السبت، 14 ديسمبر 2013

النظام المالي للزوجين في مدونة الأسرة المغربية



هذا الموضوع كان دائما محل مزايدات سياسية وقانونية بين جل المهتمين بقضايا الأسرة، ومختلف الفاعلين الحقوقيين بشكل عام.

عرف المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة تحولات اقتصادية وثقافية هامة شملت مختلف الميادين والمجالات، وقد طالت هذه التغيرات مؤسسة الأسرة من حيث بنيتها وأدائها لوظائفها، ومن حيث توزيع الأدوار بين أفرادها، فبينما كانت المرأة سابقا تلازم البيت وتقوم بجميع أعمالها بداخله أصبحنا اليوم نراها خارجه تتحمل العديد من المسؤوليات وفي مختلف المؤسسات.
ولما كانت الأسرة هي الخلية الأساسية لكل مجتمع والفضاء الطبيعي الذي يضمن التنشئة السليمة لأفراده، فقد استدعى ذلك مواكبة هذا التطور بتمكينها من أداء الدور المنوط بها حفاظا على مقومات المجتمع الذي تنتمي إليه، وإسهاما في تطوره في إطار احترام أصالته وهويته.
هذا الاهتمام بمكانة الأسرة تجسد على أعلى مستوى من خلال ما عبر عنه المرحوم الملك الحسن الثاني بقوله: "... والأسرة شيء مقدس عندي..." ، وهذا ما أكد عليه جلالة الملك محمد السادس بقوله مخاطبا أعضاء اللجنة الاستشارية الخاصة بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية "... واعتبارا لكون الشريعة الإسلامية قائمة على الوسطية والاعتدال وتحري مقاصد الإصلاح الاجتماعي، فإننا حريصين على ضمان حقوق النساء والرجال على حد سواء، غايتنا في ذلك تماسك الأسرة وتضامن أفرادها وتثبيت التقاليد المغربية الأصيلة القائمة على روح المودة والوئام والتكافل الاجتماعي، الذي نحن مؤتمنون على استمراره ولاسيما في نواته الأساسية المتمثلة في الأسرة...".
من ثم جاءت الإصلاحات التي عرفتها مدونة الأسرة والتي اعتبرت بحق حدثا تاريخيا هاما في المنظومة القانونية المغربية، إصلاحات ذات دلالات وأبعاد متعددة، تهدف في فلسفتها العامة إلى بناء مجتمع حديث ديمقراطي بمقاربة شمولية ذات بعد سياسي وحقوقي وتنموي، وإلى إقرار مبدأ المساواة والتوازن في الحقوق والواجبات، وتحقيق العدل والإنصاف في العلاقات السائدة بين أفراد الأسرة، سواء أثناء قيام العلاقة الزوجية أو عند انحلالها بوفاة أو طلاق، كما تهدف إلى رد الاعتبار للمرأة المغربية لكونها شريكا للرجل في الحقوق والواجبات في شتى الميادين، وأنها تساهم إلى جانب الرجل في إحداث التغيير وفي بناء صرح المجتمع وتحقيق التنمية، من ثم وجب حمايتها عن طريق إقرار قواعد قانونية وقضائية وتدابير إجرائية تكفل لها حقوقها وتقر علاقات سليمة ومتوازنة بينهما وبين الرجل.
ولتحقيق هذا المبتغى فقد أرست مدونة الأسرة أسسا ومرتكزات للتعايش الحبي والودي الذي يجب أن يسود جو الأسرة، من خلال تنظيم العلاقة الزوجية في مختلف جوانبها، من زواج وطلاق ونسب وحضانة...
ولما كان التعايش في إطار الزواج يحدث آثارا مالية كان من واجب المدونة أن تخصص جزءا من فصولها لتنظيم هذه الآثار خاصة منها تلك المتعلقة بالأموال التي تثمرها الحياة الزوجية المشتركة، وعلى الأخص وضع إطار حمائي يكفل تمتع الزوجة بحقوق منصفة في هذه الأموال.
وهذا الاهتمام بحق الزوجة في أموال الأسرة ليس وليد اللحظة وإنما يعود إلى قرون خلت، فبعدما كانت المرأة في أغلب المجتمعات الإنسانية تعتبر متاعا يملك ولا يمتلك مثلها مثل سائر الدواب والأنعام، رأى بعض المفكرين أن النصف الأهم في المجتمع الإنساني والمسؤول عن إعداد الجنس البشري لا يمكن أن يبقى ملكا للنصف الآخر، لذلك نادوا برفع قيود الملكية عن هذا النصف المغلول ومنح المرأة المتزوجة على الخصوص حق ملكية أموالها وحق الاكتساب ومباشرة العمل الذي تجني من ورائه ثمار كدها وعملها.
وكانت شريعة حمو رابي أول شريعة تعترف للمرأة المطلقة بنصيبها في الثروة المكتسبة أثناء الحياة الزوجية، ومن بين ما تضمنته أن المرأة إذا طلقت وكان لها أولاد فلها إضافة إلى صداقها وبائنتها حق استثمار الأرض والملك الذي يملكه زوجها حتى يكبر الأولاد فتأخذ نصيب أولادها من تلك الأموال، وقد بقيت المرأة تنفك من قيود الرق والاستعباد حسب تطور المجتمعات الإنسانية حتى أتى الإسلام فكسر تلك الأغلال وأنقذ المرأة من عبودية الرجل، واتخذ المساواة بينهما في جل الشؤون المالية، -ماعدا الإرث- وأعطى لكليهما حق ملكية نصيب كده وعمله، فقال عز وجل في كتابه العزيز "للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نسيب مما اكتسبن".
أما في وقتنا الحالي فقد توالى الاهتمام الدولي بحقوق الزوجة في أموال الأسرة بقصد رفع الحيف والظلم الذي عانت منه لسنوات طويلة، وفي هذا المجال نص الفصل 23 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على "أن تتخذ الدول الأطراف في هذا العهد التدابير المناسبة لكفالة تساوي حقوق الزوجين وواجباتهما عند الزواج وخلال قيامه وعند انحلاله..."، كما توصي الاتفاقية الدولية المتعلقة بإلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة في فصلها السادس على "أن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات الأسرية، وبوجه خاص تضمن نفس الحقوق لكلا الزوجين فيما يتعلق بملكية وحيازة الممتلكات والإشراف عليهما وإدارتها والتصرف فيها".
ومن المعلوم أن مدونة الأسرة حرضت في فصلها التاسع والأربعين على وضع الأسس التشريعية الأولى في القانون المغربي لتنظيم الروابط المالية بين الزوجين، فقد قررت المادة المذكورة في مطلعها المبدأ الجوهري الذي تقوم عليه العلاقات المالية بين الزوجين وهو مبدأ استقلال الذمة المالية لكل زوج واستئثار كل واحد منهما بممتلكاته وعوائد عمله وأملاكه وأصوله، كما يمكن بمقتضاها للزوجين الاتفاق بينهما على تنظيم معين للأموال والعائدات والمداخيل التي يجنيانها معا ابتداء من تاريخ إبرام عقد الزواج، وبمقتضى الفصل المذكور يتعين في حالة الاتفاق على استثمار وتوزيع الأموال المكتسبة من طرف الزوجين أن يكون الاتفاق مكتوبا وموجودا في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج، وإن لم تكن هناك وثيقة معدة سلفا وجب تطبيق القواعد العامة المتعلقة بالإثبات، أي تطبيق المبدأ القاضي بالبينة على المدعي واليمين على من أنكر، وعندئذ يراعى عمل كل واحد من الزوجين وما قدمه من مجهودات وما تحمله من أعباء وتضحيات في سبيل تنمية ثروة الأسرة وصيانتها.
وقد جاءت هذه المادة استجابة للواقع المعيش للأسرة المغربية إذ أصبحت مساهمة المرأة في تحسين أوضاعها الاقتصادية أمرا لا يمكن تجاهله أو غض الطرف عنه، حيث نجد المرأة سواء في البادية أو المدينة تقوم بمجهودات طيلة حياتها الزوجية داخل البيت وخارجه كما تضطر في الكثير من الأحيان إلى القيام بأعمال شاقة للمساهمة في الرفع من دخل الأسرة بكل الوسائل والسبل والمتاحة لمواجهة متطلبات الحياة المتزايدة، وبالتالي مساهمتها في تكوين الثروة المالية الأسرة.
هذه الثروة المتحصلة من عمل وكد الزوجين معا غالبا ما تسجل باسم الزوج وحده لاعتبارات اجتماعية وثقافية، حتى إذا ما حصل وحدث بينهما نزاع وطلقها انفرد الزوج بكل شيء وخرجت الزوجة من البيت خالية الوفاض لا شيء لها سوى متعتها ونفقتها أثناء العدة، كما أنه إذا توفي الزوج وكان له أولاد لا ينوب الزوجة إلا نصيبها كوارثة، وهو الثمن من التركة التي ساهمت في جمعها وتكوينها أو الربع في حالة عدم وجود الأولاد.
إن معالجة المشرع المغربي لحق مشاركة الزوجة زوجها في الممتلكات المكتسبة خلال الحياة الزوجية –خلافا لما قد يبدو ومنذ الوهلة الأولى- فكرة ليست مستقاة من النموذج الغربي، ولا من نظام الأموال المنفصلة أو المشتركة المعتمدة في القوانين الغربية، بل تجد أساسها في مبادئ الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي والذي تبلور في عدة فتاوى ونوازل حكم فيها، القضاء عملا بقواعد الإنصاف والعدالة وأنه لا يجوز لمسلم أن يأكل من مال الغير بالباطل.
ولعل أهم ما تضمنه الفصل 49 من المدونة، الإمكانية المتاحة للزوجين في إيراد وثيقة مستقلة عن عقد الزواج، بمقتضاها يتفقان على تدبير الأموال التي سيتم اكتسابها خلال فترة الزواج، بحيث يتراضيان في بداية حياتهما الزوجية على الطريقة التي يريانها ناجعة لاستثمارها وتوزيعها.
هذا المقتضى جاء نتيجة توسيع مجال الشروط الملحقة بعقد الزواج، بحيث يسمح للأطراف بإدراج شروط يتم بمقتضاها الاتفاق على بعض المواضيع التي ثبت عمليا أنها مصدر الكثير من المشاكل والخلافات خصوصا بالنسبة للمرأة والطفل، وتهدف بالتالي إلى توفير ضمانات لا توفرها النصوص القانونية، كما يعتبر كذلك نتيجة إدخال مبدأ سلطان الإرادة في مجال الروابط الأسرية.
وإعطاء الإرادة دورا في المادة الأسرية هي فكرة سادت في العديد من البلدان الإفريقية كالسنغال ومالي، كما سادت في القانون الداخلي المتعلق بالأحوال الشخصية في بعض الدول الإسلامية كما هو الشأن بالنسبة لمصر، حيث يتضمن العقد بالإضافة إلى البيانات الأساسية تسعة شروط يجب من الزوجين أن يتفقا عليها، من بينها شروط تتعلق بتدبير أموالهما المكتسبة.
أما في المغرب فقد اقترح الأستاذ عبد الرزاق مولاي رشيد إمكانية إدخال مبدأ سلطان الإرادة في ميدان الأحوال الشخصية في القانون الداخلي المغربي، لإيجاد نظام أسري يقوم على فكرة الاختيار، بمقتضاه يتم منح الأفراد حق التقرير بإرادتهم في بعض مسائل الأسرة الشديدة الحساسية مثل تعدد الزوجات والولاية والنفقة والطلاق الانفرادي، كما نادى أيضا بضرورة تمديده إلى الروابط الأسرية المالية في القانون الداخلي وألا يبقى مقتصرا على الروابط الدولية الخاصة، وهذا ما تتحقق فعلا بموجب الفصل التاسع والأربعين من مدونة الأسرة  .


                                                                                                                                        * الموضوع منقول *                                                       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم