو استوى زيد وعمر في كذا أي تساويا قال تعالى [لا يستوون عند الله }([21]).
والثاني : أن يقال اعتدال الشيء في ذاته([22])، نحو قوله تعالى: { ذو مرة فاستوى}([23]).
وقال : الخليل ساويت هذا بهذا، أي: رفعته حتّى بلغ قدرَهُ ومَبْلَغَه([24])، كما قال الله عزّ وجلّ:{حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ}([25]).
وقال ابن فارس السين والواو والياء أصلٌ يدلُّ على استقامةٍ واعتدال بين شيئين. يقال هذا لا يساوي كذا، أي لا يعادله، وفلانٌ وفلانٌ على سَوِيّةٍ من هذا الأمر، أي سواءٍ ([26]). هذا هو مدلول هذه اللفظة في المعاجم اللغوية .
ثانيا: المساواة في الاصطلاح
نجد أن المعنى الاصطلاحي للمساواة لا تتعدى معناها في اللغة ففي مصطلحات ألفاظ الفقه الإسلامي تسوية الشيء تعديله ([27]) .
المطلب الثالث : تعريف علم فقه الأسرة
أولا: تعريف الفقه:الفقه لغة يأتي بمعنى العلم بالشيء والفهم له ،قال تعالى حكاية عن موسى : ( وأحلل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ) ([28]).
وكذلك يأتي بمعنى دقة الفهم ولطف الإدراك ومعرفة غرض المتكلم قال تعالى : (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول ) ([29])،وقال تعالى : (فعال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً) ([30]).
والفقه في اصطلاح العلماء :
 " العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية "([31]).
ثانيا: تعريف الأسرة لغة واصطلاحاً :
الأسرة في اللغة : يطلق الأسر على المفاصل والشد والعصب ، ومنه : الأسرة الرجل : رهطه لأنه يتقوى بهم([32]).
والأسرة في الاصطلاح :
هي: "الوحدة الأولى للمجتمع وأولى مؤسساته التي تكون العلاقات فيها في الغالب مباشرة ويتم داخلها تنشئة الفرد اجتماعياً ويكتسب فيها الكثير من معارفه ومهاراته وميوله وعواطفه واتجاهاته في الحياة ويجد فيها أمنه وسكنه"
وهي: "رابطة اجتماعية تتكون من زوج وزوجة وأطفالهما وتشمل الجدود والحفدة وبعض الأقارب على أنْ يكونوا مشتركين في معيشة واحدة"([33]).
والإسلام بتشريعه السمح تناول الأحكام الشرعية التي تنظِّم علاقة الأسرة في حال إنشائها عن طريق عقد الزواج، وكذلك في حال إنهائها عن طريق الطلاق.
المطلب الرابع:الفرق بين المساواة والعدل
ومما تقدم من التعريفات يتبين لنا أن ثمة فرقا بين المساواة والعدل فالمساواة تعني رفع أحد الطرفين حتى يساوي الآخر أما العدل فهو إعطاء كل ذي حق حقه ، وهناك من يخلط بين هذين المصطلحين ويظن أن معنى المساواة مرادف لمعنى العدل وهذا ليس صحيحا إلا في حالة تماثل المتساويين من كل وجه – وهذا لا يكاد يوجد -  أما مع وجود الفروق , سواء كانت هذه الفروق دينية , أو خَلْقية , فإن لمساواة بينهما تكون ضربا من ضروب الظلم لكنه ألبس شعار العدل والإنصاف ولو أخذنا على سبيل المثال  -  قضية مساواة المرأة بالرجل – لوجدنا أن هناك فروقا واضحة بين الذكر ولأنثى ولذلك يقول الله عز وجل {وليس الذكر كالأنثى} ودعاة المساواة تجاهلوا هذه الفروق وغصوا الطرف عنها ؛ فوقعوا في ظلم المرأة من حيث يدعون أنهم ينصفونها ؛ لأنهم كلفوها بما لا يناسب خلقتها وطبيعتها التي خلقت عليها([34]) .
فالعدل هو ركيزة الحكم المراد منه تحقيق سعادة البشر، وهو ما أكدته النصوص الشرعية التي أسست لمفهوم المساواة ؛ التي تدعو إلى المساواة والتمييز كليهما حين يتوقف عليهما العدل بين الناس، وهكذا؛ فإن المساواة إذا لم تكن في إطار العدل فإن الدعوة إليها تشكل في الحقيقة دعوة إلى التخريب والفوضى والاضطراب، لأنها خروج عن القانون الإلهي الذي قضى بالتمييز بين مخلوقات وفي مجالات، وبالمساواة بين مخلوقات وفي مجالات أخرى([35]) .
إن العدل يشمل التسوية والتفريق وكلاهما موجود في الشريعة. أما المساواة فهي تشمل التسوية فقط، فالإسلام دين العدل وليس دين المساواة المطلقة، لأن المساواة قد تقتضي التسوية بين شيئين الحكمة تقتضي التفريق بينهما. ومن أجل هذه الدعوة الجائرة إلى التسوية صاروا يقولون: أي فرق بين الذكر والأنثى؟!
لكن إذا قلنا بالعدل، وهو إعطاء كل أحد ما يستحقه، زال هذا المحذور. فمن العدل التسوية بين الزوجات في النفقة، ومن العدل التسوية بين الأولاد في العطية، ومن العدل التفريق بين الرجل والمرأة في الميراث والشهادة.
وسأتحدث في المباحث عن العدل بمفهومه الذي يشمل التسوية والتفريق وكلاهما موجود في الشريعة، وسأبين موطن التفريق و التسوية مع بيان الحكمة قدر المستطاع.


المبحث الثاني : العدل و المساواة في النكاح
المطلب الأول: العدالة في الحقوق الزوجية
إن الإسلام الحنيف دين جاء بالحق والعدل ، فأعطى كل ذي حق حقه، ففي الحياة الزوجية جعل لكل من الزوجين حقوقا كما جعل عليه واجبات، يجب أن يعلمها خير علم، حتى يؤدي ما عليه من  واجب  خير أداء، ويطلب ما له من حق بصورة لائقة، وإذا علم  الزوج والزوجة ما له وما عليه و بذل وسعه في أداء الحقوق التي عليه، تتحقق العدالة في الأسرة ويسودها الطمأنينة والسكينة ، وتلك الحقوق تنظم الحياة الزوجية.
وسأتطرق لذكر هذه الحقوق إجمالا:
أولاً:حق الزوجة على زوجها:
للزوجة حقوق على زوجها يلزمه الوفاء بها، ولا يجوز له التقصير في أدائها، قال تعالى: ﴿ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف﴾([36]).  فالمرأة بحاجة في التعامل مع حقوقها بالعدل وليس بمساواتها بالرجل، فتعطى حقوقها كاملة التي كفلها لها ديننا الحنيف.
وهذه الحقوق هي:
1- النفقة: أوجب الإسلام على الرجل أن ينفق على زوجته من ماله وإن كانت ميسورة الحال، فيوفر لها الطعام والشراب والمسكن والملبس المناسب بلا تقصير ولا إسراف.
2- حسن العشرة : يجب على الرجل أن يدخل السرور على أهله، وأن يسعد زوجته ويلاطفها، لتدوم المودة، ويستمر الوفاق. قال تعالى: ﴿وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا﴾([37]).
3- تحصين الزوجة بالجماع: الجماع حق مشترك بين الزوجين، يستمتع كل منهما بالآخر، فبه يعف الرجل والمرأة، ويبعدا عن الفاحشة، ويُؤْجرا في الآخرة..
4-التبسم والملاطفة والبر: يجب على الرجل أن يكون مبسوط الوجه مع أهله، فلا يكون متجهمًا في بيته يُرهب الكبير والصغير، بل يقابل إساءة الزوجة بالعفو الجميل، والابتسامة الهادئة مع نصحها بلطف، فتسود المحبة تبعًا لذلك ويذهب الغضب.
5- المهر: وهو أحد حقوق الزوجة على الزوج، ولها أن تأخذه كاملا، أو تأخذ بعضه وتعفو عن البعض الآخر، أو تعفو عنه كلهً.
ثانياً: حق الزوج على زوجته:
يمثل الرجل في الأسرة دور الربان في السفينة، وهذا لا يعني إلغاء دور المرأة، فالحياة الزوجية مشاركة بين الرجل والمرأة، رأس المال فيها المودة والرحمة وقال تعالى: ﴿الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم﴾([38]).
ومن الحقوق التي يجب على الزوجة القيام بها اتجاه زوجها:
1-الطاعة: أوجب الإسلام على المرأة طاعة زوجها، ما لم يأمرها بمعصية الله تعالى، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد أعدَّ الله تعالى لها الجنة إذا أحسنت طاعته، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت"
([39]).
2- التزين لزوجها: حيث يجب على المرأة أن تتزين لزوجها، وأن تبدو له في كل يوم كأنها عروس في ليلة .
3- حق الاستئذان: يجب على المرأة أن تستأذن زوجها في جميع  أمورها منها صيام التطوع ولا يجوز للمرأة أن تأذن في بيت زوجها إلا بإذنه، ولا أن تخرج من بيتها لغير حاجة إلا بإذنه.
4- المحافظة على عرضه وماله: يجب على المرأة أن تحافظ على عرضها، وأن تصونه عن الشبهات، ففي ذلك إرضاء للزوج، وأن تحفظ مال زوجها فلاتبدده، ولاتنفقه في غير مصارفه الشرعية.
5-  الاعتراف بفضله: يسعى الرجل ويكدح؛ لينفق على زوجته وأولاده، ويوفر لهم حياة هادئة سعيدة، بعيدة عن ذل الحاجة والسؤال؛فالزوج له فضل عظيم على امرأته ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها" ([40]).

 فنجد أن حقوق الزواج يراعى فيها تحقيق العدل الاجتماعي بين الزوجين من جهة, وبينهما وبين المجتمع على حد سواء, ولأنه لا يمكن أن تُشرع الأحكام لمصلحة فئة على حساب فئة أخرى؛ لأن الكل خَلْق الله, فلا مزيَّة لهذا على ذاك.
ومن ناحية أخرى: فإن المجتمع عبارة عن مجموعة من العلاقات الزواجية, فلا يمكن تفضيل بعضها على بعض؛ ولذلك وضع لهذه العلاقات نظامًا محكمًا, يضمن لها ديمومة حياتها, واستقرارها, وأمنها؛ حتى يمكن أن تؤدي كل أسرة دورها في الحياة على الوجه الأكمل, ولا تتعطل مسيرة الحياة.
المطلب الثاني: العدالة في تعدد الزوجات
لقد جاء تشريع تعدد الزوجات في القرآن الكريم ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولكن جاءت إباحة التعدد مشروطة بشروط أهمها هو العدل بين الزوجات.
فقال تعالى : ﴿ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ([41]).
والمراد بالعدل في هذه الآية الكريمة هو العدل الذي يستطيعه الإنسان ويقدر على تحقيقه ، والأصل في العدل أن يكون في كل شيء من المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت والمعاملة بما يليق بكل واحدة منهن،([42])، فقد جاء عن الإمام جابر بن زيد –رحمه الله – أنه قال:"إن لي امرأتين وإني لأعدل بينهما حتى أني أعد القبل"([43]).
 أما العدل في الأمور التي لا يستطيعها الإنسان ، ولا يقدر عليها مثل المحبة والميل القلبي ، فالزوج ليس مطالباً به لأن هذا الأمر لا يندرج تحت الاختيار ، وهو خارج عن إرادة الإنسان ، والإنسان – بلا شك – لا يكلف إلا بما
يقدرعليه، ([44])،كما يظهر في قوله تعالى : ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ﴾([45])، والعدل والمحبة والميل القلبي هو الذي قال عنه الله سبحانه وتعالى : ﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ﴾([46]).
وكان رسول الله r ، وهو أكثر الناس معرفة بدينه وبمشاعره وأحاسيسه القلبية وأشد الناس حرصاً على تحقيق العدل بين زوجاته ، كان يقول : (( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك )) ([47]) ،وذلك بعد أن عدل بين زوجاته في كل شيء ما عدا ميل قلبه r إذ كان يميل أكثر إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها .
وإذا أقدم المسلم على التعدد وهو على يقين بعدم قدرته على العدل بين زوجاته في الأشياء المادية ، وهي المعاملة والمأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت ، فهو آثم عند الله I ، وكان من الواجب عليه ألا يتزوج بأكثر من واحدة.
وقد أكد رسول الله r وشدد على موضوع العدل بين الزوجات ووضح r عقاب الزوج الذي يقصر في حق من حقوق زوجاته فقال : (( إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما ، جاء يوم القيامة وشقه ساقط )) ([48]).
وأخيراً نقول : إن العدل بين الزوجات لا يعني التسوية المطلقة بين الزوجتين أو الزوجات ، بل العدل هنا هو إعطاء كل زوجة ما تحتاجه فعلاً إلى درجة الكفاية اللائقة بمثلها في الطعام والشراب والملبس والمسكن.



المبحث الثالث : العدل والمساواة في الطلاق و العدة
المطلب الأول: العدل والمساواة في الطلاق
إن الحياة لا تدوم قد تستمر على اتفاق ووئام، وقد يحصل الشقاق ويعقبها الفراق، وقد كتب الله العدل والإنصاف في كل حال، سواءٌ حال الرضى والسعادة، أو حال السخط والغضب وعلى الزوج أن يكون منصفاً عادلا، فإما أن يبقيها زوجة بكامل حقوقها، أو يسرحها بإحسان، دون إساءة وانتقام، ﴿فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان﴾([49]).
فلا تنقطع حقوق الزوجته على زوجها بعد الطلاق، بل إن هناك حقوقاً لازمة على كل طرف لابد من مراعاتها، ومن ذلك عدم ظلم المطلقة والإساءة إليها ﴿وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف..﴾ ([50])،﴿فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف﴾([51]).
ولما علم سبحانه وتعالى ما يقع من بعض الأزواج من ظلم ورغبة في استعادة صداقه الذي أصدقها إياه، فيعمد إلى الإساءة إليها ولتضييق عليها، ليلجئها إلى افتداء نفسها بشيء مما أصدقها إياه أو منحه لها، ﴿ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً .. فلا جناح عليهما في افتدت به..﴾ ([52])، بل إن المفترض على الزوج إن يبذل من ماله لزوجه لا أن يبتزها ويستعيد شيئاً مما أعطاها.
فكما جعل الإسلام الطلاق في يد الرجل ،فإنه جعل للمرأة مخرجا تقدر به التحلل من هذا العقد و الرباط وذلك بأن شرع لها الخلع .
ونجد أن من العدل في الطلاق أن  جعل له في الشرع شروطا كي لا يقع ظلم بالمرأة ومن هذه الشروط([53]):
يكون الطلاق طلاق سنة إذا طلّقها مرّة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ولا يلحقها طلقة أخرى، حتى تنقضي عدّتها، ولا يكون هذا الطهر عقب حيض طلّقها فيه.
و الطلاق الذي لا توفر فيه أحد الأشياء السابقة يعتبر طلاقا بدعيا و من صوره:
1ـ أن يطلّقها أكثر من واحدة دفعة واحدة.
2ـ أن يطلّقها في طهر جامعها فيه.
3ـ أن يطلّقها في الحيض.
4ـ أن يطلّقها زمن عدّتها
إن منح حقِّ فصم عرى الحياة الزوجية للرجل وحده لا يتعارض مع أسس القانون العام، ومع ما ينبغي أن تكون عليه أصول المساواة بين الرجل والمرأة، وبخاصة إذا علمنا ما يلي:
1 - أن المرأة قد قبلت ابتداءً أن يكون هذا الحق للرجل، وفقاً للأصول التي حددتها الشريعة الإسلامية.
2 -  أن المرأة تغلب عليها العاطفة، وتسيرها النزوات، فكان من الخطأ أن يكون هذا الحق بين يديها، فضلاً عن أنها لا تتحمل شيئاً من تبعاته، إذ العزم كله في عنق الرجل.
3 - أن الرجل يعتبر صاحب القوامة على هذه الشركة، فكان من الطبعي، أن يسند إليه حق الإبقاء عليها أو فضها.
4 -  أنه يمكن أن يكون هذا الحق بين يدي المرأة إذا اشترطته في عقد الزواج.
5 -  للمرأة من بعد أن تتفق مع زوجها على فصم هذا العقد مقابل حق مالي تدفعه له على المبارأة، وهي بذلك تعد طالقاً، وتملك أمر نفسها ([54]).
فالإسلام قد شرع الطلاق عند تعذر البقاء مع الطرف الآخر في العلاقة الزوجية، و جعله في ثلاث طلقات الأولى و الثانية يراجعان نفسيهما لكي يحلوا المشاكل التي بينهم و الثالثة إذا تعذر حل هذه المشاكل بينما نجد أن اليهودية كانت تبيح الطلاق ، وينتهي العقد بطلقة واحدة ، وينفصل الزوجان بعدها إلى الأبد ، ولا يحل لهما استئناف الحياة الزوجية ، فالطلاق مانع من تلاقي الزوجين مرة أخرى إلى الأبد .

جاء في كتاب ( الأحكام العبرية ) : " متى نوى الزوج الطلاق حرمت عليه معاشرة زوجته ، فبمجرد عزمه على مفارقتها وجب الإسراع إلى طلاقها "([55])
وقضت المسيحية إلا في قليل من الطوائف أن الطلاق ممنوع، وأن الانفصال لا يحل لأحد الزوجين إلا في أحوال ضيقة ونادرة ، إذا أعلنه الزوجان فهما في أسره إلى الأبد، ففي إنجيل ( متّى ) الإصحاح الخامس " … وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني ، ومن تزوج مطلقة فإنه يزني "([56])
المطلب الثاني: العدالة في العدة
إن الإسلام في شرعه العدة للنساء ، فيه حفاظ لحقوق الزوج و الزوجة معا ، وهذا من العدل و رفع الظلم عن الطرفين ، ويمكن أن نلخص المشروعة من العدة في النقاط التالية:
1.     إثبات براءة الرحم من الحمل على وجه يحفظ الأنساب و يمنع اختلاطها.
2.     بيان عظم شأن الزواج، و رفع قدره ، و إظهار شرفه ، فلا ينحل إلا بانقضاء مدة يعلم به انحلاله.
3.     إعطاء الزوج فرصة المراجعة أثناء العدة إن كان الطلاق رجعيا ، و إعطائهما معا فرصة لاستئناف الحياة الزوجية بغقد جديد إن كان بائنا.
4.     شرعت عدة الوفاة لإظهار الحزن و الأسى لوفاة الزوج ، و الوفاء له بعد أن نعمت بعشرته زمنا.
5.     الاحتياط لحق الزوج و حق الولد و مصلحة الزوجة.
وسأذكر أنواع العدد للنساء مع بيان الحكمة من تحديد المدد الزمنية لكل نوع
أولا:العدل في جعل مدّة الإيلاء (أربعة أشهر)
قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾([57]).  
في هذه الآية يبين الله سبحانه: أنه على الذين يحلفون ألا يقربوا نساءهم بغرض الإضرار بهنّ، انتظارُ أربعة أشهر، فإنْ رجعوا إلى نسائهم، وحَنَثُوا في اليمين أثناء هذه المدّة، فإنَّ الله يغفر لهم، وعليهم الكفارة. وإنْ عَزَموا على الطلاق؛ فإنَّ الله سميعٌ لحلْفهم وطلاقهم، وعليمٌ بنيَّاتهم([58]).
فالايلاء هو :الحلف على اعتزال الزوجةو ترك جماعها([59]).  
الحكمة تحديد هذه الفترة الزمنية:
الآية الكريمة حددت مدّة الإيلاء بأربعة أشهر، فما الحكمة من هذا التحديد؟
من عدل الإسلام أنه حافظ على حقوق المرأة، ودفع للأذى عنها، ذلك أنَّ الرجل في الجاهلية، كان يحلف ألا يمسّ زوجته السنة والسنتين، بل وأكثر من ذلك، بقصد الإضرار بها وإذلالها، فيتركها كالمعلّقة؛ لا هي زوجة ولا هي مطلقة. فأراد سبحانه وتعالى بهذا التشريع أن يضع حداً لهذا العمل الضار؛ فوقَّته بمدّة أربعة أشهر، يتروَّى فيها الرجل، علّه يرجع إلى رشده وصوابه؛ وإلا طلّق زوجته([60]).وبذلك فإنَّ هذا التشريع يصون المرأة عن استعباد الرجل الطائش، ويحميها من أنْ تبقى رهينة الذل والعبودية والاحتقار.
أما السر في تحديد هذه المدّة بأربعة أشهر، فذلك لأن هذه المدة هي غالب ما تستطيع المرأة أن تصبر فيها عن زوجها. وقصة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- في ذلك مشهورة.
ثانياً: العدل في جعل عِدّة المطلقة (ثلاثة قروء)
قال تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾([61]).
تبين الآية: أنه يجب على المطلقات المدخول بهنَّ، انتظار مدّة ثلاثة أطهار، أو ثلاث حَيْضات، على خلافٍ في معنى القُرْء، وأنه لا يجوز لهنّ أن يُخفين ما في أرحامهن، من الأولاد أو دم الحيض، استعجالاً في العدّة، وإبطالاً لحقّ الزوج في الرجعة.
«إنْ كُنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر» أي إنْ كُنَّ حقَّاً مؤمنات بالله ويخشين عقابه. وهذا تهديدٌ لهن حتى يُخبرنَ بالحقيقة، من غير زيادةٍ ولا نقصان.
والأزواج أحق بهنّ في الرجعة، من التزويج للأجانب، إذا لم تنقضِ عدتهن، وكان الغرض من الرجعة، حُسْن المعاشرة والإصلاح لا الإضرار.
وللنساء والرجال حقوقاً، الواحد منهم تجاه الآخر، وعليهم وعليهن واجبات، غير أنَّ الرجال لهم عليهنّ درجة، وذلك في الرياسة، ومسؤولية القيام على المصالح، والإنفاق على الأسرة([62])..



الحكمة في تحديد هذه الفترة الزمنية:
إن من حقوق الزوجية هو عدم اختلاط الأنساب ،فالحكمة من تشريع عدّة المطلقة، محدّدة بهذه الفترة الزمنية - ثلاثة قروء- هي: معرفة براءة الرحم من الزوج السابق، وذلك حتى لا تختلط الأنساب، وحتى لا تضيع الحقوق. وهذا أمرٌ متحقق سواء اعتبرنا المراد من القُرْء الحيضة أو الطهر، فكلا القولين موافق لحكمة التشريع([63]).
كذلك المدّة الزمنية، تهيئة فرصة للزوجين لإعادة الحيا ةالزوجية، إنْ رأيا أن الخير في ذلك،"فإنه لابد من فترةٍ معقولة، يختبر فيها الزوجان عواطفهما بعد الفُرقة، فقد يكون في قلوبهما رمَقٌ من وُدٍّ يُستعاد، وعواطف تُستجاش، ومعانٍ غلبت عليها نزوة أو غلطة أو كبرياء، فإذا سكن الغضب، وهدأت الشِّرة، واطمأنت النفس، استصغرت تلك الأسباب التي دفعت إلى الفراق، وبرزت معانٍ أخرى واعتبارات جديدة، وعاودها الحنين إلى استئناف الحياة، أو عاودها التجمّل رعاية لواجب من الواجبات. والطلاق أبغض الحلال إلى الله، وهو عملية بترٍ لا يُلجأ إليها إلا حين يخيب كلّ علاج"([64]).
ثالثاً: العدل في عدّة المتوفَّى عنها زوجها (أربعة أشهر وعشراً)
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾([65]).
النساء اللواتي يموت أزواجهن، أن يمكثن في العدة أربعة أشهر وعشرة أيام، حدادا على أزواجهن فإذا انقضت عدتهن فلا إثم عليكم أيها الأولياء في الإذن لهنَّ بالزواج، وفعل ما أباحه لهن الشرع من الزينة والتعرض للخطاب، فإن الله عليم بجميع أعمالكم ويجازيكم عليها([66]).
الحكمة في تحديد هذه الفترة الزمنية:
فالله جعل عدة المتوفى عنها زوجها منوطة بالزمن الذي يتحرك فيه الجنين تحركا بينا، محافظة على أنساب الأموات، فالجنين يتحرك مطلقا لأربعة أشهر وزيد عشرة ، إذ قد تخفى حركته فى المبدأ ، ولا يتحقق ما قيل ، إن الصبي يتحرك لثلاثة والأنثى لأربعة ، فاعتبر الأكثر([67]).
والميت لا يدافع عن نفسه، فجُعلت عدته زمناً يُقطع فيه بانتفاء الحمل، وهو "أربعة أشهرٍ وعشراً" وما بين استقرار النطفة في الرحم، إلى نفخ الروح في الجنين أربعة أشهر ([68]).
و ثمّة سرٌّ آخر في توقيت العدّة بهذه الفترة الزمنية المحددة، يتمثل في عدل الإسلام واحترامه للمرأة وتقديره لها، وتخفيفه العنت عنها، ورفعه عن كاهلها، ذلك أن المتوفى عنها زوجها في الجاهلية، كانت تلقى الكثير من العنت، من الأهل، وأقارب الزوج، بل ومن المجتمع كله، فكانت إذا مات زوجها دخلت مكانا رديئا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبا ولا زينة مدة سنة، ثم تخرج وتقوم بعدّة شعائر تعبدية سخيفة تتفق مع سخافة الجاهلية، فخفف الإسلام عنها كلّ ذلك، ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج، واضطهاد الأهل بعده، وإغلاق السبيل في وجهها دون حياةٍ شريفة، وحياة عائلية مطمئنة([69]).
رابعاً: العدل في عِدَّة اليائس والصغيرة (ثلاثة أشهر)، وعدّة الحامل (وضع الحمل)
قال تعالى:﴿وَاللآئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللآئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرا﴾([70]).  
الآية بينت: أنَّ اللآئي بلغن سِنّ اليأس؛ فانقطع حيضهن لكبر السن، وكذا الصغار اللواتي لم يحضن، أو من لم يكن لها حيْض مطلقا، فعدتهن هي ثلاثة أشهر. أمّا الحوامل، سواءً منهنّ المطلقة، أو المتوفَّى عنها زوجها، فعدتهنّ هي الفترة الزمنية التي يوجد فيها الحمل، فإذا وضعت حملها انتهت عدتها([71]).
فالآية تحدد ثلاث فترات زمنية، هي:
1-     ثلاثة أشهر، وهي عدّة الكبيرة التي بلغت سنّ اليأس.
2-     ثلاثة أشهر أيضاً، وهي عدّة الصغيرة التي لا تحيض.
3-     المدّة الزمنية الممتدة حتى وضع الحمل، وهي عدّة الحامل.
الحكمة في تحديد هذه الفترات الزمنية:
إن حكمة في كون العدة بالأشهر في الكبيرة والصغيرة، دون نظر إلى الأقراء، فذلك لانعدام الأقراء في العادة، و الحكمة في أنَّ هذه المدّة الزمنية (ثلاثة أشهر)، فذلك لأنَّ كل شهرٍ يقوم مقام حيضةٍ أو طُهر، لأنَّ أغلب عوائد النساء أن يكون كل قرء في شهر([72]).
والمراد بالصغيرة هنا التي لم تبلغ سنّ الحيض، أمّا الكبيرة فهي التي يئست من المحيض، وحدد بعضهم لذلك سناً، فقال : ستون سنة، وقيل: خمسٌ وخمسون([73]).
وأما السرّ في جعل عدّة الحامل منتهية بوضع الحمل، فلأنه لا أدلّ على براءة الرحم من ذلك، إذ الغرض الأول من العدّة هو التحقق من براءة الرحم، وإذا تحقق ذلك فلا يكون هناك حاجة للانتظار بعدها .


المبحث الرابع : العدل والمساواة  بين الأبناء

إن منح الذرية من الأبناء والبنات نعمة من الله تعالى يستحق عليها الشكر الكثير الجزيل ، والثناء الدائم ، وهذه النعمة ذات أثر عظيم على الإنسان وتلتقي مع فطرته وغريزته فإذا بشر الناس بالمولود تلألأت وجوههم بالبشر والفرح والسرور ، وامتلأت قلوبهم بالسعادة والحبور وانتظروا من الأهل والأصدقاء التهنئة به ، لأن مولود اليوم هو رجل المستقبل وأمل الوالدين وذخر الأمة ،ولقد كفلت الشريعة الإسلامية للأولاد حقوقا كثيرة، من بينها حقوقهم في النسب والرضاعة والحضانة، وأوجب على الوالدين العدل في المعاملة بين الأولاد: في الأمور المادية، والمعنوية، ولا عجب في أن تأمر الشريعة بالعدل بين الأولاد، وهي التي أمرت بالعدل بين جميع الناس، وقد أمر الله تعالى بالعدل في أكثر من موضع في القرآن الكريم.
          قال تعالى: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾([74]).
          وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾([75]).
فالله يدعو المؤمنين لأداء الأمانة، وهي القيام بالقسط المطلق، الذي يمنع البغي والظلم في الأرض، والذي يكفل العدل بين الناس، وإذا كان هذا النوع مطلوباً في حق سائر الناس؛ فإنه يتحتم القيام به في حق الولد من باب أولى؛ لأن على الوالدين أن ينهضا بواجب حسن التربية؛ ولهذا فإنه لا يحل لشخص أن يفضِّل بعض أولاده على بعض في العطاء؛ لما يترتب على ذلك: من زرع العداوة، والبغضاء، وقطع الصلات التي أمر الله بها أن توصل، وإذا كان كل من الأبوين يسره أن يتسابق أولاده في بره، ويتنافسوا في احترامه وتوقيره؛ فإن على الآباء والأمهات العدل بين أولادهم: في الهدايا، والهبات، بل وفي الملابس والأدوات، وفي المداعبة، والنظرات، والتقبيل؛ لأن هذا أدعى إلى إيجاد المودة، ويبعث على التراحم([76])، ويكون العدل في جانبيه المادي والمعنوي.

المطلب الأول:العدل في الجانب المادي
شدد الشرع على الوالد في نحلته لأولاده فمنع أن يؤثر أحدا منهم على غيره ، وفرضت عليه العدالة فيما بينهم جميعا ، لما في محاباة منهم و تخصيصه بالعطيةأو إعطائه أكثر مما أعطى غيره من إيغار لصدورهم وإيقاد لنار الحسد والبغضاء في نفوس المحرومين منهم،وقد جاءت السنة المطهرة بالشيء الكثير من هذا، فعن النعمان بن بشير رضي الله  أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: إني نَحلْتُ ابني هذا غُلاماً، فقال: ((أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْله؟)) قال: لا، قال: ((فارْجِعْهُ)) ([77]).
ولا يعني العدل تطابق أساليب المعاملة، بل يتميز الصغير والطفل العاجز أو المريض ،  وذلك لحاجتهما إلى العناية. وكذلك الولد الذي يغيب عن الوالدين بعض أيام الأسبوع للدراسة أو العمل أو العلاج، ولابد أن يبيّن الوالدان لبقية الأولاد سبب تمييز المعاملة بلطف وإشفاق، وهذا التميز ليس بدرجة الكبيرة ولكن فرق يسير بين معاملة هؤلاء ومعاملة البقية، وهذا الفرق اليسير يتسامح الإخوة به ويتجاوزون عنه.
ومما يزرع الكراهية في نفوس الإخوة تلك المقارنات التي تُعقد بينهم، فيُمدح هذا ويُذم هذا، وقد يقال ذلك عند الأصدقاء والأقارب فيحزن الولد المذموم ويكره أخاه.
والعدل ليس في الظاهر فقط، فإن بعض الناس يعطي هذا خفية عن إخوته وهذا الاستخفاء يعلِّمُ الطفل الأنانية والتآمر
.

المطلب الثاني: العدل في الجانب المعنوي

التسوية بالعطاء المعنوي لا تقلُ أهمية عن التسوية بالعطاء المادي بين الأولاد في داخل الأسرة الواحدة فإذا لم تتحقق التسوية بينهم في هذا العطاء فعواقبه تكون وخيمة ومدمرة، وخير مثال على ذلك قصة يوسف عليه السلام، فقد كاد له إخوته لاعتقادهم بأن أباهم يفضله عليهم فكان منهم ما كان([78])، لهذا حّذرنا ديننا الحنيف أيما تحذير من الوقوع في مثل هذه المنزلقات، ودعانا لمراعاة هذا الجانب، فإذا مدح الأب على سبيل المثال أحد أولاده أو وصفه بصفة حسنة لعمل أتقنه أو خلق تحلى به، فليحرص على أن يمدح ويصف إخوته الباقين بما يماثلها عند قيامهم بعمل ما، لكي لا تتأثر نفسياتهم وسلوكهم جراء عدم المساواة بينهم([79]).
إنّ مراعاة كرامة الولد وأحاسيسه غاية في الأهمية، فقد قال: إبراهيم النخعي عن السلف الصالح أنهم كانوا يحبون التسوية مابين أبنائهم حتى في الُقبَل([80])، وقيل عن عمر بن عبد العزيز أنه كان له ولد من بنت الحارث بن كعب يحبه ولشدة حبه له كان ينيمه بجواره، فاعترض ابنه عبد العزيز قائلا لأبيه: هل ترى من شيء عند أخينا لا تراه عندنا، فتأثر عمر لما سمع ونقل فراش ولده ابن الحارثية عند فراش إخوته لينام بجانبهم خشية أن يقع في الجور لعدم العدل بينهم في هذا([81]).
إنّ بعض الأهل يفرقون بين أولادهم بالعطاء المعنوي، حيث تجدهم يظهرون باستمرار حبهم وحنانهم وإعجابهم ببعض أولادهم ويحرمون البعض الآخر أو واحد منهم من هذا الحب والحنان وذلك لقلة جماله أو ذكائه أو لكثرة حركاته أو لإعاقة فيه، إن مثل هذه الصفات في الولد لا دخل له فيها، فهو لم يخترها بمحض إرادته وإنما هي إرادة الله سبحانه وتعالى في عباده، فمعاقبته عليها معنويًا أو ماديًا من قبل الأهل يحطم نفسيته ويفسد أخلاقه([82]).
لقد عّلمنا الرسول الهادي صلى الله عليه وسلم كيف نعطف على صغارنا ونرحمهم ونحسن تربيتهم في كثير من المواطن، فها هو الأقرع بن حابس يفتخر أمام النبي صلى الله عليه وسلم بعدم تقبيله لأي من أولاده العشرة عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبلُ ولده الحسن، فما كان من البني صلى الله عليه وسلم إلا أن قالَ له "من لايرحم لا يرُحم"([83])، فرحمة الأولاد وحبهم ومعاملتهم معاملة حسنة تعد من العطايا المعنوية المرتقبة من الأهل تجاه أولادهم.


 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم