الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

أحكام النسب بين قواعد الشريعة ومدونة الاسرة - بحث مميز - جـ 1




مقدمة    
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوكل عليه، ونطلب منه الهداية والتوفيق، ونسأله أن يصلي على نبيه الذي جاء بالهدى ودين الحق، فأنار به الطريق إلى السعادة في الدنيا والآخرة، وأخرج الإنسان من ظلمات الجهل إلى رحاب العلم، وحرره من المعتقدات الباطلة، والأعراف الظالمة، والعادات السيئة وأتاهم بتشريع من السماء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فنظم به حياتهم تنظيما محكما عادلا، رد به الأمور إلى نصابها، والحقوق إلى أهلها، وبلغ شريعة الله التي تهدي الإنسان ــ أفرادا وأسرا وجماعات ــ إلى أحسن وسيلة للحياة الشريفة والعيش الرغيد، وتصون الأنساب من الضياع، بسنها لنظام "الزواج" ولم يدعها نهبا للعواطف والأهواء، وإنما تولاها بالعناية الفائقة وأحاطها بسياج من التنظيم والضبط، تجد الذرية الناشئة في كنف الوالدين الرعاية الكاملة والتربية السليمة، حيث كان الأولاد في الحياة هم نساء ورجال المستقبل، وعليهم يعتمد هذا الوجود لأنهم محط الأمل، ومعقد الرجاء، ولهذا أعطتهم الشريعة الإسلامية هذه العناية الكبيرة، كل هذا محافظة على قيام المجتمع على أتم وجه وأكمله، وصيانة الأفراد من الفساد والضياع عن طريق الزواج، قال سبحانه وتعالى: (" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء") [1]، وبذلك عرف نظام الزواج بالوسيلة التي تضفي المشروعية على العلاقة الرابطة بين الزوجين طريقا لنشر الفضيلة وتنظيم الروابط وما ينتج عن ذلك من ثبوت النسب للولد ووسائل نفيه، فإذا ثبت نسب الطفل تثبت له سائر الحقوق الأخرى، بصورة تلقائية وشرعية، لهذا فأي حمل خارج مؤسسة الزواج يعتبر حملا غير مشروع، يتولد عنه بالتالي طفل غير شرعي، ينسب لتلك العلاقة بغير رضا أو علم، ليصبح تبعا لذلك رمزا للشقاء، لا أحد يـرغب فيه حتى أهله وفي المقام الأول أسرة أمه خصوصا، وأن الشريك غالبا ما يتملص من مسؤوليته بسقوط أقنعة الوعود الكاذبة والمصالح الآنية.
فإذا كان الإنسان اجتماعيا أو كما يقول ابن خلدون مدنيا بطبعه، فإنه مما لاشك فيه أن هذه المدنية تتحقق أولا وقبل كل شيء بمعرفة نسبه الذي ينتمي إليه، فلكي يستطيع الفرد البقاء والتفاعل داخل المجتمع فإنه يحتاج إلى عدة قنوات اجتماعية تقوم بربطه في بناء المجتمع، ومن إحدى هذه القنوات النسب، فحتى يعيش ضمن مجتمع طاهر من حيث حالته المدنية، وحتى يشعر بأنه إنسان متكامل الجوانب لا يحس بمركب نقص، لابد أن ينسب إلى أصله الحقيقي.
فالدراسات الاجتماعية أثبتت أن الإنسان الذي يعيش جاهلا أباه يعيش حاضرا ومصيرا مجهولا، يعيش في مجتمع لا تربطه به صلة، ولاشك أنه يشعر بعزلة وقلق وحيرة وحقد على المجتمع، وكلما ازداد إحساس الإنسان بالنقص ازداد شعوره بالألم، ولابد للألم من أن يولد الانفعال الملائم له.
من هنا إذن يبدو أن حرمان الفرد من النسب يعني حرمانه من أهم حقوقه على الإطلاق، وإلحاق حيف وظلم به، ومس بهويته، مما قد يؤدي به كل ذلك إلى الضياع بوجه أو بآخر، رغم أن المبدأ والواقع أنه مولود من شخصين أب وأم.
من هذا المنبر يكون من المفيد جدا دراسة موضوع النسب من زاوية فقهية وقانونية، أي مدى اعتباره حقا من حقوق الطفل، وكيف يمكن حمايته وتأسيسه. وفي هذا الإطار يندرج   موضوع هذا البحث الذي اخترنا له كعنوان: "النسب بين الشريعة والقانون المغربي".
ومما لاشك فيه أن دراسة موضوع هذا البحث لا تخلو من أهمية نجملها فيما يلي:
* محاولة إبراز مظاهر حماية التشريع المغربي والشريعة الإسلامية لنسب الطفل الناتج عن الزواج.
* مقارنة النصوص التشريعية في مدونة الأسرة مع مقتضيات الشريعة الإسلامية بخصوص موضوع البحث.
* محاولة الوقوف على الدور الإيجابي والسلبي للقضاء المغربي في هذا الصدد وخاصة المجلس الأعلى ـــ كأعلى هرم قضائي ـــ وذلك من خلال إبراز كيفية تعامله وفهمه للنصوص القانونية والوضعيات المعروضة عليه، ومدى إلمامه بمقتضيات الفقه الإسلامي ومقاصد الشريعة الإسلامية من النسب.
* محاولة التعرف على موقف المحكمة الابتدائية بفاس ـــمن خلال بحثنا الميداني ـــ وذلك عبر تقييم أحكامها في الموضوع.
* محاولة إبراز مظاهر القصور في حماية حق النسب في التشريع المغربي عن طريق الكشف عن بعض الثغرات التي ينطوي عليها، والتي قد تكون سببا لحرمان الطفل من نسبه.
* محاولة رسم صورة مبسطة من الناحية العلمية عن ماهية البصمة الوراثية والفحص الدموي عندما يتعلق الأمر بمعرفة نسب الطفل الحقيقي عن طريق الخبرة القضائية.
* الإدلاء برأينا المتواضع في كل ما وجد له رأي، واقتراح ما يعتبر مناسبا لجعل مدونة الأسرة متماشية في هذا الإطار مع الشريعة الإسلامية من جهة، والتطور الاجتماعي ومصلحة الطفل وحقوقه من جهة أخرى.
لذلك كله، انصب اختيارنا لدراسة هذا الموضوع على المنهج التحليلي النقدي والمقارن، حيث سنقوم كمرحلة أولى بوصف وتحليل ما هو كائن في الفقه الإسلامي والمنظومة القانونية المغربية،ثم في المرحلة الثانية مناقشة وانتقاد ما يشكل ثغرة أو نقص يؤثر سلبا على حق الطفل في النسب من حيث تأسيسه وحمايته،لنصل كمرحلة ثالثة إلى استنتاج واستخلاص ما ينبغي أن يكون لضمان كل طفل حقه في النسب بما يتلاءم مع مقاصد الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان دون خرق النظام العام والأخلاق الحميدة. على أننا إذا حاولنا أن نعالج بعض جوانب الموضوع، فإننا لا ندعي الشمول في هذا البحث المتواضع والإحاطة بجميع جوانبه، آملين أن ينبثق من كلمتنا هذه ما هو كفيل بتقديم العون المسعف بالاهتداء لحسم مشكلة النسب بما يجعل الضمير الإنساني والاجتماعي يخفف من ثقل وطأتها التي ما فتئت تزداد منذ وقت ليس بالقصير.       
  وقد واجهنا عدة مشاكل في هذا البحث وأهمها ينطلق أساسا من كون هذا البحث يعد أول تجربة نخوضها في إطار البحث العلمي، زيادة على مشكل قلة توفر المصادر والمراجع في المكتبات العمومية، خاصة مكتبة دار الثقافة التي تكاد تنعدم من كتب القانون عامة، وأخيرا صعوبة التوفيق بين المحاضرات والبحث العلمي.
وهذا البحث يعد سوى نموذج لولوج عدة أبحاث بكيفية شاملة وبكل نزاهة وبإخلاص، ونتمنى أن نكون قد أصبنا الصواب والله ولي التوفيق.
وعليه تتحدد إشكاليات الموضوع في إشكالية أولية ــ أو تساؤل إن صح التعبير ــ تعقبها إشكاليتين رئيسيتين على الشكل التالي:
هل القانون المغربي في معالجته لموضوع النسب سار على نهج الشريعة الإسلامية أم له موقف مغاير لها ؟
وكيف يمكن إثبات النسب في القانون المغربي ؟ ثم كيف يمكن نفيه ؟
لهذا الهدف وذاك اخترنا أن تأتي دراسة هذا الموضوع على الشكل التالي:
         الفرع الأول: وسائل إثبات النسب
         الفرع الثاني: وسائل نفي النسب
خاتمة: نجمل فيها الخلاصات والاستنتاجات المتوصل إليها اقتراحات في الموضوع.  


فهرس الموضوع:
مقدمة عامة.....................................................................................1
ــــ الفرع الأول: وسائل إثبات النسب.......................................................6
تمهيد................................................................................... .........6
v    المبحث الأول: الفراش..................................................................7
*المطلب الأول: تعريف الفراش................................. ............. ............8
         *المطلب الثاني: إثبات الولد للفراش...............................................9
         الفقرة الأولى: إبرام عقد زواج صحيح.............................................9
         أولا: النسب يثبت في الوطء بشبهة.................................................9
         ثانيا: ثبوت النسب في النكاح الفاسد..................................... .........10
         الفقرة الثانية: انصرام مدة الحمل ........................................ ........13
         أولا: أقل مدة الحمل .................................................................13
         ثانيا: أقصى مدة الحمل..............................................................14
         الفقرة الثالثة: إمكانية حمل الزوجة من زوجها.......................... .......17
         أولا: إمكانية الاتصال................................................................17
         ثانيا: إمكانية الإنجاب................................................................18
v    المبحث الثاني: الإقرار.................................................................19
         *المطلب الأول: تعريف الإقرار...................................................19
         النوع الأول: الإقرار الذي ليس فيه تحميل النسب على غير المقر.. ........20
         النوع الثاني: الإقرار الذي فيه تحميل النسب على غير المقر......... .......20
         *المطلب الثاني: إقرار النسب وشروطه.................................. .......21
v    المبحث الثالث: البينة............................................................. .......24
         *المطلب الأول: إثبات النسب بواسطة شهادة عدلين...................... . ...24
         *المطلب الثاني: إثبات النسب بشهادة السماع...............................  . .26
ـــ الفرع الثاني: وسائل نفي النسب.......................................................  .29
تمهيد............................................................................................ 29
v    المبحث الأول: نفي النسب عن طريق إثبات اختلال شروط الفراش............31
*المطلب الأول: عدم وجود عقد زواج صحيح........................ ....... ..........31
*المطلب الثاني: انصرام مدة الحمل.................................... ...................34
*المطلب الثالث: عدم إمكانية الاتصال بين الزوجين................ ...................34
v    المبحث الثاني: نفي النسب بواسطة اللعان...................................... ....35
         *المطلب الأول: مفهوم اللعان ومسطرته................................... .....36
         الفقرة الأولى: مفهوم اللعان.................................................. ......36
         الفقرة الثانية: مسطرة اللعان................................................ .... ..37
         *المطلب الثاني: شروط اللعان وآثاره............................................38
         الفقرة الأولى: شروط اللعان........................................................38
         الفقرة الثانية: آثار اللعان........................................................... 39
         *المطلب الثالث: تأثير اللعان على حق الطفـل في النسب وموقف القضاء
                                مـنـه.............................................................40
         الفقرة الأولى: أثر مسطرة اللعان على نسب الطفل مدى إمكانية تعديلها. .40
         أولا: عدم ملائمة مسطرة اللعان لنفي النسب في العصر الراهن............40
         ثانيا: نحو حماية أفضل لنسب الطفل ضمن مسطرة اللعان................. .42
         الفقرة الثانية: موقف القضاء المغربي من اللعان .......................... ...44
         أولا: انصراف المجلس الأعلى عن التطبيق العملي للعان....................44
         ثانيا:السبب وراء موقف المجلس الأعلى من اللعان...........................45
v    المبحث الثالث: نفي النسب بالاعتماد على الخبرة الطبية........................47
         *المطلب الأول: نفـي النسب عـن طريـق إثـبـات العـقـم بواسطة الشهادة
                              الـطبيـة...........................................................48
         *المطلب الثاني: أثـر الـنتـائـج العـلمية لفحـص الـدم عـلى إثـبـات الـنسـب
                              أو نفيه............................................................54
         الفقرة الأولى: نتائج فحص الدم دليل للنفي فقط.......................... ......54
         الفقرة الثانية: نتائج فحص الدم مؤكد للنفي وللإثبات…...........… …..59
         أولا: ماهية البصمة الوراثية………………….............…   …..59
         ثانيا: قوة البصمة الوراثية في نفي أو إثبات النسب…….….....    ….62
خاتمة………………………………………..............……  …..64
لائحة المصادر والمراجع..................................................... .....      .66
ملحق خاص.................................................................... ...      ....70
الفهرس العام لموضوعات البحث...................................... ....        ......71




الفرع الأول: وسائل إثبات النسب

* المبحث الأول:   الـفــراش.
* المبحث الثاني:   الإقـــرار.
* المبحث الثالث:   الــبـيـنـة.    

تمهـيـد:
         عرف المشرع النسب طبقا للمادة 150 من مدونة الأسرة: « أنه لحمة شرعية بين الأب وولده تنتقل من السلف إلى الخلف » أي صلة شرعية بينهما وتنتقل من الأب إلى الأبناء فالأحفاد، وهكذا من السلف إلى الخلف، فهو تعريف يقترب نوعا ما من تعريف الوراثة [2].
والمشرع اعتبر تلك الصلة التي تربط الابن بشخص معين هي عماد النسب [3]، وأن هذا النسب هو من الأشياء التي أولى الإسلام عناية فائقة به، حيث خصه بتنظيم محكم يحقق هدفين سامين، ألا وهما المحافظة على طهارة الأنساب وأن يكون لكل إنسان نسب شرعي [4] .
ومن أهم الحقوق المترتبة على الزواج هي ثبوت نسب الأولاد الذين هم ثمرة الزوجية بين الزوجين، حيث يثبت نسب الولد من أمه بمجرد ولادته، في جميع الحالات بدون توقف على شيء آخر، ومن غير حاجة إلى إثبات، سواء كانت الولادة من زواج صحيح، أو من زواج فاسد، أو من غير زواج أصلا، كالسفاح والدخول بالمرأة بشبهة وهكذا فإن المشرع قد توسع في إثبات البنوة بالنسبة للأم في حالة الحمل الناتجة عن الاغتصاب، لأن المرأة لا يد لها في ذلك، بل أجبرت على الوطء رغم أنفها ولا خطأ لها في الحمل الناتج عن ذلك، حيث عرف المشرع المغربي الاغتصاب في الفصل 486 من القانون الجنائي: « الاغتصاب هو مواقعة رجل لامرأة بدون رضاها..»، إلا أن اعتبار البنوة بسبب الاغتصاب هو من تحصيل الحاصل ما دام قد اعتبرها غير شرعية (المادة 146)، وخصوصا وأن عبارة الاغتصاب فيها إيلام للأم وللابن، فهي ضحية فعل إجرامي مادي،   أما نسب الولد من أبيه فيثبت بواحد من ثلاث أمور إما بالفراش، أو بالإقرار أو بالبينة.
وإذا ما ثبت نسب الولد من أبويه، فإنه تثبت له عليهما حقوق أخرى، مثل حـفـظـه، وتـربيـته، والقيام بكل ما يلزمه من رضاع، وحضانة، ونفقة، وتعليم وغير ذلك.. مما هو في حاجة إليه، لأن الطفل بعد ولادته عاجز عجزا كليا، فهو في حاجة إلى من يعـتني به، وإلى من يقوم بكل ما يلزمه لحفظه وتغذيته وتربيته. ولما كان أبواه أقـرب الناس إليه فهما أحق الناس وأولاهم بشؤونه وذلك مراعاة لمصلحة الولد [5].
طبقا لما نصت عليه المادة 158 من المدونة الجديدة للأسرة: « يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب، أو بشهادة عدلين، أو ببينة السماع، بأنه ابنه ولد على فراشه من زوجته » [6] .
فانطلاقا من هذا النص التشريعي، وطبقا لما استقر عليه الفقه الإسلامي عموما، فإن النسب يثبت بالفراش أي الزواج الصحيح، أو بالإقرار أي الاعتراف بالبنوة، أو بشهادة عدلين، أو ببينة السماع وبكل الوسائل المقررة شرعا، بما في ذلك الخبرة القضائية، وذلك طبقا للمادة 158 من مدونة الأسرة [7].
المبحث الأول:   الـفــراش
طبقا لما جاءت به المادة 153 أنه يثبت الفراش بما تثبت به الزوجية، حيث يعتبر الفراش بشروطه حجة قاطعة على ثبوت النسب، لا يمكن الطعن فيه إلا من الزوج عن طريق اللعان، أو بواسطة خبرة تفيد القطع بشرطين:
ــ إدلاء الزوج المعني بالأمر بدلائل قوية على ادعائه.
ــ صدور أمر قضائي بهذه الخبرة.
لهذا سنقوم بمعالجة هذا المبحث وتقسيمه إلى تعريف الفراش ( المطلب الأول ) إثبات الولد للفراش ( المطلب الثاني ).
المطلب الأول: تعريف الفراش
يقصد بالفراش، من الناحية اللغوية: ما يبسط عادة للنوم أو للجلوس عليه، ويكنى به عن المرأة التي يستمتع بها الرجل، يقول جل شأنه: (" وفرش مرفوعة إن أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ") [8]. ذلك أنه قد كنى سبحانه وتعالى بالفراش عن النساء، وهن الحور العين.
ويقصد بالفراش من الناحية الاصطلاحية: الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة، أو كون المرأة معدة للولادة عن شخص معين، وهو لا يكون إلا بالزواج الصحيح وما ألحق به، فإذا ولدت الزوجة بعد زواجها ــ بشروط سيأتي بيانها ــ ثبت نسبه من ذلك الزوج، دون حاجة إلى إقرار منه بذلك أو بينة تقيمها الزوجة على ذلك، لما رواه الجماعة إلا أبا داود فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ("الولد للفراش وللعاهر الحجر") [9].
والسبب في ثبوت النسب للفراش دون التوقف على إقرار أو بينة، هو أن الزواج الصحيح يبيح الاتصال الجنسي بين الزوجين، ويجعل الزوجة مختصة بزوجها، يستمتع بها وحده، وليس أبدا لغيره أن يشاركه في ذلك الاستمتاع، بل ولا    
الاختلاء بها خلوة محرمة، فإذا جاءت بحمل أو ولد فهو من زوجها، واحتمال أنه من غيره احتمال مرفوض، إذ الأصل حمل أحوال الناس على الصلاح حتى يثبت العكس [10]، وقد أجمع فقهاء الإسلام على النسب يثبت بالفراش، كما أجمعوا على أن النكاح يثبت به الفراش، وقد قنن المشرع المغربي هذه القاعدة في أكثر من نص تشريعي فما هي إذن شروط الفراش المثبت للنسب ؟
المطلب الثاني: إثبات الولد للفراش
لقد رأينا أن المراد بالفراش شرعا، تعيين الزوجة للولادة من زوجها وحده دون غيره، غير أنه اشترط لثبوت النسب بواسطة الفراش ثلاثة شروط رئيسة تتمثل في إبرام عـقـد زواج صحيح ( الفقرة الأولى )، انصرام مدة الحمل ( الفقرة الثانية ) وأخيرا إمكانية حمل الزوجة من زوجها ( الفقرة الثالثة ).
الفقرة الأولى: إبرام عقد زواج صحيح
         إن الزواج الصحيح الذي استجمع سائر أركانه وكل شروط صحته هو زواج مرتب لكافة آثاره الشرعية في الحال. وأهم هذه الآثار ثبوت نسب الأولاد الذين يولدون على فراش الزوجية لصاحب هذا الفراش دون غيره، وهذه القاعدة بديهية في الشرع الإسلامي، وقد تبنتها المدونة الجديدة للأسرة من خلال عدة نصوص قانونية، منها المادة 50 والمادة 51 والمادة 52 [11] ونظرا للغاية السامية والنبيلة التي توخاها الشارع من وراء تقرير قاعدة « الولد للفراش» والمتمثلة في حفظ الأنساب من الاختلاط ومن الإنكار ما أمكن، فإن القضاء يتشدد عادة وهو بصدد إعمالها بكيفية يتضح معها أحيانا أنه متعسف في حق الزوج وظالم له.
وإذا كانت القاعدة هي أن الزوجية الصحيحة فراش يثبت بها النسب، فإن المصلحة قد اقتضت أن يثبت النسب في النكاح بشبهة (أولا) وفي النكاح الفاسد (ثانيا) وذلك حماية للنسب من الضياع وحماية لأعراض بعض النساء.
أولا: النسب يثبت في الوطء بشبهة
الشبهة حسب بعض الفقهاء هي كل ما لم يتيقن أنه حلال أم حرام، ويتحقق الوطء بشبهة في صورة غير مشروعة للاتصال الجنسي تلتبس بصورته المشروعة، وبعبارة أخرى فالوطء بشبهة أو المبني على الشبهة لا يكون زنا، ولا ملحقا بالزنا من جهة، ولا يكون بناء على نكاح صحيح أو نكاح فاسد من جهة أخرى [12]، ومن الشبهة كذلك أن يجامع رجل امرأة في الظلام معتقدا ــ عن حسن نية ــ أنها زوجته، ثم يتضح له عكس ذلك، أو كأن يتزوج الرجل امرأة ولم يكن قد رآها قبل العقد وبعد إبرامه، ثم تزف إليه أخرى بعدما أخبر مثلا بأنها زوجته التي عقد عليها، وبعد الدخول يتضح له أنه قد كان ضحية غش أو تدليس، وإثبات النسب من الوطء بشبهة مسألة لا خلاف فيها في الفقه الإسلامي [13].
وفي التشريع المغربي، وتطبيقا لأحكام المادة 155 من المدونة الجديدة للأسرة ،أنه يترتب على الوطء بشبهة نسب الحمل من الواطئ وإن كان يشترط أن تكون المرأة غير متزوجة، فإذا كانت المرأة التي وطئت بشبهة متزوجة، وكانت على اتصال بزوجها، فإن النسب يلحق بالزوج على اعتبار أنه صاحب الفراش الشرعي، ويمكن له أن ينفيه عن طريق اللعان. ومن المعلوم أنه متى ثبت النسب في الوطء بشبهة، ترتبت عليه من الناحية القانونية جميع النتائج المتعلقة بالقرابة فيمنع النكاح في الدرجات الممنوعة وتستحق به النفقة والإرث، طبقا للمادة 157 من المدونة الجديدة للأسرة.
وأخيرا وباعتبار الوطء بشبهة عبارة عن واقعة مادية غالبا، فيبقى استخلاصها وتقديرها من مسائل الواقع التي تخضع للسلطة التقديرية لمحاكم الموضوع، ولا رقابة عليها في ذلك من طرف المجلس الأعلى.
ثانيا: ثبوت النسب في النكاح الفاسد
         النكاح الفاسد حسب المادتين 13 و 11 من المدونة الجديدة للأسرة، هو كل زواج ثم ركنه بالإيجاب والقبول، ولكن اختل شرط من شروط صحته، ومن المعلوم أن شروط صحة العقد ــ وطبقا للمبادئ العامة المستمدة من الفقه الإسلامي والمدونة الجديدة للأسرة ــ هي الولي والإشهاد، والصداق والخلو من الموانع   الشرعية، واحترام السن القانوني وإبرام الزواج على التأبيد، ويميز الفقه الإسلامي عادة بين الزواج الفاسد لصداقه، والزواج الفاسد لعقده.
فالزواج الفاسد لصداقه: هو الزواج الذي اختل فيه شرط الصداق، كما لو كان مما لا يصح الالتزام به شرعا، والزواج الفاسد لعقده: هو الذي اختل فيه شرط من شروط صحة الزواج الأخرى، غير شرط الصداق.
وحسب المادة 60 من المدونة الجديدة للأسرة فإن الزواج الفاسد لصداقه يفسخ قبل الدخول ولا صداق فيه، ويصحح بعد البناء بصداق المثل.
أما الزواج الفاسد لعقده فيفسخ قبل الدخول وبعده، أي أنه لا يقبل التصحيح غالبا [14]، والنكاح الفاسد لعقده، إما مجمع على فساده أو مختلف في فساده، ولكل منهما حكمه الخاص به فيما يتعلق بلحوق النسب بالزوج.
فالنكاح المجمع على فساده، هو النكاح الذي أجمعت كل المذاهب الفقهية السنية على فساده، ومن ذلك مثلا.. نكاح إحدى المحارم كالأم، أو الأخت، أو الخالة أو نكاح من توجد في عصمة الغير، أو معتدته، أو نكاح من لا تدين بدين سماوي كالشيوعية، أو المجوسية، أو البوذية.
ومن حيث ثبوت النسب في النكاح المجمع على فساده إذا ما تم دخول بالمرأة ونتج عن الدخول حمل، فإن المشرع المغربي قد ميز في هذا الصدد بين فرضيتين ألا وهما: حالة حسن نية الزوج، وحالة سوء نيته.
فإذا كان الزوج حسن النية لحق به الحمل بصفة مطلقة، وإذا كان الزوج سيء النية لن يلحق به النسب، ويقصد بحسن النية في مقامنا هذا أن يكون الزوج جاهلا بسبب التحريم، ويقصد بسوء النية، أن يكون على علم بذلك السبب ومتيقنا منه.
ويبقى الأصل حسن النية دائما، وعلى الغير صاحب المصلحة الذي يدعي العكس أن يثبت ما يدعيه، وله أن يستعمل في ذلك كافة وسائل الإثبات.
والنكاح المختلف في فساده هو النكاح الذي تضاربت بشأن صحته آراء الفقهاء سواء أكانوا ينتمون إلى مذهب واحد، أو كانوا ينتمون إلى مذاهب مختلفة بحيث نجد من يقرر صحته إلى جانب من يقرر فساده، ومن ذلك مثلا.. أن تعقد المرأة الرشيدة ذات الأب [15]، على نفسها دون حضور وليها، فهذا زواج صحيح عند الأحناف فاسد لدى المالكية، ومن ذلك مثلا أن يتأخر الإشهاد على الزواج إلى حين الدخول، فهذا زواج صحيح عند المالكية فاسد عن الجمهور.
ويلحق النسب بالزوج في الزواج المختلف في فساده، وبكيفية مطلقة وسواء أكان الزوج حسن النية أو سيء النية، خلافا للزواج المجمع على فساده.
وقد عمل المشرع المغربي على جمع الأحكام الخاصة بالنسب، سواء فيما يتعلق بالنكاح المجمع على فساده أو النكاح المختلف في فساده، من خلال المادة 157من المدونة الجديدة للأسرة والتي تنص على ما يلي: « كل زواج مجمع على فساده كالمحرمة بالصهر، منفسخ بدون طلاق قبل الدخول وبعده ويترتب عليه تعين الاستبراء وثبوت النسب إن كان حسن القصد، أما إذا كان مختلفا في فساده
فيفسخ قبل الدخول وبعده بطلاق، ويترتب عليه وجوب العدة وثبوت النسب، ويتوارثان قبل وقوع الفسخ » [16] .
حيث يتبين من هذا النص أن عدم توفر صحة عـقـد النكاح التي يتضمنها الفصل الخامس المحتج به لا يتنافى مع ثبوت ركن العـقـد الذي يترتب عليه في حالة عدم توفر شروط صحة العـقـد ــ حيث أن آثار النكاح الفاسد التي من جملتها وجوب نفقة الزوجة قبل الحكم بالفسخ وثبوت نسب الولد، وما يترتب عليه من الإلزام بالإنفاق عليه وغيره. وأن المحكمة حين قدرت في نطاق السلطة المخولة لها ــ قيمة البينة المثبتة لركن العـقـد قـد قـضت تبعـا لـذلـك بأداء الـنفقـة المطـلـوبة التي تجب للـزوجة في النكاح الفاسد قبل الحـكـم بالـفسخ الـذي كان على المحكمة أن تصرح به تلقائيا، كما يتبين من النصوص المذكورة طبقـا للمادتين 11 و 13 من المدونة الجديدة للأسرة، أن كل زواج تم ركـنه بالإيجـاب والقبـول واختلت بعض شروطه فهـو فاسد، للأن الـنكـاح المخـتلف في فـساده يفـسخ قبـل الدخـول وبعده بطلاق، ويترتب عليه وجوب العـدة وثبوت النسب.
الفقرة الثانية: انصرام مدة الحمل   
         لا يكفي لكي يلحق النسب بالزوج لدى جمهور الفقهاء، وطبقا لأحكام المدونة الجديدة للأسرة، أن يكون هناك عقد زواج صحيح يربط بينه وبين زوجته، وإنما لابد من أن تتحقق مدة الحمل المفروضة شرعا.
ولمدة الحمل من الناحية القانونية حدان: أحدهما أدنى وثانيهما أقصى، ويقصد بأقل مدة الحمل (أولا) أي أقصر مدة يمكن أن يمكثها الحمل في بطن أمه، ويقصد بأقصى مدة الحمل (ثانيا) أي أكبر مدة يمكن أن يمكثها الحمل في البطن. ونبحث في ما يلي في كل مدة على حدة، وعن أساسها الفقهي والقانوني.
أولا: أقل مدة الحمل
يجمع فقهاء الإسلام على أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر، وهؤلاء الفقهاء يستنتجون هذه المدة من قوله تعالى: ("وحمله وفصاله ثلاثون شهرا") [17] وقوله سبحانه وتعالى: (" وفصاله في عامين ") [18]، ذلك أنه بطرح مدة الفصال المضمنة في الآية الثانية من مدة الحمل، والفصال المضمنة في الآية الأولى، تبقى لمدة الحمل ستة أشهر خالصة.
وفي هذا الصدد تروي كتب الفقه، أن رجلا تزوج امرأة فولدت بعد ستة أشهر من إبرام عقد الزواج، فهم الخليفة عثمان رضي الله عنه برجمها، فعارضه ابن عباس قائلا: « لو خاصمتكم بكتاب الله لخصمتكم » فإن الله سبحانه تعالى يقول: ("وحمله وفصاله ثلاثون شهرا") ويقول عز من قائل: ("والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين") [19] فيبقى للحمل ستة أشهر، وقد رأى الخليفة عثمان الحد عن الزوجة وأثبت نسب الولد من الزوج [20]، وجاءت في المادة154 من المدونة الجديدة للأسرة على أن: « أقـل مدة الحمل ستة أشهر»، ومن القرارات المتعلقة بالموضوع والتي نشرت مؤخرا للمجلس الأعلى: « الولد للفراش متى ولد لستة أشهر من عـقـد الزواج، وهي أدنى مدة الحمل» [21] .
ثانيا: أقصى مدة الحمل
بخلاف أقل مدة الحمل ــ وهي ستة أشهر التي وقع عليها الإجماع الفقهي طبقا لما سبق بيانه ــ فقد تضاربت مواقف الفقه الإسلامي بشأن أقصى مدة الحمل تضاربا كبيرا، بل ووقع هذا التضارب حتى داخل المذهب الواحد نفسه.
بقول عائشة رضي الله عنها (" الـولـد لا يبقى في البطـن أكثر من سنتين ولو بظـل مغـزل ") وفي رواية الدارقطني والبيهقي في سننهما عن عائشة قالت: (" ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين قدر ما يتحول ظل عمود المغزل ") [22]، والظاهر أن عائشة قالته سماعا من الرسول لأن العـقـل لا يهـتـدي إلى إدراك ومعرفة المقـادير بهـذا يكون للحديث حكم الرفـع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصح الاحتجاج به [23]. ومن الـفقهـاء من يرى أن أقصى مدة الحمل أربع سنين وهم الشافعي ، وظاهر مذهب الحنابلة وحجتهـم على ذلك: ما روي أن الوليد بن مسلم قال لمالك بن أنس: أفي حديث عن عائشة أنها قالت: (" لا تزيد المرأة على سنتين قدر ظل مغزل") ؟ فقال: سبحان الله من يقول هذا ؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق، وزوجها رجل صدق، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشر سنة كل بطن في أربع سنين. كما استـدلوا بعـدة وقائع منها ما قيـل: أن الضحـاك ولدته أمه لأربع سنين، كما أن عبد العزيز بن الماجشون ولدته أمه لأربع سنين ، وهذا القول أيضا هو المشهور عند المالكية، وهناك قول في المذهب يقدرها بخمس سنين.
وجاء في بداية المجـتهـد لابن رشد [24] « وقـال محمد بن الحـكـم من فـقهـاء
المالكية أقصى مدة الحمل سنة قمرية، وقال داود ستة أشهر، وقال ابن حزم في المحلي أقصى مدة الحمل تسعة أشهر، ونسبه إلى عمر رضي الله عنه ».
وأكد مذهب الجعفرية أن أقصى مدة الحمل فيه اختلاف، فقال أكثرهم: إنها تسعة أشهر، وقال بعضهم: عشرة أشهر، وبعض أخر قالوا: سنة كاملة، وأجمعوا بكاملهم على أنها لا تزيد ساعة عن سنة واحدة، فإذا طلقها الزوج، أو مات عنها   ثم ولدت بعد سنة ولو ساعة لم يلحقه الولد، لقول الصادق: « إذا طلق الرجل زوجته، وقالت: أنا حبلى، وجاءت به لأكثر من سنة ولو ساعة واحدة لم تصدق في دعواها » [25] . تلك آراء الفقهاء في أقصى مدة الحمل، وبعض أدلتهم إذا تأملناها نجد أنها من الضعف بمكان، لأن أكثرها مبني على وقائع جزئية، لا تقوى على إثبات تقدير صحيح مستقر لمدة أقصى الحمل، كما أنها لا تسلم من الخطأ، فغاية ما تفيده، أن حيض بعض النساء قد انقطع لمدة أربع سنوات، ثم جاءت المرأة بعدها بولد، وهذه الإفادة لا تثبت قطعا أن المرأة كانت حاملا طوالا مدة انقطاع الحيض فإنه ليس من المستبعد بل من الجائز أن يكون قد امتد الطهر بالمرأة سنتين أو أكثر، ثم بعد ذلك حملت، وولدت لأقل من سنتين. وذلك يحدث لكثير من النساء فإن زعموا أن وجود الحركة في البطن يدل على الحمل، نقول لهم: إن وجود حركة في بطن المرأة لا يكون قاطعا في كون المرأة حاملا، لجواز أن يكون ذلك ناشئا عن غير الولد.
أما الاستدلال بأثر عثمان الذي استند إليه الحنفية فضعيف أيضا من جهة أن تحديد هذه المدة وإن كان لا يدرك بالعقل، إلا أنه قد يدرك بإخبار النساء ومشاهدة أحوالهن، وبهذا لا يكون قول السيدة عائشة مبنيا على سماع من الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم كذلك ليس من المستبعد أن يكون ذلك القول منها رأيا لها، وحينئذ لا يصح الاحتجاج به على أنه حديث مرفوع.
ورأى ابن رشد أن الأمر يرجع إلى العادة والتجربة، دون النادر الذي يكاد يكون مستحيلا، وهو أن تكون أقصى مدة الحمل سنة شمسية، يقول ابن رشد بعد حكايته المذاهب: « وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة، وقول ابن عبد الحكم والظاهرية، هو أقرب إلى المعتاد، والحكم إنما يجب بالمعتاد لا بالنادر ولعله أن يكون مستحيلا » [26] .
ولم يبين المشرع المغربي هل المقصود بأقصى أمد الحمل السنة القمرية أم السنة الشمسية، علما أن الفرق كبير بين السنتين (أحد عشر يوما)، وقد اعتمد القضاء المغربي في أحد قراراته السنة الشمسية [27] ــ وهذا التأويل ــ وإن كان أصلح للحمل أو للولد ففيه تحريف لرأي الفقيه محمد بن عبد الحكم.
 وإن الناظر الفاحص للحظ أن الأقوال في المسألة، بنيت التقديرات فيها على مسائل واقعية، ولكن الواقع الحاضر، لا يؤيد قولا منها، فإن الغالب أن مدة الحمل، هي تسعة أشهر، وجرت العادة بذلك، وقلما نسمع أن امرأة ولدت لسنة أو لستة أشهر، ومن هنا لجأت وزارة العدل في مصر إلى الطبيب الشرعي عندما وجدت بعض النساء اللاتي لا خلاق لهن تدعين نسب أولاد غير شرعيين، اعتمادا على ما قرره فقهاء الحنفية من تقدير أقصى مدة الحمل بسنتين، فقرر الطبيب أن أقصى مدة الحمل سنة شمسية (365 يوما) وذلك ليشمل جميع الحالات النادرة، ولا شك أنه حكم لا يتجافى مع الشريعة الإسلامية، كما هو مأخوذ من قواعدها، وعلى وفق مبادئها المقررة، التي منها أن معرفة حكم الوقائع على وجهها الصحيح يرجع فيها إلى قول أهل المعرفة والنظر، والحق أن الأطباء الأخصائيين في مثل هذا الأمر هم أهل البصر والمعرفة، فيجب الرجوع إلى قولهم في ذلك.
خلاصة القول: بعدما بينا أدنى مدة للحمل وأقصى مدة له قد يثور تساؤل مفاده متى نعتمد أقل مدة الحمل ومتى نعتمد أقصاها ؟.
تعـتمد أقـل مدة الحمل ابتداء من إبرام عـقـد الزواج، وتعـتمد أقصى مدة الحمل من تاريخ انتهاء عـقـد الزواج، وكيفـما كان سبب ذلك الإنهـاء طلاق، أم وفـاة، أم فـسخ.
وعليه فإذا عـقـد رجل على امرأة وأتت بولد خلال مدة ستة أشهر فما فوق فالولد ينسب إليه، وإذا طلقـهـا ــ وسواء أكان الطلاق رجعيا أو بائنا ــ أو توفي عنها وأتت بولد داخل سنة فالولد ولده، وهذا التفسير هو المعتمد في الفقه الإسلامي عموما،حيث أكدت المادة 135 من المدونة الجديدة للأسرة   على ما يلي: « أقصى أمد الحمل سنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة..».
الفقرة الثالثة: إمكانية حمل الزوجة من زوجها
ترتبـط فـكـرة الولد للفراش ــ بالإضافـة إلى الشرط الخـاص بالـمدة ــ بشرط آخر لا يـقـل أهـميته عنه، ويتعـلـق الأمـر بإمكـانية اتـصال الـزوج بزوجـتـه وبإمكـانـية إنجـابهـا منه.
أولا: إمكانية الاتصال
تجمع المذاهب السنية الثلاثة، المالكي والشافعي، والحنبلي، على أن عـقـد الزواج يجعل المرأة فراشا للزوجية، على أساس أنه يبيح للزوج الاتصال بها جنسيا وهذا الاتصال هو السبب الحقيقي للحمل عندهم.
وعليه وبالمفهـوم المعاكس، إذا انتفى التلاقي بين الزوجين وجاءت الزوجة بـولـد يثبت نسبه من الزوج، وقد خالف الأحناف موقف الجمهور هذا عندما قرروا أن مجرد العـقـد يجعل المرأة فراشا لأنه مظنة بالاتصال، فمتى وجد كفى وحده ما دام أن الاتصال مما لا يطلع عليه عادة بخلاف العـقـد، بل ومن الأمثلة المأثـورة عن
الإمام أبي حنيفة أنه لو تزوج مشرقي بمغربية ولم يسبـق له أن رآها أو الـتقـى بها
وأتت بـولد داخـل مدة الحمل فالـولـد ينسب إلـيـه [28].
وقد سايرت المدونة الجديدة للأسرة موقف جمهـور الفقـهـاء ــ ومن ضمنهم المالكية ــ عندما قررت من خلال المادة 154 من المدونة الجديدة للأسرة: « الولد للفراش إن مضى على عقد الزواج أقل مدة الحمل، وأمكن الاتصال، و إلا فالولد المستند لهذا العـقـد غير لاحق ».
ونـؤكـد في نهاية هذه الفـقـرة على أنه يدخل في عمـوم هذا النص حالة الطلاق قبل الدخول الذي لم تسبقـه خلوة صحيحة أو مظنة للتـلاقي كمـا لـو كان الـزوجـان يعـيشان تحت سقـف واحد، أو كانت الزوجة تزوره في بيت أهله بين الفـينة والأخرى.
ثانيا: إمكانية الإنجاب
لقد أشار المشرع في الفصل 85 إلى إمكانية الاتصال، وسكت عن إمكانية الإنجاب. غير أن الفقه المالكي يشترط للحوق النسب بالزوج أن يكون هذا الأخير ممن يتأتى الحمل منه، بأن يكون بالغا أو مراهـقـا على الأقـل وألا يكون مجبوبا أو مخصيا، لأن هذين العيـبـين مما يمنع الإنجـاب عادة [29].
وللتمحيص بأحكام لحوق النسب نعرض كمثال قرار بالمحكمة الابتدائية بفاس وذلك بالرجوع إلى المنشور في حكم صدر من النيابة العامة في آخر هذا البحث [30].
وأخيرا فإن من أهم الـقـرارات التي صدرت مؤخـرا عن المجـلس الأعلى والتي تمس مجـالـنا هذا ما يلي: « شهـود الرسم بعدم الإنجاب والعـقـم، إنما شهـدوا بما عملوا وقـد يشهـد غيرهـم بأنه أنجب مما يبـقى معه الاحـتمال قـائما ولا قـضاء مع الاحـتمال [31] .
المبحث الثاني: الإقـرار
يعتبر الإقرار الوسيلة الثانية لثبوت النسب، ويسمى "الدعـوة"، و المقـرر في الـفقـه أن الإقـرار حجة قـاصرة على المقـر فلا تتعـداه إلى غيره، إلا إذا صدقه ذلك الغـيـر أو قامت البينة على صحة الإقـرار [32].
ولمعالجة هذا المطلب سوف نقوم بتقسيمه إلى تعريف الإقرار ( المطلب الأول ) وإقرار النسب وشروطه ( المطلب الثاني ).
المطلب الأول: تعـريف الإقـرار
إن المشرع المغربي قد قرر من خلال المادة 158 من المدونة الجديدة للأسرة أن النسب قد يثبت بواسطة الإقرار.
والإقـرار في اللغـة: هو الإذعـان للحـق والاعـتـراف به [33]،
ومن الناحـيـة الاصطلاحية: فالإقرار لدى جانب من الفقه هو عبارة عن:« خبر يوجب حكم صدقه على قائله، بلفظه أو بلفظ نائبه ».
والإقرار بالنسب هو ادعاء المدعي المقر أنه أب لغيره، وقد نظمه المشرع المغربي في المدونة الجديدة للأسرة في المادة 145 وسماه الإستلحاق .
ويتنوع الإقرار بالنسب إلى نوعين: الإقرار الذي ليس فيه تحميل النسب على غير المقر (النوع الأول)، والإقرار الذي فيه تحميل النسب على غير المقر(النوع الثاني).
النوع الأول: الإقرار الذي ليس فيه تحميل النسب على غير المقر
أي أنه لا يتوقف ثبوت النسب فيه من المقر على ثبوته من غيره، كالإقرار بالبنوة وبالأبوة وبالأمومة، فهذا النوع يثبت النسب به من غير احتياج إلى بيان السبب من زواج أو اتصال بشبهة، لأن الإنسان له ولاية على نفسه، فيثبت بإقراره النسب متى توفرت الشروط المعتبرة لصحته.
النوع الثاني: الإقرار الذي فيه تحميل النسب على غير المقر
وهو الإقرار بما يتفرع عن أصل النسب، ومثاله: أن يقر شخص بأخوة فلان أو عمومته، أو أنه جده، أو ابن ابنه، وواضح أن هذا الإقرار فيه تحميل النسب على غير المقر أولا، ثم يسري منه تحميل النسب على المقر، ومعناه أنه إذا أقر شخص أن فلانا أخوه، اقتضى ذلك الإقرار في أول أمره أن المقر له ابن لأب المقر واقتضى ذلك أن المقر له أخ للمقر.
وهذا النوع من الإقرار لا يثبت النسب به، إلا إذا تحقق أحد الأمرين ألا وهما البينة أو تصديق المقر عليه إن كان حيا، أو اثنين من الورثة إن كان ميتا.
فإن لم يتحقق واحد منهما، لا يثبت النسب بهذا الإقرار، لأن هذا الإقرار يقتضي تحميل النسب على غير المقر، والإقرار حجة قاصرة على المقر لولايته على نفسه دون غيره، فلا يثبت في حق غيره، إلا إذا صدقه ذلك الغير، أو قامت البينة على صحة الإقرار لكن يعامل المقر بمقتضى إقراره في حق نفسه، بحيث لا يكون لهذه المعاملة أثر في حق غيره، فيطالب بالحقوق المالية بمقتضى إقراره فمثلا إذا أقر شخص بأن فلانا أخوه، وكان المقر موسرا، والمقر له فقيرا عاجزا عن الكسب، فرضت عليه نفقة الأخ على أخيه [34].
ولتعميم الاستفادة، أضفنا في أخر البحث المنشور الصادر عن المحكمة الابتدائية بفاس حيث أكد أخ الهالك ــ الذي تزوج بالمدعية ــ أن ابنة أخيه ولدت على فراش الزوجية وأن عدم توثيق رسم الزواج هو كون الهالك كان معتقلا لمدة عشر سنوات وأنه توفي بالسجن [35] .
المطلب الثاني: إقرار النسب وشروطه
اعتراف شخص بأنه أب لولد معين هو إقرار، والإقرار عبارة عن تصرف قانوني انفرادي [36]، يخضع لما تخضع له التصرفات الانفرادية من أحكام، ولكي يرتب الإقرار بالنسب آثاره القانونية، لابد من أن تتوفر فيه بعض الشروط.
وشروط الإقـرار بالنسب، أو الاستلحاق ورد النص عليها ضمن المادة 160 من المدونة الجديدة للأسرة بالكيفـية الآتـية: « الإقـرار بالـبنوة ولـو في مرض الموت لمجهـول النسب يثـبـت به النسب من المقـر وفـق الشروط الآتـيـة:
* أولا: أن يكون المقر ذكرا.
* ثانيا: أن يكون المقر عاقلا.
* ثالثها: أن يكون الولد المقر به مجهول النسب.
* رابعا: أن لا يكذب المستلحق ــ بكسر الحاء ــ عقل أو عادة.
ونبحث في هـذه الشروط تبعا فيما يلي:
* أولا: أن يكون المقر ذكرا
نحن بصدد البحث في إقرار الأب ببنوة شخص آخر، قد يكون ذكرا وقد يكون أنثى، وهو ما سماه المشرع بالاستلحاق، فيكون هذا الشرط في حقيقته بديهيا، ومن باب تحصيل الحاصل. ذلك أن الحمل أو الولد ينسب دائما إلى أمه، سواء أجاءت به عن طريق شرعي أو من طريق غير شرعي، لأنه منها وإليها، بخلاف الأب الذي لا يعترف الشرع بنسب الحمل أو الولد إليه إلا إذا جاء به عن طريق شرعي أو ثبت نسبه إليه بالوسائل التي يعتد بها شرعا، ومن بينها الإقرار.
وفي هذا الصدد نصت المادة 160 والمادة 143 من المدونة الجديدة للأسرة  على أن البنوة الغير الشرعية ملغاة بالنسبة للأب، فلا يترتب عليها شيء من ذلك إطلاقا، وهي بالنسبة للأم شرعية لأنه ولدها.
ويجب التذكير أن هذا الشرط ــ كون المقر بالنسب ذكراــ هو من مميزات الفقه المالكي حيث القاعدة لديه أن استلحاق الولد من خصائص الأب، ولذلك لا يصح الاستلحاق من الأم ولا من الجد.
* ثانيا: أن يكو المقر بالنسب عاقلا
يعتبر الإقرار تصرفا بإرادة منفردة يخضع سواء من حيث صحته أو من حيث آثاره لما تخضع له كافة التصرفات الانفرادية عموما، ومن ضمن شروط الإقرار بالنسب أن يكون المقر عاقلا، ويقصد بالعقل أن يكون المقر بالنسب كامل الأهلية، فلا يكون صبيا أو مجنونا، أو معتوها، أو مكرها.
وكمال الأهلية في التشريع المغربي ووفقا للمادة 209 من المدونة الجديدة للأسرة أن سن الرشد القانوني 18 سنة شمسية  كاملة، طبقا للتعديل الذي عرفته تلك المادة بواسطة القانون رقم 92 ــ 13.
ويصح من الناحية الفقهية إقرار السفيه بالنسب، لأن السفه الذي يؤثر في   التصرفات المالية للشخص لا أثر له من الناحية القانونية على إدراكه، وتمييزه طبقا للمبادئ القانونية العامة، وحسب المادة 160 من المدونة الجديدة للأسرة يصح الإقرار من المريض مرض الموت.
* ثالثا: أن يكون الولد المقر به مجهـول النسب
إذا كان المشرع الإسلامي جد متشوف للحوق الأنساب من جهة أولى، فهـو يـقـف في وجـه اخـتـلاط الأنساب من جهـة ثانية، وما دام أنه من غير المنطقي أن ينسب شخص واحد ــ وفي ذات الوقت ــ إلى أبـويـن اثـنين، فـقـد اقـتضى ذلـك أن الإقـرار بالـبنـوة لا يـصح قـانـونـا إلا لمجهـول الـنسب، ومجـهـول النسب حسب جانب من الـفقـه الإسلامي، هو الشخـص الـذي لا يعـرف له أب في الـبلـد الذي ولـد
فيه، ولا في الـبـلـد الذي وجـد فـيـه، إن وجـد فـي بـلـد آخـر [37].
         وعليه، فمتـى عـرف نسب الشخـص من أب معـيـن، فلا يصح مطـلقـا الإقـرار ببنوته من طرف الغيـر، ذلك أن الـنسب الثابت لا يقـبـل الفـسخ، كما لا يقـبـل التحـويل، ولأن الـزنـا ــ وبإجـماع الـفـقهـاء ــ مانع من لحـوق النسب بالـزاني فيجـب ألا يصرح المقـر قبل أو أثـناء إقـراره أن الولـد الـمراد استلحـاقـه قـد كان ثمـرة زنـا، فالـزنـا جـريمة في الإسلام، والجريمة لا أثر لها في هـذا الصدد (" وللـعـاهـر الحجـر") كما جاء في حـديـث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقـد قـرر الـفقهـاء أنه لا يجـتمع حـد ونسب كقـاعـدة عامة.
جاء في قرار للمجلس الأعلى: «..البنت لا تلحق بنسب المدعى عليه، ولو أقر ببنوتها وكانت من مائه، لأنها بنت زنا، وابن الزنا لا يصح الإقـرار ببنوتـه ولا استلحـاقـه، لقـول الشيخ خليل: إنما يستلحـق الابن مجهـول النسب » [38] .
والقاعـدة أنه لا يصح الإقـرار بنسب ولد المتلاعنين من غير الزوج الملاعن لأن في ذلك إقـرار بزنا الزوجة، والزنا لا يرتب أي أثـر بالنسبة للنسب بالخصوص.
وأخيرا فالمبدأ في هذا الصدد أن من أقر بنسب مجهـول النسب إليه غير ملزم بإثبات سبب البنوة، لأن الأصل حمل الناس على الصلاح دائما، ولمن يدعي خلاف هذا الأصل أن يثبت ما يدعيه، ولذلك يكفي المـقـر بالبنوة أن يعـلـن إقـراره ثم يتخـذ بعـد ذلك موقـفـا سلبيا، لا أن نطالبه بإثبات الفـراش ما دام أن الشرع قد وضع لهذا السبب الأخير أحكاما خاصة به.
* رابعا: أن لا يكذب المستلحـق ــ بكسر الحاء ــ عقل أو عادة
إن الحكم الشرعي الذي صاغه الفقهاء المسلمون، بهذا الصدد والذي قننه المشرع المغربي، يجب أن يبنى أولا وأخيرا على منطق سليم، ومن هذه الناحية لا يكذب المقر بالنسب في إقراره عقل أو عادة، كأن يكون مثلا ــ المقر والمقر به ــ في نفس السن أو بينهما فرق بسيط في السن، لا يسمح لأحدهما عقلا أن يكون ابنا للآخر، فلو كانا متساويين في السن، أو متقاربين فيه بحيث يستحيل عمليا أن يولد أحدهما للآخر، لم يصح الإقرار بالبنوة لأن الواقع والمنطق يكذبان مثل هذا الإقرار.
ولعل مما تكذبه العادة كذلك أن يقر رجل بنسب ولد من بلد أو مكان ما لم يسبق له مطلقا أن زاره، أو أن يثبت أن الرجل المقر لم يسبق له مطلقا أن تزوج أو أنه خصي أو مجبوب [39].

المبحث الثالث: البينة
إن البينة هي الطريق الثالث لثبوت النسب، والفـرق بينها وبين الإقـرار أنها حجة متعـدية، غير قـاصر حكمها الثـابـت بها على المـدعى عليه، بل يثبـت في حـقـه وحق غيره، أما الإقـرار فهـو كما قـدمنا حجـة قاصرة على المقر لا تتعداه إلى غيره، إلا بإثبات جديد، ومن هنا كان المحكوم له بدين على أخر بمقتضى إقـرار المدعى عليه (المدين) يقـتصر هذا الحكم على المدين وحده، ولا يثـبت في حـق سائر الـورثة، أما المدين المقـضي به بناء على بينة أقيمت على بعـض الورثة، بأن للمدعي على مورثهـم دينا، يكون حكما متعديا إلى سـائر الورثة وليس لهم أن يكلـفـوا المدعي إقـامة البينة في حضورهم.
          وحسب هذا التعريف المقتضب، سنقسم هذا المبحث إلى إثبات النسـب بواسطة شهادة عدلين (المطلب الأول)، وإلى إثبات النسب بشهـادة السماع (المطلب الثاني).

المطلب الأول: إثبات النسب بواسطة شهادة عدلين
الشهادة في حقيقتها هي إخبار الإنسان بحق لغيره على غيره، وهي بهذا المفهوم تخالف الإقرار الذي يعد في جوهره إخبار الإنسان بحق لغيره على نفسه.
وإذا كان المشرع قـد نظم القواعد الموضوعية للشهادة في قانون الالتزامات والعـقود [40]، ونظم الإجـراءات المسطرية الخـاصة بها في قانـون المسطرة المدنية [41]، ففيما يخص إثبات النسب عن طريق الشهادة يتمثل مرجعه في الراجح أو المشهـور أو ما جرى به العمل في فقه الإمام مالك، وفي الفقه الإسلامي عموما والفقه المالكي على وجه الخصوص، تعتبر شهادة الشهود حجة كافية في إثبات النسب، بل وتعتبر شهادة الشهود كوسيلة للإثبات في هذا المجال أقوى من الإقرار فهي ــ أي الشهادة ــ حجة متعدية إلى الغير، لأنه إذا تعارض الإقرار والشهادة في دعوى النسب، رجحت هذه الأخيرة على الإقرار.
وعليه: « فلو كان هناك ولد ليس له نسب معروف فأخذه رجل وادعى نسبه وتوفرت شروط الإقرار ثم جاء رجل آخر وادعى نسبه وأقام بينة صحيحة على أنه ابنه كان أحق به من المقر، لأن النسب وإن ثبت في الظاهر بالإقرار إلا أنه غير مؤكد فاحتمل البطلان بالبينة لأنها أقوى منه [42] .
وعلى الرغم من أن المشرع المغربي قد اعتبر الشهادة حجة كافية وحدها لإثبات النسب، إلا أنه لم ينظمها تنظيما محكما كما فعل مثلا بالنسبة للإقرار، ومن ثم فإن ذلك التنظيم يرجع بشأنه إلى أحكام الفقه المالكي حيث ينص الفصل 400 من مدونة الأسرة على أن ( كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف ).  
والقاعدة العامة أن شهادة الشهود التي يثبت بها النسب في الفقه الإسلامي عـموما، والـفـقـه المالكي على وجه الخصوص هي شهـادة رجـلين أو شهادة رجـل وامرأتين، على أنه متى تعلق الأمر بإثبات الولادة، وهي قد تؤدي أحيانا إلى إثبات النسب وخاصة بالنسبة للمرأة، فيمكن مبدئيا أن يقع الإثبات عن طريق امرأتين فقط، على أساس أن الولادة مما لا يطلع عليه إلا النساء أحيانا، دون الرجال.
ويشترط في الشاهد عموما، عدة شروط فصل فيها الفقهاء، أجملها ابن عاصم الغرناطي في تحفته بالكيفية الآتية:
         وشاهـد صفـتـه الـمرعــية              تـيــقـــظ عــدالـــة حــريــة
         والعـدل من يجتنب الكبائرا            ويتقي في الغالب الصغائرا
         وما أبيح وهـو في العـيـان              يـقــدح في مروءة الإنسان
ونصت المادة 158 من المدونة الجديدة للأسرة على أنه: « يثبت النسب.. بشهادة عـدلـيـن..». ويجب أن يدعى الشاهد عادة إلى مجلس القضاء بالطرق القانونية ليؤكد ما رآه أو سمعه من الوقائع المتعلقة بالدعوى بعد تأديته لليمين القانونية وسواء من الناحية القانونية أو الشرعية ليس هناك ما يمنع الشاهد من أن يكتفي بتلاوة شهادته المكتوبة أو بضم هذه الشهادة المكتوبة إلى ملف الدعوى، لكي ينظر القاضي في مضمونها، فيأخذ بها متى اطمأن ضميره إليها.
المطلب الثاني: إثبات النسب بشهادة السماع
لقد قرر المشرع من خلال المادة 158 من المدونة الجديدة للأسرة أن النسب يثبت بواسطة بينة السماع. فما المقصود إذن بهذه الوسيلة من وسائل الإثبات ؟
         يقصد بشهادة السماع من الناحية الفقهية، إخبار الشاهد أمام القضاء أنه قد سمع سماعا فاشيا أن واقعة ما قد تحققت، وفي مجالنا الخاص هذا، أن يشهد أنه قد سمع سماعا فاشيا، أن فلانا ابن فلان، أو أن فلانا أب لفلان، وتشترك شهادة السماع مع البينة، أي شهادة العدلين في الكثير من الأحكام، ومن ذلك ما يتصل بالخصوص بإثبات النسب، وفي هذا الصدد يقول ابن عاصم الغرناطي في تحفته:
         وأعـملـت شـهـادة السمـاع             في الحمل والنكاح والرضاع
وإذا كانت شهادة السماع كافية لإثبات النسب، فقد اشترط الفقه المالكي لصحتها   أربعة شروط أساسية: أولها الاستفاضة، وثانيهما السلامة من الربا، وثالثها أداء اليمين تزكية لها، وأخيرا طول الزمن.
1 ــ ويقـصد بالاستفـاضة أن يكون من نقـلت عنه الشهادة غير معـين ولا محصور العدد، فـقـد قال الفقيه المالكي الباجي: وشرط شهادة السماع أن يقـول الشهـود سمعنا سماعا فـاشيا من أهل العـدل وغيرهـم، وعلى حد تعـبيـر مدونة الأحـوال الـشخـصية: « بـأنـه ابـنـه ولـد على فـراشـه من زوجـتـه ». جـاء فـي المعـيـار للونشريسي: « شهـادة الاستفـاضة تكون بكثرة الخـبر وانتشاره حـتى يحصل العـلم ويرتفـع الشك، ولا تشترط فيهـا عـدالـة الناقـضين وعدالة المنقـول عنهـم ».
2 ــ وتتمثل السلامة من الـربـا في الاحتراز من غـلـط الشاهـد أو كـذبـه، أو سهـوه « ومثالها ما حكاه ابن أبي زيد في النوادر عن المجموعة لابن القاسم إذا شهـد رجلان على السماع وفي القبيل مائة من أسنانهما لا يعرفون شيئا من ذلك ».
3 ــ ولضعـف شهادة السماع فإن الـفقـه المالكي قد أوجـب تكـملـتـهـا بيمـيـن الـتزكـية، وفي هذا الصدد جاء على لسان الـفقـيه ابن محـرز: « لا يقـضى لأحد بشهادة السماع إلا بعـد يمينه..».
4 ــ وبالنسبة لطول الزمن، فـقـد جاء في حاشية ابن رحـال: « طول الـزمـن يشتـرط في جـميع أفـراد شهـادة السماع إلا في ضرر الـزوجـين..».
وخلاصة القـول فـيما جرى به العمل في الإثبات بواسطة الشهادة وبينة السماع، يمكن القول بأن هناك اليوم قناعة تكاد تكون عامة على أن الشهادة وخصوصا اللفيفة منها لم تعـد تتمـتع بالمصداقية الكـافـية التي تأهلها لأن تكون وسيلة إثبات مطمئنة وحاسمة لأي نزاع حول الوقائع التي تثـبتهـا، بل إنها تعـتبـر مصدر الكثير من التعـقـيـدات والخـصومات، وهو ما دفع وزارة العـدل إلى طـرح موضوع الشهادة باللفـيف، قصد الدراسة والتقـييـم من خلال نـدوة نظمتها لهـذا الغرض خلال شهر ماي، ولذلك فإن هذه الوسيلة ليست ذات فعالية في الاطمئنان إلى سلامة النسب الذي يثبت عن طريقها [43].
 


           


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم