الأربعاء، 11 مارس 2015

العدل وفقه التكاليف في الإسلام - د/ نور الدين الخادمي



بحث مقدم بالندوة الثالثة عشر 
" تطور العلوم الفقهية " 
تحت عنوان 
"الفقه الاسلامي : المشترك الإنساني والمصالح " 
التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان خلال الفترة من 6-9/أفريل/2014


إعداد وتأليف

أ . د . نورالدين مختار الخادمي

وزير الشؤون الدينية
في حكومة السيد حمادي الجبالي وحكومة السيد علي لعريض
وأستاذ التعليم العالي بجامعة الزيتونة بتونس







بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين

المقدمة:
يتناول هذا البحث قضية العدل من منظور إسلامي عموما ومن خلال فقه التكاليف خصوصا. وهو لن يتبع بالضرورة التناول التقليدي الذي درج على تقديم التعريفات والأنواع والأحكام الجزئية والمعلومات العامة للعدل، وإنما يورد شيئا من ذلك مندرجا تحت دائرته النصية والحكمية الجامعة وإطاره الشرعي الكلي الأصولي والمقاصدي مرتبطا بإطاره المؤسسي التنظيمي.
وما جعلني أسير سيري هذا، دلالة فقه التكاليف على الإطار الفقهي العام والنظري لموضوع العدل ومفرداته وعملياته وأدواته، ففقه التكاليف يعني الفهم العميق والعلم الدقيق والإحاطة الجامعة الكلية لشتات الموضوع ومتفرقاته، وليس فقط عرض الجزئيات والمعلومات دون وضع خيط ناظم وإطار جامع لها.
وهذا الطبع في الطرح يضمن الحيوية والفاعلية، ويحقق الغايات والمقاصد، ويحصل البركة والفضل. وهو من صميم التجديد الواقع على الوسائل والكيفيات ابتكارا وانتصارا، والمنزل على المعاني والمفاهيم تحقيقا وتحريرا. فمن اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد.
ويتنزل بحثي هذا ضمن أعمال ندوتنا الثالثة عشر المباركة "تطور العلوم الفقهية" تحت عنوان "المشترك الإنساني والمصالح" التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان، خلال الفترة من 6-9/أفريل/2014. ويأتي استجابة للدعوة الكريمة التي تفضل بها فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ عبد الرحمن بن سليمان السالمي رئيس لجنة الإعداد والتحضير للندوة. ورغبة مني في التواصل مع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بمسقط بسلطنة عمان الآمنة الأمينة والمزدهرة بسكينة. ولا يسعني في مقامي هذا إلا أن أشكر جزيل الشكر ،بعد حمد الله والثناء عليه، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية وفي مقدمتها وعلى رأسها معالى الوزير المحترم سلمه الله وسدد خطاه وجعل أعماله في ميزان حسناته وطريقا إلى جنات ربه، والشيخ الدكتور عبد الرحمن السالمي، وكل الإخوة القائمين على هذه الندوة. والله سبحانه أسأل لهم ولذويهم سعادة الدارين وحسن الخواتيم، وأن يمتعهم بالصحة والعافية والتسديد والتوفيق، وأن يجعل عُمان بلدا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على النبي الكريم وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى صحابته الغر الميامين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وكتبه نورالدين الخادمي
 ظهر يوم الاثنين
31 مارس 2014/30جمادى الأولى 1435.
بضاحية منوبة عاصمة تونس


المبحث الأول:
 تحديد مفردات العنوان:
يتركب عنوان الموضوع من المفردات التالية: العدل، وفقه، والتكاليف، والإسلام. وهي المفردات الأربع التي لا يفهم مضمون البحث إلى بفهمها في حال انفرادها وتركيبها. وهو ما نبينه فيما يلي:
أولا: تحديد مفردة العدل:
العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه. وهو الاعتدال والاستقامة والميل إلى الحق. وهو ضد الجَوْر. والجَوْر هو الظلم. فالعدل نقيض الظلم.
وهو أنواع منها:
-        العدل مع النفس: بإعطائها حقها في الغذاء والدواء والراحة والاستقامة وتحقيق سلامتها ودرء شقاوتها وسوء عاقبتها وعذابها في الآخرة. جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه[1].

-        العدل مع الأسرة: بإعطاء كل ذي حق حقه من أفراد الأسرة. وقد جاء في الحديث: "اتقوا الله وأعدلوا في أولادكم[2]". والأولاد جمع ولد، والولد يُطلق على الذكر والأنثى، لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ }

-        "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين[3]". فالعدل يؤمر به الوالدان تجاه الأبناء والبنات. وخلافه جور وتعد على حقوقهم وكرامتهم. وما يقوم به الآباء بحرمان البنات أو الأبناء، كلا أو بعضا، إنما هو مخالفة صريحة للعدل ومفسدة ذميمة في الدين والحياة.
-        العدل مع الشعب: بأن يعطي الحاكم لأفراد الشعب وفئاته كافة حقوقهم بما هو مباح ومتاح، وأن لا يكون في حكمه ظالما ومستبدا. قال تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل[4]"
-        العدل مع الناس: بإعطاء الناس حقوقهم وعدم بخسهم إياهم وغبنهم فيها. والناس كل البشر دون استثناء أو إقصاء. وأصل ذلك قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء على بالقسط ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى[5]"، وقوله: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين[6]". ومناط اعتبار العدل مع الناس الوصف الإنساني للناس، أي إنسانيتهم وبشريتهم، ودون النظر إلى ألوانهم أو أعراقهم أو ميولاتهم الفكرية والمذهبية والجغرافية. وهو ما يلزم إقامة العدل مع المحبين والمبغضين والمناصرين والمناوئين والموالين والمعارضين. وهذا المعنى هو المعنى الجلي والمبدأ الأصيل في دين الإسلام وعالم الحق. وهو ما دلت عليه الآية الكريمة المذكورة بتصريح لا لبس فيه ولا غموض.
ثانيا: تحديد مفردة فقه:
 الفقه هو الفهم والعلم. والفهم المراد هو الفهم الدقيق للأمور والعلم الملم بمفرداته وتفاصيله ومتعلقاته بحسب الموضوع المطلوب والمتاح الممكن من المعلومات والقدرات والأدوات.
 ولذلك جاء لفظ الفقه متعلقا بمعرفة الأحكام وأدلتها ومقاصدها وقواعدها وغير ذلك مما هو مندرج تحت المعرفة الفقهية الشرعية. كما ورد لفظ الفقيه ليدل على من حاز معرفة الفقه وألم بمدركاتها الشرعية الكلية والجزئية والأصلية والفرعية والظاهرية والمقاصدية والنصية والواقعية...
وأصل ذلك كله ثناء الشرع على الفقه وأهله الراسخين المخلصين العاملين، قال تعالى: "فلولا نفر من كل فرقة منهم ...
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين[7]".
ثالثا: تحديد مفردة التكاليف:
 التكاليف جمع تكليف، والتكليف استدعاء حصول الفعل على قصد الامتثال، وهو محال في عادة وشرعا ممن لا شعور له بالأمر[8]. وفي لغة العرب: هو مصدر كلف، يقال: كلفت الرجل إذا ألزمته ما يشق عليه[9]. وفي اصطلاح العلماء: طلب الشارع ما فيه كلفة من فعل أو ترك بطريق الحكم، وهو الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير[10].
رابعا: تحديد مفردة الإسلام:
 الإسلام مصدر أسلم يسلم، وهو أن يسلم المرء لله رب العالمين بالطوع والاختيار كما هو مسلم بالخلق والاضطرار. وإسلامه له: قيامه بأوامره وامتثاله له، وفقا لبيان التكليف ومنهج التخفيف. وهو في الاصطلاح يُطلق على الدين الخاتم المنزل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، والموجه إلى الناس كافة؛ إصلاحا لهم في الآل، وإسعادا لهم في المآل. قال تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام.[11]".
خامسا: تحديد إجمالي للعنوان كله (العدل وفقه التكاليف في الإسلام):
يدل العنوان باعتباره مركبا من مفرداته الأربع على مضمون واسع ومعنى مهم في تقرير حقيقة العدل من منظور فقه التكاليف في الإسلام. ولهذا مستوياته المعرفية والمنهجية والواقعية والتنزيلية، والتي تتحدد بناء على أنظار الباحثين وسياقات الواقع ومجموع الأهداف المرسومة والشعارات المرفوعة في الموضوع المطروح. وهذا كله يُبنى على الإسلام باعتباره الإطار الأكبر والمرجع الأساس في معالجة هذه الموضوع بحسب المستويات المذكورة.
وأبرز هذه المحددات هي:
المحدد الأول: المحدد المرجعي الإسلامي الذي يؤسس العدل مفهوما شرعيا وبعدا إنسانيا ومطلبا اجتماعيا وسياقا حضاريا ومنتجا مؤسسيا وإجرائيا، يتفاعل مع أوضاعه ويتآخى مع مفرداته ويتآلف مع بيئاته على الوجه الأصلح والأنسب، وبحسب المقدور عليه والممكن. ولذلك أوردنا عبارة فقه التكاليف في الإسلام لتعنى بالجانب المعرفي الشرعي وبالجانب المنهجي والإجرائي وبالجانب الواقعي التنزيلي في تحقيق ذلك كله.
المحدد الثاني: المحدد الواقعي المرحلي الذي يمثل الحالة الراهنة لقيمة العدل وتجلياتها وتداخلاتها وإشكالياتها وآثارها، وغير ذلك مما له ارتباطه الموضوعي والمنهجي بالقضية وسيرها ومسارها.
المحدد الثالث: المحدد المنهجي الذي يُعنى بفن ترتيب قيمة العدل في بنيانها المعرفي وتفاصيلها الداخلية ومعطياتها الخارجية وما يترتب على ذلك من تقرير الصيغ والوسائل الكفيلة بتحقيقها في أرض الواقع وإفادة الناس بثمارها ومنافعها؛ حتى تكون أمرا ميسورا وشيئا محسوسا، وليس مجرد شعار يُرفع، وادعاء يزعم، ومقولة يتنافس السياسيون والاجتماعيون في تبنيها؛ للمزايدة والمكابرة في أحيان كثيرة.
المبحث الثاني:
تأطير فقه التكاليف للعدل:
يُعد فقه التكاليف إطارا رئيسيا للعدل، أي أنه يؤطره ويوجهه ويحكمه ويضبطه بمكوناته ومدركاته. وهذه المكونات والمدركات هي: الأحكام والنصوص والأصول الشرعية. وقد قلنا بأن فقه التكالف هو أحكام التكاليف ومدركاتها ومناطاتها النصية والاجتهادية والفرعية والأصلية والكلية والجزئية والظاهرية والمقاصدية.
وبعبارة أخرى ميسرة، يمكننا القول بأن مراد هذا التأطير إنما هو إرجاع العدل إلى نصوصه وأحكامه، وإلى قواعده وأصوله ومقاصده، وإلى مبدأ الاجتهاد والنظر والتنزيل والتفعيل، ولكننا آثرنا التعبير بالتأطير لندل به على النظم الجامع والبناء الكامل لقيمة العدل ومختلف تفاصيلها ومشتملاتها، تنظيرا عقليا وتنزيلا واقعيا وتفعيلا في واقع الناس وحياة المؤسسات وكيان الدول والأمم. وكل ذلك اصطلاح واستعمال، ولا مشاحة في الاصطلاح، والاستعمال بحسبه وعادته.
كما أن إدراج قيمة العدل تحت هذا الإطار المرجعي لها، إنما ينفي عنها التناول التجزيئي والنظر السطحي والتعامل الشكلي، وغير ذلك مما يشوه مفهومها ويشوش على تمثلها ويخل بتطبيقها وتنزيلها. وهو ما آل إليه الأمر في كثير من أحيان أناس يتبنون العدل ويعتقدون حكمه ويتحمسون له، أو الذين يتوهمون أنهم يحسنون صنعا عدليا وعملا عادلا وقولا عدلا، ولكنهم يقعون فيما لا يحصى من شواهد النقائص والانحرافات في مزاولة العدل وفي تصوره وفهمه، حيث يخالفون عن أمره وتصيبهم فيه الفتنة والعذاب الأليم.
و لا أدل على ذلك ظاهرا من الأمر ومعلوما من الواقع:
·        شواهد ظلم الإناث بحرمانهن كثيرا من حقوقهن على نحو حق اختيار الزوج والرضا به، وحق الميراث والهبة، وحق المشورة والمشاركة العائلية والاجتماعية والسياسية. ويحصل هذا  الأمر من الآباء وذوي القربى مع الظن أو الوهم بأن هذا السلوك إنما هو سلوك شرعي وجائز.
·        وشواهد ظلم كثير من الفئات الاجتماعية ظلما مهنيا وماليا وصحيا وتعليميا وغير ذلك من ألوان الظلم التي يُسلط عليهم من طبقات الحكم أو السياسة أو المجتمع الإنساني والاقتصادي.
·       وشواهد ظلم بعض الدول والمجموعات الإنسانية والمؤسسات العالمية، بظلم الاعتداء والاحتلال، أو بظلم الإبادة الجماعية والتصفية العرقية، أو بظلم التجويع والتعذيب والتنكيل والحرمان من الحقوق الأساسية.
·       وشواهد ظلم البيئة والمحيط، وظلم الحيوان والإنسان، بأشكال مفزعة وأدوات مدمرة، وتأتي على كل شيء بإذن ربها، وتسعى في الأرض فسادا، وتهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد.
أولا:
تأطير نصوص التكاليف للعدل:
نصوص التكاليف هي النصوص التي ثبتت بها أوامر الشرع ونواهيه، وهي نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة. ومعلوم أن القرآن والسنة قد أصلا للعدل وبينا أحكامه وآدابه ومقاصده. وهو ما أعطى لقيمته الأصالة المرجعية المباركة والثبات المبدئي الأصلي.
ومن النصوص في ذلك: قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل[12]"، وقوله: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط...[13]"، ونكتفي في هذا السياق بإيراد أحد النصوص القرآنية الصريحة في العدل وتفصيل القول فيه بما يبرز جانبا مهما من حقيقة العدل وتناول القرآن الكريم له. والنص هو:
قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر يعظكم لعلكم تذكرون[14] "، الذي يتضمن عدة معان، يمكن أن نوردها فيما يلي:
1-  العدل أمر إلهي، والأمر هو مراده على غرار ما ذكره المحققون من علماء اللغة والتفسير والمقاصد، حيث أقروا الطابع الإلزامي للأمر، وكونه مرادا للآمر سبحانه، وكون الاستجابة للأمر امتثالا واتباعا وتعبدا وتقربا.
2-  الأمر بالعدل عموم يستغرق كل مفرداته وأفراده، من حيث أنواع العدل ومجالاته، كالعدل مع النفس ومع الغير، والعدل السياسي والاجتماعي والأسري، والعدل مع المحب والمبغض، والعدل مع الإنسان والحيوان والعمران.
3-  أتبع الأمر بالعدل بالأمر بالإحسان الذي هو التنازل عن العدل من صاحب الحق برضاه ومعروفه، وليس هو العدول عن العدل إلى الظلم والجور.  أي أن الإحسان هو أن يتنازل المرء عن حقه كله أو بعضه عن طيب خاطر ورضا نفس، وهو ما يقرر فضيلة الإحسان لتنضاف إلى فضيلة العدل في تناسق بديع وترتيب بهيج، يكون الإحسان فيه رديفا للعدل أو بديلا عنه عند مخالفته للأولى ومراعاة الإحسان للأفضل والأنسب مصلحة وأدبا ومآلا وعملا. وهو ما قد يناسب قاعدة جريان العدول عن الأصل إلى خلافه لمصلحة أرجح وأثر أدوم. ولذلك عد العفو عن القاتل إحسانا يحقق معه مقصود عدل القصاص من حيث إشفاء غليل ولي المقتول وتحقيق الانزجار والارتداع وحفظ الأنفس وتمكين القاتل من التوبة والاصطلاح والإنابة. "والله يحب المحسنين[15]".
 والعدل مع الإحسان فعل لأمرين اثنين قد وردا في خطاب التكليف الشرعي، وما كان كذلك فهو الأولى والأجدر، فما كان أكثر عملا كان أكثر فضلا. والجمع هو الأولى، وعند تعذره يُصار إلى الترجيح. والجمع ممكن بين فعل العدل وفعل الإحسان، وفعل الإحسان قد يستوعب فعل العدل فضلا عن استيعابه لفعل ذاته، لأن الإحسان اعتدال واستقامة، وهو في معنى العدل بهذه الاعتبارات وغيرها، كاعتبار الرضا والطوعية ونفي الغل والشحناء والتغابن. وما يؤكد شمول الإحسان للعدل كونه بابا أعلى لكل فضائل الإيمان وخصال السلوك، فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهو رأس الأمر الشرعي بتفاصيله ومتطلباته. وهذا الذي ميز مفهوم العدل في الإسلام، حيث هو العدل مع الإحسان وأخذ الحق مع السماحة فيه وإقامة الحق مع الآخر بالرفق الذي يحبه الله في كل شيء، بناء على توجيه الحديث الشريف: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله[16]".
4-  يُضاف إلى الأمر بالعدل والأمر بالإحسان الأمر بإيتاء ذي القربى، بمعنى وصل صاحب القرابة وإدامة بره ومعروفه؛ نظرا إلى هذه القرابة التي هي أحد أسباب استحقاق القريب لحسن معاشرته ودوام وصله. وقد يكون لذلك أثره في إقامة العدل بين القريبين، حيث تنشأ أسباب استحقاق أحدهما لإقامة العدل على الآخر وتوجيه ما قد ينال من جسده أو نفسه عقوبة وزجرا وتوبيخا، ولذلك أشعر صاحب الحق بمراعاة القرابة وما تمثله في بعض الأحيان من ميل جبلي وعاطفة جياشة يدركها صاحب الحق؛ فتؤثر في موقفه وتجعله يعدل عن مطالبته بحقه، وتقنعه بأن يمضي في الصفح والعفو والتنازل؛ رضا واقتناعا وإيمانا واحتسابا. ولكن هذا لا يقع بمجرد هوى القرابة والتعصب لها بالجهل والظلم وعادات السوء وضغوطات الواقع وغبن الأسرة والمجتمع، وإنما يقع في سياق اتباع المعروف وفعل الإحسان، ودون أن يعود ذلك على أصل العدل بالإبطال والإخلال، بل إنه يعظم مقاصد المودة والترابط بين الناس، ويقوي ملكة المراجعة التربوية والفعل الإصلاحي والتنمية الوجدانية والإيمانية والنفسية والاجتماعية. ويجعل ذلك كله قائما على الطواعية الذاتية والإرادية، وهو ما يكون باعثا أكثر على الإصلاح والتغيير.
5-  ذُكر مع الأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، النهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وهو ما يفيد بأن التكليف الشرعي يكون أمرا ونهيا، وكأن المنهيات الثلاثة تأتي في مقابلة أو مخالفة المأمورات الثلاثة، فكأن المأمورات الثلاثة ينبغي أن يستبعد فيها:
(أ‌)               الفحش الذي هو مجاوزة الحد المطلوب في إقامة العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، فأي تجاوز للعدل بفعل الظلم والجور، وأي تجاوز للإحسان بالمبالغة فيه وإيصاله إلى حد الاستهتار بالحقوق والتهاون فيها، وأي تجاوز لحدود القرابة في جريان العدل والإحسان إلى أصحابها بناء عليها؛ فإن أي فحش في ذلك إنما هو مخالفة صريحة لأمر الله تعالى ولمطلوب العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى على وفق التكليف الشرعي الأصيل.
(ب‌)         المنكر الذي هو مخالفة المعروف، والمعروف هو ما تعارفه الناس الأسوياء في العدل والإحسان والقرابة، وهو بمعنى الفحش عند تجاوز حد المعروف والوقوع في دائرة المنكر ومقدماته.
(ت‌)         البغي الذي هو الاعتداء على المفاهيم والأحكام والمصالح والحقوق، والاعتداء على الأشخاص والهيئات والمؤسسات، والاعتداء على الأوطان والعمران والأديان. وهو فحش في القول والفعل والتصور والتفكر، كما أنه منكر من القول وزور، وسلوك مستقبح وتصرف في الدين والعقل والذوق ذميم.
6-  ختم النص القرآني بقوله: "يعظكم لعلكم تذكرون"[17]، ليُختم بفائدتي الموعظة الوجدانية القلبية الإيمانية والمذاكرة الفكرية العقلية التربوية، ويرد كل من الوعظ والتذكر على سبيل إجراء الاعتبار وتحصيل الآثار وترسيخ الانكسار.
والاعتبار بالعدل وآلائه والإحسان وحسن جزائه وبر القرابة ودوام عطائه، لحري بالتحقيق والتوثيق. وفي معنى هذا: الاعتبار بقبح الفحشاء والمنكر والبغي، وسوء عاقبته وفساد مآله، ونعوذ بالله من الخذلان والخسران. وهو سبحانه على الخير المستعان.

ثانيا:
تأطير أحكام التكاليف للعدل:
أحكام التكاليف للعدل هي المعاني التي تضمنتها نصوص هذه التكاليف. ولكننا نبرز هذه الأحكام تبعا للنصوص؛ إبرازا للجانب المعرفي المنهجي الذي تناول هذه الأحكام بمستويات مختلفة من التناول العلمي ومنهج التأليف وطريقة البيان والتعليق والتطبيق وغير ذلك.
ومثال ذلك: أحكام تتعلق بوجوب العدل وضرورته، وبشروط القائم بالعدل وآدابه والتزاماته، وبطرق إثبات العدل ومؤسساته، وهو ما يأخذ حيزا معرفيا مهما ضمن أحكام العدل من منظور فقه التكاليف.
ويمكنني أن أتناول مستوى من هذه المستويات، وهو المستقى الذي ينص على أحكام الفروض العينية والفروض الكفائية في العدل.
العدل بين أحكام الفرض العيني والفرض الكفائي:
الفرض العيني هو الفرض الموجه إلى الإنسان بذاته والفرد بعينه. ومثاله: الصلوات الخمس والقيام بالحق الزوجي، فهذه الأمثلة إنما يقوم بها أصحابها بأنفسهم، ولا تقبل الإنابة والتوكيل والتفويض. أما الفرض الكفائي فهو الفرض الموجه إلى الإنسان بوصفه نائبا عن مجموع من البشر أو مفوضا من قبلهم في قيامه بهذا الفرض. ومثاله: صلاة الجنازة فهي واجبة على مجموعة من الناس، فإذا قاموا بها سقط الوجوب عن الباقين، فصلاتهم كأنها نيابة عنهم وبتفويض منهم، ولكنها بتحديد التكليف الذي أوجب هذه النيابة وحمل المجموع على الأمر بالفعل عند ترك فعل النيابة أو التفويض. ومثاله كذلك: خطة التدريس والتعليم وخطة الإفتاء والقضاء وخطة الإعلام والدعاية وخطة الحكم والقيادة بأنواعها؛ فكل هذه الخطط إنما هي من قبيل فروض الكفاية التي يتولاها أصحابها من ذوي الكفاءة والأمانة والجدارة، بناء على شروط ذلك وقواعده وإجراءاته.
الفرض العيني في العدل:
هو الفرض الموجه إلى كل إنسان بصفه الشخصية وبصفته التي يمارس فيها واجبا شخصيا متعلقا بذاته وبغيره ممن يدخل تحت ولايته الشخصية، ومنها: عدل الأب مع أولاده، وعدل الولد مع والديه، وعدل القريب مع أقاربه، وعدل الجار مع جيرانه، وعدل المسؤول مع موظفيه وأعوانه، وعدل راعي الغنم مع أغنامه... فكل هذه الأعمال إنما تتطلب إقامة العدل من القائمين بها إزاء من يقومون بأمرهم وشأنهم. وهذا الضرب من العدل إنما هو العدل المفروض فرضا عينيا على القائمين به. ومعلوم أن جميع البشر في الدنيا إنما يؤمرون بالعدل فيما يقومون به من أعمال يُطلب فيها فعل العدل وتحقيقه. وهذا الباب واسع وفسيح، وطرحه من الأهمية بمكان بالنسبة إلى عامة الناس المأمورين والمكلفين بإعماله وتحقيقه.
الفرض الكفائي في العدل:
 وهو الفرض الموجه إلى الدولة والمؤسسة والهيئة وكل من يتولى شأنا عاما يكون فيه مأمورا بإجراء العدل وتحقيقه. وأظهر ضرب لهذا هو عدل الحاكم مع المواطنين والمواطنات، وعدل القاضي في أحكامه القضائية، وعدل المجلس العام أو المؤسسة العامة مع منسوبيها.
 والنظر إلى هذا النوع من أحكام العدل تستوجبه إقامة الخطط العامة والوظائف الجماعية؛ تحقيقا للعدل العام والأمن العام، وتحقيقا لاستقرار المجتمعات وعدالة الدولة وإنسانية النظام السياسي والاقتصادي ودرءا للظلم والاستبداد والبغي.
كما يكون للأمة والشعب ومختلف جماهير الناس المسؤولية العظمى والدور الأكبر في تحقيق العدل العام وفي الدعوة إليه والتحريض عليه، ولاسيما عندما يتراخى الحاكم وتتباطأ الدولة في إجراء العدل وانتظامه ودوامه، بل للأمة الحق في الاعتراض على حاكمها بعد نصحه وعونه على الحق والمعروف، وعندما يتبن لها مضيه في هواه وطغيانه وفساده وإفساده. وهذا هو المعنى الجلي الظاهر لفروض الكفاية وتعلقها بالأمة أو المجموعة والعامة، فهو يُناط بالذمة العامة ويكون مسؤولية عامة لكل فرد من الأفراد دور ما وارتباط ما بهذا الواجب. ولذلك حكم العلماء بأن الجميع يأثمون عندما يتعطل الفرض الكفائي، وبأن الجميع يسلمون وينجون عندما يتحقق هذا الفرض.
إحياء هذا الفرض الكفائي تكليف شرعي ومسؤولية وطنية وحضارية:
من فقه التكاليف في العدل إحياء هذا الفرض وتفعيله في واقع الأفراد والمؤسسات، وإحياؤه بالعلم والتوعية والتذكير، وإحياؤه بالتنظيم والتأسيس والتطبيق، وإحياؤه في الضمائر والمظاهر، وهو ما يتأسس على التوجيه الشرعي والمتطلبات الوطنية والإسهامات الحضارية في إرساء حياة العدل وترتيب آثارها التنموية والعمرانية عليها. أما الظلم فظلمات في الحياة وفي الممات ويوم تشتد الحسرات.
ثالثا:
تأطير أصول التكاليف للعدل:
يتأطر العدل ضمن دائرة أصول التكاليف الشرعية، كما تأطر في دائرة النصوص والأحكام الشرعية. وتأطره ضمن دائرة الأصول يراد به الاندراج تحت ما يُعرف بأصول التكاليف والأحكام، وهذه الأصول هي القواعد العامة والمبادئ الكبرى للفقه والنظر والاجتهاد والفتوى والقضاء والتوجيه والإرشاد. ومنها أصل الإجماع وأصل القياس وأصل المصلحة ودرء المفسدة وأصل الاستحسان وأصل الاستصحاب والعرف والذرائع سدا وفتها.
و إرجاع العدل إلى هذه الأصول هو عمل دقيق في الدين ونافع في الواقع؛ لإبعاد النظر الجزئي لقضايا العدل ومهماته وأهدافه، فالعدل تحكمه هذه الأصول المستخلصة من النصوص والأحكام بطريق الاستقراء والاستقصاء.
فالعدل لا يعني فحسب العدل بين المتخاصمين في نوازلهم وأنزعتهم، فهذا مطلوب وهو أساس العدل وأبجدياته، ولكن العدل هو إقامة النظام العادل وتحقيق الميزان المضبوط، وإرساء العلاقات الإنسانية على الاطمئنان للعدل والارتياح للنظام والأمل في الحياة، وعدم الخوف والتوجس بسبب ما قد يتطرق إليها من التلاعب بحقوق الناس والاستخفاف بكرامة البشر والاستهتار بمعايير العدالة والكيل بالمكاييل المضطربة والمتعددة.
أصالة تعظيم العدل في فقه تكاليف الشرع:
العدل أصيل في الدين ومتين في مدركاته فروعا وأصولا ومقاصد وأسرارا. وهو من الأمور العظام في السماوات والأرض، ومن الحرمات المباركة في وحي الله سبحانه. وواجب الإنسان تعظيم ما عظم الله؛ والله يقول: "ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه[18]". وقال: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات[19]"
العدل الشعيرة الغائبة في أحيان كثيرة:
يمكن أن نطلق على العدل شعيرة إسلامية من مجموع شعائر الإسلام العظيم؛ لحرمتها من جهة أولى، ولكونه تشعر بالخشية الربانية والتعظيم الديني، ولأنها من عرى الإسلام ومقاصد الشرع ومصالح الخلق وأركان الوجود الإنساني.
وكثيرون يغفلون عن هذه الشعيرة كغفلتهم عن شعيرة الصلاة والزكاة والنفقة والصلة، بل إن بعضهم قد يغيبون عنها لأزمنة ومدد، وقليل آخر قد يسعى إلى تغييبها وتهميشها، وكل هذا وارد ومعروف. والأدهى والأمر هو أن يظن البعض أن العدل في الدين تحسين وتكميل أو ندب واستحباب، أو أنه في سلم آخر الأولويات والمسؤوليات، أو أنه يقبل الاستبدال والتعويض بالنوافل والتطوع والإكثار من الاستغفار والإنابة... إن أخطر ما يُصاب به العدل اعتباره أمرا ثانويا في حياة الإنسان، وشأنا هامشيا أو غير ذي بال، أو عنصرا تعليميا وتربويا قد يتخلف ويفوت... ولذلك لزم إحياء هذه الشعيرة في الأنفس وفي الآفاق، وفي المؤسسات وفي الأسواق، وفي الواقع وعلى الأوراق؛ طردا لحالات الغيبوبة والدهشة والسكر، ومواجهة لواقع التغييب والتحريف والتعطيل.
أصل الاجتهاد والتجديد في العدل:
أصول التكاليف للعدل تشمل كما ذكرنا أصل القياس والاستحسان والاستصحاب وغيره، كما تشمل أصل الاجتهاد والتجديد بالنظر إلى كونهما بذلا للجهد العقلي والنفسي والفردي والجماعي والمعنوي والمادي والنظري والعملي؛ من أجل تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وتمثلا للدين وامتثالا له في الواقع والحياة. ولهذا مستويات بحثه وتبيينه، وليس المقام الآن، لذلك، وإنما نؤكد أحقية كل من الاجتهاد والتجديد في تحقيق العدل بمستوى معين من التحقق النظري أو الواقعي.
ويمثل أصل الاجتهاد والتجديد[20] إطارا فقهيا تكليفيا مرجعيا لعمليات العمل ومساراته ومتطلباته ومآلاته، وذلك بالنظر إلى إطار الاجتهاد الذي هو بذل للجهد واستفراغا للوسع من أجل التحقيق والتحسين والتطوير، وبالنظر إلى التجديد الذي هو إرجاع الأمر إلى وضعه الأصلي في الصفاء والاستغراق والوضوح، وفي الآفاق المأمولة والوسائل المطلوبة...
وتفصيل هذا يجعلني أقول بأن الاجتهاد في العدل هو بذل كل جهد لإقامته على قواعده وتحقيق غاياته وتفعيل آلياته وتقدير مآلاته وتحسين عملياته ودرء مثبطاته ومعوقاته وإزالة شبهاته وشهواته.
كما يجعلني هذا التفصيل أقول بأن التجديد في العدل يعني إرجاع مفهومه ومعلومه إلى ما كان قد استقر في عصر النبوة المباركة وفي عهود الصحبة المختارة، من حيث استغراق المعنى وصفاء الرؤية وصدق الإرادة وإخلاص الفؤاد واستقامة النفس وتهيؤ البيئة العامة وتحقق المكابدة والمجاهدة وتعمق النظر والاستبصار والمراجعة والانكسار. وهذا هو التجديد بكليته ومفهومه وتنزله وإجرائيته، وليس معنى عائما أو مُسوفا أو متفائلا دون اعتبار بالواقع وإمكانياته وتحدياته.
والعدل في أيامنا وأعصارنا يحتاج غاية الاحتياج إلى أعمال اجتهادية وتجديدية معتبرة ومتواصلة وجماعية؛ من أجل نقله من حاله الراهن المبتور والمنقوص إلى مآله الواعد المثمر.
وحري بأهل العلم وأصحاب الاختصاص والصلاحية أن يعتبروا بهذا الأصل المتين في مدارسة العدل ومراجعة أحواله  وآلياته وبعض فئاته ومؤسساته حتى يستعيد نهوضه ويسترد عهوده، وما ذلك على الله بعزيز.
أصل المقاصد في العدل:
المقاصد الشرعية هي غايات الدين وأسرار الشريعة وحكم الأحكام. وهي قاعدة كبرى من قواعد الفهم والتنزيل، والتعبد والتدين، والتوجيه والإٍرشاد. وهي تمثل إطارا شرعيا مرجعيا للعدل وغيره،
وتفصيل ذلك يستوجب الحديث عن بعض المفردات المقاصدية التي تؤصل للعدل وقضاياه ونوازله. ومن ذلك: مفردة المصلحة التي تظل إحدى غايات العدل، من حيث تحقيق مصالح المتقاضين والمتطلعين إلى العدل، على نحو مصلحة إعطائهم حقوقهم وتيسر تقاضيهم وبناء أمنهم واستقرارهم.
ومفردة الضروريات والحاجيات التي تؤطر العدل من جهة سعيه إلى سد هذه الضروريات والحاجيات البشرية والاجتماعية والوطنية بإقامة العدل القويم والعدالة الكاملة بحسب الممكن والمستطاع، ومفردة الوسائل التي تمثل إطارا رحبا لكيفيات العدل وإجرائياته بما يلائم إمكانياته ويحقق أهدافه ويجسد مبادئه وفضائله. ومفردات أخرى كثيرة يمكنها أن تمثل إطارا مرجعيا مقاصديا مهما لإقامة العدل وتفعيله ونشره.
رابعا:
تأطير مؤسسات التكاليف للعدل:
مؤسسات التكاليف للعدل هي مجموع التنظيمات والإجراءات والوظائف التي تستوعبها الهياكل المعنية والأطر المختصة بذلك. ومنها: مؤسسات القضاء وكليات التعليم ومعاهد التدريب ومراكز البحوث والجمعيات الأهلية في مجال الحقوق والقانون والعدالة وسائر ما له ارتباط بهذه المؤسسات من هيئات وشخصيات وفعاليات ودوريات.
ووصف هذه المؤسسات بصفة الشرعية أو بارتباطها بالتكاليف الشرعية تستوجبه أطرها المرجعية الإسلامية من جهة كونها مؤسسات إسلامية تابعة للدول الإسلامية وتتبع دساتيرها وقوانينها التي تنص على اعتماد الإسلام دينا للدولة والشعب ومصدرا للتشريع والتقنين.
وتأطير هذه المؤسسات للعدل إنما هو استيعابها لعملياته وتوجيهها لأشغاله وترشيدها لمساراته؛ بما يحقق آثاره ويحصل نتائجه ويعود بالنفع على المتقاضين والناس أجمعين. ومسؤولية هذه المؤسسات وضع العدل في مساره الشرعي والخلقي والمهني والإجرائي؛ بما يحقق حقوق الناس وكرامة البشر، وبما يرسخ العدالة والإنصاف ويبعد الظلم والجبروت، وبما يسهم في تعزيز أمن البلاد وصالح العباد وبما يكون له أثره في التنمية الشاملة وخدمة المجتمع وتعميق إرادة الخير والمعروف بين المواطنين.
العدل في الإسلام بين فقه التكليف وفقه التأسيس:
فقه التكليف العدلي هو مجموع المدركات الشرعية من نصوص وأحكام وقواعد ومقاصد وقرائن وسياقات ودلالات تؤطر العدل وتوجهه، وفقه التأسيس العدلي هو مجموع التنظميات والإجراءات والتراتيب والهياكل والمؤسسات التي تقيم العدل على محكه العملي والتنفيذي، ويُضاف إليها مجموع الابتكارات والمنتجات والتطورات في هذا الصدد، وهو ما يستوعب التحديث والتجديد والتطوير في مجالات مؤسسية وإدراية كثيرة، كمجال تطوير النظام وتعميق البحوث وتعميق التدريب في مجال القضاء والعدل والعدالة، وكالإفادة من المقارنات والمقاربات والإحصائيات وسائر المنتجات في هذا المجال. ولهذا مجاله الرحب على صعيد الدراسة والمناقشة والتأليف والتصنيف والتعليم والتدريس والإشهار والإعلان والإفتاء والاجتهاد والتنظير والتنزيل.
المصادر والمراجع:
أبحاث في مقاصد الشريعة، نورالدين الخادمي، مؤسسة المعارف، لبنان، 2006م
الجامع الصحيح للبخاري.
الجامع الصحيح لمسلم.
لسان العرب، ابن منظور.
المصباح المنير، الفيومي.
المناسبة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة، نورالدين الخادمي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، 2008م
الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي، دار المعرفة.
الموسوعة الفقهية الكويتية.


[1] صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا أوفق له. وجاء الحديث في الصحيحين برواية أخرى، هي: قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: "إن لبدنك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا".
[2] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وأخرجه غيره.

[3] النساء الآية 11

[4] النساء 58
[5] المائدة 8.
[6] النساء 135.
[7] رواه البخاري في (كتاب فرض الخمس)، وفي (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة)، ورواه مسلم في (كتاب الزكاة) من صحيحه.
[8] الموسوعة الفقهية، 13/250.
[9] تاج العروس، مادة كلف، والموسوعة الفقهية: 13/248.
[10] جمع الجوامع، 1/171، وإرشاد الفحول، ص6، والموسوعة الفقهية، 13/248.
[11] آل عمران 19.
[12] النساء 58.
 [13]  النساء 8
[14] النحل 90.
[15] آل عمران 134
[16] أخرجه  البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله.
[17] النحل 90
[18] الحج 30.
[19] الحديد 125.
[20] التجديد من فعل جدَ يجد بالكسر، فهو جديد، وهو خلاف القديم. وجدد الإنسان الأمر وأجده، إذا استحدثه. والجد العظمة، والجد في الأمر الاجتهاد المصباح المنير، الفيومي، ص36..
والجديد: ما لا عهد لك به، ولذا وصف الموت بالجديد، وتجدد الشيء صار جديدا، والجديدان الليل والنهار لأنهما لا يبليان. لسان العرب، ابن منظور، 1/386.
والتجديد في اصطلاح أهل العلم هو الاجتهاد في الأمور المستجدة ومعالجتها، وتقديم الشيء الذي يراد تجديده على وضعه الأصلي السوي الذي لم تشبه شوائب الزمان والمكان والحال. يراجع كتاب أبحاث في مقاصد الشريعة، نورالدين الخادمي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم