الأحد، 1 ديسمبر 2013

قانون الأسرة المغربي أمام القضاء الأوربي أية امكانية للتطبيق - بحث

 جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس

                         اعداد الطالب: منير شعيبي طالب                     تحت اشراف :   د. محمد ناصر متيوي مشكوري

المقدمــة:
لقد أدت التحولات التي شهدها العالم خلال العشريات الأربع للقرن الماضي والتي تلت الحرب العالمية الثانية إلى بروز طاقة هائلة للهجرة الدولية اتسمت بأحادية التوجه من البلدان الفقيرة إلى الدول المتقدمة؛ وبمنظر جغرافي من دول الجنوب إلى دول الشمال؛ ولم تكن هذه الهجرة سوى نتيجة لعوامل كثيرة تمثلت أساسا في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي كان يعيشها الفرد داخل مجتمعه؛ الأمر الذي دفعه إلى التفكير في مغادرة وطنه بحثا عن ظروف عيش أفضل؛ وبديل مرضي للوضع الذي كان يعيشه؛ وهي عوامل زاد في تدعيمها عولمة النظام الاقتصادي وتطور وسائل الاتصال بشكل سهل على هذا المواطن في البلدان المتخلفة معرفة الآخر ومقارنة ظروف معيشته؛ وكيفية احترام حقوقه وكرامته لدرجة جعلته يعيش حلم الوصول إلى هذا الآخر كيفما كانت الصعوبات التي سوف تواجهه .
ويعد المغرب من الدول التي عرفت هجرة مهمة نحو الأقطار الأوربية منذ عهد الحماية وبداية الاستقلال؛ وهي هجرة تنامت بشكل كبير في الفترات الأخيرة؛ حيث تشكل الجالية المغربية اليوم في أوربا أهم رابط اجتماعي ما بين الاتحاد الأوربي والمغرب على المستوى البشري؛ إذ يعيش هناك أكثر من 2185894 مهاجر مغربي ؛ ولا يقتصر الأمر على المستوى البشري بل إن هذه الجالية تلعب دورا مهما على المستوى الاقتصادي والثقافي؛ فاقتصاديا تقوم بدعم الدخل القومي للمغرب واستثماره وذلك بتحويل العملة الصعبة الأجنبية سنويا؛ أما على المستوى الثقافي فتعد جسرا مهما في هذا المجال؛ ومحورا رئيسيا على المستوى السياسي في اتفاقية الشراكة التي وقعها المغرب ودول الاتحاد الأوربي في نونبر 1995 .
أما بالنسبة للجانب الأوربي المستقبل للهجرة، فيمكن القول بأن الهجرة وحتى السرية منها لعبت دورا مهما في بناء وتطوير الاقتصاد الأوربي؛ ليس فقط في القطاعات التي يعزف الأوربيون عن الاشتغال فيها بالنظر لما تتطلبه من جهد جسدي؛ وإنما أيضا في المجالات التقنية المتخصصة بفعل تغير السمة المميزة للهجرة من هجرة غير مؤهلة إلى ما أصبح يعرف بهجرة الأدمغة.
 عموما إذا كانت ظاهرة الهجرة كظاهرة إنسانية وطبيعية قد استطاعت إلى حد ما تحقيق نوع من الرفاهية والاستقرار الاقتصادي للمهاجرين المغاربة في بلدان إقامتهم؛ فإنها بالمقابل ساهمت إلى حد كبير في احتدام النزاعات بشأن تطبيق القوانين الشخصية في مجال الأحوال الشخصية سيما عندما يتعلق الأمر بالنزاعات الدولية الخاصة التي تربط بين بلدين يسود احدهما نظام قانوني علماني يجعل من عهود ومواثيق حقوق الإنسان الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة مرجعيته المتبناة في صياغة القوانين الأسرية؛ وبين نظام قانوني ديني يكرس نظريات أسرية مستوحاة من الفقه الإسلامي كما هو الشأن في العلاقة بين المغرب وأوربا.
ويكمن أساس هذا الاختلاف والتنازع بين القوانين في كون مسائل الأحوال الشخصية تعتبر خزانا لخصوصيات كل شعب؛ وميدانا خصبا يكشف عن تنازع الحضارات والثقافات وكذا الاختلافات في السياسات التشريعية للدول؛ حيث رفضت بلدان الاستقبال الكثير من المؤسسات القانونية الإسلامية واعتبرتها متعارضة مع نظامها العام؛ كما أن البلدان الإسلامية ومنها المغرب ترفض بدورها الاعتراف بأي حق اكتسب بناءا على قواعد تلك البلدان من قبل رعاياها نظرا لما ترى فيها بدورها من تعارض مع نظامها العام.
ولعل السبب في ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى الرهان الدائر بين رغبة البلدان الإسلامية في ضمان احترام هوية وثقافة رعاياها المستمدة في أغلبها من قواعد الفقه الإسلامي؛ ورغبة البلدان الأوربية المستقبلة في استيعاب هذه الجالية وجعلها تنصهر بسهولة في جسمها وحضارتها .
لذلك وأمام هذا الوضع، فقد راهن المغرب لعقود طوال من أجل ضمان تطبيق القانون المغربي للأحوال الشخصية من قبل الجالية المغربية؛ والحفاظ من تم على وحدة النظام القانوني الذي يحكم الأسرة المغربية بالمهجر على قواعد الإسناد المنصوص عليها في الأنظمة القانونية لبعض بلدان أوربا الغربية والتي تسند الاختصاص في مجال الأحوال الشخصية للقانون الوطني للشخص انطلاقا من المبدأ المعمول به دوليا في هذا الصدد؛ وهو مبدأ شخصية القوانين.
كما عمل المغرب من أجل بلوغ هذه الأهداف إلى السعي نحو إبرام اتفاقيات ثنائية مع بعض الدول المستقبلة للجالية المغربية كوسيلة ناجعة للتقليص من حجم النزاعات المثارة بشأن تطبيق القوانين الشخصية كما هو الشأن بالنسبة للاتفاقية المغربية الفرنسية بشأن حالة الأشخاص والأسرة والتعاون القضائي ل 10 غشت 1981.
غير أنه بالرغم من ذلك، فإن صعوبة التوفيق بين القانون المغربي للأحوال الشخصية والقوانين الأسرية الأوربية جعلت من القضاء الأوربي حين يصل التصادم مدى لا يمكن معه التعايش أو استقبال بعض المؤسسات يستبعد القانون المغربي للأحوال الشخصية؛ إذ يتراوح عموما موقف الاجتهادات القضائية الأجنبية فيما يخص تفعيل مقتضيات مدونة الأحوال الشخصية المغربية بين الاستبعاد الكلي والجزئي لها؛ الأمر الذي يوحي بأن قاعدة التنازع التي توصي بتطبيق القانون الوطني توجد في مأزق؛ ولعل السبب في ذلك راجع بالدرجة الأولى لعدة أسباب نذكر منها ما يلي:
* الإستراتيجية التي تنهجها معظم الدول الأوربية في مقاربتها لظاهرة الهجرة والتي تعتمد في مجموعها مقاربة شبه موحدة مناطها إدماج واستيعاب الأجنبي بصرف النظر عن دينه وقيمه الخاصة؛ وإخضاعه لقيم وقوانين المجتمع الأوربي الذي يعمل ويقيم فيه؛ وقد عملت لتحقيق هذه الإستراتيجية؛ من جهة على قطع كل صلة بين المهاجر المغربي ووطنه الأصلي بما في ذلك حقه في الخضوع لقانونه الوطني في مجال أحواله الشخصية عن طريق تمديد مقتضيات قانون جنسية بلد الإقامة ليشمل كل من ولد فوق الأراضي الأوربية؛ وتفعيل مسطرة التجنيس بالنسبة للجيل الأول كما هو الشأن مثلا بالنسبة لمقتضيات الفصلين 8 و9 من قانون 19 نونبر 1984 الخاص بالجنسية الهولندية، والذي يربط إمكانية الحصول على هذه الأخيرة بضرورة اندماج المهاجر المغربي في المجتمع الهولندي، الأمر الذي كان له تأثير في أوساط الجالية المغربية المقيمة في هذا البلد؛ حيث بلغ عدد المغاربة الذين حصلوا على الجنسية الهولندية سنة 1990 أي بعد مرور ست سنوات على صدور هذا القانون حوالي 19400 مهاجر، أي ما يعادل 11 % من نسبة الجالية المغربية المقيمة بهولندا .
ومن جهة أخرى العمل على تطوير ضوابط الإسناد بطريقة يتم فيها إسناد الاختصاص في مجال الأحوال الشخصية ما أمكن لقوانين بلد الإقامة، كما هو الشأن بالنسبة لضابط الموطن أو الإقامة الاعتيادية؛ ومؤخرا ضابط الإرادة والمصلحة الفضلى للطفل؛ وذلك في مقابل التقليص من نطاق ضابط الجنسية كوسيلة لاستبعاد القانون المغربي للأحوال الشخصية من حلبة المنافسة .
* عولمة حقوق الإنسان ولبرلتها على الصعيد الدولي من خلال سيادة مفهوم الحرية الشخصية للأفراد ومبدأ المساواة في التعامل، بحيث أصبح من الصعب جدا على أية دولة أن تتذرع بخصوصيتها بهدف عدم احترام المقتضيات الناظمة لحقوق الإنسان ؛ هذا فضلا عن التأثير الذي أحدثته المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان على القضاء الأوربي بطريقة جعلت هذا الأخير يصيغ تقنية جديدة لاستبعاد القوانين ذات المصدر الإسلامي، ومنها القانون المغربي للأحوال الشخصية؛ وذلك من قبيل الدفع بالنظام العام الأوربي الذي يرتكز على الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان بملاحقها الإحدى عشر؛ وخاصة البرتوكول رقم 7 الملحق بها والمؤرخ في 22 دجنبر 1984 الذي يكرس المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق والمسؤوليات التي تنشأ عند الزواج؛ وأثناء سريانه؛ ولدى انحلاله.
من هذا المنطلق؛ واعتبارا لكون مدونة الأحوال الشخصية السابقة لسنة 1957 مع ما أدخل عليها من تعديلات سنة 1993 لم تكن قادرة على ضمان حماية كافية وملائمة لمعالجة مختلف الاشكالات القانونية الأسرية للجالية المغربية المقيمة بالمهجر؛ حيث كانت النتيجة هي وجود حالات وأوضاع شاذة تعيشها الأسرة المغربية المهاجرة، من ذلك زواج قانوني معترف به في بلد الإقامة وغير معترف به في بلد الأصل؛ وطلاق قانوني في موطن الهجرة ولكن لا أثر له في موطن الأصل.... وهناك نساء تم طلاقهن طبقا لقانون بلد الإقامة لحصولهن على الجنسية، أو طبقا لضابط الإرادة أو الموطن وتزوجن من جديد برجل آخر؛ لكن لما دخلن إلى المغرب تمت مطالبتهن بالرجوع إلى بيت الزوجية من طرف الزوج الأول لأنهن حسب قانون بلد الأصل لازلن في عصمته؛ ناهيك عن مشاكل النسب والنفقة والحضانة وحق الزيارة .
وكذا اعتبارا لمصادقة المملكة المغربية خلال العقود الأخيرة على مجموعة من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وخصوصا اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل من جهة؛ واستجابة للتوجهات السياسية والاقتصادية المعبرة عن رغبة المغرب في الانضمام للاتحاد الأوربي؛ وعن اضطراره تحت ضغط الانفتاح الاقتصادي العالمي الجديد إلى ضرورة ملائمة أنظمة وقوانينه لذلك، حيث نصت المادة 52 من اتفاقية الشراكة التي تربط المغرب بالاتحاد الأوربي على أن من بين أهداف هذه الشراكة مساعدة المغرب على تقريب تشريعاته من تشريع الاتحاد في جميع المجالات، بل إن المادة الثانية من هذه الاتفاقية تنص على: " أن احترام المبادئ الديمقراطية والحقوق الأساسية للإنسان كما هي منصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تعتبر عنصرا أساسيا في هذا الاتفاق" من جهة أخرى.
اعتبارا لكل ذلك كان من المنتظر أن تواكب هذه التطورات تحولات تهم التشريعات المنظمة للأحوال الشخصية وشؤون الأسرة لتكون في مستوى التطلعات وقادرة على مواكبة وثيرتها المتسارعة في ظل مقاربة ثنائية تحافظ وتزاوج بين روح الانفتاح والتسامح، وبين التأكيد على التشبث بجذور الأصالة المستمدة روافدها من الإسلام كمكون حضاري ومصدر تشريعي أساسي لا محيد عنه، ويتعلق الأمر بصدور القانون رقم 03 – 70 الذي يهم تنظيم قانون الأسرة بالمغرب .
هذا القانون الذي حاول من خلاله المشرع المغربي تنظيم وضعية الأسرة المغربية ليس فقط داخل أرض الوطن، بل حتى تلك المقيمة بالخارج، حيث تم التنصيص ولأول مرة على أحكام جديدة تهم هذه الشريحة من المواطنين التي لم تكن النصوص المعمول بها في ظل مدونة الأحوال الشخصية السابقة تتلائم مع أوضاعها ولا تسايرها، وقد همت هذه التعديلات بصفة أساسية ما يتعلق بإبرام عقد الزواج وانحلاله من خلال السماح لهم بإبرام عقد زواجهم طبقا للإجراءات الإدارية المحلية لبلد الإقامة وتكريس مبدأ الإرادة في إنهاء العلاقة الزوجية فضلا عن توسيع أسباب طلب التطليق من طرف الزوجة؛ ثم ما يتعلق بتنفيذ الأحكام الأجنبية من خلال إدخال نوع من المرونة على النظام العام المغربي عند النظر في طلبات منح الصيغة التنفيذية للأحكام الصادرة في حق الجالية المغربية بالخارج، وهي تعديلات من شأنها تعزيز القدرة التنافسية للقانون المغربي للأحوال الشخصية عند نظره في النزاعات الأسرية التي تهم الجالية المغربية، فهل فعلا الأمر كذلك؟
من هذا المنطلق جاء اختيار هذا الموضوع، وهو اختيار لم يكن من قبيل الصدفة وإنما جاء نتيجة لتظافر عدة اعتبارات منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي:
وهكذا فبخصوص الاعتبارات الموضوعية فإنها تنبع من الأهمية التي يكتسيها هذا الموضوع والتي نجملها فيما يلي:
* ارتفاع نسبة الأسر المغربية المتواجدة بالخارج مما يستوجب إثارة الانتباه إلى واقع هذه الأسر سيما في ظل التحولات العميقة التي عرفها القانون المغربي المنظم لشؤون الأسرة.
* رصد تطور العمل القضائي الأوربي في كيفية تعامله مع القانون الوطني المنظم للروابط العائلية للجالية المغربية ومحاولة توجيهه نحو التفاعل الإيجابي معه بما يخدم مصالح المهاجر المغربي ويمكن من تسوية وضعيته الاجتماعية والقانونية.
* مدى القصور الذي يشوب الحلول المعتمدة على مستوى الروابط الأسرية عبر الوطنية، الأمر الذي يستوجب تقييم أهمية المستجدات التي جاءت بها مدونة الأسرة من جهة في معالجة المشاكل القانونية والاجتماعية التي تعاني منها الأسرة المغربية في بلاد المهجر في ظل التحولات الطارئة التي تعرفها ضوابط الإسناد، ومن جهة أخرى مدى قدرتها في مواجهة الصراع الإيديولوجي والحضاري الشرس بين الثقافات بحكم سياسة العولمة التي ما فتئت تعمل على تعميم النهج الحضاري الغربي في مجال حقوق الإنسان على مختلف المجتمعات الإنسانية.
أما بالنسبة للاعتبارات الذاتية فيمكن إجمالها في النقط التالية:
* جدة الموضوع والتي تتضح من خلال ندرة الكتابات والاجتهادات القضائية الصادرة في ظل مدونة الأسرة، حيث أن هذا الموضوع إذا كان قد حضي بقدر لا يستهان به من الدراسة في ظل مدونة الأحوال الشخصية السابقة، والذي تجسد على الصعيد العلمي في عدد وجودة الدراسات الأكاديمية المنجزة بهذا الخصوص سواء من طرف الباحثين الأجانب أو المغاربة؛ فإنه لم يحض بمثل ذلك في ظل القانون الجديد للأسرة الذي لم يمر على صدوره سوى سنتين؛ لذلك يبقى هذا الموضوع يحتاج للمزيد من الدراسة والبحث بالنظر لما يطرحه من إشكالات متعددة تتأرجح ما بين عالمية حقوق الإنسان وتطور حقوق الأسرة.
* الرغبة في الوقوف على أحوال الجالية المغربية من حيث نظام أحوالها الشخصية؛ ومن تم وضع اليد على المعاناة التي تواجهها بسبب التمفصل بين قوانين متنافرة يعتمد بعضها مرجعية دينية في مجال الروابط العائلية؛ وأخرى قائمة على الفكر العلماني الذي لا يؤمن إلا بثقافة الحرية والمساواة التامة بين الجنسين.
* ثم أخيرا الرغبة في المساهمة في البحث عن خيارات مناسبة لتدعيم مكانة قانون الأسرة المغربي في حكم الأحوال الشخصية للجالية المغربية بالمهجر.
إذا ثبت ذلك؛ وفي إطار احترام الضابط الزماني والمكاني الذي يفرضه مجال البحث العلمي نشير إلى أن هذه الدراسة لن تقتصر فقط على تناول المستجدات التي جاءت بها مدونة الأسرة، بل سنعمد بين الفينة والأخرى إلى إجراء نوع من المقارنة بين هاته المستجدات وما كان سائدا في ظل مدونة الأحوال الشخصية، حيث سننطلق من الانتقادات التي كانت توجه لهذه الأخيرة لمعرفة مدى قدرة الجديد الذي جاءت به مدونة الأسرة في كسب اعتراف السلطات القضائية الأجنبية، ولتحقيق هذه الغاية فقد استعملنا عند صياغة عنوان هذا البحث مصطلح قانون الأسرة، وليس مدونة الأسرة أو مدونة الأحوال الشخصية على اعتبار أن مصطلح قانون الأسرة شامل للمدونتين معا.
كما أنه ولما كان من غير الممكن أن نتناول واقع الأسرة المغربية ومن خلاله وضعية قانون الأسرة المغربي في جل الأنظمة القضائية الأوربية فإننا سنركز على بعض النماذج القضائية لبعض الدول الأوربية التي تستقطب نسبة مهمة من الجالية المغربية، وذلك بالنظر لما يوجد بين هذه النماذج والقانون المغربي من اختلافات جوهرية راجعة لعدم تماثل مرجعيتها الإيديولوجية والثقافية والدينية والأخلاقية.
من هذا المنطلق واعتمادا على ما مر بنا يمكن صياغة الإشكالية التي يروم هذا الموضوع بحثها على الشكل التالي:
ما مدى إمكانية تطبيق قانون الأسرة المغربي في صيغته الجديدة من طرف القضاء الأوربي على الروابط الأسرية للجالية المغربية سيما في ظل التحولات التي تعرفها الأنظمة القانونية الأسرية الغربية؛ إن على مستوى تطور ضوابط الإسناد؛ أو على مستوى تكريس مفاهيم الحرية والمساواة في صلب القواعد المنظمة للروابط الأسرية والتي أضحت تشكل جزءا من النظام العام الأوربي؟
إن تحليل هذه الإشكالية لن يتأتى إلا من خلال المزاوجة بين أمرين اثنين: البحث أولا في مكانة ووضعية قانون الأسرة المغربي أمام القضاء الأجنبي والأوربي على الخصوص من خلال الوقوف على كيفية تعامل هذا الأخير مع القانون المغربي للأحوال الشخصية سواء على مستوى محاكم الموضوع أو محاكم النقض سيما بعد التعديلات المهمة التي طرأت على هذا الأخير بصدور مدونة الأسرة، ثم ثانيا استجلاء مختلف العراقيل التي تضعها بلدان الاستقبال في وجه تطبيق القانون المغربي للأحوال الشخصية خاصة ما يتعلق منها بتطور مفهوم النظام العام في الدول الأوربية وبروز ضوابط إسناد جديدة في مجال الروابط الأسرية عبر الوطنية لنخلص في الأخير إلى تقديم بعض الاقتراحات التي من شانها تدعيم مكانة قانون الأسرة المغربي أمام القضاء الأوربي.


القسم الأول: إمكانية تطبيق قانون الأسرة المغربي على الروابط الأسرية للجالية المغربية بالمهجر.

إن تنظيم وتسوية الوضعية الأسرية للجالية المغربية المقيمة بالخارج حظيت وتحظى باهتمام كبير في إطار القواعد المنظمة للروابط الدولية الخاصة، وذلك تبعا لأهمية تلك الجالية في النسيج الاقتصادي والاجتماعي المغربي ؛ وكذلك لما يتطلبه وجودها خارج أرض الوطن من ضبط دقيق لوضعية أفرادها والعمل على ضمان ارتباطهم بوطنهم الأصلي من خلال إخضاع أحوالهم الشخصية لقانونهم الوطني.
غير أنه ولما كان التنازع بين القوانين الأوربية والقوانين الإسلامية ومنه القانون المغربي للأحوال الشخصية يشكل تجليا حقيقيا للتصادم بين القيم الحضارية، بسبب ما يوجد بين هذه القوانين من اختلافات جوهرية راجعة لعدم تماثل مرجعيتها الثقافية والدينية والأخلاقية؛ فإن تطبيق القانون الشخصي الذي هو مدونة الأسرة على الجالية المغربية بالمهجر يقتضي بالضرورة ملائمة هذا القانون مع معايير النموذج الأممي لحقوق الإنسان التي أضحت تشكل رهانا يجب على المغرب مسايرته إن أراد أن يضمن وحدة النظام القانوني المطبق على مواطنيه بالمهجر.
لذلك فإن معرفة مدى إمكانية تطبيق قانون الأسرة المغربي على الروابط الأسرية للجالية المغربية؛ لابد أولا من التعرض لموقف مختلف الأنظمة القضائية في الدول المستقبلة لهذه الجالية من تطبيق القانون الأجنبي عامة؛ وقانون الأسرة المغربي بصفة خاصة – الفصل الأول –
ثم ثانيا اختبار أهمية المستجدات التي جاءت بها مدونة الأسرة والدور الذي يمكن أن تقوم به في ضمان احترام تطبيق القانون الشخصي على الجالية المغربية؛ ومن تم تعزيز القدرة التنافسية لهذا القانون؛ وإعطائه فرص أكبر لأن يتم اختياره من طرف القضاء الأوربي كلما عرض عليه نزاع يتعلق بالجالية المغربية –-

الفصل الأول: موقف القضاء الأوربي من تطبيق قانون الأسرة المغربي.

إذا كان طبيعيا أن المنازعات الأسرية داخل المغرب تحال على قضائه؛ فإن المنازعات الأسرية التي تقع خارجه على العكس من ذلك يلجأ بشأنها إلى قضاء الدولة التي يتواجد بها أطراف النزاع، على اعتبار أن القضاء مظهر من مظاهر سيادة الدولة وأن الاحتكام إلى قضاء هذه الدول تحكمه قاعدة أساسية تتعلق بتطبيق قوانينهم الشخصية .
لذلك ولما كانت جل الأنظمة القضائية إن لم نقل جميعها تقوم على مبدأ ازدواجية القضاء أو ما يسمى بمبدأ التقاضي على درجتين، بالإضافة إلى وجود محكمة عليا تسهر على ضمان التطبيق السليم للقانون من طرف محاكم الموضوع، فإن معرفة موقف القضاء الأوربي من تطبيق قانون الأسرة المغربي يقتضي البحث أولا في وضعية هذا القانون أمام قضاء الموضوع – المبحث الأول-
ثم ثانيا إبراز دور رقابة المحاكم العليا الأجنبية في تكريس احترام تطبيق القانون الشخصي المغربي على الروابط الأسرية للجالية المغربية بالمهجر – المبحث الثاني-








المبحث الأول: وضعية قانون الأسرة المغربي أمام قضاء الموضوع.
إن التصدي لمعرفة وضعية القانون المغربي للأحوال الشخصية أمام قضاء الموضوع يقتضي من جهة؛ البحث في الأساس القانوني المعتمد من طرف هذا القضاء في تطبيق قانون الأسرة المغربي والقانون الأجنبي عامة؛ ويتعلق الأمر أساسا بإعمال المنهج التنازعي الذي تشكل قواعد الإسناد أحد مكوناته الأساسية – المطلب الأول-
فإن أشارت هذه القواعد إلى تطبيق القانون المغربي للأحوال الشخصية على الجالية المغربية بالمهجر، فلا شك أن هذا القانون يعتبر أجنبيا عن القاضي الأجنبي المعروض عليه النزاع ولا تنطبق بشأنه قاعدة: " يجب على القاضي العلم بالقانون"؛ الأمر الذي يستدعي من جهة ثانية التساؤل عن السلطة التي يتمتع بها هذا القاضي في الكشف عن مضمون قانون الأسرة المغربي – المطلب الثاني-
المطلب الأول: أساس تطبيق قانون الأسرة المغربي من طرف القضاء الأوربي.

من المبادئ المسلم بها في القانون الدولي الخاص أن القاضي المرفوع أمامه النزاع يحل تنازع القوانين وفقا لقواعد الإسناد المضمنة في قانون البلد الذي يحكم باسمه ؛ مما يعني أن القاضي الأجنبي لا يطبق قانون الأسرة المغربي متطوعا، وإنما يفعل ذلك إذعانا لأمر مشرعه الوطني بموجب قواعد الإسناد المضمنة في قانونه الداخلي.
وقواعد الإسناد هاته إما أن تكون وطنية ينفرد المشرع الوطني بتحديدها طبقا لتوجهاته وتصوراته في معالجة ظاهرة الهجرة؛ وإما أن تكون موضوع اتفاق بين دولتين أو أكثر في إطار اتفاقية تجمع بينهما.
غير أنه في جميع الأحوال؛ فإن القانون المغربي لا يمكنه أن يتدخل لحكم الأحوال الشخصية للجالية المغربية بالخارج إلا إذا تضمنت قواعد الإسناد هاته – الوطنية أو الاتفاقية- ضابط الجنسية كعنصر ارتباط في مجال الأحوال الشخصية؛ الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن موقع قانون الجنسية ضمن ضوابط الإسناد الوطنية – الفقرة الأولى-
ثم هل استطاعت قواعد الإسناد المضمنة في الاتفاقيات الثنائية أن تضمن احترام أفضل لتطبيق القانون المغربي للأحوال الشخصية على الأوضاع الأسرية للجالية المغربية بالمهجر – الفقرة الثانية –
الفقرة الأولى: الوضع في قواعد الإسناد الوطنية
إن إسناد الأحوال الشخصية لقانون الجنسية؛ أي للقانون الوطني للطرفين يعتبر من أبرز الحقوق ذات السبق التاريخي في التطبيق سواء من خلال العرف الدولي أو القانون الوضعي .
ويعد الفقيه الإيطالي Mancini أول من كان له الفضل في وضع أدوات التحليل التنازعي وذلك من خلال نظريته الشخصانية القانونية ، حيث أكد على أن القانون الذي يجب أن تخضع له الأحوال الشخصية هو قانون الدولة التي ينتمي إليها الشخص بجنسيته مهما كان المكان الذي يتواجد فيه هذا الشخص أو الشيء محل العلاقات القانونية .
ومن جهة أخرى فإن إسناد الأحوال الشخصية للقانون الوطني للطرفين يجد تبريره في أكثر من موضع:
فإضافة إلى أن ذلك من شانه أن يراعي حقا من حقوق الإنسان الذي تضمنته الاتفاقيات الدولية وخاصة الاتفاقية الدولية لحماية حقوق العمال المهاجرين وأفراد أسرهم في فصلها 31 ؛ ويتعلق الأمر أساسا بالحفاظ على الهوية والخصوصية الوطنية؛ هذه الخصوصية تتمثل في الشعور القومي والرابطة الروحية التي تربط الفرد بدولته ؛ فإن اعتماد الجنسية كضابط إسناد في مجال الأحوال الشخصية من شأنه أن يأخذ في الاعتبار إمكانية العودة المحتملة للمهاجرين لوطنهم الأصلي ، باعتباره القانون الأكثر ثباتا واستقرارا والأقل عرضة للتبديل والتغيير مقارنة مع غيره من ضوابط الإسناد .
إذا ثبت ذلك نعود إلى قواعد الإسناد المضمنة في الأنظمة القانونية للدول المستقبلة للجالية المغربية وذلك لمعرفة موقع قانون الجنسية ضمنها.
وفي هذا الإطار نشير إلى أن معظم الدول الأوربية باستثناء الدول الأنجلو أمريكية تأخذ بمبدأ شخصية القوانين في مجال الأحوال الشخصية، ومن ذلك على سبيل المثال:
- القانون المدني الفرنسي والقانون المدني البلجيكي في فصلهما الثالث،والذي يقضي بإخضاع الحالة الشخصية للقانون الوطني .
- القانون المدني الهولندي الصادر بتاريخ 25 ماي 1981 بشأن تنازع القوانين في مادة انحلال الزواج والانفصال الجسماني والاعتراف بهما .
- القانون المدني الإسباني في فصله 107 والقاضي بإخضاع الفصل والطلاق للقانون الوطني المشترك للزوجين وقت تقديم الطلب ...الخ.
إجمالا يمكن القول بأنه إذا كان ضابط الجنسية لازال يجد مكانه في جل الأنظمة
القانونية الأوربية ، مع ما يعنيه ذلك على الأقل من الناحية النظرية من إخضاع الجالية المغربية المتواجدة خارج أرض الوطن لقانونها الوطني، فإنه على مستوى التطبيق العملي يلاحظ أن مبدأ شخصية القوانين أصبح مبدأ منكوبا لا يحضى بنفس الاهتمام الذي كان يتمتع به، وذلك نتيجة للسياسة التي انتهجتها أغلب الدول الغربية تجاه الجالية المسلمة بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة؛ والتي تمحورت في سياسة الإدماج؛ ومنح المغاربة المقيمين بالخارج صفة مواطن، هذا فضلا عن إستراتيجية تغيير ضوابط الإسناد التي أصبحت تعتمد من طرف الدول المستقبلة للهجرة كرد فعل طبيعي عن عجز أنظمتها القضائية عن مسايرة زخم القوانين الأجنبية الواردة عليها والتي تتبارى في حلبة المنافسة للاستحواذ على الاختصاص ، حيث صار التفكير أمام استحالة استرضاء خاطر مختلف هذه القوانين منصبا في اتجاه اقتطاع بعضا من مجالات الجنسية لفائدة ضوابط أخرى كما سيتضح في القسم الثاني من هذه الدراسة، الأمر الذي من شانه أن يؤدي إلى تكريس التنافر والتناقض بين القواعد الوطنية المتعلقة بالروابط الدولية الخاصة نتيجة لتمسك كل دولة بقانونها باعتباره مظهرا من مظاهر سيادتها.
لذلك وأمام هذا المسار الذي انتهجته اغلب الدول الغربية في تعاملها مع القوانين الأصلية للمهاجرين الوافدين عليها؛ وما كشفه من صعوبات التوفيق بين أنظمة قانونية متنافرة؛ لجأت الدول المصدرة للهجرة ومن ضمنها المغرب إلى التفكير في صياغة قواعد وضوابط إسناد أكثر مرونة من تلك التي تتضمنها القوانين الوطنية وذلك من خلال نهج أسلوب الاتفاقيات الثنائية.
فهل فعلا استطاعت ضوابط الإسناد المقررة في مثل هذه الاتفاقيات أن تضمن احترام أفضل لتطبيق قانون الأسرة المغربي على الروابط الأسرية للجالية المغربية؟
الفقرة الثانية: الوضع في قواعد الإسناد الاتفاقية.
لقد عمل المغرب منذ مدة طويلة في محاولة منه لضمان وحدة النظام القانوني للأسرة المغربية بالمهجر. ونفاذ الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية على جميع المغاربة على إبرام العديد من الاتفاقيات الثنائية مع بعض الدول الأوربية التي تستقطب نسبة مهمة من الجالية المغربية.
وتعد الاتفاقية المغربية الفرنسية بشأن حالة الأشخاص والأسرة والتعاون القضائي المؤرخة في 10 غشت 1981 من أهم الاتفاقيات التي تم الجنوح إليها لتحقيق هذه الغاية.
لذلك سوف نقتصر في هذه الفقرة على دراسة هذه الاتفاقية مادامت أنها تتضمن
نفس الحلول المعتمدة في باقي الاتفاقيات الثنائية التي وقعها المغرب مع دول اخرى ، وذلك لمعرفة مدى قدرة قواعد الإسناد المضمنة فيها في ضمان التطبيق السليم للقانون المغربي من طرف القضاء الأجنبي.
إذ ثبت ذلك وبغض النظر عن المبررات التي دفعت الطرفين المغربي والفرنسي لإبرام هذه الاتفاقية ؛ فإن أول ملاحظة يمكن تسجيلها هي تأكيد هذه الاتفاقية على احد المبادئ الأساسية المتعارف عليها في القانون الدولي الخاص، ألا وهو مبدأ شخصية القوانين مع ما يعنيه ذلك من إخضاع الجالية المغربية المقيمة بفرنسا فيما يتعلق بأحوالها الشخصية لقانونها الوطني والذي تمثله مدونة الأسرة.
حيث نصت المادة الخامسة من هذه الاتفاقية على أن يطبق على كل من الزوجين قانون إحدى الدولتين التي ينتمي إليها فيما يخص الشروط الجوهرية للزواج؛ في حين أخضعت الإجراءات الشكلية للزواج لقانون الدولة التي يبرم فيها، فإذا تم الإبرام وفقا للقانون الفرنسي فإنه يجب أن يسجل لإضفاء الشرعية عليه اتجاه القانون المغربي من طرف الموظفين القنصليين المختصين ، وهو ما يعني بمفهوم المخالفة إمكانية تطبيق قانون الدولتين معا على اعتبار أن الغرض من التسجيل هو التأكد من احترام الشروط الجوهرية للزواج كما هي واردة في مدونة الأحوال الشخصية.
أما فيما يخص القانون المطبق على الآثار الشخصية للزواج، فإن الاتفاقية وإيمانا منها بتفصيل الرعايا لقانون دولتهم سمحت لهم بالخروج عن القاعدة التي تقضي بتطبيق قانون الموطن المشترك والرجوع إلى قانون الجنسية ؛ بصرف النظر عن مكان وجود موطنهما .
فمن خلال هذه القواعد يتضح أن الاتفاقية المغربية الفرنسية قد تبنت قواعد إسناد مرنة من شأنها أن تعزز من مكانة القانون المغربي للأحوال الشخصية أمام القضاء الفرنسي. لكن هل فعلا التطبيق القضائي للاتفاقية يسير في هذا الاتجاه؟
من خلال تتبع شروط تطبيق هذه الاتفاقية عمليا سيما من طرف القضاء الفرنسي يمكن القول أن هذا القضاء لم يستقر على موقف موحد، فتارة يقضي بتطبيق القانون المغربي للأحوال الشخصية طبقا لقواعد الإسناد الواردة في الاتفاقية ، وتارة أخرى يتجاهل وجود الاتفاقية وينتصر لنزعته الوطنية من خلال تطبيق قانونه الوطني.
ولعل السبب في ذلك راجع بالإضافة إلى تأثير فكرة النظام العام الفرنسي والأوربي القائمين على مفاهيم وقيم إنسانية وحقوقية مغايرة تهم التوجهات الحديثة في مجال حماية حقوق الإنسان ؛ إلى نصوص الاتفاقية ذاتها حيث يطبعها نوع من الغموض واللبس يجعلان مقتضياتها عرضة لعدة تأويلات قد تعصف بالدور المنوط بها . يضاف إلى ذلك عدم قدرة هذه الاتفاقية في حل مختلف الإشكالات التي تطرحها مؤسسة الأحوال الشخصية، فهي لم تحدد كما ذهب إلى ذلك بعض الفقه الفرنسي ، ما المقصود بالآثار الشخصية للزواج وكذا المقصود بحالة الأشخاص؟ فضلا على أنها لم تتطرق لمشكل النسب ولأي قانون سيخضع ؟ نفس الشيء بالنسبة للقانون الواجب التطبيق على الأموال المشتركة كأثر من الآثار المالية للزواج، فكل هذه العوامل ستفتح بدون شك المجال أمام القضاء الفرنسي لتطبيق قانون الموطن باعتباره القانون الواجب التطبيق، وبالتالي استبعاد القانون المغربي من حلبة المنافسة مادام أن قواعد الإسناد التي تشكل أساس تطبيقه من طرف القضاء الأجنبي لا تشير إليه.
من خلال ما سبق يتضح أن وجود هذه الاتفاقية لم ييسر ويسهل كما كان متوقعا استقبال وتقبل القضاء الفرنسي للقانون المغربي للأحوال الشخصية مادام أن المحاكم الفرنسية ظلت في الغالب الأعم من الأحوال تتعامل مع هذه الاتفاقية وكأنها غير موجودة، بل وحتى على فرض انصياع القضاء الفرنسي لتطبيق ضوابط الإسناد المقررة في هذه الاتفاقية، والتي على فرض أنها تشير إلى تطبيق القانون المغربي للأحوال الشخصية، فإن صعوبة الكشف عن مضمون هذا القانون قد تقف عقبة أمام تطبيقه، الأمر الذي يطرح التساؤل حيال السلطة التي يتمتع بها القاضي المعروض عليه النزاع في تحديد مضمون قانون الأسرة المغربي؟
المطلب الثاني: سلطة القاضي الأجنبي في تحديد مضمون قانون الأسرة المغربي.

متى سلمنا بالتزام القاضي الأجنبي بإعمال قاعدة الإسناد الوطنية وتطبيق القانون الذي تشير باختصاصه، والذي على فرض أنه القانون المغربي للأحوال الشخصية؛ فإن التطبيق السليم لهذا القانون على الروابط الأسرية للجالية المغربية لن يتأتى إلا بتحديد مضمون هذا القانون؛ الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن الجهة المكلفة بالبحث عن مضمون القانون المغربي للأحوال الشخصية، وبصفة خاصة الدور الذي يمكن أن يلعبه القاضي المعروض عليه النزاع في تحديد هذا المضمون – الفقرة الأولى-
ثم الوقوف على الصعوبات والعراقيل التي قد تحد من سلطته في هذا الشأن والتي قد تؤدي إلى تطبيق قانونه الوطني – الفقرة الثانية-
الفقرة الأولى: دور القاضي الأجنبي في الكشف عن مضمون قانون الأسرة المغربي.

إن تحديد مضمون القانون المغربي المختص بمقتضى قاعدة الإسناد المقررة في قانون القاضي المعروض عليه النزاع؛ تعد من المسائل التي لم يستقر عليها فقه القانون الدولي الخاص على رأي؛ والتي لا تزال تطرح العديد من الإشكاليات المرتبطة أساسا بتحديد الجهة الملقى عليها عبء إثبات مضمون القانون المغربي للأحوال الشخصية؛ هل على الطرف الذي طالب بتطبيقه؛ أم على الطرف الآخر، أم على القاضي؟.
لذلك ولتحديد الدور الذي يمكن أن يقوم به القاضي الأجنبي المعروض عليه النزاع في تحديد هذا المضمون، فإن الأمر يستدعي التمييز بين إتجاهين أساسين:
اتجاه أول يرى أن عبء إثبات مضمون القانون المغربي للأحوال الشخصية والقانون الأجنبي عامة يقع على عاتق القاضي المعروض عليه النزاع، وهذا هو الاتجاه
السائد لدى القضاء والفقه في كل من ألمانيا والنمسا، وبعض البلدان الأخرى مثل إيطاليا وبلجيكا وسويسرا حسب السائد فيها فقها والمأخوذ به عند القضاء في جزء من أحكامه واللذان يقران بأن على القاضي أن يطبق القانون الأجنبي وفي موضوعنا قانون الأسرة المغربي من تلقاء نفسه، ومن واجبه أن يسعى إلى التعرف على أحكامه ؛ بل ويمكن له إذا تعذر عليه ذلك أن يطلب معاونة الخصوم له لما لهم في ذلك من مصلحة أولا، ولما سيعمل على مساعدة القضاء على إظهار الحق وتحقيق العدالة؛ والقاضي إذ يفعل ذلك إنما يبحث عن الحقيقة الموضوعية لا عن الحقيقة القضائية كما يعرضها الخصوم .
أما الاتجاه الثاني، فعلى نقيض الاتجاه الأول يذهب إلى أن القاضي المعروض عليه النزاع ليس ملزما بالبحث عن مضمون القانون المغربي بل يجب على الأطراف الذين طالبوا بتطبيقه أن يقيموا الدليل على أحكامه ، وفي هذا الإطار تنص الفقرة السادسة من الفصل 12 من القانون المدني الإسباني على أنه: " يجب على الشخص الذي يثير قانونا أجنبيا إثبات مضمونه وسريانه بوسائل الإثبات المقبولة في القانون الإسباني".
فمن خلال هذه الفقرة يبدو أن المشرع الإسباني اعتبر القانون المغربي للأحوال الشخصية مسألة واقع، واعتباره كذلك يعني أن تطبيقه يبقى متوقفا ليس فقط على مطالبة الأطراف الذين لهم مصلحة في تطبيقه وإثبات مضمونه؛ بل وإثبات كونه لازال ساري المفعول أمام القاضي الإسباني .
وفي نفس السياق كان القضاء الفرنسي يسير في اتجاه التأكيد على أن القانون الأجنبي ومنه القانون المغربي للأحوال الشخصية يشبه من الوجهة الإجرائية بوقائع الدعوى وبما أن الأطراف هم المكلفون بتجميع عناصر الوقائع وإقامة الأدلة عليها فإن هذا يستتبع أن عبء إثبات مضمون القانون المغربي يقع على عاتق الخصم المتمسك بأحكامه؛ لأنه يكون بذلك قد أثار واقعة معينة فيتحمل هو عبء إثبات مضمونها .
غير أنه بالرجوع إلى المبررات التي يستند إليها أنصار هذا الرأي الذي ينفي عن القانون المغربي للأحوال الشخصية صفته القانونية، ومن تم يلقي عبئ إثبات مضمونه على عاتق الخصم المتمسك بأحكامه، نجد أنها لا تستند إلى أساس سليم.
فالقول بعدم افتراض علم القاضي الأجنبي بالقانون المغربي استنادا إلى قرينة النشر في الجريدة الرسمية ؛ هو قول مردود عليه؛ لأن عدم علم القاضي الأجنبي بالقانون المغربي للأحوال الشخصية لا ينفي عنه التزامه القانوني بالبحث عن مضمون هذا القانون سيما وأن التزامه هذا يندرج في إطار القواعد العامة في قانون المرافعات؛ تلك القواعد التي تقضي بأن يطبق القاضي قواعد القانون على وقائع الدعوى دون حاجة إلى تمسك الخصم بأحكامه أو الكشف عن مضمونه . هذا فضلا على أن نفي الصفة القانونية عن القانون المغربي للأحوال الشخصية لا يمكن قبوله؛ على اعتبار أن في ذلك تجاهل لقواعد الإسناد الوطنية التي عينته من جهة؛ وإنكار لطبيعتها القانونية من جهة ثانية .
ولعل هاته الانتقادات هي التي دفعت بمحكمة النقض الفرنسية إلى التلطيف من موقفها السابق بشأن إلقاء عبء إثبات أحكام القانون المغربي على عاتق الخصم المتمسك به؛ حيث يميل الاتجاه الغالب لدى القضاء والفقه الفرنسي الحديث، إلى أن القاضي الفرنسي لم يعد فقط ملزم بتطبيق القانون المغربي للأحوال الشخصية المعين بمقتضى قاعدة الإسناد، وإنما أيضا بالبحث عن دلالة هذا القانون؛ ولعل ما يؤكد ذلك هو القرار الصادر عن محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 1 يوليوز 1997 والذي نقض القرار الصادر عن محكمة الاستئناف NIMES التي رفضت تطبيق القانون المغربي المختص طبقا للفصل 9 من الاتفاقية المغربية الفرنسية ل 10 غشت 1981 بعلة أن المدعى عليه لم يوضح هذا القانون ولم يبلغه للمحكمة .
نفس الشيء نجده لدى القضاء الهولندي حيث استقر موقف محكمة النقض الهولندية وغالبية الفقه الهولندي الحديث إلى أنه وعلى الرغم من عدم إلزام القاضي الهولندي بإثارة قاعدة التنازع من تلقاء نفسه؛ فإنه ليس للقاضي الهولندي أن يفرض على أحد الأطراف عبء إثبات مضمون القانون المغربي للأحوال الشخصية، بل يجب عليه أن يتصدى بنفسه لمسألة البحث عن مضمون هذا القانون .
إذن ومن خلال استقراء موقف الاتجاهين السابقين سيما فيما يتعلق بالجهة المكلفة بإثبات مضمون القانون المغربي للأحوال الشخصية؛ يتضح أن الاتجاهين معا يكمل بعضهما البعض، فالقاضي بما له من سلطة واطلاع واسع على أحكام القانون المغربي خاصة في المناطق التي تتواجد بها نسبة مهمة من الجالية المغربية، حيث اعتاد تطبيق هذا القانون، والأطراف بما يقدمونه من وسائل الإثبات، فقط يمكن الوصول إلى المعنى الصحيح للقانون المغربي، وبالتالي احترام قاعدة الإسناد والحفاظ على طبيعتها القانونية ودورها الفعال في إطار القانون الدولي الخاص.
لذلك فإن المنطق السليم يقتضي من حيث المبدأ إلزام القاضي المعروض عليه النزاع بالبحث عن مضمون قانون الأسرة المغربي؛ على اعتبار أن ذلك يدخل في نطاق واجبه المعهود فيه؛ غير أنه في حالة العجز عن تحديد هذا المضمون، فإن الأمر يستدعي احتياطيا إلزام الأطراف الذين لهم مصلحة وخاصة الطرف المغربي بمساعدة القاضي في تحديد مضمون هذا القانون والقول بعكس ذلك قد يؤدي إلى تهاون القاضي الأجنبي في استقصاء البحث وعدم الاكتراث بالتغلب على الصعوبة بطريقة جدية، ثم الجري وراء الحلول السهلة ولو كانت مخالفة لروح القانون المراد تطبيقه.
الفقرة الثانية: محدودية سلطة القاضي الأجنبي في الكشف عن مضمون قانون الأسرة المغربي.
عندما نقول بأن على القاضي الأجنبي المعروض عليه النزاع أن يطبق القانون المغربي للأحوال الشخصية المحدد بقاعدة الإسناد؛ فإن الأمر هنا لا يتعلق بالقانون بالمفهوم الضيق؛ بل إن القانون هنا يؤخذ بمفهومه الشمولي؛ بحيث تندرج ضمنه بالإضافة إلى القواعد المادية الواردة في مدونة الأسرة؛ الاجتهاد القضائي المغربي في مادة الأحوال الشخصية .
ولما كان الأمر كذلك؛ واعتبارا لكون القانون المغربي للأحوال الشخصية يعتبر أجنبيا عن القاضي المعروض عليه النزاع؛ ولا تنطبق بشأنه قاعدة: " يجب على القاضي العلم بالقانون"، فإن تحديد مضمون هذا القانون قد تقف أمامه العديد من الصعوبات.
بحيث أنه إذا كان القضاء الأجنبي قد اعتاد التعامل مع مدونة الأحوال الشخصية السابقة من خلال التطبيق المتكرر لأحكامها؛ سيما في الدول التي تستقطب نسبة مهمة من الجالية المغربية كما هو الشأن بالنسبة للقضاء الفرنسي لدرجة يمكن القول معها بأن القاضي الفرنسي أصبح على اطلاع واسع بأحكام القانون المغربي للأحوال الشخصية، فإن التعديلات التي أدخلت على هذا القانون مؤخرا، قد تجعل هذا القضاء في حيرة من أمره.لأن غياب ترجمة رسمية لمدونة الأسرة قد يحول دون فهم الطرف الآخر وخاصة الطرف الأوربي لمقتضياتها، الأمر الذي قد يجعل القاضي الأجنبي ينطلق عند إعماله للقانون المغربي من مقتضيات مخالفة لما هو وارد في هذه المدونة، وهو ما ينعكس على التطبيق السليم لبنودها .
وفي نفس السياق وحتى في ظل مدونة الأحوال الشخصية، فقد عبر الوفد الرسمي الألماني أثناء إجراءه لسلسة من الاتصالات المتبادلة مع نظيره المغربي سواء في الرباط أو بون حول إبرام عقود الزواج في ألمانيا من طرف مواطنين مغاربة أنهم لا يعرفون أن القانون المغربي يفرض إبرام الزواج أمام القنصل المغربي بألمانيا وطالبوا بتزويدهم بلائحة مدققة لكل الأشخاص المخولين من طرف الحكومة المغربية إبرام عقود الزواج وهو ما يوضح بما لا يدع مجالا للشك أن الطرف الأوربي يجهل مقتضيات القانون المغربي مما ينعكس سلبا على تطبيقه، ويعقد من مهمة القاضي الأجنبي في الكشف عن مضمونه.
عموما وإذا كانت وزارة العدل قد عملت مؤخرا في محاولة منها للحد من هذه الصعوبات إلى إصدار نسخة رسمية لمدونة الأسرة باللغة الفرنسية ؛ فإنه بقدر أهمية هذه الخطوة لكونها ستفتح المجال أمام التعريف بنقاط التجديد في مدونة الأسرة بالخارج؛ بل وجعلها في متناول القضاء الأوربي؛ فإن اقتصار هذه الترجمة على اللغة الفرنسية قد لا يحل المشكل بالنسبة للأنظمة غير الناطقة بهذه اللغة والتي تحتضن نسبة لا يستهان بها من الجالية المغربية. لذلك نأمل أن يتجه عمل وزارة العدل في الخطوة المقبلة إلى ترجمة مدونة الأسرة على الأقل إلى بعض اللغات الأساسية الأخرى ؛وذلك حتى يتم سد المجال أمام القاضي الأجنبي المعروض عليه النزاع في التذرع بعدم معرفة مضمون قانون الأسرة المغربي كلما عرض عليه نزاع يظم طرفا مغربيا.
يضاف إلى هذه الصعوبة المتعلقة بالترجمة؛ صعوبة أخرى

أخرى مرتبطة باختلاف مفهوم الأحوال الشخصية في القانون المغربي عنه في الأنظمة الائكية؛ حيث أنه إذا كانت العقيدة الدينية تقوم بدور أساسي عندما يتعلق الأمر بمسائل الأحوال الشخصية بالنسبة للقانون المغربي، فإن القوانين الائكية على العكس من ذلك تقيم المؤسسات الأسرية على مبادئ الحرية والمساواة بين الجنسين ولا تعير اهتماما لاختلاف الديانة . وهو ما من شأنه أن يعقد من مهمة القاضي الأجنبي عند تحديده لمضمون القانون المغربي؛ وفي هذا الإطار ذهب أحد الأساتذة الهولنديين Buskens إلى القول: " أن الطابع الإسلامي للقانون الأسري المغربي صعب الفهم من طرف الفقهاء الهولنديين المكونين في ظل نظام رومانو جرماني: لذلك فإن القانون المغربي يكون تطبيقه نادرا من طرف القاضي الهولندي الذي يقوم بتطبيق قانونه" .
بقي أن نشير إلى أن اعتماد القضاء الأجنبي على بعض الوسائل في إثبات مضمون القانون المغربي للأحوال الشخصية كما هو الشأن بالنسبة للاجتهادات القضائية والشهادات العرفية قد يطرح العديد من الصعوبات.
فبالنسبة للاجتهادات القضائية، فزيادة على عدم نشر مختلف الاجتهادات القضائية الصادرة عن المجلس الأعلى حتى يتسنى للقاضي الأجنبي الإطلاع عليها؛ فإن ندرة الأحكام القضائية الصادرة خاصة في ظل مدونة الأسرة قد لا تسعف القاضي الأجنبي في استقصاء الموقف الحقيقي للمجلس الأعلى؛ حيث قد يجد نفسه أمام اجتهادات غير قارة، الأمر الذي قد يؤدي به إلى عدم الأخذ بها والتذرع من تم بصعوبة تحديد مضمون القانون المغربي . لذلك ولتجاوز هذا الإشكال يبقى الحل الأنجع كما ذهب إلى ذلك بعض الفقه يتمثل في استبعاد الاجتهادات القضائية من ضمن وسائل الإثبات والاعتماد على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالمساعدات القضائية ؛ والتي لا يمكن للقاضي الأجنبي التذرع بعدم معرفتها .
أما بالنسبة للشهادات العرفية؛ فإضافة إلى أنها قد لا تضمن العدالة والمساواة بين الأطراف على اعتبار أن محررها غالبا ما يحاول تأييد وجهة نظر طالب الشهادة ؛ فإنها تتطلب الكثير من المصاريف التي قد ترهق كاهل الطرف المغربي وتدفع به بالتالي إلى أن يفضل تطبيق القانون الأجنبي عليه، على أن يبحث عن مضمون القانون المغربي استنادا إلى هذه الوسيلة، لذلك واعتبارا لكون القاضي الأجنبي المعروض عليه النزاع غير مقيد بإتباع وسيلة معينة لإثبات مضمون القانون المغربي ، فإنه يجب على الأقل إلزامه بأن تكون وسيلة الإثبات المعتمدة من طرفه في إثبات مضمون هذا القانون سهلة ومجانية بالنسبة للأطراف وإلا تعرض حكمه للنقض .
 إذا ثبت ما سبق نتساءل عن الحل المتبع من طرف القاضي الأجنبي في حالة تعذر الكشف عن مضمون القانون المغربي للأحوال الشخصية؟.
لقد تعددت الاتجاهات الفقهية والقضائية في بحث هذا الموضوع ، لكن الاتجاه الغالب لدى الفقه والقضاء في معظم دول العالم يميل إلى القول بتطبيق قانون القاضي وذلك حملا على ما لهذا القانون من خاصية الاحتياطية بالنسبة للعلاقات الخاصة الدولية؛ بحيث يعود إليه القاضي المعروض عليه النزاع ويطبقه كلما تعذر عليه التعرف على أحكام القانون الواجب التطبيق بمقتضى قاعدة الإسناد .
ولا شك أن هذا الحل سيكون على حساب تطبيق القانون المغربي الذي عينته قاعدة التنازع فيما يخص الروابط الأسرية للجالية المغربية؛ بل وقد يتخذه القاضي الأجنبي كوسيلة لتحقيق نزعته الوطنية في الروابط العائلية المختلطة من خلال فرض قانونه الداخلي كلما تعذر عليه الكشف عن مضمون القانون المغربي .
لذلك ولسد المجال أمام القضاء الأجنبي في تحقيق هذه الغاية، ومن أجل ضمان التطبيق السليم للقانون المغربي للأحوال الشخصية على الروابط الأسرية للجالية المغربية بالمهجر؛ فإن الأمر يستدعي من جهة خلق جسور التواصل مع العالم الأوربي خصوصا من خلال القيام بدور إعلامي توضيحي لنقاط التجديد في المدونة بمختلف اللغات الأجنبية يستهدف القاضي الأوربي من جهة والجالية المغربية المقيمة بالخارج من جهة أخرى؛ ومن جهة ثانية توسيع نطاق التعاون في الميدان القضائي مع الدول المستقبلة للجالية المغربية، وعلى الخصوص تنظيم حلقات دراسية خاصة بقضاة البلدين وبتبادل منظم للمعلومات القانونية بين المغرب وهذه الدول؛ ولما لا خلق جمعيات تعنى بتقديم استشارات قانونية مجانية تكون في خدمة الجالية المغربية بالخارج. فبهذه الإجراءات وغيرها يمكن التخفيف من حدة الدفع بتعذر الكشف عن مضمون القانون المغربي.








المبحث الثاني: موقف المحاكم العليا الأجنبية من تطبيق قانون الأسرة المغربي.
إذا كان من المبادئ المسلم بها أن دور المحاكم العليا الأجنبية على اختلاف تسمياتها والأهداف المرسومة لها ينحصر في ضمان التطبيق والتفسير السليم للقانون الوطني من طرف محاكم الموضوع بكيفية تؤدي في نهاية المطاف إلى توحيد الاجتهادات القضائية على مستوى الدولة كلها؛ فهل يعتبر الأمر كذلك عندما يتعلق الأمر بتطبيق القانون المغربي للأحوال الشخصية على الروابط الأسرية للجالية المغربية؟.
إن التصدي لمعرفة موقف المحاكم العليا الأجنبية من تطبيق قانون الأسرة المغربي يقتضي التعرض أولا لموقف هذه المحاكم من بسط رقابتها على تطبيق قاعدة الإسناد باعتبارها كما سبق الذكر تشكل المنطلق والأساس في تطبيق هذا القانون من طرف القضاء الأجنبي – المطلب الأول-.
فإن أشارت هذه القاعدة إلى إسناد الاختصاص للقانون المغربي للأحوال الشخصية؛ فإن تطبيق هذا القانون من طرف القاضي المعروض عليه النزاع قد يطرح العديد من المشاكل المرتبطة بإساءة تفسيره أو الخطأ في تطبيقه؛ الأمر الذي يستدعي ثانيا التساؤل حول ما إذا كانت رقابة المحاكم العليا الأجنبية تمتد لتشمل الخطأ أو الإساءة في تطبيق القانون الشخصي المغربي أم لا- المطلب الثاني-.
المطلب الأول: الرقابة على إعمال قواعد الإسناد.
إن معرفة موقف المحاكم العليا الأجنبية من الرقابة على إعمال قواعد الإسناد يقتضي التساؤل عن طبيعة أو سلطة هذه القاعدة في القانون الدولي الخاص؛ هل هي من النظام العام؟ وبالتالي فإن القاضي المعروض عليه النزاع ملزم بإثارتها من تلقاء نفسه وتطبيق القانون الذي تشير باختصاصه وإلا خضع حكمه لرقابة محكمة النقض؛ أم أنها غير ذلك وبالتالي فإن عدم تطبيقها يفلت من رقابة المحكمة العليا.
لذلك ولتحديد الموقف المتخذ من طرف المحاكم العليا الأجنبية في التعامل مع هذا الموضوع: يجب التعرض أولا لطبيعة قاعدة التنازع – الفقرة الأولى-، ثم رصد مختلف الاتجاهات القضائية الأجنبية في تعاملها مع مسألة الرقابة على إعمال قواعد الإسناد – الفقرة الثانية-
الفقرة الأولى: طبيعة قاعدة التنازع.
إن الاختلاف حول تحديد القوة الإلزامية لقاعدة التنازع وكونها من النظام العام أم لا يرجع بالأساس إلى عدم وجود نص خاص في الأنظمة القانونية الأجنبية يحسم في المسألة إلا في حالات نادرة؛ بل وحتى في حالة وجود مثل هذا النص فإن عدم وضوح صياغته قد يجعل الأمر رهين بالتفسير المعطى له من طرف الفقه، فمثلا بالرغم من أن المادة 12 من القانون المدني الإسباني تنص في فقرتها السادسة على : " أن تطبق المحاكم والسلطات تلقائيا قواعد التنازع المنصوص عليها في القانون الإسباني"؛ فإن الفقهاء الإسبان اختلفوا في تفسير هذا النص نظرا لعدم وضوح صياغته، فعبارة تلقائيا لا تفيد الإلزام وأن قاعدة التنازع تعتبر من النظام العام؛ بل تفيد كما ذهب إلى ذلك بعض الفقه الإسباني يؤيده الإتجاه الغالب في القضاء بأن القاضي المعروض عليه النزاع وحده له الصلاحية للحسم في مدى إلزامية قاعدة التنازع من عدمه وذلك حسب درجة اقتناعه. ولا يخفى على أحد ما لهذا الموقف من انعكاس سلبي على تطبيق القانون المغربي للأحوال الشخصية على الروابط الأسرية للجالية المغربية، بل ولما قد يؤدي إليه من التحايل على قواعد الاختصاص المحلي بشتى الطرق؛ حيث يكفي لتحقيق ذلك من أن يقوم من له المصلحة في تطبيق قانون القاضي عليه من تغيير موطنه الظاهر ليذهب إلى المحكمة التي يعرف مسبقا أن أحكامها أكثر تحقيقا لأغراضه.
عموما وبغض النظر عن الانتقادات التي وجهت للاتجاهات الفقهية التي تنفي عن قاعدة التنازع قوتها الملزمة وكونها من النظام العام؛ ومتى سلمنا بأن قاعدة الإسناد أمر صادر من المشرع الوطني وأنها إذ تعقد الاختصاص لقانون معين تصدر في ذلك عن اعتبارات خاصة تتعلق بسياسة التشريع، فإنه لا يبقى هناك أي مجال للشك حول قوتها الملزمة؛ وفي هذا الإطار أصدر معهد القانون الدولي في دورته المنعقدة ب:
saint-jaques de compostelle توصية حث فيها الدول الأطراف على أن تفرض على سلطاتها المختصة حسب قواعدها العامة الإجرائية مسألة تطبيق قاعدة الإسناد تلقائيا مؤكدة على عنصرها الإلزامي وذلك سواء تعلق الأمر باختصاص القانون الداخلي أو القانون الأجنبي .
فطبقا لهذه التوصية يمكن القول بأن الدول أصبحت ملزمة بالتصريح في صلب قواعدها الداخلية على الصفة الإلزامية لقاعدة الإسناد، لكن إذا كان الأمر كذلك فما هو الأساس الذي يمكن الاستناد إليه لتحقيق ذلك ؟
لقد اختلف الفقه في الإجابة عن هذا التساؤل، فبينما ذهب فريق من الفقه إلى القول بأن القوة الملزمة لقاعدة الإسناد تستمد أساسها من وظيفة قاعدة التنازع ذاتها بوصفها قاعدة تتكفل بحسم التنازع بين السيادات وإذا لم يقم القاضي لزوما بتطبيقها فإنه يكون قد انتهك سيادة الدولة التي أصدرت هذه القاعدة وكذا سيادة الدولة الأخرى ، يميل جانب آخر من الفقه وعلى رأسهم الفقيه الفرنسيMotulsky إلى القول بوجوب تطبيق قاعدة الإسناد تلقائيا ليس لأنها تتعلق بالنظام العام فحسب ولكن لأنها من صميم القانون ؛ ونؤيد هذا الرأي على اعتبار أن تطبيق القاضي لقاعدة الإسناد يعد تطبيقا لجزء لا يتجزأ من قانونه الوطني لذلك يجب أن يخضع لرقابة هيئة النقض، بحيث إذا أخطأ القاضي المعروض عليه النزاع في تحديد مضمون الفكرة المسندة، أو في تفسير ظرف الإسناد؛ أو في تحديد القانون المختص، أو تحديد نطاقه، بأن قبل الإحالة في الوقت الذي يتعين عليه فيه رفضها، أو استخدم ظرف إسناد غير الذي تضمنته قاعدة الإسناد، ففي جميع هاته الحالات التي يخطئ فيها القاضي في تطبيق قاعدة الإسناد يجب أن يخضع لرقابة المحكمة العليا، فبهذه الطريقة فقط يمكن ضمان التطبيق السليم لقاعدة التنازع؛ ومن تم تطبيق القانون الذي تشير باختصاصه والذي قد يتمثل في القانون المغربي للأحوال الشخصية استنادا لضابط الجنسية.
فهل فعلا الأمر كذلك؟ أم أن الأمر يظل مجرد متمنيات لا تجد سبيلا لها في التطبيق العملي؟.
الفقرة الثانية: التطبيق القضائي لقاعدة التنازع.
بالنسبة للقضاء الفرنسي يمكن القول بأن محكمة النقض الفرنسية لم تستقر على موقف موحد فيما يتعلق بالرقابة على إعمال قواعد الإسناد حيث عرف قضاؤها تطورا مهما منذ مطلع القرن 19 إلى الآن ؛ فبعد أن كانت تعتبر أن قاعدة التنازع الفرنسية لا تتعلق بالنظام العام على الأقل حين تشير باختصاص قانون أجنبي ، فإنه أمام حدة الانتقادات التي كانت توجه لها من طرف غالبية الفقه الحديث الذي يؤكد على الطبيعة الإلزامية لقاعدة الإسناد تراجعت محكمة النقض الفرنسية عن موقفها السابق ؛ بحيث أصبحت تفرض رقابتها على كل طعن في تطبيق قاعدة الإسناد الفرنسية التي نوقشت أمام محكمة الموضوع فكل حكم يسيء تطبيقها يجب نقضه وذلك باعتبارها قاعدة من قواعد القانون الفرنسي .
وعليه فإن الموقف الحالي للاجتهاد القضائي الفرنسي يميل إلى التأكيد على الصفة الإلزامية لقاعدة الإسناد وكونها من النظام العام؛ واعتبارها كذلك معناه أن القاضي الفرنسي ملزم فيما يخص الأحوال الشخصية للجالية المغربية المقيمة بفرنسا بأن يثير من تلقاء نفسه تطبيق هذه القاعدة التي قد تسند الاختصاص للقانون المغربي للأحوال الشخصية فيما يخص الروابط الأسرية للجالية المغربية وإلا تعرض حكمه للنقض؛ وفي هذا الإطار صدر عن محكمة النقض الفرنسية في الفترة الأخيرة العديد من القرارات التي تنعي فيها على قضاة الموضوع عدم تطبيقهم التلقائي للقانون المغربي المختص بمقتضى قاعدة الإسناد الفرنسية بعلة عدم إثارة الأطراف لقاعدة التنازع أمام القاضي المعروض عليه النزاع كما هو الشأن بالنسبة للقرار الصادر بتاريخ 1 يوليوز 1997 ، وكذا القرار الصادر بتاريخ 15 نونبر 1996 والذي نقض القرار الصادر عن محكمة الاستئناف لعدم تطبيقها تلقائيا للقانون المغربي المختص ورجوعها للقانون الفرنسي لمجرد أن الأطراف لم يطلبوا ذلك .
فمن خلال هذين القرارين يتضح أن محكمة النقض الفرنسية اقتنعت بالطابع الإلزامي لقاعدة الإسناد واعتبارها كجميع القواعد الداخلية التي يلزم القاضي بتطبيقها تلقائيا بالرغم من أنها تحيل على قانون أجنبي، وهي مسالة إيجابية من شأنها أن تضمن التطبيق السليم لقانون الأسرة المغربي المعين بمقتضى قاعدة التنازع الفرنسية على اعتبار أن إعطاء الحرية للأفراد في إثارة قاعدة الإسناد أمام قاضي الموضوع من شأنه أن يؤدي إلى إفراغ قواعد الإسناد من محتواها ومن الهدف الذي شرعت من أجله، إذ يكفيهم في هذه الحالة عدم إثارة قاعدة التنازع أمام قاضي الموضوع ليتم تطبيق قانون القاضي عليهم.
ولم يقتصر الأمر على محكمة النقض، بل إن محكمة الاستئناف الفرنسية وخاصة استئنافية باريس قد أصدرت العديد من القرارات بعد دخول مدونة الأسرة حيز التطبيق والتي طبقت من خلالها القانون المغربي المختص تلقائيا، ومن ذلك القرار الصادر بتاريخ 29 يناير 2004 والذي جاء فيه: " أنه على الرغم من أن الزوجين المغربيين قد تجنسا بالجنسية الفرنسية بعد تقديمهم طلب الطلاق، فإنه طبقا لقواعد الإسناد المضمنة في الاتفاقية المغربية الفرنسية فإن القانون المختص لحكم طلاقهم هو القانون المغربي مادام أنهما كانا وقت تقديم طلب الطلاق يحملان الجنسية المغربية فقط".
فمن خلال هذا القرار يتضح أن محكمة الاستئناف قد طبقت تلقائيا القانون المغربي المختص ودون أن يطلب الأطراف ذلك، بل إن استئنافية باريس ذهبت في قرار لها بتاريخ 12 فبراير 2004 إلى رفض طلب الزوجة الرامي إلى الحصول على تعويض طبقا للقانون الفرنسي مؤكدة على أن القانون المختص طبقا لقواعد الإسناد هو القانون المغربي، وما دام أن هذا الأخير أصبح يتضمن مقتضى مماثل للمادة 266 من القانون المدني الفرنسي بإقراره للتعويض عن الطلاق التعسفي فإنه يكون هو الواجب التطبيق .
عموما وإذا كان موقف القضاء الفرنسي لم يبرز بشكل جلي إلا في السنين الأخيرة، فإن القضاء الألماني على العكس من ذلك كان سباقا في التأكيد على الصفة الإلزامية لقاعدة الإسناد، حيث استقر موقفه ومنذ أمد بعيد على إلزام القاضي المعروض عليه النزاع بإعمال قاعدة التنازع من تلقاء نفسه، بل ولا يجوز له التخلص من هذا الالتزام حتى ولو كان الحل النهائي للنزاع الذي سيؤدي إليه تطبيق القانون الوطني مطابقا للحل الذي سيؤدي إليه تطبيق القانون الأجنبي المختص وفقا لقاعدة الإسناد .
أما بالنسبة للقضاء الهولندي وعلى الرغم من عدم استقرار موقف محكمة النقض الهولندية على رأي موحد بخصوص الرقابة على إعمال قواعد الإسناد، فإن الاتجاه العام السائد لدى هذا القضاء يسير في اتجاه عدم إلزام القاضي الهولندي فيما يتعلق بالأحوال الشخصية للجالية المغربية بهولندا بإثارة القاعدة التي تسند الاختصاص للقانون المغربي من تلقاء نفسه ، لذلك تكون لمحكمة الموضوع التي تختص بالنظر في النزاع المتعلق بالأحوال الشخصية للجالية المغربية القاطنة بهولندا حسب هذا القضاء سلطة تقديرية واسعة في عدم التمسك بتطبيق هذا القانون ورجوعها إلى القانون الهولندي الداخلي لتنظيم الأحوال الشخصية لهذه الجالية وهو ما يمكن اعتباره مخالفا لقاعدة الإسناد الهولندية التي عينت هذا القانون وبالتالي تجاهلا للقوة الملزمة لقواعد القانون الداخلي الهولندي .
لذلك نأمل أن يتغير موقف القضاء الهولندي في تعامله مع قاعدة الإسناد من خلال التأكيد على قوتها الملزمة وإخضاعها بالتالي لرقابة محكمة النقض حتى تساير بذلك مختلف الاتجاهات القضائية التي سبقت الإشارة إليها خصوصا وان المبررات التي يستند إليها هذا القضاء في تبرير موقفه بعدم إخضاع إعمال قواعد الإسناد للرقابة
– اعتبار القانون الأجنبي بمثابة واقع – لا تستند إلى أساس سليم.
إذ ثبت ذلك واعتبارا لكون أن الرقابة على إعمال قواعد الإسناد قد لا تجدي نفعا إذا لم تقترن بالتحقق من صحة تطبيق القانون الذي تشير هذه القواعد باختصاصه، فإن التساؤل يطرح حيال السلطة التي تتمتع بها المحاكم العليا الأجنبية في الرقابة على ضمان التطبيق السليم للقانون المغربي، ومن تم تكريس احترام تطبيق القانون الشخصي في مجال الأحوال الشخصية للجالية المغربية؟
المطلب الثاني : الرقابة على تطبيق قانون الأسرة المغربي.
نفترض الآن أن قاعدة الإسناد قد أعملت، أعملها القاضي الأجنبي من تلقاء نفسه أو بناءا على طلب من الخصوم حسب ما يؤخذ به من رأي، وأن الاختصاص بموجب هذه القاعدة قد ثبت للقانون المغربي للأحوال الشخصية، غير أنه إذا حدث وأخطأ القاضي المعروض عليه النزاع في تطبيق هذا القانون أو في تفسير أحكامه، فهل يخضع خطأه هذا لرقابة محكمة النقض، وهل بإمكان الطرف المغربي اللجوء إلى المحاكم العليا الأجنبية لحل مثل هذا المشكل؛ وبالتالي ضمان التطبيق السليم للقانون المغربي أم لا؟
إن الجواب عن هذا التساؤل يعد من المشاكل الحساسة التي تشغل بال فقه القانون الدولي الخاص، بل والقضاء الأجنبي منذ أمد طويل؛ بحيث انقسمت الاتجاهات الفقهية والقضائية في حل هذه المسألة إلى اتجاهين أساسين، اتجاه يرفض مبدأ الرقابة – الفقرة الأولى- واتجاه يميل على العكس من ذلك إلى التأكيد على إخضاع الخطأ في تفسير القانون الأجنبي، وفي موضوعنا قانون الأسرة المغربي لرقابة المحكمة العليا – الفقرة الثانية -.
الفقرة الأولى: الاتجاه الرافض لمبدأ الرقابة.
يجري القضاء ومعه جانب من الفقه في معظم الدول الأجنبية المستقبلة للجالية المغربية إلى القول بأن الخطأ في تطبيق القانون الأجنبي لا يخضع لرقابة المحكمة العليا؛ ومن أهم هذه الأنظمة القضائية المكرسة لمبدأ انعدام الرقابة نذكر موقف القضاء في كل من فرنسا وإسبانيا وهولندا.
فبالنسبة للقضاء الهولندي فيمكن القول بأنه ابتداءا من التعديل الذي أدخل على قانون المسطرة المدنية الهولندي بمقتضى الفصل 99 من هذا الأخير ، وبصفة خاصة ابتداءا من سنة 1963 تغير موقف محكمة الفقض الهولندية في تعاملها مع مسألة الرقابة على القوانين الشخصية الأجنبية حيث تم التنصيص صراحة على استثناء هذه القوانين من ضمن الأسباب الموجبة للنقض وتم الاقتصار على الحالة التي يتم فيها خرق القانون الداخلي الهولندي ، مما يعني أن خرق أو إساءة تفسير القانون الأجنبي للأحوال الشخصية من طرف محاكم الموضوع ومنه القانون المغربي فيما يخص الروابط الأسرية للجالية المغربية لم يعد يخضع لرقابة محكمة النقض الهولندية وهو ما من شأنه أن يشكل مسا خطيرا بحق الطرف المغربي في أن يطبق عليه قانونه الشخصي تطبيقا سليما، فما فائدة أن تشير قاعدة الإسناد إلى تطبيق قانون الأسرة المغربي في الوقت الذي يكون فيه القاضي حر في كيفية تطبيق هذا القانون دون أن يخضع لرقابة أية جهة؛ لاشك أن القاضي الأجنبي سيعمل على الانتصار لنزعته الوطنية من خلال فرض قانونه ما أمكن على العلاقات الخاصة الدولية .
ونفس الشيء نسجه بالنسبة للقضاء الإسباني، حيث أنه وبعد أن كان هذا القضاء يخضع الخطأ في تفسير القانون المغربي للأحوال الشخصية لرقابة المحكمة العليا تارة بالاستناد إلى الخطأ في تقدير وسيلة الإثبات ؛ وتارة استنادا إلى خرق قواعد النظام القانوني أو الاجتهاد القضائي ؛ بل وأحيانا استنادا إلى التطبيق المعيب لهذا القانون مع ما يعنيه ذلك من احتفاظ القانون المغربي بصفته كقانون أمام القضاء الإسباني، فإنه وابتداءا من تاريخ 30 أبريل 1992 عرف الفصل 1692 من قانون المسطرة المدنية الإسباني تعديلا مهما حيث أصبحت الفقرة الثالثة من هذا الفصل تحصر إمكانية اللجوء إلى طلب النقض فقط في حالة رفض قاضي الموضوع الأخذ بوسائل إثبات القانون الأجنبي التي يقدمها الأطراف أو في حالة عدم إعطاء الأطراف فرصة الدفاع إذا كان الأمر يتعلق بمناقشة مضمون القانون الأجنبي . مما يعني بمفهوم المخالفة أنه في حالة تصدي القاضي الإسباني للبحث في مضمون القانون المغربي للأحوال الشخصية والقانون الأجنبي عامة، فإنه لا يخضع لرقابة المحكمة العليا الإسبانية حتى ولو أساء تفسيره طالما أن هذا الفصل حصر الرقابة على الحالة التي يتم فيها رفض الأخذ بوسائل الإثبات المقدمة من طرف الأطراف لا غير.
أما بالنسبة للقضاء الفرنسي فيمكن القول بأن محكمة النقض الفرنسية وعلى الرغم من أن قضاءها قد استقر كما سبق الذكر على بسط رقابتها على الأحكام التي لم تطبق القانون الذي تشير إليه قواعد التنازع الوطنية، فإنها على العكس من ذلك ذهبت إلى رفض قبول الطعون المبنية على إساءة تفسير القانون الذي أشارت باختصاصه هذه القواعد، فطالما طبقت محاكم الموضوع القانون المغربي المختص فقد أنهت واجبها الذي تفرضه عليها قاعدة التنازع الوطنية، ومن تم لا تقوم الرقابة على تفسير هذا القانون.
وقد بررت محكمة النقض موقفها هذا تارة بكون القانون المغربي للأحوال الشخصية والقانون الأجنبي عامة يعتبر بمثابة واقع، والواقع لا يخضع لرقابتها باعتبارها محكمة قانون وليس محكمة واقع ، وتارة أخرى بالاستناد إلى كون أن تصديها لتفسير القانون المغربي من شأنه أن يدفع بها إلى الوقوع في تعارض مع أحكام المجلس الأعلى المغربي بحيث قد تستقر مثلا على تفسير معين يختلف عن التفسير السائد في المغرب .
غير أن هذا التبرير أغفل أنه عندما يتعلق الأمر بقانون الأسرة المغربي، فإن محكمة النقض الفرنسية عند تفسيره يتعين عليها أن تتقيد بالحلول القضائية المستقرة بالمغرب؛ بخلاف ما لو تعلق الأمر بتفسير قانونها الوطني فإنها لا تتقيد بالتفسير الأجنبي وإنما هي التي تنشأه باعتبارها المصدر الأعلى للتفسير القضائي، الأمر الذي يمكن القول معه بأنه ليس هناك أي تعارض بين التفسيرين، فلو تم الطعن مثلا في حكم محكمة الموضوع الفرنسية على أساس إساءة تفسيرها للقانون المغربي للأحوال الشخصية رغم اتفاق هذا التفسير مع ما يذهب إليه اجتهاد القضاء المغربي، فإنه لا يمكن لأحد إلزام محكمة النقض بنقض هذا الحكم استنادا إلى تفسيرها الخاص للقانون المغربي طالما أن هذا التفسير الذي ذهبت إليه محكمة الموضوع لا يختلف عن التفسير المعطى له من طرف المجلس الأعلى.
أما عن القول بأن تعرض محكمة النقض للرقابة على تفسير القوانين الشخصية الأجنبية ومنها القانون المغربي يقتضي تصديها للبحث عن مضمونها؛ الأمر الذي ينتهي بها إلى التعرض للبحث عن واقعة تخرج عن اختصاصها، فهو منتقد أيضا على أساس أن البحث عن مضمون قانون الأسرة المغربي ورغم ما قد يعترضه من صعاب فلم يضف أحد على هذا البحث الصفة الواقعية، بل إن البحث عن مضمون العرف قد لا يقل صعوبة عن التصدي لأحكام القانون المغربي، ومع ذلك لم تتردد محكمة النقض الفرنسية في بسط رقابتها على تفسير القواعد العرفية .
ولعل هاته الانتقادات وغيرها هي التي دفعت بمحكمة النقض الفرنسية إلى التلطيف من موقفها السابق من خلال ابتكارها لتقنيتي الرقابة على المسخ ، والرقابة على تسبيب الحكم كطريقة غير مباشرة للرقابة على تفسير القوانين الأجنبية .
عموما وبقدر أهمية هذه الخطوة التي أقدمت عليها محكمة النقض الفرنسية، فإنها مع ذلك تبقى غير كافية من أجل ضمان التطبيق السليم لقانون الأسرة المغربي من طرف محاكم الموضوع، إذ بالإضافة إلى صعوبة التفرقة بين المسخ وسوء التفسير، فإن دور محكمة النقض ينحصر فقط في مراقبة مدى التزام قاضي الموضوع بالمعنى الدقيق والواضع للنص المقدم له كوسيلة لإثبات القانون المغربي، بل وحتى في حالة خروج محكمة الموضوع عن هذا المعنى الظاهر للنص يكفيها لكي تفلت من رقابة المحكمة العليا أن تبحث عن المبررات الكافية التي حفزتها لذلك؛ وفي هذا ما يحمل محاكم الموضوع الفرنسية على أن تحرص دائما على تبرير موقفها بشكل مقنع حتى تفلت من الرقابة كلما أرادت تشويه مضمون قانون الأسرة المغربي.
لذلك ومهما يكن من أمر التخوف على سمعة وهيبة محكمة النقض، وبالرغم من الصعوبات والمخاطر العملية التي يمكن أن تصاحب هذه الرقابة، فإن محكمة النقض الفرنسية وغيرها من الأنظمة القضائية الرافضة لمبدأ الرقابة مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى التفكير في إعادة النظر في مواقفها السابقة على الأقل عندما يتعلق الأمر بموضوع الأحوال الشخصية التي تشكل خزانا مهما للهوية والذي لا يمكن لأي طرف أن يقبل التنازل عن حقه في أن يطبق عليه قانونه الشخصي تطبيقا سليما، وهو الأمر الذي تنبهت إليه بعض الأنظمة القضائية الأخرى كما سيتضح في الفقرة الموالية.
الفقرة الثانية: الاتجاه الأخذ بمبدأ الرقابة.
على النقيض من كل ما تقدم، أي عكس الأنظمة التي ترفض تعرض المحاكم العليا لبسط رقابتها على خطأ قاضي الموضوع في تفسير وتطبيق القانون المغربي للأحوال الشخصية؛ جرى عمل القضاء والفقه في بعض البلدان الأوربية الأخرى على الأخذ بمبدأ الرقابة على تطبيق أحكام قانون الأسرة المغربي.
ومن هذه الأنظمة القضائية الآخذة بمبدأ الرقابة نذكر القضاء الألماني والبلجيكي والإيطالي.
فبالنسبة للقضاء الألماني، فقد استقر موقف المحكمة العليا مؤخرا على قبول الطعون في أحكام محاكم العمل الألمانية التي أخطأت في تطبيق القانون المغربي للأحوال الشخصية والقانون الأجنبي عامة، أو فسرته تفسيرا معيبا، وذلك استنادا على المادة 73 من القانون الخاص بهذه المحاكم والتي تنص على إمكانية مراجعة الحكم إذا تضمن مخالفة للقانون بشكل عام دون تحديد المقصود بهذا القانون، هل هو القانون الوطني الألماني، أم القانون الوطني والقانون الأجنبي معا ؟
مما يعني أن القاضي الألماني ملزم فيما يخص الأحوال الشخصية للجالية المغربية المقيمة في هذا البلد تطبيق قانون الأسرة المغربي بشكل سليم وإلا تعرض حكمه للنقض من طرف المحكمة العليا الألمانية، وهي مسألة إيجابية نسجلها لهذا القضاء على اعتبار أن هذا الموقف من شأنه أن يحقق الانسجام بين مسالة إلزام قاضي الموضوع الألماني بتطبيق القانون الشخصي المغربي والبحث عن مضمونه من تلقاء نفسه ومسالة الرقابة على التفسير المعطى لهذا القانون من طرفه.
وجدير ذكره أن هذا الموقف المتخذ من طرف القضاء الألماني جاء نتيجة لحدة الانتقادات التي وجهها الفقه الألماني للمادة 549 من قانون المرافعات الحالي والتي تذهب صراحة إلى منع المحكمة العليا من بسط رقابتها على الخطأ في تحديد مضمون القانون الشخصي الأجنبي أو تفسيره، الأمر الذي يدفع بنا إلى القول أن القضاء الألماني يكرس مبدأ الرقابة على تطبيق القانون الشخصي الأجنبي ومنه بطبيعة الحال القانون المغربي رغم المنع القانوني ، فهل الأمر كذلك بالنسبة لكل من القضاء البلجيكي والإيطالي؟
بالنسبة للقضاء البلجيكي نشير إلى أن المحكمة العليا البلجيكية وبعد أن ظلت لمدة طويلة ترفض مراقبة تفسير القانون الشخصي المغربي وتعتبر أنها أسست من أجل الحفاظ على وحدة تفسير قانونها الوطني، فإنه في الفترة الأخيرة عرف الاجتهاد القضائي البلجيكي تحولا كبيرا نحو تكريس الرقابة على تطبيق وتفسير قانون الأسرة المغربي والقوانين الأجنبية عامة مبررة موقفها بأن التمييز بين الرقابة على تطبيق قاعدة الإسناد والرقابة على تأويل وتطبيق القانون الأجنبي الذي عينته هذه القاعدة يعد من الأمور المصطنعة التي لا تستند إلى أساس سليم ، فمادام أن المحكمة العليا البلجيكية قد خولت لنفسها حق الرقابة على إعمال قواعد الإسناد ونقض الأحكام التي لم تطبق القوانين الأجنبية المختصة بموجب هذه القواعد، فيجب عليها بالمثل أن تتدخل بالرقابة على تفسير هذه القوانين.
أما بالنسبة للقضاء الإيطالي فقد جرى قضاء محكمة النقض الإيطالية على التسوية ما بين القانون الأجنبي ومنه قانون الأسرة المغربي والقانون الإيطالي من حيث خضوع الخطأ فيهما لرقابتها، حيث أنه بالرغم من أن قانون المرافعات الإيطالي لم ينص صراحة على إخضاع القوانين الشخصية الأجنبية لرقابة محكمة النقض وإنما اكتفت بالإشارة إلى أنه لا يجوز الطعن بالنقض إلا بناءا على مخالفة القانون وتطبيقه غير الصحيح، فقد ذهب القضاء الإيطالي يؤيده جانب كبير من الفقه إلى تفسير مصطلح قانون الوارد ضمن أسباب النقض بأنه يشمل بالإضافة إلى القانون الوطني الإيطالي القوانين الشخصية الأجنبية التي يوجب القانون الإيطالي تطبيقها بمقتضى قاعدة التنازع الإيطالية .
مما سبق نخلص إلى أن المحاكم العليا الأجنبية لم تستقر على موقف موحد بخصوص الرقابة على تطبيق وتفسير القانون المغربي للأحوال الشخصية، فبينما تميل بعض المحاكم العليا إلى الأخذ بمبدأ الرقابة بالرغم من وجود نص صريح في القانون يمنعها من ذلك – المحكمة العليا الألمانية –، يذهب البعض الآخر من المحاكم العليا إلى رفض مبدأ الرقابة، ولعل ذلك راجع بالدرجة الأولى للسلطة التقديرية الواسعة التي تتمتع بها هذه المحاكم كجهاز أعلى في الدولة.
الأمر الذي من شأنه أن يجعل التطبيق السليم للقانون الوطني المنظم للروابط العائلية للجالية المغربية رهين بالموقف المتخذ من طرف هذه المحاكم؛ فهل يمكن للمستجدات التي جاءت بها مدونة الأسرة أن تغير من النظرة السلبية للقضاء الأجنبي اتجاه القانون المغربي؟
للإجابة على ذلك لابد من معرفة أهمية هاته المستجدات والدور الذي يمكن أن تقوم به في تعزيز القدرة التنافسية للقانون المغربي أمام القضاء الأوربي.


الفصل الثاني: دور مدونة الأسرة في تقوية تنافسية القانون المغربي للأحوال الشخصية أمام القضاء الأوربي.

أمام المشاكل والصعوبات التي تطرح للجالية المغربية بالخارج – بأوربا خاصة – على مستوى أحوالها الشخصية، وذلك نتيجة لعجز الحلول التقليدية المقررة على مستوى الروابط الدولية الخاصة في تحقيق التنسيق والانسجام ما بين النظام القانوني المغربي المرتكز على المرجعية الدينية العقائدية، والنظام القانوني للدول المستقبلة للجالية المغربية الذي يجعل من عهود ومواثيق حقوق الإنسان المرتكز والأساس في صياغة القوانين المنظمة للروابط الأسرية.
ورغبة من المشرع المغربي في الحفاظ على الهوية والخصوصية الوطنية من خلال إخضاع الجالية المغربية لقانونها الوطني، ومن تم تعزيز القدرة التنافسية لقانون الأسرة المغربي أمام القضاء الأوربي، اتجه المقنن المغربي إلى اعتماد تقنية جديدة تمثلت في إدخال تعديلات جوهرية على القانون المنظم للأحوال الشخصية.
هذا القانون الذي حاول من خلاله المشرع المغربي معالجة مختلف الإشكالات التي كانت تطرحها مدونة الأحوال الشخصية السابقة في علاقتها بالجالية المغربية سواء على مستوى إنشاء الرابطة الأسرية – المبحث الأول –
أو على مستوى انحلال العلاقة الزوجية وتنفيذ الأحكام الأجنبية – المبحث الثاني – فهل فعلا وفق المشرع المغربي في ذلك؟ أم أن الأمر يحتاج إلى بذل جهد أكبر؟






المبحث الأول: على مستوى إنشاء الرابطة الأسرية.
إن مدونة الأسرة كما أعلن عن خطواتها العريضة صاحب الجلالة الملك محمد السادس أمام البرلمان جاءت بالدرجة الأولى لرد الاعتبار لأوضاع الجالية المغربية بالخارج والتي لم تكن النصوص المعمول بها في مدونة الأحوال الشخصية تتلاءم مع أوضاعها ولا تراعي خصوصيات البلدان المستقبلة لها ، ويتجلى ذلك بصفة أساسية في تيسير وتبسيط مساطر إبرام عقود زواجهم بالخارج – المطلب الأول-
ثم التنصيص في صلب القواعد المنظمة للروابط الأسرية الشخصية أو المالية على مبدأي الحرية والمساواة التي أضحت تشكل المرجعية المتبناة في صياغة القوانين الأسرية الغربية – المطلب الثاني –
فما مدى قدرة هذه الإصلاحات في تجاوز الإشكالات القانونية والاجتماعية التي كانت تطرح في ظل القانون المعدل؟.
المطلب الأول: تبسيط مسطرة إبرام عقود زواج المغاربة بالخارج.
نظرا لما كان يعترض الجالية المغربية عند رجوعها إلى أرض الوطن فيما يخص زواجها المبرم أمام ضابط الحالة المدنية والذي لا يمكن أن يرتب أي أثر في المغرب مما يضطر معه هؤلاء المغاربة إلى إعادة إبرام عقد زواج ثاني أمام العدلين انطلاقا من كون قانون الأحوال الشخصية المغربي – السابق – لا يعترف بتلك العقود .
عمل مشرع مدونة الأسرة في محاولة منه لإعطاء فرص أكبر للقانون المغربي
– وخاصة فيما يتعلق بالشروط الجوهرية للزواج – للتطبيق والاحترام من طرف الجالية المغربية على السماح لهم بإبرام زواجهم طبق للإجراءات الإدارية المحلية لبلد إقامتهم وفقا لشروط وشكليات معينة نصت عليها مدونة الأسرة – الفقرة الأولى -.
غير أن تطبيق هذا المقتضى بالصورة التي جاء بها في المدونة قد يثير العديد من الإشكالات على مستوى الروابط الأسرية للجالية المغربية – الفقرة الثانية-
الفقرة الأولى: إخضاع شكل إبرام عقد زواج المغاربة بالخارج لقانون محل إقامتهم.
بخلاف مدونة الأحوال الشخصية ، تضمنت مدونة الأسرة تعديلا مهما يتعلق بشكل إبرام عقود زواج المغاربة المتواجدين بالخارج حيث ضمن لهم المشرع إمكانية إبرام عقود زواجهم بطريقة تحترم أحوالهم الشخصية وتحضى في نفس الوقت بالاعتراف في بلد إقامتهم . ويتمثل هذا التعديل في إعطاء الإمكانية للمغاربة المقيمين بالخارج في أن يبرموا عقود زواجهم وفقا للإجراءات الإدارية المحلية المعمول بها في دولة إقامتهم إذا توفر الإيجاب، والقبول، والأهلية ، والولي عند الاقتضاء ، وانتفت الموانع، ولم ينص على إسقاط الصداق، وحضره شاهدان مسلمان مع مراعاة أحكام المادة 21 من مدونة الأسرة والمتضمنة بدورها لعدة شروط وقيود تنضاف لما نصت عليه المادة 14 .
فمن خلال استقراء هذه الشروط الواردة أعلاه، يتضح أنها لا تختلف كثيرا أو جوهريا عن الشروط المتعلقة بإبرام عقد الزواج داخل المغرب مما يستفاد منه أن عقد زواج المغاربة بالخارج أصبح يجمع في نفس الوقت بين احترام القواعد الجوهرية حسب القانون المغربي، وبين الشكل المدني المعمول به في أغلب الدول المستقبلة للجالية المغربية . وهو ما يوضح تبني المشرع المغربي لأحد المبادئ الأساسية المعمول بها في القانون الدولي الخاص المقارن، ويتعلق الأمر أساسا بإخضاع العقد القانوني من حيث الشكل للمقتضيات المعمول بها في المكان الذي صيغ فيه وهي القاعدة التي تبنتها اتفاقية لاهاي حول إبرام عقد الزواج والاعتراف بصحته في مادتها الثانية .
ولا شك أن الزواج بهذا المفهوم ستكون له أثار جد مهمة على مستوى الروابط الأسرية للجالية المغربية، فإضافة إلى أنه سيساهم في لم شتات النصوص التشريعية والتنظيمية المتصلة بالزواج المختلط وبالتالي تسوية وضعية الجالية المغربية المتواجدة خارج أرض الوطن بغض النظر عن الدولة المقيمة بها ، فإنه سيساعد في تغيير موقف القضاء المغربي من الزواج المبرم أمام ضابط الحالة المدنية؛ حيث أنه وبعد أن كان هذا القضاء يقضي ببطلان مثل هذا الزواج ، فإنه بعد تعديل المدونة لم يعد للقضاء المغربي أي مبرر في اتخاذ مثل هذا الموقف وهو ما يمكن التدليل عليه من خلال الحكم الصادر عن قسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية بفاس بتاريخ 18 غشت 2005 والذي قضى بتذييل عقد الزواج المدني المبرم بين مغربيين ببلدية أوريكي بإسبانيا بالصيغة التنفيذية .
نفس الشيء يمكن قوله عن القرارات والأحكام القضائية التي ورد أو لم يرد ذكر الصداق فيها؛ والتي كان القضاء الأوربي في الحالة الأولى والمغربي في الحالة الثانية يتشدد في منحها الصيغة التنفيذية؛ وخير مثال على ذلك الحكم الصادر عن ابتدائية أبركان بتاريخ 02 – 11 – 1999 الذي رفض منح الصيغة التنفيذية لحكم صادر عن ابتدائية بروكسيل نظرا لتخلف شرط صحة عقد الزواج المتمثل في غياب الصداق.
أما بالنسبة للقضاء الأوربي فإنه كان يعتمد في إبطال عقد الزواج الذي يتضمن تسمية المهر اعتبار ذلك امتهانا لكرامة المرأة ، وأن الصداق يمثل مقابل شراء المرأة ؛ وفي هذا الإطار يقول أحد فقهاء القانون: " وأما الصداق الذي يقدمه الزوج فهو مؤسسة تهم أحيانا مجتمع شمال البحر المتوسط" .
أما الأن وبعد تأكيد مدونة الأسرة على أنه يكفي ليكون زواج المغاربة المقيمين بالخارج صحيحا عدم الاتفاق على إسقاط الصداق ، فإنه لم يعد للقضاء المغربي أو الأوربي أي مبرر في رفض منح الصيغة التنفيذية للأحكام القضائية الصادرة عن قضاء إحدى الدولتين سواء تضمنت وثيقة عقد الزواج تسمية مهر أو صداق للزوجة أو لم تتضمنه، وهي مسألة إيجابية من شأنها تعزيز القدرة التنافسية للقانون المغربي لحكم الأحوال الشخصية للجالية المغربية وبالتالي إعطاءه فرص أكبر لأن يتم تطبيقه من طرف القضاء الأوربي.
بل إن مدونة الأسرة وإيمانا منها بأهمية التوفيق بين القانون المغربي وقانون ديار المهجر فيما يخص توثيق عقد الزواج وحتى يكتسب هذا العقد المبرم بالخارج قوته القانونية بالمغرب نصت على مجموعة من الإجراءات الإدارية الاحقة على إبرام عقد الزواج أمام ضابط الحالة المدنية، فما هي إذن هذه الإجراءات والأجهزة الإدارية المكلفة بضبط العلاقات الزوجية للمغاربة بالمهجر؟.
بالرجوع إلى المادة 15 من مدونة الأسرة نجدها تنص على انه:" يجب على المغاربة الذين أبرموا عقود زواجهم طبقا للقانون المحلي لبلد إقامتهم أن يودعوا نسخة منه داخل أجل ثلاثة أشهر من تاريخ إبرامه بالمصالح القنصلية المغربية التابع لها محل إبرامه... الخ.
غير أنه ونظرا لأن هذه المصالح لا يمكنها أن تغطي كل المناطق التي يمكن أن يتواجد بها المواطنون المغاربة، فقد تدارك المشرع ذلك وعاد لينص في نفس المادة على أنه في حالة عدم وجود المصالح القنصلية المغربية في المكان الذي أبرم فيه عقد الزواج، ترسل نسخة من عقد الزواج داخل نفس الأجل إلى الوزارة المكلفة بالشؤون الخارجية والتي تتولى بدورها إرسال النسخة المذكورة إلى ضابط الحالة المدنية وإلى قسم قضاء الأسرة لمحل ولادة كل من الزوجين، أو إلى قسم قضاء الأسرة بالرباط وإلى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالرباط وذلك في الحالة التي لا يكون فيها للزوجين أو لأحدهما محل ولادة بالمغرب ، ولاشك أن إيراد العبارة الأخيرة من هذه المادة لم يكن اعتباطيا، وإنما جاء لعدة اعتبارات تتعلق أساسا برغبة المشرع في تمديد مقتضيات مدونة الأسرة ليس فقط إلى الجيل الأول من الجالية المغربية، وإنما أيضا لما يسمى بالجيل الثاني والثالث الذي ازداد بالخارج وليس له محل ولادة بالمغرب، وهي مسألة إيجابية من شانها الحفاظ على الهوية والخصوصية الوطنية من خلال السماح لهم بالخضوع لقانونهم الوطني وعدم قطع صلاتهم بوطنهم الأصلي.
عموما إذا كان الغرض من مختلف هذه الإجراءات التي أوردها المشرع في المادتين 14 و 15 من مدونة الأسرة هو الاعتراف بالزواج المدني الجاري به العمل في الدول الغربية حيث تقيم أغلبية الجالية المغربية ومن ثم تفادي كل المشاكل الناتجة عن مثل هذا الزواج اتجاه القانون المغربي ، فإن تطبيق هذه المقتضيات بالصورة التي جاءت بها في المدونة قد تثير العديد من الصعوبات على مستوى التطبيق العملي.


الفقرة الثانية: رؤية تقييمية لإجراءات إبرام عقد زواج المغاربة بالخارج
أول ملاحظة يمكن إثارتها بخصوص المادة 14 من مدونة الأسرة، هو أن الشروط التي قيدت بها هذه المادة إبرام عقد زواج المغاربة بالخارج أمام ضابط الحالة المدنية تحت عبارة: " يمكن للمغاربة ... إذا توفر ...." قد يكون من الصعب إن لم نقل من غير المتيسر التقيد بها خصوصا إذا علمنا أن إبرام عقد الزواج قد يكون منظما بقواعد جوهرية أو تنظيمية في دولة الإقامة بطريقة قد تسمح بتضمين عقد الزواج بعضا من تلك الشروط المنصوص عليها إما باعتبارها تتنافى مع قانونها الداخلي، أو مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان بشأن الحرية والحقوق الشخصية أو بسبب ما تعتبره هذه الدول من النظام العام .
ولعل أهم هذه الشروط التي قد يرفض ضابط الحالة المدنية الأجنبي مراعاتها أو بالأحرى تضمينها في عقد الزواج، نجد المانع الديني في الزواج وشكلية حضور شاهدان مسلمان.
فإذا كان مما لاشك فيه أن ضابط الحالة المدنية الأجنبي غير ملزم باحترام القوانين الإسلامية ومنها الفقرة الخامسة من المادة 39 من مدونة الأسرة والتي تمنع زواج المسلمة بغير المسلم على اعتبار أن هذا المانع يتعارض مع مبدأ الحرية في الزواج الذي تنص عليه مختلف الاتفاقيات الدولية، فضلا عما ينطوي عليه هذا المنع من تمييز وإهدار لقيمة المرأة وربط قوة العقيدة بالجنس وهو ما يوضحه القرار الصادر عن استئنافية باريس بتاريخ 9 يونيو 1996 والذي أكدت فيه أن النظام العام الفرنسي يقف ضد القيود ذات الطبيعة الدينية التي تضعها بعض القوانين الأجنبية في مواجهة حرية الزواج كالقانون المغربي الذي يمنع زواج المسلمة بغير المسلم .
فإن اشترط المادة 14 من مدونة الأسرة حضور شاهدين مسلمين عند إبرام عقد الزواج أمام ضابط الحالة المدنية الأجنبي يطرح التساؤل حول ما إذا كان هذا الأخير سيعمل على مراعاة هذا الشرط من خلال التنصيص على هوية الشاهدين في وثيقة عقد الزواج والتأكد فعلا من أنهما مسلمان أم لا؟
الجواب بالطبع سيكون بالنفي، أي أن ضابط الحالة المدنية الأجنبي سيكتفي بدون شك بمراقبة مدى توفر الشروط الجوهرية لعقد الزواج في قانون على اعتبار أن قوانين الزواج في هذه البلدان لا تنص على شكلية حضور شاهدين مسلمين بل تتعارض مع هذا المقتضى المرتكز على أساس ديني ، ومن ذلك المادة 83 من القانون المدني الهولندي .
فإذا كان الأمر كذلك، ما هو الدور الذي يمكن أن تقوم به السفارات والقنصليات المغربية بالخارج في تدارك مثل هذه الإشكاليات، وبالتالي ضمان التطبيق السليم لقانون الأسرة المغربي من طرف الجالية المغربية بالمهجر؟
الجواب نجده في منشور وزارة العدل عدد 13 الصادر بتاريخ 13 أبريل 2004 الذي أكد على ضرورة ربط الاتصال بين القضاة الملحقين بسفارات المملكة المغربية بالخارج، وبين السلطات المركزية لبلد الإقامة قصد إخبارها بمقتضيات مدونة الأسرة وبحث إمكانية التنصيص في العقود المبرمة أمام ضابط الحالة المدنية على الشروط والبيانات المتطلبة حتى يسهل الاعتراف بها في المغرب، بل إنه يمكن للمصالح القنصلية المغربية إذا ثبت لها من نسخ عقود الزواج المودعة لديها أنها لا تحترم الشروط الجوهرية المتطلبة قانونا في المادة 14 من مدونة الأسرة أن تتدارك ذلك من خلال إبلاغ المعني بعقد الزواج بإتمام الإجراءات وإضافة البيانات التي تعالج كل نقص، ومن ذلك الاستماع إلى شهادة الشهود أو أي إجراء آخر.
كذلك من الملاحظات التي يمكن توجيهها للمادة 14 من مدونة الأسرة هو أن هذه المادة لم توضح هل إمكانية الزواج أمام ضابط الحالة المدنية مسموح بها بين المغاربة فقط أو حتى بين الزيجات التي تضم المغاربة وأطراف أجانب؟.
فإذا قلنا بالحل الأخير والحال أنه كذلك، فإن التساؤل يطرح حول مصير ظهير 04 مارس 1960 بشأن انعقاد الأنكحة بين المغاربة والأجنبيات أو المغربيات والأجانب، وكذا المادة السادسة من الاتفاقية المغربية الفرنسية ل 10 غشت 1981؟.
أمام غموض الموقف توجهنا بالسؤال إلى السيد رئيس مصلحة التعاون القضائي والشؤون المدنية بوزارة العدل الذي أكد لنا أن المادة 14 من مدونة الأسرة قد ألغت ضمنيا الاتفاقية المغربية الفرنسية فيما يخص إبرام الزواج، بل أضاف قائلا أن المادة 14 يمكن تطبيقها بأثر رجعي فيما يخص تصحيح الزيجات التي أبرمت أمام ضابط الحالة المدنية قبل دخول مدونة الأسرة حيز التطبيق ؛ ولعل هذا هو ما تم التأكيد عليه من خلال منشور وزير العدل السابق الذكر، حيث نص هذا المنشور على أنه إذا أراد كل مغربي يتوفر على عقد زواج مدني إبرام عقد الزواج وفق ما يتطلبه القانون المغربي، فإنه يمكن أن يحرر له إشهاد يتضمن التنصيص على الزواج المدني؛ ثم الإشارة إلى حضور الشاهدين والصداق والولي عند الاقتضاء أو المفوض له وبعد تحرير هذا الملحق وتضمينه في السجل المعد لذلك يضم إلى العقد المنجز طبقا للإجراءات القانونية المحلية ويوجهه إلى ضابط الحالة المدنية وقسم قضاء الأسرة وفقا للكيفية المنصوص عليها في المادة 15؛ وفي هذا أكبر دليل على رغبة مشرع مدونة الأسرة في تدليل الصعوبات والتخفيف من حدة المشاكل التي تعاني منها الجالية المغربية فيما يخص زواجها المبرم أمام ضابط الحالة المدنية.
وما قيل عن المادة 14 من مدونة الأسرة يمكن قوله عن المادة 15 ذلك أنه من خلال التأمل في الطريقة الإدارية المعتمدة في هذه المادة يتضح أنها تستوجب الكثير من الملاحظات منها:
* استعمال عبارة إيداع نسخة عقد الزواج بالمصالح القنصلية بدل عبارة إرسال وشتان بين المصطلحين، ذلك أن عبارة إيداع تستدعي من المهاجر المغربي الذي أبرم عقد زواجه أمام ضابط الحالة المدنية التوجه إلى مقر القنصلية لإيداع النسخة، الأمر الذي قد يدفعه إلى التقاعس عن القيام بهذا الإجراء إذا كان مقر القنصلية بعيدا عن مكان

إقامته ، لذلك فإن ما كانت تنشده المادة 15 من التبسيط والتيسير قد لا يتحقق.
* تؤكد المادة 15 على أن الإيداع أو الإرسال يكون لنسخة واحدة، في حين أن وزارة الخارجية ألزمت بتوجيه نسختين، واحدة إلى ضابط الحالة المدنية والأخرى إلى قسم قضاء الأسرة لمحل ولادة كل من الزوجين والحال أنها توصلت بنسخة واحدة، فهل تعد نظيرا للنسخة المتوصل بها، أم تصادق عليها فقط؟ وأي من الجهتين توجه إليها النسخة الأصيلة؟.... الخ .
لذلك ولتجاوز مختلف هذه الإشكالات التي تطرحها سواء المادة 14 أو 15 والتي تعرضنا لبعض منها، فإن الأمل يبقى معقودا على القضاء المغربي الذي يتحتم عليه التفتح على المجتمع الأوربي وخصوصياته والتشبع بثقافة حقوق الإنسان ومبادئ المساواة والإنصاف، حيث أنه إذا كان الهدف من المقتضيات الواردة في المادتين 14 و 15 من مدونة الأسرة هو فسح المجال أمام تطبيق القانون الوطني على الجالية المغربية والدفع بالقضاء الأجنبي إلى احترام خصوصية وهوية هذه الجالية، فإن على القضاء الأسري المغربي أن يكون ملما بالقواعد الإدارية المتعلقة بالزواج في البلدان التي تتواجد فيها الجالية المغربية بكثرة ، كما يتعين عليه ألا يتشدد من جهة ثانية في الدفع ببطلان الزواج المبرم بالخارج كلما ثبت له عدم توفر أحد الشروط المنصوص عليها في المادتين 14 و 15 من مدونة الأسرة، لأن الأهم والعبرة في العلاقة الزوجية هو خلوها من الموانع الشرعية المفروض معرفتها والتقيد بها من طرف كل مسلم باعتبارها واجبات شرعية تدخل في صميم العقيدة أما كتابة العقد فتبقى وسيلة للإثبات لا غير.
فبهذه الإجراءات، وبتفعيل الدبلوماسية الوطنية بما يمكن المواطنين المقيمين بالخارج من التخلص من التعقيدات الإدارية والتضارب بين القوانين ، فقط يمكن الحديث عن تفعيل المقتضيات التي جاءت بها مدونة الأسرة فيما يخص زواج المغاربة بالمهجر أمام ضابط الحالة المدنية الأجنبي؛ ومن ثم تجاوز التعقيدات التي كانت تطرح في ظل القانون المعدل.
المطلب الثاني: إدراج مبادئ الحرية والمساواة في القواعد المنظمة للروابط الأسرية
إن الحديث عن تطبيق القانون المغربي للأحوال الشخصية على الروابط الأسرية للجالية المغربية لابد وأن يأخذ بعين الاعتبار مجموعة من المعطيات:
- طبيعة قانون الأسرة بالغرب الذي يقوم أساسا على ما جاء في الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والمساواة والحرية والذي لا يقبل أي قيد يخرق هذا المبدأ كيفما كان مصدره.
- ثم النظام العام الوطني والدولي الذي يقصي كل مؤسسة من الاعتراف بها إذا ما عارضت مبدأ المساواة والحرية الفردية.
من هذا المنطلق ومن أجل إعطاء فرصة للقانون المغربي للأحوال الشخصية لأن يتم اختياره من طرف القضاء الأوربي، تضمنت مدونة الأسرة في محاولة منها لتقريب القواعد الداخلية في مادة الأحوال الشخصية مع قواعد النموذج الأممي العديد من المقتضيات المتعلقة بمبادئ الحرية والمساواة سواء تعلق الأمر بالروابط الأسرية الشخصية – الفقرة الأولى – أو الروابط الأسرية المالية – الفقرة الثانية-.


الفقرة الأولى: مبدأي الحرية والمساواة في الروابط الأسرية الشخصية.
إن أهم تعديل جاءت به مدونة الأسرة على مستوى الروابط الأسرية الشخصية هو الفلسفة الجديدة التي أطرتها ثقافة الحرية والمساواة بين الجنسين والعلاقة التشاركية بين الزوجين داخل الأسرة .
وهي فلسفة من شانها أن تعالج الكثير من الأوضاع الشاذة التي تعاني منها الأسرة المغربية المقيمة خارج أرض الوطن، فأين تتجلى مظاهر الحرية والمساواة بين الجنسين من خلال مدونة الأسرة؟ وإلى أي حد استطاعت الصياغة الحديثة للنص الأسري الجديد أن تضمن التطبيق السليم لقانون الأسرة المغربي أمام القضاء الأوربي؟
*أولا: على مستوى إبرام عقد الزواج:
ويتعلق الأمر بما يلي:
- إعطاء تعريف جديد للزواج يتماشى ويتوافق لحد ما مع مثيله لدى الدول الأوربية التي تعتبر الرضى والمساواة الأعمدة الضرورية لكل ارتباط أسري حيث عرفت المادة الرابعة من مدونة الأسرة الزواج بأنه: " ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة... غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين" .
أول ملاحظة يمكن إثارتها بهذا الصدد هو استعمال عبارة التراضي على عكس النص القديم الذي كان خاليا منها، وحسنا فعل المشرع المغربي على اعتبار أن التراضي هو جوهر العقد الذي يجب أن يكون غير مشوب بإكراه أو تدليس؛ وفي هذا الإطار نصت المادة 67 من مدونة الأسرة على ضرورة توقيع الزوجين معا على وثيقة عقد الزواج وذلك من أجل إثبات رضاهما وحضورهما وموافقتهما على إبرامه.
ولاشك أن مفهوم الزواج على هذا النحو من شأنه تجاوز الوضعية السابقة التي كان ينتجها عدم توفر الرضى، ومن تم سد المجال أمام المحاكم الأجنبية التي كانت تقضي بإبطال عقود الزواج التي لا يتضمن توقيع الزوجة على أساس أنها عقود غير رضائية تكون فيها الزوجة مكرهة على الزواج من طرف وليها .
- توحيد سن الزواج في 18 سنة بالنسبة للجنسين معا، ومعلوم أن جل القوانين الأوربية تجعل من السن الأدنى للزواج قاعدة من القواعد ذات التطبيق الفوري مما يلغي أي مجال لمخالفتها ، وفي هذا الإطار صدر عن القضاء الفرنسي العديد من الأحكام التي قضى فيها حتى في ظل التوقيع على اتفاقية 10 غشت 1981 بإبطال زيجات أبرمت وفق مدونة الأحوال الشخصية المغربية بين أزواج مغاربة لسبب أن الزوجة لم تكن حين العقد عليها مكتملة الأهلية بسبب السن .
لذلك تكون مدونة الأسرة بهذا التعديل قد رفعت الحرج عن الجالية المغربية بالسماح بتدييل الأحكام الصادرة في حقها بالصيغة التنفيذية في بلد الإقامة.
عموما إذا كانت مدونة الأسرة قد سمحت استثناء بالزواج قبل 18 سنة فإن الرهان يبقى معقودا على القضاء المغربي الذي يتعين عليه الالتزام بالضوابط المقيدة لإعطاء الإذن بزواج القاصر؛ ومن ذلك الاستعانة بخبرة طبية أو إجراء بحث اجتماعي حتى يتجاوز الدفوعات التي تجعل القضاء الأوربي يستبعد مثل هذا الزواج
- عدم فرض قيود تمييزية على النساء عند الزواج وذلك عبر إزاحة مفهوم الولاية في الزواج وجعلها اختيارية ، وكذا ضبط مفهوم الوكالة ومراقبة مضمونها وهو ما من شأنه أن يفتح المجال أمام القضاء الأوربي لتطبيق مدونة الأسرة على المغاربة بالمهجر مادامت أنها مبنية على مبدأي الرضى والمساواة في إبرام عقد الزواج، وبالتالي تجاوز الدفوعات التي كان يستند إليها هذا القضاء في رفض الاعتراف بالزواج المبرم عن طريق الوكالة أو الذي يتضمن مشاركة الولي في الزواج وهو ما يتضح من خلال القرار الصادر عن استئنافية باريس بتاريخ 2 أكتوبر 1997 والذي جاء فيه: " أن الزواج المبرم بالمغرب بين مغربية وفرنسي ينوب عنه في ذلك عضو من أسرة الزوجة يعتبر نوعا من السرية ويكون بذلك سببا موجبا للبطلان" ، وكذا القرار الصادر عن استئنافية نانسي والذي ذهب إلى أن : " القانون المغربي الذي يجعل زواج المرأة بيد الولي يخالف النظام العام الفرنسي الذي يعتبر الزواج شأنا شخصيا لا يتم إلا بالقبول التام والصريح للمتعاقدين" . أما الآن فلم يعد للقضاء الأوربي مبرر لرفض الاعتراف بالزواج المبرم بالمغرب.
* ثانيا: على مستوى الحقوق والواجبات بين الزوجين:
بنفس الرؤية السابقة تضمنت مدونة الأسرة العديد من المقتضيات التي تكرس مبدأي الحرية والمساواة على مستوى الحقوق والواجبات بين الزوجين والتي من شأنها أن تدفع بالمرأة المغربية المهاجرة إلى اختيار قانونها الوطني بدل القوانين الأجنبية، ومن تم تدعيم القدرة التنافسية للقانون المغربي مع غيره من القوانين الأوربية ويتعلق الأمر أساسا بما يلي:
- المساواة بين الزوج والزوجة في رعاية الأسرة وتحمل مسؤولية تسيير ورعاية شؤون البيت والأطفال على قدم المساواة وهو ما يتلاءم مع مختلف الاتفاقيات الدولية في الموضوع ، بل والقوانين الأوربية المنظمة للروابط الأسرية ومنها المادة 203 من
القانون المدني الفرنسي .
- تضييق نطاق التعدد وإعطاء القاضي صلاحية منعه إذا خيف عدم العدل بين الزوجات أو في حالة وجود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها .
فمن خلال هذا المقتضى المتعلق بالتعدد يتضح أن مشرع مدونة الأسرة كان يهدف إلى الاستجابة لمختلف الدفوعات التي تتمسك بها الأنظمة الغربية الآخذة بمبدأ الزوجة الواحدة لاستبعاد مؤسسة التعدد لاسيما في الجوانب التالية:
• عدم خرق مبدأ المساواة بين الجنسين، إذ أصبح للزوجة الأولى الحرية في أن تبقى متزوجة وهذا دليل على رضاها بالتعدد، وإلا فلها أن تطلب التطليق.
• تقييد التعدد بشروط إجرائية وموضوعية مع توفير قواعد حمائية لصالح الزوجة الأولى
• ثم حماية حقوق الأطفال من الناحية المادية والمعنوية
غير أن بالرغم من أهمية هذه القواعد في التخفيف من حدة المشاكل التي تثيرها مسألة التعدد، فإن إبقاء مدونة الأسرة على إباحة هذه المؤسسة – التعدد – ولو بصحة استثنائية، لاشك سيفتح منعطفا جديدا أمام القضاء الأوربي لرفض الاعتراف بالأحكام الصادرة بالمغرب استنادا لكون التعدد يعد مخالفا للنظام العام الأوربي القائم على المساواة المطلقة بين الزوجين، بل واستنادا لكونه يعد بمثابة جنحة معاقب عليها جنائيا ومن ذلك القانون الجنائي الفرنسي في مادة 433 والقانون الجنائي السويسري في مادته 215...الخ
- إلغاء الحقوق والواجبات المتباينة بين الزوجين والتي كانت تعطي للقضاء الأوربي فرصة إبطال الروابط الأسرية الناشئة وفقا لها على اعتبار أنها تكرس مفهوم الأسرة الأبوية ، وتعويضها بحقوق وواجبات متبادلة بينهما على قدم المساواة الأمر الذي من شأنه أن يساهم في تقوبة مؤسسة الأسرة خاصة على مستوى الروابط الدولية الخاصة، ومن ثم منح الاختصاص للقانون الوطني للمغربي المسلم أينما حل وارتحل ما دام أن هذا القانون أصبح يستجيب نسبيا لمعايير النموذج الأممي لحقوق الإنسان.
إذ ثبت ذلك نتساءل عن الجديد الذي جاءت به مدونة الأسرة على مستوى الروابط الأسرية المالية والدور الذي يمكن أن تساهم به في تعزيز القدرة التنافسية لقانون الأسرة المغربي أمام القضاء الأوربي؟
الفقرة الثانية: مبدأي الحرية والمساواة في الروابط الأسرية المالية.
يقصد بالروابط الأسرية المالية، الالتزامات المالية بين أعضاء الأسرة ويدخل في إطارها على سبيل المثال: النفقة بين الأزواج، وبين هؤلاء والأبناء، كما يندرج فيها ما يسمى بالنظام المالي للزواج، ومؤسستي الإرث والوصية...الخ .
عموما وإذا كانت مؤسسة الإرث في القوانين الإسلامية ومنها القانون المغربي للأحوال الشخصية لا يمكن أن تلعب فيها حرية وإرادة الأطراف أي دور لكون نظام الإرث في هذه القوانين من القواعد الآمرة التي يستند تنظيمها القانوني لنصوص قرآنية صريحة لا مجال للاجتهاد في تفسيرها.
فإن النظام المالي للزواج والوصية والنفقة على العكس من ذلك يمكن أن تكون محل اتفاق بين الأطراف، وبالتالي يمكن الحديث في إطارها عن مبادئ الحرية والمساواة.
فبالنسبة للنظام المالي للزواج والذي يمكن تعريفه بأنه: " مجموعة من القواعد القانونية والاتفاقية المنظمة للروابط المالية بين الزوجين من حيث تملك أو حيازة أو إدارة الأموال الثابتة أو المنقولة العائدة لكل من الزوجين أو لأحدهما ". فإن إدراج مبدأ الحرية في إطاره يقتضي تمكين الزوجين من الاتفاق بينهما على مصير الأموال المكتسبة خلال الحياة الزوجية وذلك بتحديد نصيب كل واحد منهما فيها سواء عند الطلاق أو بعد الوفاة، فهل فعلا المشرع المغربي يسير في هذا الاتجاه؟
قبل إبراز الجديد الذي جاءت به مدونة الأسرة لابد من التذكير أن مدونة الأحوال الشخصية السابقة وخاصة الفقرة 4 من المادة 35 لم تكن تتضمن أي مقتضى من شأنه أن يبيح للزوجين إمكانية الاتفاق على تدبير أموالهما المشتركة سواء تعلق الأمر بالروابط الأسرية الوطنية، أو الروابط الأسرية الدولية والتي تضم طرفا مغربيا؛ ذلك أنه كلما ثبت أن عقد الزواج يضم طرفا مغربيا أو طرفا أجنبيا مسلما، فإن النظام المالي يتعين أن يخضع حتما للقانون المغربي .
ومعلوم أن هذا القانون لم يكن يقرر إلا نظام فصل الأموال، فكل من الطرفين له ذمته المالية المستقلة تمام الاستقلال عن الذمة المالية للآخر، ولا تأثير على الإطلاق لعقد الزواج على الأموال التي تدخل في ذمة كل منهما . الأمر الذي كان له انعكاس سلبي على مستوى الروابط الأسرية المالية للجالية المغربية سيما ما يتعلق منها بتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في حقها سواء من طرف المحاكم المغربية أو المحاكم الأجنبية.
ذلك أنه إذا كانت جل الدول الأوربية تجعل من مبدأ وحدة الذمة المالية الأساس المعتمد عليه في الروابط المالية بين الزوجين، فلا شك أن الأحكام القضائية الصادرة عن الأنظمة القضائية لهذه الدول في هذا الشأن في حق الجالية المغربية ستبقى بدون تنفيذ بالمغرب على اعتبار أنها تخالف النظام العام المغربي، وللتدليل على ذلك نأخذ على سبيل المثال الحكم الصادر عن إحدى المحاكم المغربية بتاريخ 15 – 06 – 1999 والذي جاء فيه:" وحيث قضت المحكمة المذكورة بتطليق المدعية من زوجها المدعى عليه.. كما قضت بتقسيم شيوعية الأموال الزوجية بينهما ... فإنه لا يمكن الاعتراف به في المغرب على أساس مخالفته للنظام العام" .
فالمحكمة هنا رفضت تذييل هذا الحكم الأجنبي بالصيغة التنفيذية ليس لعدم صحة التطليق الذي ثبت لها أنه تطليق للضرر وإنما السبب في ذلك راجع إلى أن الحكم السابق الذكر جاء مرفوقا ببعض الحيثيات المخالفة للنظام العام المغربي والمتمثلة في مبدأ شيوعية الأموال التي هي فكرة منتشرة في المجتمعات الغربية ولا تجد سندا لها في القانون المغربي للأحوال الشخصية السابق.
وما قيل عن القضاء المغربي يمكن قوله عن القضاء الأوربي الذي كان يرفض تذييل الأحكام الصادرة بالمغرب بناءا على نظام فصل الأموال بالصيغة التنفيذية على اعتبار أن القانون المغربي يتعارض مع مبادئ وأهداف القانون الدولي الخاص المقارن وذلك لكونه يكرس امتياز العقيدة في الروابط الأسرية المالية.
من هذا المنطلق، ولتجاوز الإشكالات التي يثيرها النظام المالي للزواج على مستوى الروابط الأسرية الدولية، ومن أجل سد المجال أمام القاضي الأجنبي لإحلال وتطبيق قانونه الداخلي على الجالية المغربية بدل اللجوء إلى القاعدة الأساسية المتمثلة في القانون الوطني، تضمنت مدونة الأسرة مقتضى جديد يجيز للزوجين إمكانية الاتفاق بينهما في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج بحيث يتراضيان في بداية حياتهما الزوجية على الطريقة التي يرونها ناجعة لاستثمار أموالهم ويحددان أيضا نصيب كل واحد منهما من هذه الأموال خلال الحياة الزوجية أو عند انتهائها بالوفاة أو بالطلاق.
فبهذا التعديل يكون مشرع مدونة الأسرة قد رفع الحرج عن الجالية المغربية فيما يخص روابطها المالية وذلك بفتح المجال أمام الاعتراف وتنفيذ الأحكام الأجنبية الصادرة في حقها بهذا الخصوص ، وفي نفس الوقت حافظ على المبدأ الذي كان سائدا في ظل مدونة الأحوال الشخصية وذلك بالتأكيد في مطلع المادة 49 على أن لكل من الزوجين ذمة مالية مستقلة عن الآخر .
إذا ثبت ذلك نعود إلى النقطة الثانية والمتعلقة بمؤسستي النفقة والوصية وذلك لمعرفة مبدأي الحرية والمساواة ضمنهما.
فبالنسبة لمؤسسة الوصية، نشير إلى أن مدونة الأسرة تضمنت مقتضى هام يتعلق بالسماح لأولاد البنت بالاستفادة من تركة جدهم بواسطة الوصية الواجبة وذلك بعد أن كان الأمر محصورا في النص القديم في أولاد الابن فقط .
ولاشك أن هذه القاعدة ستفتح المجال أمام تطبيقها من طرف القضاء الأوربي مادام أنها مبنية على مبدأ المساواة بين الجنسين.
أما بالنسبة للنفقة، فبالرجوع إلى مقتضيات المادة 194 من مدونة الأسرة نجدها تكرس التمييز بين الرجل والمرأة على مستوى النفقة وذلك بإلزام الزوج وحده بالنفقة على زوجته؛ الأمر الذي قد تتخذه الأنظمة القضائية الغربية سيما تلك التي تجعل من ضابط الإقامة الاعتيادية عنصر إسناد أساسي في تحديد القانون المطبق على الآثار الشخصية للزواج- هولندا مثلا - ذريعة لرفض تذييل الأحكام الصادرة بالمغرب بالصيغة التنفيذية.
لذلك فإن المشرع المغربي مدعو إلى التدخل من أجل تحقيق نوع من الانسجام والتقارب مع القوانين الأوربية والاتفاقيات الدولية ذات الصلة وذلك من خلال إلزام الزوجة العاملة أيضا في المساهمة في الإنفاق على بيت الزوجية وعدم ربط ذلك باليسر في جانبها وعجز الزوج كما تقضي بذلك المادة 199 من مدونة الأسرة .
فبهذا المقتضى فقط يمكن فتح المجال أمام القانون المغربي لأن يتم تطبيقه على الآثار الشخصية لزواج المغاربة بالمهجر من طرف الأنظمة القضائية الغربية.
المبحث الثاني: على مستوى انحلال العلاقة الزوجية وتنفيذ الأحكام الأجنبية.
تعد قضايا انحلال العلاقة الزوجية وطلبات التذييل بالصيغة التنفيذية من أهم القضايا التي تحيط بها الكثير من الصعوبات بالنسبة لأفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج؛ وذلك نظرا لكون هذه الجالية تخضع بحكم جنسيتها لقانون الأحوال الشخصية المغربي؛ وبحكم موطنها أو محل إقامتها في بلد أجنبي لقانون هذا البلد ذي الصبغة العلمانية؛ فكان من الطبيعي أن يؤثر ذلك على مركزها القانوني وروابطها الخاصة بأحوالها الشخصية.
فما هي إذن أهم التعديلات التي جاءت بها مدونة الأسرة من أجل تعزيز القدرة التنافسية للقانون المغربي في هذا المجال ومن ثم كسب ثقة المحاكم فيما يتعلق بحجية الأحكام الصادرة في حق الجالية المغربية بالمهجر؟
للإجابة على ذلك لابد من الوقوف على ما قررته مدونة الأسرة من إجراءات متصلة بإنهاء العلاقة الزوجية – المطلب الأول-
ثم ملامسة جديد مدونة الأسرة فيما يخص نفاذ الأحكام القضائية المرتبطة بالأسرة المغربية بالمهجر – المطلب الثاني-
المطلب الأول: بالنسبة لانحلال العلاقة الزوجية.
لعل من أهم المبررات التي كان يستند إليها القضاء الأوربي في رفض الاعتراف بحجية الأحكام الصادرة بالمغرب والمتصلة بإنهاء العلاقة الزوجية تلك المرتبطة بانعدام المساواة بين الزوجين في إيقاع الطلاق؛ثم غياب ضمانات وقواعد حمائية لفائدة الزوجة والأطفال من خلال السماح للزوج بإيقاع الطلاق بطريقة تعسفية ودون أية مراقبة قضائية.
من هذا المنطلق ومن أجل فتح المجال أمام الأحكام القضائية المغربية للاعتراف بها من طرف القضاء الأوربي، تضمنت مدونة الأسرة مقتضيات جديدة تجعل من مبدأ الإرادة والاتفاق على إنهاء العلاقة الزوجية أحد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام القانوني المغربي – الفقرة الأولى-
ومن جهة أخرى ورغم الإبقاء على حق الزوج في إيقاع الطلاق فقد تم إخضاعه لمراقبة قضائية صارمة تنسجم مع ما استلزمته بعض أحكام القضاء الأجنبي سيما ما يتعلق منها بإقرار ضمانات مالية وقانونية لفائدة الزوجة والأطفال عند إنهاء العلاقة الزوجية – الفقرة الثانية-
الفقرة الأولى: تكريس مبدأ الإرادة في إنهاء العلاقة الزوجية
تعد مؤسسة الطلاق الاتفاقي من أهم المؤسسات التي تقوم عليها معظم الأنظمة القانونية الأوربية لكونها تكرس مظهرا من مظاهر المساواة بين الجنسين في إنهاء العلاقة الزوجية؛ فطالما أن إرادة الزوجين هي التي أبرمت عقد الزواج من خلال التوافق والتراضي؛ فإنه لا يمكن وضع حد لهذا العقد إلا إذا اجتمعت الإرادتين معا على ذلك .
من هذا المنطلق واستنادا لكون مدونة الأحوال الشخصية السابقة لم تكن تعترف بهاته المؤسسة، الأمر الذي كان يطرح العديد من الإشكالات القانونية والاجتماعية المرتبطة بعدم تنفيذ الأحكام القضائية الأجنبية الصادرة على مستوى الروابط الأسرية للجالية المغربية؛ تدخلت مدونة الأسرة في محاولة منها لخلق نوع من التوازن في الحقوق والواجبات المخولة للزوجين ونصت في مادتها 114 على إعطاء الزوجين الإمكانية في إبرام الاتفاق بينهما على مبدأ إنهاء العلاقة الزوجية بطريقة ودية دون شروط أو بشروط لا تتنافى مع أحكام المدونة ولا تضر بحقوق الأطفال .
فبهذا التعديل تكون مدونة الأسرة قد وسعت من حق المرأة في طلب إنهاء العلاقة الزوجية بالاتفاق مع الزوج على ذلك تحت مراقبة القضاء ؛ بل إن مدونة الأسرة بإقرارها لمؤسسة الطلاق الاتفاقي تكون قد تبنت سببا من أسباب التطليق المنصوص عليه في معظم القوانين الأسرية الغربية كما هو الشأن بالنسبة للمادة 229 من القانون المدني الفرنسي مع ما يعنيه ذلك من السماح للأحكام القضائية الصادرة في حق الجالية المغربية بالاعتراف والتنفيذ سواء بالخارج أو بالمغرب، وفي هذا الإطار نشير إلى الحكم الصادر عن قسم قضاء الأسرة بفاس بتاريخ 9 يناير 2006 الذي قضى بتذييل حكم صادر عن المحكمة الابتدائية الفرنسيبة بأنجي والقاضي بالطلاق الاتفاقي بين زوجين مغربيين بالصيغة التنفيذية .
فقبل إقرار الطلاق الاتفاقي بمقتضى مدونة الأسرة لم يكن هذا الحكم ليحصل على هذه الصيغة بالمغرب على اعتبار أنه يخالف النظام العام، بل إن هذا المقتضى – الطلاق الاتفاقي – من شأنه الدفع بالقضاء الأوربي إلى تطبيق قانون الأسرة المغربي على المنازعات التي تعرض عليه والتي تضم طرفا مغربيا؛ وهو ما يمكن التدليل عليه من خلال الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية الموسعة الاختصاص بمدينة مونبليي الفرنسية بتاريخ 26 ابريل 2004 والذي قضى بالطلاق الاتفاقي بين زوجين مغربيين استنادا إلى مدونة الأسرة .
ومن جهة أخرى، ورغم أن مسطرة الصلح القضائي تعتبر من صميم النظام العام المغربي يتعين على عدم احترامها بطلان الطلاق، فقد أشار منشور وزارة العدل الصادر بتاريخ 13 أبريل 2004 إلى أنه عندما يتعلق الأمر بالطلاق الإتفاقي لأفراد الجالية المغربية بالخارج، فإنه يمكن لهم تقديم طلب الإعفاء من هذه المسطرة مع الإشارة فيه إلى عنوان اقرب قنصلية لإمكانية انتدابها لإجراء محاولة الصلح بينهما إذا ارتأت المحكمة ذلك؛ وفي هذا إشارة واضحة إلى رغبة المشرع المغربي في فتح المجال أمام قانون الأسرة المغربي لأن يتم اختياره من طرف أفراد الجالية المغربية بالمهجر، إذ أن الأخذ بمحاضر الصلح المنجزة بالقنصلية بالإضافة إلى أنه يهدف إلى تبسيط وتيسير الإجراءات على أفراد الجالية فيما يخص طلاقهم، فإنه فيه أكبر ضمانة لتشجيعهم على التمسك بالخضوع لقانونهم الوطني خصوصا إذا علمنا أن مدونة الأسرة وبالرغم من إبقاءها على حق الزوج في إيقاع الطلاق قد قيدته بضرورة إقرار مجموعة من الضمانات المالية والقانونية لفائدة الزوجة والأطفال.
الفقرة الثانية: إقرار ضمانات مالية وقانونية للزوجة والأطفال عند إيقاع الطلاق.
خلافا لمدونة الأحوال الشخصية السابقة التي اكتفت بالنص على أن الطلاق لا يسجل إلا بحضور الطرفين وبعد إذن القاضي مع إمكانية الاستغناء عن حضور الزوجة إذا توصلت بالاستدعاء ولم تحضر وأصر الزوج على إيقاع الطلاق دون الإشارة إلى ما قد يصدر عنها من دفوع ، الأمر الذي كانت تتخذه الأنظمة القضائية الأوربية كذريعة لرفض الاعتراف بالطلاق المبرم بالمغرب على اعتبار انه طلاق غير قضائي ولا يحترم حقوق الدفاع بالنسبة للمرأة كما هو الشأن بالنسبة للقرار الصادر عن محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 1 يونيو 1994 ؛ فإن مدونة الأسرة وفي محاولة منها لتأهيل القانون المغربي للتطبيق والاحترام من قبل القضاء الأجنبي عند نظره في المنازعات المتصلة بالروابط الأسرية للجالية المغربية كانت أكثر تفصيلا وصرامة لضمان حضور الزوجة وإدلائها بحججها ودفوعاتها بطريقة تنسجم مع بعض ما استلزمته بعض أحكام القضاء الأجنبي في هذا الصدد، ويتعلق الأمر أساسا بتقييد إرادة الزوج في إنهاء العلاقة الزوجية وذلك بإخضاع الطلاق الصادر من طرفه لمراقبة قضائية صارمة تقوم على إجراءات ومساطر من شأنها إقرار جملة من الضمانات المالية والقانونية لفائدة الزوجة والأطفال سواء عند مباشرة مسطرة الطلاق أو عند انتهائها بالطلاق.
ومن أهم هاته الضمانات المرتبطة بمباشرة مسطرة الطلاق ما ورد في المادة 81 من مدونة الأسرة من أن الزوجة إذا توصلت شخصيا بالاستدعاء ولم تحضر لمحاولة الصلح دون تقديم ملاحظات مكتوبة فإنه يتعين على المحكمة الاستعانة بالنيابة العامة من أجل إشعارها قبل البث في غيبتها .
وفي هذا أكبر دليل على أن الطلاق لم يعد يصدر في ظل مدونة الأسرة إلا بعد حضور الزوجة وإعطائها فرصة تقديم دفوعاتها مع ما يعنيه ذلك من فتح المجال أمام المرأة المغربية المهاجرة إلى التمسك بالخضوع لقانونها الوطني مادام أنها أصبحت تتمتع تقريبا بنفس الضمانات التي يخولها لها قانون بلد إقامتها سيما في الحالة التي تمنح فيها بعض الدول للمغاربة والأجانب عامة إمكانية الاختيار فيما يخص القانون المطبق على الطلاق بين القانون الوطني وقانون دولة الإقامة كما هو الشأن بالنسبة لهولندا.
ومن الضمانات كذلك الممنوحة للزوجة والأطفال عند الطلاق إضافة إلى تفعيل مسطرة الصلح ، وتبسيط الإجراءات من خلال تحديد وضبط آجال البث في قضايا إنهاء العلاقة الزوجية ، أنه في حالة تعذر الإصلاح بين الزوجين فإن المحكمة لا تأذن للزوج بالإشهاد على الطلاق إلا بعد تحديد المستحقات المالية لكل من الزوجة والأطفال وذلك بإلزامه بأداء هاته المستحقات بكيفية مسبقة خلال أجل شهر قبل الإذن بالطلاق .
ومن جهة أخرى ولما كانت السلطات القضائية ببلد المهجر لا تقبل إلا بالطلاق الصادر عن المحكمة وبحضور الطرفين تدخل مشرع مدونة الأسرة ونص في المادة 88 على ضرورة صدور الطلاق في شكل قرار معلل يتضمن كل البيانات الازمة سيما ما يتعلق منها بهوية الزوجين وملخص إدعائهما ودفوعهما .
فهل من شأن هذا القرار معالجة مختلف الإشكالات التي كان يطرحها الطلاق غير القضائي الواقع بالمغرب أمام السلطات القضائية لبلد الإقامة؟
من خلال مراجعة بعض الأحكام القضائية الصادرة عن القضاء الأوربي وخاصة محكمة النقض الفرنسية لا يبدو الأمر كذلك .
عموما إذا كان هذا الموقف قد يجد تبريره في التأويل الغربي لمفهوم المساواة بين الزوجين عند انحلال العلاقة الزوجية حسب المعنى المعطى لها في الاتفاقيات الدولية، فإن القضاء المغربي يجب عليه بدوره أن يسعى إلى تفعيل المقتضيات التي جاءت بها مدونة الأسرة بطريقة لا يترك معها مجالا للسلطات القضائية الأجنبية في رفض الاعتراف بالأحكام الصادرة بالمغرب.
ولعل ما دفعنا إلى هذا القول هو وجود بعض الأحكام القضائية الصادرة عن القضاء المغربي في ظل مدونة الأسرة والتي لم تراعي بعض المقتضيات المضمنة في هذه الأخيرة كما يتضح ذلك من خلال الحكم الصادر عن قسم قضاء لأسرة بفاس بتاريخ 25 فبراير 2005 والذي جاء فيه:
" بعدما أصرت الزوجة على طلب التطليق مؤكدة على أن زوجها يسيء معاملتها من خلال الاعتداء المتكرر عليها بالضرب والتهديد بالقتل بالإضافة إلى كونه مدمن على الخمر ... قضت المحكمة بتطليق المدعية طلقة بائنة أولى للشقاق مع الإشهاد على تنازلها على مستحقاتها وكذا حقوق ابنها من المدعى عليه" .
أول ملاحظة يمكن إثارتها بصدد هذا الحكم هو ما يتعلق بالإشهاد على تنازل الزوجة عن حقوقها وحقوق ابنها، إذ بالإضافة إلى أن الأمر هنا يتعلق بالتطليق للشقاق وليس التطليق للخلع ؛ فإن المحكمة قبلت الإشهاد على تنازل الزوجة عن حقوق ابنها دون أن تكلف نفسها عناء البحث فيما إذا كان هذا التنازل في مصلحة الطفل أم لا؟
لاشك أن المحكمة بموقفها هذا تكون قد أضافت سببا آخر للسلطات القضائية الأجنبية يمكنها الاستناد إليه في رفض الاعتراف بالأحكام القضائية المتصلة بانحلال العلاقة الزوجية الصادرة بالمغرب. إذ بالإضافة إلى أن هذا الحكم يكرس انعدام المساواة بين الزوجين في إنهاء العلاقة الزوجية مادام أن الزوجة بالرغم من ادعائها الضرر وسوء عشرة زوجها لها لم تحصل على الطلاق إلا بعد تنازلها عن كافة مستحقاتها وكذا مستحقات ابنها، فإن عدم مراعاة المحكمة لمصلحة الطفل قد يثير نزعة القاضي الأوربي في التشدد بالدفع بالنظام العام في رفض مثل هذه الأحكام لو عرضت عليه.
إذ ثبت ذلك؛ فماذا عن الضمانات المخولة للزوجة والأطفال بعد الإذن بالطلاق سيما ما يتعلق منها بالتعويض عن الضرر الناتج عن الطلاق التعسفي وحق الزيارة باعتبارهما من أكثر المسائل إثارة للجدل على مستوى الروابط الدولية الخاصة؟
فبالنسبة للتعويض عن الطلاق التعسفي؛ وخلافا لمدونة الأحوال الشخصية السابقة التي كانت تربطه بمبلغ المتعة ؛ نصت المادة 101 من مدونة الأسرة على: " أنه في حالة الحكم بالتطليق للضرر للمحكمة أن تحدد في نفس الحكم مبلغ التعويض المستحق عن الضرر".
ولعل في هذا إشارة واضحة إلى رغبة المشرع في ضرورة تجاوز الدفوعات التي كان يستند إليها القضاء الأوربي في رفض الاعتراف بالطلاق الواقع بالمغرب كما هو الشأن بالنسبة للقرار الصادر عن محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 16 يوليوز 1992 والذي جاء فيه: " أن القانون الذي لا يقرر تعويضا أو نفقة للزوجة، أو تعويضا لصالحها في حالة الطلاق يعتبر متعارضا بكيفية جلية مع النظام العام الفرنسي ويتعين استبعاده وتطبيق القانون الفرنسي بدلا منه" .
أما الآن وبعد هذا التعديل الذي جاءت به المادة 101 من مدونة الأسرة فإن الأمر قد تغير، وهو ما يتضح جليا من خلال القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بباريس بتاريخ 12 فبراير 2004 والذي جاء فيه: " بما أن مدونة الأسرة أصبحت تتضمن مقتضى مماثل للفصل 266 من القانون المدني الفرنسي فيما يخص التعويض عن الضرر الناتج عن الطلاق، فإنه لا يمكن قبول طلب الزوجة الرامي إلى التعويض استنادا للقانون الفرنسي.
نفس الشيء نسجله بالنسبة للقرار الصادر عن نفس المحكمة بتاريخ 17 فبراير 2005 والذي منح للزوجة التعويض عن الطلاق استنادا للمادة 101 من مدونة الأسرة .
أما فيما يخص حق الزيارة فقد تدخلت مدونة الأسرة وخولت للطرف غير الحاضن الحق في زيارة ابنه سواء عن طريق الاتفاق بين الزوجين أو بحكم قضائي .
ولاشك أن هذا المقتضى بالإضافة إلى كونه يضمن حماية حق الطفل في أن تكون له اتصالات مباشرة مع كلا والديه بعد الطلاق، فإنه يتماشى مع معظم المقتضيات المنظمة لحق الزيارة سواء على مستوى القانون الدولي، أو في إطار القوانين الداخلية للدول الأوربية، الأمر الذي يجعله قابلا للتطبيق من طرف الأنظمة القضائية الأجنبية مادام أنه لا يخالف نظامها العام مع ما يعنيه ذلك من إمكانية تقوية روابط الأسرة المغربية بالمهجر لكونه يعطيها فرصة الخضوع لقانونها الوطني.
المطلب الثاني: بالنسبة لتنفيذ الأحكام الأجنبية
نظرا لأن عون التنفيذ لا يخضع للأوامر القضائية الأجنبية تنفيذا لمبدأ سيادة كل دولة، واعتبارا لكون السلطة أو القوة العمومية التي تؤازر هذا العون لا يمكنها القيام بعملها في هذا المجال إلا تنفيذا لأمر الدولة التي تستمد منها هيبتها وقوتها ؛ فإن هذا يعني أن الأحكام الأجنبية الصادرة في حق الجالية المغربية لا يمكنها أن تنتج آثارها بالمغرب إلا بعد حصولها على ما يسمى بالصيغة التنفيذية.
غير أنه لما كان قانون المسطرة المدنية لسنة 1974 يفتقر لتشريع وافر ينظم بدقة موضوع تنفيذ الحكم القضائي الأجنبي بالصيغة التنفيذية ويحدد بعض المفاهيم الأساسية في هذا المجال والتي كانت تتحكم في مصير طلبات التذييل المعروضة على أنظار المحكمة كمفهوم النظام العام ؛ تضمنت مدونة الأسرة بعض المقتضيات التي من شأنها أن تيسر من مسطرة الحصول على الصيغة التنفيذية – الفقرة الأولى-
ومن ثم إدخال نوع من المرونة على موقف القضاء عند نظره في مثل هذا النوع من الطلبات – الفقرة الثانية- فهل فعلا الأمر كذلك؟
الفقرة الأولى: تبسيط مسطرة نفاذ الأحكام الأجنبية
خلافا لمدونة الأحوال الشخصية السابقة والتي لم تكن تتضمن أي مقتضى يتعلق بمعالجة مسألة الحصول على الصيغة التنفيذية، تضمنت مدونة الأسرة في سابقة من نوعها مجموعة من المقتضيات القانونية التي من شأنها تبسيط مسطرة الحصول على الصيغة التنفيذية للأحكام الصادرة في حق الجالية المغربية بالخارج.
إذ بالإضافة إلى معالجتها للعديد من الإشكالات القانونية والاجتماعية التي يطرحها عدم تذييل الأحكام الصادرة عن القضاء المغربي سيما المتعلقة بالطلاق من طرف المحاكم الأجنبية بالصيغة التنفيذية من خلال تجاوزها للعديد من المبررات والدفوعات التي تبني عليها هذه المحاكم أحكامها وقراراتها لاستبعاد القانون المغربي ، تضمنت مدونة الأسرة كذلك بعض المقتضيات المتعلقة بتسوية وضعية الجالية المغربية أمام القضاء المغربي ويتعلق الأمر أساسا بالمادة 128 التي تنص على ما يلي:
" الأحكام الصادرة عن المحاكم الأجنبية بالطلاق أو بالتطليق أو بالخلع أو بالفسخ تكون قابلة للتنفيذ إذا صدرت عن محكمة مختصة وأسست على أسباب لا تتنافى مع التي قررتها هذه المدونة لإنهاء العلاقة الزوجية، وكذا العقود المبرمة بالخارج أمام الضباط والموظفين العموميين المختصين بعد استيفاء الإجراءات القانونية بالتذييل بالصيغة التنفيذية طبقا لأحكام المواد 430 و 431 و 432 من قانون المسطرة المدنية".
فمن خلال هذه المادة يتضح أن القضاء المغربي لم يعد في إمكانه رفض طلب تذييل الحكم الأجنبي بالصيغة التنفيذية إلا إذا خرق في مقتضياته النظام العام المغربي كحرمان أحد الطرفين من حقوق الدفاع مثلا... الخ.
ومعلوم أن مفهوم النظام العام قد عرف تطورا ملموسا على إثر التعديلات التي أدخلت على مدونة الأسرة؛ فما كان يعتبر مخالفا للنظام العام طبقا لمدونة الأحوال الشخصية لم يعد يعتبر كذلك في ظل هذه المدونة ؛ الأمر الذي من شأنه أن يضع حدا للعديد من طلبات التذييل بالصيغة التنفيذية والتي غالبا ما كانت تحكم بالرفض لأسباب واهية تستند إلى كون تلك الأحكام تتعارض مع النظام العام الذي كان يفهم فهما خاطئا لا يتماشى مع مصالح الجالية المغربية بالخارج ؛ بل إن هذا المقتضى من شأنه أن يفسح المجال أمام الجالية المغربية بالمهجر لاختيار تطبيق القانون المغربي عليهم مادام أنهم يعرفون مسبقا أن الأحكام الصادرة بالخارج طبقا له ستحصل على الصيغة التنفيذية بالمغرب.
كذلك من حسنات المادة 128 أنها نصت على أن جميع الأحكام المتعلقة بإنهاء العلاقة الزوجية تكون قابلة للتنفيذ بالمغرب إذا أسست على أسباب لا تتنافى مع التي قررتها هذه المدونة لإنهاء العلاقة الزوجية.
فإضافة إلى أن هذه العبارة من شانها الحفاظ على الهوية والخصوصية الوطنية للجالية المغربية من خلال إعطائها فرصة التمسك بتطبيق قانونها الوطني مادام أن معظم الأسباب التي يمكن أن يعتمدها الحكم الأجنبي للحكم بإنهاء العلاقة الزوجية هي نفسها المنصوص عليها في القانون الجديد سيما ما يتعلق منها بالطلاق بالاتفاق، والطلاق للإخلال بأحد شروط العقد، أو للهجر وعدم المعاشرة الزوجية؛ فإنها ستفتح المجال أمام القضاء المغربي للاعتراف وتنفيذ الأحكام الأجنبية الصادرة في حق الجالية المغربية حتى ولو لم تذكر السبب المؤسس عليه التطليق بنفس المصطلح الوارد في القانون المغربي ، وإنما يكفي أن تكون غير متنافية مع الأسباب المقررة في مدونة الأسرة لإنهاء العلاقة الزوجية ؛ وهي مسألة إيجابية من شأنها تجاوز ما كانت تطرحه مدونة الأحوال الشخصية السابقة والتي كانت تعتبر الحكم الأجنبي الذي لا يتضمن أحد الأسباب المحددة على سبيل الحصر لإنهاء العلاقة الزوجية مخالفا للنظام العام ولا يمكن أن يذيل بالصيغة التنفيذية.
كذلك ومن أجل تبسيط مسطرة التذييل بالصيغة التنفيذية على الجالية المغربية أشار منشور وزير العدل الصادر بتاريخ 13 أبريل 2004 إلى السماح لهم بتكليف من يقوم بهذا الإجراء بالمغرب؛ بل ويمكن للقضاة الملحقين بسفارات المملكة المغربية بالخارج دائما حسب المنشور السابق الذكر مساعدتهم على تحرير ملتمس إلى النيابة العامة قصد تقديم طلب من أجل التذييل بالصيغة التنفيذية ؛ وفي هذا أكبر دليل على عدم إرهاق كاهل الجالية المغربية بالخارج للتنقل إلى المغرب من أجل طلب تذييل حكم صادر في حقها في دولة الإقامة بالصيغة التنفيذية؛ بل إن هذا الإجراء من شأنه أن يحفز الجالية المغربية على المطالبة بتذييل الأحكام الصادرة في حقها بمجرد صدورها بالخارج وبالتالي القضاء على الوضعية السابقة حيث كان الحكم يصدر في تاريخ معين ولا يقدم طلب تذييله بالصيغة التنفيذية إلا بعد مدة من الزمن .
لكن رغم أهمية هذا التعديل وما يحمله من إيجابيات، فإنه لا يخلو مع ذلك من إثارة بعض الملاحظات؛ أهمها أن مدونة الأسرة اقتصرت في مادتها 128 على الإشارة فقط إلى الأحكام الصادرة في قضايا الطلاق أو التطليق أو الخلع أو الفسخ دون غيرها من القضايا، ومن ثم يثار التساؤل حول ما إذا كان القضاء المغربي سيتعامل مع الأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم الأجنبية في جل القضايا الأسرية للجالية المغربية بالمهجر بنفس المرونة التي تنص عليها المادة 128 أم لا؟.
قد يقول البعض أن هذا التساؤل لا أساس له على اعتبار أن المادة 128 قد تداركت الموقف ونصت في فقرتها الأخيرة على منح الصيغة التنفيذية كذلك لكل العقود المبرمة بالخارج أمام الضباط والموظفين العموميين المختصين.
لكن للأسف فإن هذا القول سرعان ما تلاشى بعد تأكيد وزارة العدل في تفسيرها لهذه العبارة: " وكذا العقود المبرمة أمام..." بعقود إنهاء العلاقة الزوجية لا غير .
عموما إذا كان هذا التفسير من شأنه أن يفسح المجال أمام القضاء المغربي لمنح الصيغة التنفيذية لعقود انحلال العلاقة الزوجية المبرمة ليس أمام القضاء فقط؛ وإنما أيضا أمام الموظفين والضباط المختصين وهي مسألة إيجابية من شانها أن تحل بعض المشاكل التي تعاني منها الجالية المغربية المقيمة في بعض الدول التي لا تأخذ بالطلاق القضائي كما هو الشأن بالنسبة للدانمارك والنرويج التي يتم فيها الطلاق أمام هيئة إدارية أو ما يسمى بالطلاق الإداري، فإن حصر هذا التفسير مع ذلك في عقود إنهاء العلاقة الزوجية من شأنه أن يقصي العديد من العقود التي لها علاقة بالروابط الأسرية للجالية المغربية بالمهجر من الحصول على الصيغة التنفيذية طبقا للمادة 128؛ لذلك نأمل ألا يتقيد القضاء بحرفية هذا التفسير المعطى من طرف وزارة العدل ويعمل على تفسير هذا النص – وكذا العقود ... –حسب ظروف كل قضية على حدة وبما يخدم مصالح الجالية المغربية المقيمة خارج أرض الوطن.
كذلك من الملاحظات التي يمكن توجيهها للمادة 128 هو إبقاءها على نفس شروط التذييل بالصيغة التنفيذية كما هي واردة في قانون المسطرة المدنية ، الأمر الذي قد يثير بعض الإشكالات بالنسبة للجالية المغربية.
فمثلا بالرجوع إلى المادة 431 من قانون المسطرة المدنية نجدها تجعل من ضمن المستندات الواجب إرفاقها بطلب الحصول على الصيغة التنفيذية شهادة من كتابة ضبط المحكمة المختصة تشهد بعدم التعرض والاستئناف والطعن بالنقض، فإذا كانت هذه الشهادة لا تثير إشكالا عندما يتعلق الأمر بالطلاق أو بالتطليق فإن الأمر يزداد حدة بالنسبة للطلاق الاتفاقي حيث ترفض بعض المحاكم الأجنبية منح هذه الشهادة للجالية المغربية على أساس أن الطلاق الاتفاقي هو طلاق تم بإرادة الطرفين ومن ثم فهو يكتسب الصيغة النهائية بمجرد المصادقة عليه من طرف الجهة المختصة ولا يبقى هناك أي مجال للطعن فيه ، وهو الأمر الذي قد يتخذه القاضي المغربي ذريعة لعدم قبول دعوى الصيغة التنفيذية نظرا لعدم استيفاءها للشروط المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية كما هو الشأن بالنسبة للحكم الصادر عن ابتدائية الناظور بتاريخ 2004.03.15 والذي قضى بعدم قبول الدعوى وتحميل الصائر لرافعها بعلة أن المدعية لم تقدم نسخة رسمية من الحكم الأجنبي وما يفيد كونه أصبح نهائيا .
إذ ثبت ذلك واعتبارا للدور المهم الذي يمكن أن يقوم به القضاء في تفعيل نفاذ الأحكام الأجنبية أو العكس استنادا لتقنية الدفع بالنظام العام نتساءل عن الموقف المتخذ من طرف القضاء المغربي إزاء المستجدات التي جاءت بها المادة 128 من مدونة الأسرة.
الفقرة الثانية: موقف القضاء من نفاذ الأحكام الأجنبية.
إذا كانت التعديلات التي حملتها المادة 128 من مدونة الأسرة تتضمن إشارة واضحة للقضاء المغربي للتعامل بمرونة مع مفهوم النظام العام في الحالة التي يطلب فيها منه تذييل حكم أجنبي بالصيغة التنفيذية يتعلق برابطة أسرية لمغاربة بالخارج، فإنه بالنظر إلى بعض الأحكام القضائية الحديثة الصادرة عن القضاء المغربي بعد دخول مدونة الأسرة حيز التطبيق نجده لازال يتخذ من النظام العام ذريعة لاستبعاد الحكم الأجنبي مستغلا في ذلك تارة السلطة التقديرية المخولة له لتقدير النظام العام، وتارة أخرى استنادا إلى التفسير السلبي لبعض العبارات الواردة في المادة 128 نفسها، الأمر الذي يمكن معه التمييز في العمل القضائي المغربي بين اتجاهين أساسين:
- اتجاه رئيسي يسير في اتجاه التعامل بمرونة مع تنفيذ الأحكام الأجنبية وهو ما يتضح من خلال العديد من الأحكام القضائية نذكر منها:
* الحكم الصادر عن قسم قضاء الأسرة التابع للمحكمة الابتدائية بفاس بتاريخ 9 يناير 2006 والذي أعطى الصيغة التنفيذية لحكم صادر عن محكمة هيرنة الابتدائية الألمانية القاضي بالطلاق بين زوجين مغربيين استنادا إلى كون الحياة الزوجية بينهما قد انتهت منذ أكثر من سنة وليس من المنتظر إعادة الحياة الزوجية بينهما .
فرغم أن هذا الحكم لم يتضمن أحد الأسباب الواردة في مدونة الأسرة لإنهاء العلاقة الزوجية بل تم تأسيسه استنادا إلى الفصول 1564 و 1566 من القانون المدني الألماني والذي يمكن أن يجد تبريره فيما يسمى بالانفصال البدني بين الزوجين، فقد كيفت المحكمة السبب الوارد في هذا الحكم بأنه يدخل ضمن التطليق للشقاق ومن تم منحه الصيغة التنفيذية .
* الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بالناظور بتاريخ 13 – 09 – 2004 والذي أعطى الصيغة التنفيذية لحكم أجنبي صادر عن محكمة رويرموند بهولندا بتاريخ 17 – 01 – 2002 والذي قضى بالتطليق بين زوجين مغربيين تأسيسا على سبب انهيار العلاقة الزوجية بين الزوجين ، فقبل تعديل مدونة الأسرة لم يكن هذا الحكم ليحصل على الصيغة التنفيذية بالمغرب باعتباره مخالف للنظام العام .
فمن خلال هذين الحكمين إذن يتضح أن القضاء المغربي، أو بالأحرى هذا الاتجاه القضائي قد استوعب أهمية التعديلات التي جاءت بها مدونة الأسرة والرامية إلى تبسيط المسطرة على الجالية المغربية والتخفيف من حدة المشاكل التي كانت تعاني منها على مستوى روابطها الأسرية في حالة بقاء الأحكام الصادرة في حقها بالخارج بدون تنفيذ بالمغرب خصوصا تلك المتعلقة بإنهاء العلاقة الزوجية مع ما كان يعنيه ذلك من بقاء الزوجة مطلقة في دولة الإقامة ومتزوجة بالمغربن، بل وإمكانية متابعتها جنائيا بجريمة الخيانة الزوجية في حالة إبرامها عقد زواج ثاني بالخارج.
- أما الاتجاه الثاني فعلى نقيض الاتجاه الأول يسير في اتجاه التمسك بفكرة النظام العام مستغلا في ذلك ما تضمنته المادة 128 نفسها كذريعة لرفض تذييل الحكم الأجنبي بالصيغة التنفيذية، ومن ذلك الحكم الصادر عن ابتدائية الناظور بتاريخ 19 – 04 – 2004، والذي رفضت فيه منح الصيغة التنفيذية لحكم أجنبي قضى بالتطليق بين زوجين مغربيين معللة ذلك بكون أنه: " بالرجوع إلى الحكم الأجنبي المراد تذييله بالصيغة التنفيذية من خلال ترجمته إلى اللغة العربية يتبين أن هذا الأخير لم يبين الأسباب التي اعتمد عليها للحكم بالتطليق حتى تتمكن المحكمة من معرفة ما إذا كانت هذه الأسباب تتنافى مع تلك التي قررتها المدونة أم لا ؟
نفس الشيء بالنسبة للحكم الصادر عن نفس المحكمة بتاريخ 2004.05.24 والذي رفض منح الصيغة التنفيذية لحكم أجنبي صادر عن القضاء البلجيكي بالطلاق بين زوجين مغربيين وكذا بقسمة وتصفية وتوزيع الأموال المشتركة بينهما بعلة أنه مخالف للنظام العام المغربي الذي لا يعرف ما يعرف بالأموال المشتركة بين الزوجين ما لم يكن هناك اتفاق مسبق بينهما .
يتضح إذن من خلال هذين الحكمين مدى التشدد الذي يطبع موقف هذا الاتجاه القضائي في استعمال الدفع بالنظام العام خصوصا إذا علمنا أن مدونة الأسرة جاءت لتجاوز المشاكل التي يعاني منها المغاربة المقيمون بالخارج بسبب عدم تنفيذ الأحكام الأجنبية الصادرة في حقهم بالخارج وليس لتكريسها .
لذلك يتعين على القضاء المغربي عند استعماله لتقنية الدفع بالنظام العام أن يكون ذلك مفروضا بالحكمة والاعتدال، وبالتالي فلا يصح الالتجاء إليه إلا في الأحوال التي تقتضيها المصالح العليا للمجتمع .
ولا نعتقد أن عدم إعطاء الصيغة التنفيذية لحكم أجنبي لمجرد انه لم يذكر السبب الذي أسس عليه حكمه بالطلاق فيه حماية للمصالح العليا للمجتمع المغربي، بل إن العكس هو الصحيح ، لأن الطلاق قد تم في بلاد المهجر وانتهى الأمر سواء تم تنفيذه بالمغرب أم لا.
عموما وإذا كنا لا ننكر أهمية التعديلات التي جاءت بها مدونة الأسرة فيما يخص الروابط الأسرية للجالية المغربية، فإن التساؤل يبقى مطروحا حول مدى قدرة هذه المستجدات في مواجهة التغيرات التي تعرفها الأنظمة القانونية الغربية إن على مستوى تطور ضوابط الإسناد، أو على مستوى تدويل وعولمة حقوق الإنسان المبنية على الحرية والمساواة المطلقة بين الجنسين .
 
من قول عن مدونة:  http://justicetfamille.skyrock.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم