الأربعاء، 11 مارس 2015

حقوق الطفل في القرآن الكريم (جـ1) - د/ داود بورقيبة.



بحث مقدم بالندوة الثالثة عشر 
" تطور العلوم الفقهية " 
تحت عنوان 
"الفقه الاسلامي : المشترك الإنساني والمصالح " 
التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان خلال الفترة من 6-9/أفريل/2014




أ.د. داود بن عيسى بورقيبة
نائب عميد كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية
جامعة عمار ثليجي- الأغواط
الجمهورية الجزائرية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فإنّ من أهمّ ما يطمح إليه الإنسان في دنياه، ومن أعزّ  الأمنيات على قلبه، وأجمل الرغبات في نفسه: أن يرزقه الله ذريّة طيّبة وولداً صالحاً؛ وقد وصف الله عزَّ وجلَّ عباده بأنّهم يدعونه أن يهب لهم ذرّية نقيّة صالحة تسعدهم، يقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً[[1]. فالأطفال نعمة كبرى على الناس؛ تملأ حياتهم بهجة وسروراً، وتزيدها أنساً وحبوراً، وتمنحهم راحة واستقراراً، ويعيشون سعادة وأماناً. وهم مصابيح البيوت، وقرّة العيون، وفلذات الأكباد، وبهجة الأعياد، ونبض المجتمعات، وهم أحباب الرحمن، وهم زهرة اليوم وثمرة الغد وأمل المستقبل، ويقاس بنضجهم وتقدّمهم ونجاحهم تقدّم الأمم ونجاحها، قال الله تعالى: ]الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً[[2].
والعالم بأسره اليوم يعيش مرحلة تاريخية حافلة بالاهتمام العالمي على صعيد الدول والشعوب بالطفل والطفولة؛ حيث عقدت عدّة مؤتمرات دولية، وصدرت إعلانات وصُدقِّت عهود ووُقِّعت اتفاقيات تتعلّق بالأطفال وحقوقهم والعناية بهم.
ويدور الحديث في الأوساط الثقافية عالمياً عن حقّ الطفل في الحياة والمسكن والعلم والعلاج والوقاية والترويح والغذاء والكساء، وتنشر صور أطفال فقراء في العالم أجمع لضحايا الفقر والجوع والمرض والجهل، فهناك أفواه جائعة، وأجساد عارية مريضة.
ولا يخفى أنّ هذا الاهتمام العالمي بالأطفال لم يكن ليحصل لولا ما أصاب شعوب العالم من ويلات حروب القرن العشرين، وما يعقب الحروب من ضحايا، وتشريد، وتهجير؛ حيث وجدت نسبة كبيرة من الأطفال الذين فقدوا آباءهم وأمّهاتهم وذويهم، واحتاجوا إلى أيد رحيمة تنقذهم ممّا هم فيه من تعاسة.
وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها سعت الأنظمة الحديثة إلى وضع نظام يخصّ حقوق الطفل في العالم، حيث وافقت الجمعية العامّة لهيئة الأمم المتّحدة فى20/11/1959م على إعلان حقوق الطفل، وتضمّن عشرة مبادئ[3] وخصّصت لها هيئة خاصّة هي "اليونيسيف".
وإذا كان العالم اليوم يسعى إلى رفع مستوى الطفولة وعلاج مشكلاتها بالأقوال؛ فإنّ الشريعة الإسلامية قد عنيت بالطفولة أيّما اعتناء، وعملت على حمايتها وحلّ مشكلاتها بالأفعال والأعمال التي ستظلّ خالدة على مرّ الزمان.
وممّا نفخر ونعتزّ به أنّ الإسلام له أياديه البيضاء على الأطفال والطفولة، حيث حفلت آيات الكتاب العزيز، وسيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأحاديثه الشريفة بالاهتمام البالغ بالأطفال والعناية بهم.
فللأطفال في الشريعة الإسلامية حقوق على ذويهم، وحقوق على مجتمعهم، وحقوق على الدولة التي يعيشون في كنفها وعلى أرضها.
ومن يدرس تعامل الشريعة الإسلامية مع الأطفال يدرك الحرص والاهتمام والعناية التي أولاها الإسلام لمرحلة الطفولة، ويدرك أيضاً بأنّ الإسلام قد تضمّن حقوقاً شاملة للطفل، يقوم بها الكبار أفراداً ومؤسّسات، وذلك ابتداءً من مرحلة ما قبل ولادة الطفل، وطيلة مراحل طفولته المختلفة، كما أولى الإسلام أهمّية كبيرة للبيئة التي ينمو فيها الطفل نظراً لأهمّيتها في مساعدة الطفل على النموّ المتكامل والمتوازن لشخصيته وجسمه، ممّا يجعله نافعاً لنفسه وأسرته ومساهماً إيجابيًّا في حياة مجتمعه وأمّته.
ويتّضح اهتمام الإسلام بمرحلة الطفولة في حديث القرآن الكريم عن الأطفال الذي يفيض بالاهتمام والمودّة والرحمة، فالله يقسم في كتابه العزيز بالطفولة، مما يؤكّد أهمّيتها في نظر الإسلام، قال تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ[4].
كما يعتبر القرآن الكريم الأطفال مصدر سعادة وسرور وطمأنينة لوالديهم فيقول عزّ وجلّ: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ[5]، ويصفهم بأنّهم زينة الحياة الدنيا: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[6].
ولقد اعتنى القرآن الكريم بالطفل عناية فائقة، ولا يمكن لي أن أوفي باهتمام القرآن بكافّة حقوق الطفل في هذه العُجالة، ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جُلّه.
أسأل الله التوفيق والسداد وأن يلهمني الصواب والحكمة إنّه سميع مجيب.
وقد تناولت الموضوع بعد هذا التمهيد، وفق الخطّة الآتية:

- تحديد مصطلحات البحث: تعريف الحقّ، تعريف الطفل، تعريف حقوق الطفل

- مراحل الطفولة

- الألفاظ القرآنية القريبة من مصطلح الطفل  

- أصالة حقوق الطفل في القرآن الكريم
- حقوق الطفل من خلال القرآن الكريم
            - حقّ الطفل في والدين صالحين

         - حقّ الطفل في الحياة

            - حقّ الطفل في النسب
- حقّ الطفل في التسمية الحسنة
- حقّ الطفل في الرضاعة التامّة
- حقّ الطفل في التغذية السليمة بعد الفطام
- حقّ الطفل في الإحسان وعدم الغلظة والشدّة
- حقّ الطفل في العدل والمساواة بينه وبين إخوته
- حقّ الطفل في التربية والتوجيه والإرشاد
- حقّ الطفل في اللعب
- حقّ الطفل في الإنفاق عليه
- حقّ الطفل في الإنفاق على أُمّه أثناء حمله
– حقّ الطفل في الميراث
– حقّ الطفل في التملّك
- حقّ الطفل اليتيم في الإحسان إليه
- خاتمة واستنتاجات
- تحديد مصطلحات البحث:
- تعريف "الحقوق" في اللغة:
الحقوق: جمع "حقّ" وهو مصدر قولهم: (حقّ الشيء)، أي وجب، مأخوذ من مادّة (ح ق ق)، وهو خلاف الباطل[7]، كما جاء في القرآن الكريم: ﴿وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً[8]، وهو يُستخدم في اللغة بمعانٍ عدّة؛ منها: الحظّ، والنصيب، والعدل، والواجب، واليقين وغيره[9].
 قال الجوهري: "وحقّ الشيء يحقّ بالكسر، أي وجب، وأحققت الشيء، أي أوجبته"[10].
وقال الفيومي: "الحقّ: خلاف الباطل، وهو مصدر حقّ الشيء، من بابي ضرب وقتل، إذا وجب وثبت"[11].
وقال الراغب: "أصل الحقّ: المطابقة والموافقة"[12]. وهذا المعنى اللغوي يتضمّن معنى الوجوب والإلزام والثبات والإحكام والصحّة[13].
- تعريف "الحقوق" اصطلاحاً:
اختلفت عبارات العلماء والمصنّفين، وتعدّدت تعريفاتهم لمفهوم "الحقوق" في الاصطلاح، فمن تلك التعريفات:
- تعريف الجرجاني: قال: "الحقّ في اللغة هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وفي اصطلاح أهل المعاني: هو الحكم المطابق للواقع. يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك"[14].
- تعريف العيسوي: قال: "هو مصلحة ثابتة للشخص على سبيل الاختصاص والاستئثار يقررها الشارع الحكيم"[15].
- تعريف مصطفى الزرقا: "هي مجموعة القواعد والنصوص التشريعية التي تنظّم على سبيل الإلزام علائق الناس من حيث الأشخاص والأموال". وقال في موضع آخر: "هو المطلب الذي يجب لأحد على غيره"[16].
-تعريف الطفل لغة[17]:
الطفل بكسر الطاء: الصغير من كلّ شيء عيناً كان أو حدثاً، يقال: هو يسعى لي في أطفال الحوائج أي صغارها، ويقال: أتيته والليل طفل أي في أوله، وأطفلت الأنثى: صارت ذات طفل، والمصدر: الطَفَل "بفتح الطاء والفاء"، والطفالة والطفولة والطفولية، والطفل المولود ما دام ناعماً، والولد حتّى البلوغ، وهو للمفرد المذكّر، وفي التنـزيل العزيز: ]وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا[[18]، وقد يستوي في المذكّر والمؤنّث والجمع، قال الله تعالى: ]ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً[[19]، فالطفل هنا حال أجريت على تأويل كلّ واحد منكم طفلا[20]؛ وقال الله تعالى: ]أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء[[21].
وقال الراغب: "الطِّفْلُ: الولدُ ما دام ناعماً، وقد يقع على الجمع، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[22]، وقال:  ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء[23]، وقد يجمع على أَطْفَالٍ. قال تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ[24]، وباعتبار النّعومة قيل: امرأة طِفْلَةٌ  .[25] "وقال صاحب اللسان: "الطفل والطفلة: الصغيران، والطفل: الصغير من كلّ شيء ...، والجمع: أطفال وطفول"[26].
- مصطلح الطفل في علم النفس:
أودّ أن أبيّن أنّ تعريف الطفولة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمراحل الطفولة؛ وأبدأ بذكر مفهوم الطفولة عند علماء النفس، لأنّهم أكثر من اهتمّ بهذه المرحلة، لكونها مرحلة من مراحل عمر الإنسان الذي عني به علم نفس النموّ أحد أشهر أقسام علم النفس.
وأصحاب هذا العلم يرون أنّ الطفولة هي إحدى مراحل نموّ الإنسان، التي تبدأ من مرحلة ما قبل الولادة، وتنتهي بمرحلة الشيخوخة، ولكنّ أصحاب علم نفس النموّ جعلوا الطفولة مرحلتين ممتدّتين من الرضاع إلى المراهقة، وقسموها إلى مرحلتين: مبكّرة، ومتأخّرة، أو إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: الطفولة الأولى أو المبكرة، وهي بين نهاية الرضاعة وسن السادسة.
المرحلة الثانية: الطفولة الوسطى  بين السادسة والعاشرة.
المرحلة الثالثة: الطفولة الأخيرة بين سن العاشرة والثانية عشرة، وهي ما تسمّى قبل المراهقة[27].
وعلى هذا التقسيم، فإنّ مرحلة الطفولة بأقسامها تمتدّ من سنّ الثانية إلى سنّ الثانية عشرة ـ على اختلاف بينهم ـ. وبهذا يتبين لنا أنّ الباحثين في علم النفس أخرجوا مرحلتي الرضاعة والمراهقة من مسمّى الطفولة.
- مصطلح الطفل في الشريعة الإسلامية:
الذي يظهر في تعريف الطفولة أنّها: مرحلة عمرية ممتدّة من الولادة إلى البلوغ. وهذا ما كاد المفسرون يجمعون عليه من أن الطفل يطلق من وقت انفصال الولد إلى البلوغ[28].
وأمّا ما ورد من تعريف علم النفس، ففيه نظر من وجوه عدة، منها:
الأول: مخالفة الحقيقة اللغوية لمفهوم الطفولة، والسبب في ذلك أن أكثر الذين عرضوا مفهوم الطفولة، وتحديد مراحلها، هم الباحثون في علم النفس، وهؤلاء إما أن يكونوا من غير العرب أصلاً، وإما أن يكونوا من العرب، لكنهم رأوا في هذا التأصيل مخالفة لمشاهير علماء النفس.
الثاني: مخالفة الحقيقة الشرعية، ولعلّ هذه أهمّ من سابقتها، فقد جاء تفسير المراحل العمرية للإنسان بشكل دقيق في القرآن الكريم والسنّة النبوية؛ لما يترتّب عليها من أحكام كثيرة مهمّة، كترتب الثواب والعقاب، وكالدخول على النساء، والنظر إليهنّ، والاستئذان، ورفع الخلوة، واتخاذ الصبيّ محرماً في السفر، وغيرها من أحكام كثيرة بنيت على حالة الطفل.
الثالث: ليس بصحيح إخراج مرحلة الرضاع من مسمّى الطفولة، بل هي أوّل بدايات مراحل الطفولة. ويدلّ على ما رجحته من كون الطفولة مرحلة ممتدّة من الولادة إلى البلوغ، التحديدُ القرآني لهذا المصطلح، فقد ورد لفظ الطفل مفرداً ومجموعاً في مواضع كثيرة في القرآن الكريم منها:
قال تعالى :﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً[29].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم، إذا بلغتم الأجل الذي قدرته لخروجكم منها طفلاً صغاراً، ووحّد الطفل - وهو صفة للجميع - لأنه مصدر مثل عدل وزور"[30].
 وقال ابن عادل: "أي: تخرجون من بطون أمهاتكم, (طِفْلاً) حال من مفعول نُخْرِجُكُم"[31]؛ أَيْ: "وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْمُضْغَةَ عِظَامًا، ثُمَّ يَكْسُو الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ يُنْشِئَ ذَلِكَ الْجَنِينَ خَلْقًا آخَرَ، فَيُخْرِجُهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِوَضْعِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ طِفْلًا؛ أَيْ: وَلَدًا بَشَرًا سَوِيًّا".[32]

قال تعالى:﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[33].

فهاتان الآيتان بيّنتا بوضوح أنّ المولود أوّل ما يولد يسمّى طفلاً؛ وبهذا تتحدّد بداية مرحلة الطفولة، وهي الولادة، أمّا منتهى الطفولة فقد جاء تحديدها في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ[34].

قال أبو حيان: "وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ، أي: من أولادكم وأقربائكم، فَلْيَسْتَأْذِنُوا، أي: في كلّ الأوقات؛ فإنّهم قبل البلوغ كانوا يستأذنون في ثلاث الأوقات. كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يعني البالغين".[35] وقال ابن عاشور: "ووقع قوله:﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ[36]، في موقع التصريح بمفهوم الصفة في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[37]؛ ليعلم أن الأطفال إذا بلغوا الحلم، تغير حكمهم في الاستئذان إلى حكم استئذان الرجال"[38] . وقال أبو السعود: "أي: فليستأذنوا استئذانا كائنا مثل استئذان المذكورين قبلهم، بأن يستأذنوا في جميع الأوقات، ويرجعوا إن قيل لهم: ارجعوا، والسبب هنا: أنّ الأطفال قبل البلوغ تختلف صفاتهم ونفسياتهم عنها بعد البلوغ، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في الموطن الرابع، وهو قوله تعالى : ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[39]. والمعنى هنا: الذين لم يطلعوا، أو يدركوا عورات النساء[40]، وهذه صفة أغلبية عند الأطفال.

-مراحل الطفولة:

سبقت الإشارة فيما مضى إلى أنّ الباحثين في علم النفس قسموا الطفولة إلى مراحل ثلاثة، على اختلاف بينهم في التقسيم، ولست بصدد تفصيل الخلاف هنا، ولكنّي أكتفي ببيان أنّ الزمن الذي حدّدوه عموماً غير شامل لزمن الطفولة الحقيقي؛ ولذلك فإنّي أرى أن تقسم الطفولة إلى مرحلتين اثنتين:

الأولى: مرحلة عدم التمييز، وتبدأ هذه المرحلة من الولادة إلى سنّ التمييز.

الثانية: مرحلة التمييز، وهي المرحلة التي إذا انتهى إليها الطفل عرف مضارّه ومنافعه.

والتمييز مأخوذ من ميزت الأشياء: إذا فرقتها بعد المعرفة بها، وقيل: التمييز قوة في الدماغ يستنبط بها المعاني، وفي هذه المرحلة يصبح عند الصبي مقدار من الإدراك والوعي يسمح له بمباشرة بعض التصرفات دون بعضها الآخر؛ لعدم اكتمال نموه العقلي والبدني.[41]  وتنتهي بالبلوغ، وهو: قوة تحدث للشخص، تنقله من حال الطفولة إلى حال الرجولة .[42] وفي هذه المرحلة يكتمل نموّ الإنسان العقلي والبدني.

ولكلٍّ من هاتين المرحلتين زمن معروف، وآخر غير معروف، أمّا الأولى: فالمعروف بدايتها وهو الولادة، وأمّا الثانية: فالمعروف منتهاها، بمعنى أنّه ليس هناك سنّ معيّنة كالسنة الخامسة، أو السادسة، أو العاشرة[43].  مثلاً ـ لتحديد التمييز، فقد يصل إلى مرحلة التمييز في سنّ مبكّرة، وقد يتأخّر إلى ما قبل البلوغ،  وأمّا تحديدها بالسنة السابعة[44]، فهذا غير مطّرد، والصحيح أنّ سنّ السابعة سنّ أغلبي لدخول الطفل مرحلة التمييز، بدليل حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: "مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ... "[45].

-المصطلحات القرآنية القريبة من مصطلح الطفل:

ورد في القرآن الكريم ألفاظ معناها قريب من معنى الطفولة، ومنها:

- ولد: قال في اللباب: والوليد: الصبي؛ لقرب عهده من الولادة[46]، وقال الراغب: الولد: المولود، يقال للواحد، والجمع، والصغير، والكبير[47]، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم على معنيين: أحدهما، بمعنى الطفل، أي: قبل البلوغ ـ كما في قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[48].

والثاني يشمل الطفل وغيره، كما في قوله  تعالى: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ[49].

- مولود: كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً[50]. ويرى بعض العلماء أنّه يختلف عن الولد، قال الألوسي: لأنّه من ولد بغير واسطة، بخلاف الولد، فإنّه عامّ يشمل ولد الولد[51].

- وليد: كما في قوله تعالى حكاية عن آل فرعون: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ[52]. قال الراغب: "والوَلِيدُ يقال لمن قرب عهده بالوِلَادَةِ، وإن كان في الأصل يصحّ لمن قرب عهده، أو بعد"[53].

- ابن: وهو كلفظ (الولد) يشمل مرحلة الطفولة وما بعدها.

- سبط: ورد في قوله تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً[54]، وهو يشمل الطفل، إلاّ أنّه غالباً ما يراد منه ولد البنت، كما يطلق على أبناء العشيرة، بناء على معنى الامتداد[55].

- عقب: كما في قوله تعالى:  ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[56]، والعقب: هم الأولاد الذكور والإناث، وأولاد أولاده، ولا يسمّون عقباً إلاّ بعد وفاته[57].

-غلام: ويطلق غالباً على الطفل إذا قارب البلوغ[58]، كما في قوله تعالى: ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ[59].
-تعريف حقوق الطفل:
عرّف الطراونة حقوق الطفل بأنّها: "عبارة عن مجموعة حقوق فردية وشخصية للطفل، تركّز على صفة حاملها، بوصفه طفلاً وإنسانًا في حاجة إلى رعاية وعناية"[60].
وعرّفها سويلم بأنّها: "حظُّه ونصيبه الذي فُرض له، وما كفَلتْه له الشريعة الإسلامية من حاجات ضروريَّة، تضمن له شخصية سوية متكاملة"[61]. وهو التعريف الذي نميل إليه لتضمّنه بيانها وصفتها والهدف منها.
- أصالة حقوق الطفل في القرآن الكريم:
اهتمَّ القرآن الكريم بالإنسان اهتماماً بالغاً، وظهر ذلك واضحاً جلياً في الاهتمام بكلّ مراحل حياة الإنسان، فاهتمَّ القرآن الكريم بالإنسان جنيناً ورضيعاً وصبياً وشاباًّ ورجلاً وشيخاً.
ويُعَدُّ الاهتمام بالإنسان في كلّ مراحل حياته وعمره من المعالم والسمات البارزة في أحكام الإسلام وتشريعاته ونظمه.
وقد كان هذا الاهتمام منبعثاً من اهتمام آخر، وهو الاهتمام بالطفولة والطفل؛  لأنّ الطفولة هي مرحلة الإنشاء والتأسيس للإنسان، فكان الاهتمام به طفلاً من أجلِّ صور الرعاية والعناية به.
ولم يكن الاهتمام بالطفولة والطفل في القرآن الكريم وليد تأثّر بفكرٍ اجتماعي سابق أو معاصر لظهور الإسلام، ولم يكن أيضاً تطوّراً لنظريات ورؤى فكرية تحاول التعامل مع مكوّنات التجمع البشري رجاء تحصيل أفضل ظروف معيشية له.
بل جاء اهتمام القرآن الكريم بالطفولة والطفل أنموذجاً فريداً مبهراً لكلّ من حوله، وأدلّة ذلك التفرّد الذي يكشف عن أصالة الاهتمام بالطفل وحقوقه في الإسلام كثيرة، منها: مكانة الطفل في البيئة التي ظهر فيها الإسلام. فلقد كان الطفل إبان ظهور الإسلام يُعَدُّ من ممتلكات أبيه، وله أن يفعل فيه ما يشاء، ويظهر هذا جلياّ في ظاهرة وَأْدِ العرب فيما قبل الإسلام للبنات، وقد رصد القرآن ذلك بصورة واضحة فقال تعالى : ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ[62].
وكان العربيُّ يتعامل مع الأطفال كما يتعامل مع ما يملك من أنعام، فقد انتشرت بين العرب في الجاهلية قبيل ميلاد الحبيب محمّد صلّى الله عليه و سلّم ظاهرة النذر بذبح الأولاد إذا رزق الرجل بعشرة من الأولاد.
فهكذا يذبح الرجل ولده كما يذبح الشاة تقرّباً للآلهة، فهل هناك أسوأ من هذا السلوك؟.
بل كان العرب في الجاهلية أيضاً لا يعيرون اهتماماً للطفولة والطفل في مرحلة قراره في بطن أمّه جنيناً، بل كانوا يعتبرون الأجنّة أشياء لا قيمة لها حتّى إنّ التعدّي عليها لا يُعدُّ جُرْماً يستحقّ فاعليه العقاب، ويظهر هذا جليّاً فيما جاء في السنّة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ[63].
فقد كان العرب لا يعرفون للجنين والطفل بصورة عامّة قيمة، فجاء الإسلام ليؤصِّلَ منهج الرحمة والرأفة وذلك بإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وكان في مقدّمة من أعطاهم الإسلام حقوقهم الأطفال الذي نالوا من الحقوق والرعاية ما لم ينله الأطفال في أيّ نظام آخر على النحو الذي سيأتي بيانه في هذا البحث.
- حقوق الطفل من خلال القرآن الكريم:
لقد كانت حقوق الطفل في القرآن الكريم شاملة لكلّ احتياجاته الإنسانية من احتياجات جسدية وفكرية ونفسية، كما كانت أيضاً شاملة لمراحل حياته المختلفة منذ وجوده في بطن أمّه جنيناً - قبل ولادته -حتّى يصبح رجلاً .
وفيما يأتي تفصيل ذلك:
- حقّ الطفل في والدين صالحين:
إنّ الأسرة تتحمّل أعباءً جسامًا لا تُحصى أحمالها، ولا تُحصر أبعادها، و الجيل الناشئ يحتاج إلى اختيار سليم وصحيح للزوجين[64].
لعلّ من أهمّ حقوق الطفل على أبيه أن يختار له أُمًّا صالحة، وعلى أُمّه أن تختار له أبًا صالحًا يتّقي الله في تربيته.
ويرجع ذلك إلى التأثير العظيم للوالدين في أبنائهم، سواء عن طريق التأثير الوراثي أو البيئي، وكما هو معلوم أنّ الولد يتقمّص شخصية أبيه، والبنت تتقمّص شخصيه أُمّها. وقال الله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ[65]، ثم قال تعالى:  ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ[66]؛ وقال تعالى: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[67].
وقال الله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً[68]. والقانتات: المطيعات للأزواج يحفظن الأزواج في غيابهم وفي أولادهم وأموالهم وأنفسهم؛ وقال تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[69].
 وقال الله تعالى أيضًا: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[70].
فالضمان والأمان للطفل وحقوقه يكمن في العلاقة الشرعية السليمة بين الأب (الرجل) والأم (المرأة) واختيار كلّ منهما للآخر بعقد زواج شرعي؛ لأنّ الحمل قبل عقد زواج مشروع هو من الزنا، والزنا اعتداء على الطفل نفسه إذا نتج عن تلك العلاقة غير المشروعة.
وتبرز أهمّية الاختيار في أن يكون بناء الأسرة قائماً على التجانس المشترك من الطرفين، كما يقوم على القدرة على التعاون بين الطرفين ليسيرا في قافلة الحياة بسعادة وهناء في الدنيا، ونجاة وفلاح في الآخرة.
وهذا من أجل أن يُهَيَّأ للطفل المنتظر المحضنُ الصالح، الذي يُعدُّه لحياة عملية وفكرية وسلوكية راقية؛ فلا يكون نقطة سوداء في مجتمعه.
ويكون ذلك باختيار الرجل المناسب ليكون أباً يشعر بمسئولياته، ويقوم بواجباته تجاه زوجته وأولاده، وباختيار المرأة المناسبة لتكون أمّاً تشعر بمسئولياتها تجاه زوجها وأولادها.
فالأب الناجح (غالباً) في إدارة الأسرة هو الإنسان الصحيح أخلاقياً ونفسياً واجتماعياً وجسمياً، وهو الذي يستطيع ألاَّ يُحْدِثُ فجوات بينه وبين زوجته، وقل مثل ذلك في الزوجة الناجحة.
وقد جاء في كتاب تربية الأطفال في رحاب الإسلام: "إنّ حسن اختيار الزوج لزوجته يهيّئ للطفل المسلم بيئة صالحة ومحضنًا عفًّا نظيفًا، فيضمن الإسلام بذلك سلامة البناء بسلامة أساسه، ومن أجل  هذا حضّ الإسلام على حسن اختيار كلّ من الزوجين للآخر شريك حياته في تحمّل أعباء الرسالة، وإمداد الأمّة بأجيال مسلمة تحمل الأمانة، وتنشر نور الإسلام"[71].
و الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم يهتمّ بهذا الأمر وأغفله، وكذلك لم تهتمّ منظّمة اليونيسيف بحقوق الطفل قبل أن يولد كما حفظها الإسلام.

- حقّ الطفل في الحياة:

حافظ الإسلام على حياة الطفل بعد ولادته بصورة لافتة للنظر ؛ لأنّ ظهور الإسلام تواكب مع أخلاق وبيئة لا يعترفان للطفل المولود بقيمة، بل من السهولة بمكان أن يسلبوه حقّه في الحياة، ويصف القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: ]وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ[[72].
فقد كانت البيئة الجاهلية بأخلاقها الخشنة الجافّة لا تعمل على الحفاظ على حقّ المولود في الحياة، بل تساعد على انتهاك هذا الحقّ لمجرّد شعور الوالد بأنّ عاراً متوهّماً قد يلحقه، أو أنّ فقراً مدقعاً قد يهلكه، فجاء الإسلام ليثبت هذا الحقّ للطفل المولود ويمنع الآباء من ارتكاب هذه الجريمة، فقال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً[73]، وفي آية أخرى: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[74].

وبهذا التحريم القاطع أوقف الإسلام انتهاك حقّ الطفل في الحياة وأثبته للطفل حتّى صار التعدّي عليه من أكبر الكبائر.

ولم يفرّق في ذلك بين طفل وشيخ وشابّ، ثمّ اختصّ بيان حرمة قتل الأولاد، ليبيّن سبحانه وتعالى عظيم رحمته واهتمامه بهذا الوليد الذي لم يرتكب جرمًا ولم يقترف إثمًا، وللتأكيد على أنّ قتل هذا الوليد عقوبته من أغلظ العقوبات، وأيضًا للإشعار بأنّ هذا الوليد كائن مستقلّ يجب أخذه في الاعتبار، وأن يعامل على أساس أنّه إنسان جديد؛ قال الله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[75].
وحذَّر الخالقُ جلّ وعلا  في كتابه العزيز من قتل الأولاد تقرّبًا للآلهة، ووصف الذين فعلوا ذلك فيما سبق بقوله سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ[76].
ومن تطبيقات رعاية الجنين في العصر الحالي ما يأتي:
[1] الاهتمام بالتغذية المتوازنة من حيث الكمّ والنوع[77].
[2] متابعة سير الحمل لدى الطبيب المختصّ لعمل الفحوصات والتحليلات اللازمة لتشخيص أي مرض وعلاجه فوراً خوفاً من المضاعفات[78].
[3] اتّباع العادات الصحّية وذلك بالامتناع عن التدخين والبعد عن أماكنه، وعدم تناول الأدويـة والعقاقير إلاّ بأمـر الطبيب المختصّ، وعدم التصوير بالأشعّة، وتجنّب الحالات العصبية والابتعاد عن المشاجرات، وعدم رفع الأشياء الثقيلة مع ممارسة رياضية خفيفة لتجنّب زيادة الوزن.
[4] على الأمّ أنْ تجهّز نفسها جسدياً أو فكرياً أو عاطفياً وعليها أنْ تأخذ قسطاً وافراً من النوم وعليها أن تحمي نفسها من الأمراض المعدية.
وقد أكّدت الدراسات الحديثة أنّ كثيراً من الحالات التي يولد الطفل فيها ضعيفاً أو متخلّفاً أو مشوّهاً تعود جذورها في الأصل إلى وضعية الحامل السيّئة، وأنّ كثيراً من العاهات الجنينية تعود إلى عوامل بيئية سيّئة، وكان بالإمكان تلافيها، ويأتي في مقدّمة ذلك إصابة الحامل ببعض الأمراض الحادّة أو بسبب تناولها بعض العقاقير الطبّية، أو المشروبات الكحولية، أو التدخين[79]، أو تعرضّها لحالات انفعالات عنيفة، أو بفعل سوء التغذية.
ومن حقّ الحياة المشروع جاء تحريم الإجهاض؛ حسب التفصيل الفقهي.
- حقّ الطفل في النسب:
النسب: "هو صلة الإنسان بمن ينتمي إليهم من الآباء والأجداد[80]".
وممّا لا شكّ فيه أنّ النسب هو من النعم العظيمة التي أنعم بها الله تعالى على عباده، وامْتنَّ بها عليهم لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً﴾[81].
وإنّ حقّ الطفل في نسبه، هو من أهمّ الحقوق التي يدعو إليها القرآن الكريم، ولا يجوز التفريط بهذا الحقّ، وفقد الطفل حقًّا هامًّا من حقوقه الأساسية، يجعل شخصيته غير متوازنة، ويؤثّر ذلك على علاقاته الاجتماعية عندما يصبح ناضجًا، فيعاني من اضطرابات نفسية قد تجرّه إلى الانحراف[82].
فمن الطبيعي أن يكون لكلّ طفل نسب يفتخر به، ويعتزّ بوالديه، والله تعالى أمر بالمحافظة على النسب، وأبطل دعاوى الجاهلية في إفسادِ النّسب، وأقرَّ البُنُوَّة الشرعية، ومن هذا المنطلق أمر الله تعالى أن يُنسب الأولاد إلى آبائهم إن عُرفوا، قال الله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ[83].
وقد حرّم الإسلام تغيير النسب، كما نهى الأبناء أن ينتسبوا إلى غير آبائهم، وقرن ذلك بالوعيد الشديد، فقال صلّى الله عليه وسلّم: "مَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ"[84]؛ وقال أيضًا: "وَمَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا"[85].
وحقّ النسب يترتَّب عليه جملة حقوقٍ شرعية، كحقّ النفقة، والرضاع، والحضانة، والإرث، وغيرها...
- حقّ الطفل في التسمية الحسنة:
من شأن كلّ شيء في هذا الوجود أن يكون له اسم يعرف به، فما بالنا بالإنسان الذي سخّر الله له كلّ شيء في هذا الكون، فلا بدّ له من اسم يعرف به في الدنيا وفي الملأ الأعلى، ومن ثمّ فإنّ هذا الاسم له تأثير كبير في جوانب شخصية الطفل المسلم، لذلك فمن حقّ الطفل على أبويه أن يختاروا له اسمًا حسنًا جميلاً  يعرف ويدعى به بين الناس، ويميّزه عن غيره من الأشخاص.
وحسن التسمية فيه نوع من الحبّ. وإن حمل الطفل اسمًا قبيحًا، تعرّض للسخرية، إذ يعيبه الناس بالقول والإشارة، هازئين غامزين، وهذا الموقف نهى عنه القرآن، وتوّعد عليه وعيدًا شديدًا، فقال الله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ[86]، وذلك ليرفع أخلاق الناس، ويصحّح تعاملهم، فيعيشون فيما بينهم على أساس من القيمة والواقعية[87].
يقول المختصّون في علم النفس: تسمية الأبناء بأسماءٍ حَسَنة، لها تأثير إيجابي على شخصية الطفل وسلوكه وطموحه، ولأن الاسم الحَسَن ترتاح له النفس، ويُسرُّ به الطفل بعد كبره، على العكس من الاسم السيّء القبيح الذي يكرهه الطفل وقد يتسبّب له بالحرج[88].
وقد أكّد هذا الحقّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم حين سُئِل: يا رسول الله، عَلِمْنا ما حقّ الوالد على الولد، فما حقّ الولد على الوالد؟ قال صلّى الله عليه و سلّم : "أن يحسن اسمه ويحسن أدبه"[89].
وهكذا جعل الإسلام تحسين اسم المولود حقّاً للولد على والده، ومن ثمّ أمر بالحفاظ على حقّ الأولاد في ذلك.

ولقد كان من سننه صلّى الله عليه و سلّم  تغيير الأسماء السيّئة إلى أسماء حسنة ومن ذلك ما روي أَنَّ ابْنَةً لِعُمَرَ كَانَتْ يُقَالُ لَهَا عَاصِيَةُ فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيلَةَ[90].

وهذا الحقّ جعله الله في الشرائع التي قبلنا، قال الله تعالى: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً[91]. يبشّر الله تعالى زكريا بغلام ويختار له اسمًا لم يسمّى به أحد قبله.
 وهذا الحقّ أقرّته الشريعة الإسلامية، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: "إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ"[92].
- حقّ الطفل في الرضاعة التامّة:
إنّ الخالق المدبّر الحكيم الذي شملت عنايته جميع مخلوقاته، جعل اللبن يدرّ من ثدي الأمّ بمجرّد ولادتها، فمنذ اللحظات الأولى من نزول الولد من رحم الأمّ يُفرز هرمون البُرولكتين المسؤول عن إفراز الحليب من الثدي، فما أن يخرج الجنين الذي تعوَّدَ في رحم أمّه على تلقّي الغذاء الجاهز المهضوم، والذي لا يستطيع بمعدته الضعيفة الصغيرة أن يجري عمليات الهضم المعقّدة، حتّى يجد هذا الغذاء الإلهيّ الجاهز والغنيّ بالموادّ الغذائية اللازمة له، فتبارك الله أحسن الخالقين.
لذلك فإنّ من أهمّ الحقوق وأوّلها للطفل على أمّه بعد ولادته، هو حقّ الرضاعة. وعملية الرضاعة عمليةٌ جسمية ونفسية، لها أثرها البعيد في التكوين الجسدي والانفعالي والاجتماعي في حياة الإنسان - وليدًا ثمّ طفلاً - ولقد أدركتِ الشريعة الإسلامية ما لعمليةِ الرضاعة من أهمّيةٍ للطفل؛ حيث يكون بمَأْمَن من الأمراض الجسمية، والجدب النفسي التي يتعرّض لها الطفل الذي يتغذَّى بجرعات من الحليب الصناعي.
وغذاء الطفل من حليب أمّه الذي أجراه الله في صدرها، حيث هدى اللهُ الطفلَ ليقبل على ثديي أمّه بشكل طبيعي، وإنّ هذا الغذاء لا يعادله أيّ غذاء صناعي.
وبالرغم من التقدّم الهائل في صناعة الحليب والأغذية الخاصّة بالأطفال، يبقى لبن الأمّ أفضل ما يمكن توفيره للطفل، وأكثر غنى في تركيبه وفي ملاءمته للطفل خاصّة في الأشهر الأولى. "فحليب الأمّ لا يفوق في قيمته الغذائية الحليب الاصطناعي فحسب، بل يمكّن الطفل من اكتساب المناعة ضدّ العديد من أمراض الطفولة"[93].
ويشير البار إلى ما توصّلت إليه الأبحاث العلمية في هذا المجال من خلال النقاط الآتية[94]:
- أثبت العلماء قديمًا وحديثًا أنّ حليب الأمّ هو الغذاء المثالي للطفل لاحتوائه على العناصر الضرورية لنموّه وتطوّره. بالإضافة إلى أنّه سهل الهضم ونظيف وخال من الجراثيم.
- كما أنّ الرضاعة الطبيعية تؤدّي إلى تحسن صحّة الأمّ، وتساعد على عودة جهازها التناسلي إلى حجمه ووضعه الطبيعي بسرعة، لأنّ امتصاص الثدي يؤدّي إلى إفراز هرمون يساعد على انقباض الرحم وعودته إلى حالته الطبيعية، وهذا يقي المرضعة من حمّى النفاس وسرطان الثدي.
- لبن الأمّ له أثر في المحافظة على الصحّة النفسية للطفل، وذلك لأنّ الرضاعة الطبيعية تشعر الطفل بالدفء والحنان، وتقوّي الرابطة العاطفية بين الأمّ وطفلها. وقد لاحظ العلماء أنّ الطفل عند الرضاعة يسمع دقّات قلب أمّه ممّا يحدّث له نوعًا من الاطمئنان والراحة، كما أنّ ملاعبة الطفل والربت على ظهره بعد الرضاعة كي يخرج الهواء من معدته يشعره بالراحة البدنية والنفسية.
- أكَّدت كثير من الدراسات أنّ الطفل الذي يرضع من ثدي أمّه يكون أكثر ذكاءً وذلك لأنّ أسرع مرحلة لنموّ مخّ الطفل تكون في العام الأوّل من حياته، وفي هذه الفترة يكون بحاجة إلى موادّ غذائية كاملة متوازنة وهي لا تتوفّر بالشكل المطلوب إلاّ في لبن الأمّ فقط، وأيّ نقص يتعرّض له الطفل، غالبًا ما يؤدّي إلى نقص في قدراته العقلية.
- أيضًا هناك علاقة بين الرضاعة الطبيعية ونموّ الجهاز العصبي، فقد ثبت أنّ من اعتمد من الأطفال على الرضاعة الطبيعية، كانت أعصابهم أقوى ممّن اعتمدوا على الرضاعة الصناعية.
-كما أكدّت الدراسات الطبّية الحديثة بأنّ الرضاعة الطبيعية تكسب الطفل مناعة ضدّ كثير من الأمراض، فقد تبيّن أنّ أوّل رضعة يستقبلها الرضيع من ثدي أمّه في اليومين الأوَّليْن من ولادته، تحتوي على تركيزات عالية من بروتين خاصّ يسمّى "جاما جلوبيولين"  وهي مضادّة لنموّ الميكروبات التي تسبّب الأمراض كالحساسية والنزلات المعوية . وهذه البروتينات من أهمّ العوامل التي تكسب الطفل مناعة ضدّ كثير من الأمراض.
ولذلك أوجب الله تعالى على الأمّ أن ترضع صغيرها حولين كاملين، وهي مدّة الرضاعة التامّة، قال الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[95].
وقد اتّفق فقهاء الإسلام على أنّ الرضاعة هي واجب على الأمّ ديانة[96]، تسأل عنها أمام الله تعالى، حفاظًا على حياة الرضيع سواء كان ذكرًا أم أُنثى، وسواء كانت الأمّ متزوّجة بأبي الرضيع، أمّ مطلّقة منه وانتهت عدّتها[97].

وهذا حقّ يؤخذ من قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾[98]، ومن قوله تعالى:﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى[99].

فيلحظ أنّ البدل عن الرضاع الأصيل هو من مرضع أيضاً، فإذا كان هذا بعد تحقّق إرادة الطرفين أو الأطراف فلا حرج.
وهنا لا بدّ من وقفة عند قوله تعالى: (وإنْ أردْتُمْ) بعد أن قال (فإنْ أرَادَا فِصَالاً) فما الحكمة من الانتقال من ضمير الاثنين إلى الجمع؟
لعلّه يمكن القول والله أعلم: إنّ التعبير الثاني (الجمع) يشير إلى وجود آخرين مع الأبوين في هذه الإرادة وهم الأهلون، واختيار مرضع غير الأمّ لا بدّ له من خبرة ومعرفة قد لا يمتلكها الأبوان؛ ولنا أن نتصوّر مدى العناية الربانية التي تحشد هذه الأطراف لمصلحة هذا الطفل الغافل المستسلم.
وهناك من قال: (وإن أردتُمْ) أي: أيّها الآباء، ولا يناقض هذا ما ذهبت إليه فالآباء تشمل الأب المباشر والجد للأب والأمّ، وقد يغيب الأب وينوب عنه الجدّ (أبوه)، وقد تغيب الأمّ وينوب عنها الجدّ (أبوها).  والتعبير بالجمع يوحي باستمزاج أكثر من إرادة ورأي وتدبير.
وقال صاحب الظلال: "إنّ على الوالدة المطلقة واجباً تجاه طفلها الرضيع. واجباً يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها التي قد تفسدها الخلافات الزوجية، فيقع الغرم على هذا الصغير. إذن يكفله الله ويفرض له في عنق أمّه، فالله أولى بالناس من أنفسهم، وأبرّ منهم وأرحم من والديهم. والله يفرض للمولود على أمّه أن ترضعه حولين كاملين؛ لأنّه سبحانه يعلم أنّ هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحّية والنفسية للطفل: "لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ" وتثبت البحوث الصحّية والنفسية اليوم أنّ فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموّاً سليماً من الوجهتين الصحّية والنفسية. ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتّى يعلموا هذا من تجاربهم. فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كلّ هذا الأمد الطويل، والله رحيم بعباده. وبخاصّة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية"[100].
ولقد أَثْبَتَتِ البحوثُ الصحّية والنفسية في الوقتِ الحاضر أنّ فترةَ عامينِ ضروريةٌ لنموِّ الطفل نموًّا سليمًا من الوجهتين الصحية والنفسية؛ فالطفلُ في أيامِه الأُولَى - وبعد خروجه من مَحْضنِه الدافئ الذي اعتاد عليه فترة طويلة - يحتاجُ إلى التغذية الجسمية والنفسية؛ ليعوِّض ما اعتاده وأَلِفه وهو في وعاء أمّه.
 ولذلك نجد أنّ أوَّل ما تبدأ به الأمّ بعد الوضعِ هو ممارسةُ عمليةِ التغذية عن طريق الرضاعة؛ أي: إرضاع الطفل من ثديها، تَهدِيها لذلك فطرتُها التي فطرها الباري عليها؛ لما يتميَّز به لبنُها من تكامل عناصره، وخلوّه من الميكروبات، ومناعة ضدّ الأمراض، ولما يحتويه على نسبة من البروتينات المساعدة في عملية الهضم السريع، وكمّية المعادن والأملاح؛ كالبوتاسيوم، والصوديوم، ونسبتها بعضها لبعض المساعدة على إراحة الكُلْيَتين، بالإضافة إلى تواجد فيتامين "ث" وفيتامين "أ[101]".
 أمّا الفوائد النفسية والاجتماعية من هذه العملية، فتنعكس على الوليد في شعورِه بالدفء والحنان والأمان، وهو ملتصق بوالدته، يحسّ نبضات قلبها، ولقد أكَّد علماء النفس أنّ الرضاعة "ليستْ مجرّد إشباع حاجة عضوية، إنّما هو موقف نفسي اجتماعي شامل، يشمل الرضيع والأمّ، وهو أوّل فرصة للتفاعل الاجتماعي"[102].
ولذلك فإنّ إقامة الحدّ على الأمّ المرضع الزانية، لا ينفَّذ إلاّ بعد انتهاء فترة الرضاعة؛ والدليل على ذلك قصّة المرأة الغامدية التي زنت، فأخّر النبي صلّى الله عليه وسلّم إقامة الحدّ عليها حتّى ولادتها، ثمّ بعد أن ولدت قال لها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ"[103]، وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذا، يؤكّد حقّ الطفل في الرضاعة وعدم حرمانه منها مهما عظمت الأسباب.
- حقّ الطفل في التغذية السليمة بعد الفطام:
من حقّ الطفل أن يُغذّى تغذية تصلح من حاله، وتنهض من شأنه وتقوّيه وتحسّنه، وتمنع عنه الأمراض والعاهات، وأن يكفله أهله بما يناسبه:
قال الله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾[104].
ومريم منذورة لله فتولى الله شأنها بنفسه وأنبتها النبات المذكور[105]، وعلى كلّ مربٍّ أن يتعلّم هذا من توجيه هذه الآية، وأن يحرص على إنبات من يعول نباتاً حسناً تستحسنه العقول والأبصار.
إنّ الغذاء هو من أوْلى ضرورات الحياة، إذ الجسم يحتاجه دائمًا ليساعده على النموّ بشكل طبيعي[106]، والله سبحانه وتعالى أنعم علينا، وأمرنا بالطعام والشراب دون إفراط حتّى لا يسبّب لنا ذلك ضررًا، ومن ذلك البطنة أو التخمة، فقال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[107]، ولم يأمرنا بالأكل مطلقًا، بل أمرنا أن نأكل من الطيّبات، وأن نتجنّب ما يضرّ بنا فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ[108]، وبيّن لنا بعض ما يضرّ بنا فقال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ[109].
فالطفل أمانة بين يدي والديه، عليهما أن يقدّما له ما يناسبه من الغذاء حسب مراحل عمره ونموّه. ومراقبة طعام الطفل ضروريّ من حيث النوعية والكمّية، فلا إسراف ولا تقتير.
- حقّ الطفل في الإحسان وعدم الغلظة والشدّة:
تعدّ القسوة من أهمّ أسباب الانحراف عند الأطفال، فالقسوة والشدّة على الصغار تأتي بنتائج عكسية على سلوكهم، تؤدّي إلى اضطرابات نفسية كما تؤدّي أيضًا إلى الشعور بالنقص.
 فالقسوة والغلظة تؤدّيان إلى نفور الطفل من المربّي وكرهه وعدم الثقة فيما يقوله، ولنقرأ قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[110].
يقول بن خلدون: "ومن كان مرباه بالعسْف والقهر من المتعلمين و المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعا إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة كذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدّن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله. وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين.... فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يشتدّوا عليهم في التأديب"[111] .
ويسوق ابن خلدون ما أوصى به الرشيد مؤدّب ولده فيقول:"... ولا تمرنّ بك ساعة إلاّ وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه، فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه. وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإنْ أباهما فعليك بالشدّة والغلظة"[112].
ويقول الغزالي: "ثمّ مهما ظهر من الصبيّ خلق جميل وفعل محمود، فينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرّة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا يكاشفه ولا يظهر له أن يتصوّر أن يتجاسر أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه؛ فإنّ إظهار ذلك عليه ربّما يفيده جسارة حتّى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانياً فينبغي أن يعاتب سرّاً ويعظم الأمر فيه ويقال له: إيّاك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا وأن يطلع عليك في مثل هذا فتفتضح بين الناس، ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كلّ حين فإنّه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن الأب حافظاً هيبة الكلام معه فلا يوبّخه إلاّ أحياناً، والأمّ تخوفه بالأب وتزجره عن القبائح"[113].
ولقد حثّ نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم على الرفق ونبذ العنف، فقال صلّى الله عليه وسلّم: "يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ"[114].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم