الأربعاء، 21 مايو 2014

كلمة السيد الرئيس الأول للمجلس الأعلى - الذكرى الخمسينية لتأسيس المجلس الأعلى - مكناس 2007





سيادة الوالي جهة مكناس تافلالت،
سيادة وزير العدل،
السادة عمال صاحب الجلالة،
السيد رئيس الجهة،
السيد رئيس المجلس البلدي،
السيد رئيس الغرفة الأولى للمجلس الأعلى،
أصحاب السيادة الوزراء السابقون،
السادة المسؤولون بوزارة العدل،
السادة أعضاء المجلس الأعلى للقضاء،
السيد رئيس الأول لمحكمة الاستئناف بمكناس،
السيد الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى،
السيد رئيس لجنة العدل والتشريع لمجلس المستشارين،
السيد نقيب هيئة المحامين،
السادة أعضاء البرلمان،
السيد عميد كلية الحقوق،
السيد رئيس الودادية الحسنية للقضاة،
السادة أعضاء المكتب====،
السادة رؤساء الأولون،
السادة الولاء العامون،
السادة باقي المسؤولين القضائيين،
تنعقد هذه الندوة الثانية بعد ندوة فاس الأولى في إطار احتفالات المجلس الأعلى بذكراه الخمسين في العاصمة الإسماعيلية الجميلة، والشعب المغربي كله يحتفل ابتهاجا وسرورا بالحدث السعيد، حدث ميلاد صاحبة السمو الملكي الأميرة للا خديجة حفظها الله وجعلها يمنا وبركة على سيدنا المنصور بالله دام علاه، وعلى صاحبة السمو الملكي الأميرة الجليلة للا سلمى وعلى الأسرة العلوية المجيدة وعلى الشعب المغربي بكل شرائحه، فنتيمن ونتبرك إذن بافتتاح هذه الندوة في هذا الجو المفعم بالإبتهاج.
إن موضوع قضايا الأسرة من خلال توجهات المجلس الأعلى يعني القيام بعملية تحليلية نقدية لاجتهادات المجلس في الموضوع على مدار خمسين سنة من تأسيسه، ويتصادف ذلك مع خمسين سنة أخرى لحدث هام، ألا وهو انطلاق أشغال لجنة تدوين الفقه المحدثة بمقتضى ظهير شريف صادر في السادس من نفس الشهر والسنة التي وجد فيها الأول المجلس كأعلى مؤسسة قضائية، حيث انطلقت أعمالها التشريعية بالكتاب حول الزواج في أواخر السنة، اكتملت مدونة الأحوال الشخصية بصدور آخر كتاب "الكتاب السادس" حول الإرث في بداية السنة الموالية 13 أبريل 1958. إذن نحن أمام الاستعراض لخمسين سنة لمدونتين ولاجتهادين خاصين بهما.
فمن مدونة محمد الخامس قدس الله مثواه إلى مدونة محمد السادس حفظه الله، وقبلهما لم يكن هناك تدوين، ويعتبر المغرب متأخرا في هذا الشأن بالقياس مع دول إسلامية أخرى كتونس التي دونت مجلة الجنايات والأحكام العرفية سنة 1861، والإمبراطورية العثمانية التي دونت مجلة الأحكام العدلية الشهيرة سنة 1869 لكن القوانين أو المدونات المتعلقة بالأسرة لم تبدأ إلا متأخرة، فقانون حقوق العائلة في الدولة العثمانية الذي لم يصدر إلا سنة 1917وفي مصر سنة 1920 وفي سوريا في السنة التالية وفي المملكة الأردنية الهاشمية سنة 1927.
وقد كان يلجأ القاضي في المغرب لعدم وجود مدونة للأسرة أو العائلة في إصدار أحكامه، إلى كتب الفقه وإلى الفتاوى فيما اختلف فيه، وإلى ما يصدر من سوابق قضائية. وفي هذا الميدان كانت الأحكام التي تصدر عن وزير العدل بعد استشارة المجلس الأعلى للعلماء ابتداء من سنة 1914 وتلك التي أصبحت تصدر عن مجلس الاستئناف الشرعي الأعلى ابتداء من سنة 1921، مصدرا رئيسيا بالنسبة للقاضي وهو يبت في قضايا الأسرة.
وبعد صدور القانون المنظم للوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب بالمغرب سنة 1913 والإقرار بتطبيق القانون الوطني لحالة الأشخاص وأهليتهم، أصبحت أحكام قضايا الأسرة تتبع الإنسان ولو خارج وطنه، فكان المطلوب بمقتضى قاعدة الإحالة على القانون الوطني في القانون الدولي الخاص أن يكون القاضي الأجنبي بالنسبة للمغاربة المسلمين على اطلاع بأحكام قضايا الأسرة في بلدهم ليحكم بها. وهكذا، فإذا كان يعسر على القاضي الشرعي البحث في النصوص المدونة في الكتب الفقهية وفي الفتاوى والأحكام فإن العسر يتضاعف لدى القاضي الأجنبي غير المسلم.
من هنا، كان اهتمام صاحب الجلالة محمد الخامس رحمة الله عليه كبيرا بالنسبة لتدوين الفقه عامة وقضايا الأسرة خاصة، وأسس لجنة تضم عشرة من فقهاء وقضاة تحت رعاية جلالته، بعضوية ورئاسة شرفية لولي عهد المملكة آنذاك الأمير مولاي الحسن لعلم جلالته كما قال في خطاب استقبال اللجنة سنة 1957، ما للأمير من تعلق شديد  بالدين ورغبة ملحة في التوفيق في أحكامه ومقتضيات العصر، تلك الرغبة التي عبر  عنها سمو ولي العهد آنذاك في خطاب أمام والده وأعضاء اللجنة من أن هدف المدونة ليس دينيا أو شرعيا فحسب، وإنما تدعيما للأسس الاجتماعية التي يعيش عليها المغرب في القرن العشرين، وأمام تضارب الأفكار فإنه يجب تثبيت دعائم الإسلام الحقيقية فالفقه ما هو إلا وسيلة لمعايشة الأفراد فيما بينهم.
ولقد كانت مدونة محمد الخامس للأحوال الشخصية والميراث والتي كانت من المنتظر أن تحمل لهم مدونة الأسرة أو العائلة طالما أن تسمية الأحوال الشخصية دخيلة على الفقه وهو تعبير أوسع من محتويات المدونة فسميت بالأحوال الشخصية لشيوعة هذا الاستعمال خاصة في المغرب.
كانت المدونة جد متطورة في حينها ووقتها، حيث ورد في مذكرتها الإيضاحية أن الشريعة خولت للمرأة جميع الأهليات الحقوقية التي للرجل من حرية في الزواج، واختيار للزوج، وأهلية للوصاية على الأولاد، وحق إدارة أموالها واستثمارها وسائر التصرفات دون سيطرة للرجل عليها، فحفظت لها كرامتها وجعلتها مهابة الجانب تسبغ عليها الأسرة آيات التقدير والاعتبار، ثم أصبحت في عهد الانحطاط بمثابة الخادمة المضطهدة.
إذن جاءت المدونة بهذه الروح وهي كما نرى غاية في تكريم المرأة وحفظ الحقوق، لكن النصوص التشريعية مهما بلغت من الكمال فإن العبرة بالتنفيذ. ولعل دراسة متأنية لما قام به القضاء في تفسيرها وتطبيقها خلال أكبر شطر في الخمسين سنة التي نحيي فيها اجتهاد المجلس ستكون منارا يوضح ما أفلح فيه اجتهاد المجلس وما أخفق فيه حتى يقع تلافي أي خدش يصيب المدونة الجديدة المتطورة، مدونة محمد السادس نصره الله.
فالفقه في المغرب والمدرسة المغربية الأندلسية المالكية على الخصوص تمتاز عن غيرها بكونها الأكثر توسعا في استعمال المصالح المرسلة، ولذلك ظهر علماؤها بقوة الإدراك، وبالعناية الكبيرة التي أحاطوا بها موضوع نقل الشريعة الإسلامية إلى الحياة الاجتماعية، ومن أهم ما اهتدوا إليه فقهاء المغرب هو إحداث نظام (العمل) أي ما جرى به العمل من أقوال الفقهاء قياسا على ما سار عليه الإمام مالك بالنسبة لعمل أهل المدينة.
إن هذا الفقه نال احترام، بل و إعجاب العديد من الفقهاء الأجانب بل ومن خلاله كان احترامه للدين الإسلامي وحضارته، فكثير هؤلاء الذين غاصوا أغوار الفقه في المغرب وبحثوا في أدق الأمور فكان Louis MILLIOT من الأوائل الذين جمعوا وعلقوا على الاجتهادات الصادرة من المحكمة التشريعية لوزير العدل والمجلس الأعلى للعلماء سنة 1920 وتبعه في ذلك فقهاء آخرون كالسيد بيل الذي كتب سنة 1933 مؤلف حول الهبة في الشريعة الإسلامية المالكية مطبعة Mamdo والسيد سيردون جورج حول مختصر في الفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك سنة 1935 (المطبوعات الدولية بطنجة) وغيرهما أمثال Solus Decroux COLMEN والسيد Luis RIVIERE سنة  1924.
هذا الفقه المنظم العقلاني العملي البديع هو الذي دفع بالسيد Alain PLANTEY في كتابه حول إصلاح العدالة 1952 في المغرب إلى القول عندما ننظر إلى الإنسان المغربي (8 ملايين آنذاك) نجده كون مغربا عتيقا مثقلا بالتاريخ و التقاليد، فمنذ قرون كون إمبراطورية لم تنتظر الحماية لتكون لها إدارة وتعليم وقضاء، إن من يريد أن يعرف العدالة المغربية يجب أن يبتدئ بوضعها داخل حضارة وقانون عام ووسط اجتماعي مختلف عما تعرفه في أروبا.
وهو  نفس التعبير الذي ورد على لسان المارشال ليوطي وهو يوجه مذكرته للمسؤولين محذرا إياهم عن المساس بالحضارة المغربية وما لها من حمولات إنسانية    واجتماعية خاصة في ميدان العدالة والفقه؛ ولعل ما يوجد في بيته بمدينة THOREY من آثار وقطع وتأثيث يبين إلى أي حد احترامه للحضارة الإسلامية المغربية، إذ أن من بين ذلك مجموعة شموع من مولاي إدريس بفاس، وقطعة ثوب من غطاء الحجر الأسود بمكة، وكان عندما يزور الأضرحة يقول أن بها رهبة واحتراما وتخرج منها قوة يكون الإنسان أحمقا إذا لم يراعيها "كتاب في ظلال المارشال اليوطي لكتابه الخاص Didier MODRAS" 1953 بل إنه وقبل مماته طلب من صديقه الرسام Jacques de la NIZIERE أن يهيئ له مخططا لقبره الذي سيدفن فيه في الرباط وأوصى أن يكتب باللغتين العربية والفرنسية بعد اسمه وتاريخ ميلاده ووفاته أن ليوطي احترم بعمق التقاليد العتيقة والديانة الإسلامية التي حافظ عليها سكان المغرب ومارسوها والتي بسببها أراد أن يكون قبره بهذه الأرض التي أحبها.
 إذن المغرب حمل مشروعا حضاريا عرف هزات اجتماعية وسياسية، لكن الفقه ظل يتطور ويعطي، وظلت العدالة تساير بعقلانية وواقعية تنهض أحيانا وتخفت أحيانا أخرى لكن تبقى حية مستمرة، هذه الحيوية هي التي منحت المغرب مدونة كانت في وقتها منذ خمسين سنة متقدمة بل وجريئة خصوصا في بعض مقتضياتها كتلك التي أحدثت الوصية الواجبة خارجة عن الفقه المالكي إلى الحنفي وظلت حية رغم ما شابهها من تطبيقات أحيانا  لم تكن تساير الروح التي عبر عنها صاحب الجلالة محمد الخامس رحمه الله عندما قال وهو يستقبل اللجنة، إن تأويلات عقيمة وعادات فاسدة بحكم تداولها ساهمت في تأخر تطور البلاد ورقيها، فمن واجبنا أن نعود إلى ثروتنا الفقهية ونعمل على إحيائها وهو الإحياء الذي ما نادى به حفيده صاحب الجلالة محمد السادس حفظه الله وهو يتوجه بكلمة سامية أثناء تنصيب أعضاء اللجنة الاستشارية لمراجعة مدونة الأحوال الشخصية يوم 27 أبريل 2001 بقوله " يجب رصد مقتضيات المدونة التي تحتاج إلى تفعيل واستيعاب ما تمليه الظروف الاجتماعية المتغيرة والقضايا المستجدة ... ولن يتأتى ذالك إلا بمزاوجة خلاقة بين التشبت بثوابتنا الدينية التي تشكل جوهر هويتنا وبين الانسجام التام مع روح العصر المتسمة بالطابع الكوني لحقوق الإنسان"
 لقد عرفت المدونة في مرحلتها الطويلة على مدار يقارب الخمسين سنة مدا وجزرا في التفسير والتطبيق كما عرفت تعديلات أساسية أمر بها صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه سنة 1993 شذبت أحكامها وزادت في توازنها، وانتهى بها المطاف إلى تأسيس جدري لمقتضياتها حيث المحافظة على التوازن العقلاني والرصين بين كل أطراف الأسرة من زوجة وزوج وأطفال هؤلاء الأخيرين الذين أصبحوا كاملي العضوية في مؤسسة الأسرة لهم حقوق على الزوجين والمجتمع يجب احترامها لتكتمل شخصيتهم وهم شبان يانعون يحضون بتنمية بشرية حقيقية منذ انطلاق حياتهم بالولادة بما يتحقق لهم من ضمانات تجعلهم مندمجين في مجتمع عصري تواق إلى الرفاهية والتقدم، مما جعل مدونة محمد السادس نصره الله في مقدمة المدونات الإسلامية تطورا شكلا وموضوعا. وأن هذه الوسيلة التي وضعت في يد القضاء لإنصاف كل أعضاء الأسرة بتوازن وحكمة هي التي تتطلب أن ينطلق الخيال الخلاق لمفسري المدونة ومطبقيها نحو تحقيق عدالة يرتاح لها الأطراف، ذلك أن القانون هو أقوى المدارس في الخيال، إذ أن الشاعر لن يتمكن من تفسير الطبيعة بأكثر حرية مما يفعله رجل القانون في تفسير الواقع،فالخيال قوة فكرية من بين الطاقات التي تسوق الحقوق.
إن المطلوب من ندوة كهذه أن تقفز بخيالنا على النص الحرفي إلى روحه التي تتجلى في تحقيق العدالة والإنصاف، وبالتقاء الحق الناتج عنهما مع تخيلات القاضي لكيفية أصيلة تكون تراثا قضائيا يسترشد به الأجيال الحالية والمستقبلية وتحقق به كما قال صاحب الجلالة أمير المؤمنين ورئيس المجلس الأعلى للقضاء وهو يستقبل يوم 5 مارس من هذا الأسبوع الوكيل العام الجديد بالمجلس الأعلى الأستاذ الطيب الشرقاوي الذي نغتنم  الفرصة لتهنئته بالثقة المولوية السامية خلفا للسيد محمد عبد المنعم المجبود الذي نغتنم الفرصة أيضا لنهنئه على ما لحقه من عناية سامية ومن تنويه بشخصه وعمله، من أن تحصين القضاء والقاضي هو ضمانة لتحقيق الأمن القانوني والقضائي الذي يتوقف عليه تعزيز دولة الحق والمؤسسات، وترسيخ المسار الديمقراطي وتشجيع الاستثمار والنهوض بالتنمية الشاملة " انتهى النطق الملكي.
استقلال القضاء والقاضي بوابة مفتوحة عريضة أمام القاضي لانطلاق خياله نحو تطويع النص وتجاوز حرفيته لتحقيق العدل والاقتراب إلى الإنصاف، مما يريح المواطن ويخلق المناخ المتزن المناسب الذي ينمي شخصيته، ويفتح باب طاقة إبداعه نحو عالم الخلق والإنتاج الذي هو الطريق السليم لكل تنمية مستدامة.
سيادة الوالي، اسمحوا لي أن أشكركم على دعمكم ومساعداتكم القيمة لإنجاح هذه التظاهرة كما أود أن أشكر سيادة الوزير ومساعديه الأقربين على دعمهم المتواصل والمستمر لكل أنشطة المجلس الأعلى منذ توليه مسؤولية وزارة العدل، كما أتقدم بالشكر الجزيل لكل من رئيس المجموعة الحضرية، ورئيس الجامعة، ونقابة المحامين، وكل المشاركين بالعروض، وكل الشكر للسيد الرئيس الأول والسيد الوكيل العام لمحكمة الاستئناف بمكناس، والمدير الفرعي، والسادة المسؤولين بالإقليم وجميع المسؤولون عن هذه القاعة ومساعديهم الأقربين، وكافة المنظمين لهذه الندوة فلهم منا كل الشكر وتنويه وثناء على مجهوداتهم القيمة لتمر هذه التظاهرة في أحسن الظروف وأكثرها ملاءمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم