الخميس، 12 ديسمبر 2013

حدود تصرف المرأة في مال زوجها

بسم الله الرحمان الرحيم


تعد النفقة الزوجية أثراً من آثار عقد الزواج، تدل على تميزه عن غيره من العقود، كما تدل على أن العلاقة التي تنشأ بسببه بين الزوجين تختلف عن غيرها من العلاقات الاجتماعية الأخرى· فالذي تقتضيه الرابطة الزوجية أن يعمل الرجل من أجل إطعام زوجته وإكسائها وتمريضها كما يقوم بذلك لمصلحته· لكن هل يعني استحقاقها ذلك أن لها أن تتصرف في ماله كما تشاء؟ هذه المسألة وردت في شأنها نصوص شرعية تضبطها يمكن على ضوئها مناقشة المسألة وما يرتبط بها فيما يلي:

أولاً: ثبوت حق الزوجة في النفقة وأجر الزوج عليها
يدل قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) البقرة:233، وقوله صلى الله عليه وسلم، لمن سأله عن حق المرأة على زوجها: >أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت<(1)، على أن نفقة المرأة حق ثابت لها على زوجها بمقتضى الزوجية، هذا ما نص عليه أهل العلم بعامة لم يخالف في ذلك واحد منهم، من هنا كان الزوج مأموراً شرعاً بأن يوفر لزوجته وأولاده ما يكفيهم منها، وأنه متى توقف عن دفعها كان لها أن تطالبه بها، بل يكون لها عند تمرده أن تطالب بمفارقته كما هو ظاهر قول أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ >تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني (···) ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني<؟(2)·
إذا ثبت هذا، فليعلم أنه لم يرد في الشرع تقدير نفقة الزوجة بقدر معين، وإنما بيَّن سبحانه أنها تكون بالمعروف، >أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار، كل حسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قُدِرَ عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا) الطلاق:7(3)·
قال ابن تيمية: >تنازع الفقهاء فيما يجب للزوجات من النفقات، هل هي مقدرة بالشرع أم يرجع فيها إلى العرف فتختلف في قدرها وصفتها باختلاف أحوال الناس؟ وجمهور الفقهاء على القول الثاني، وهو الصواب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: >خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف<(4)·
ويستفاد من التنصيص على الكفاية في الحديث أن نفقة الزوجة تقدَّر بكفايتها في العرف، وأنها لا تملك لها، وإنما يطعمها زوجها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى، على هذا دلَّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جرى عمل المسلمين·
وإن من ألطف ما يستفاد من أحكام النفقة أن وجوبها شرعاً على الزوج يثبت معه كونه مأجوراً عليها، فإن أجر الواجب يزداد إذا تم به ابتغاء وجه الله كما نص عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقوله: >إذا أنفق المسلم نفقة على أهله ـ وهو يحتسبها ـ كانت له صدقة<(5)·
وقد نقل الحافظ ابن حجر عن الطبري قوله ملخصاً: >الإنفاق على الأهل واجب، والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوع<(6)·

ثانياً: إهمال الرجل الإنفاق على زوجته
قد يحدث ألا يوفي الرجل ـ لشح نفسه ـ ما تستحقه زوجته من النفقة، فهل يجوز لها أن تعالج الأمر بأخذ جزء من ماله من غير علمه، لتكمل به ما تحتاج إليه؟
أجاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن هذا السؤال، وبيَّن كيف تعالج المرأة هذا الوضع في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: >دخلت هند بنت عُتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح(7)، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم· فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف<(8)· ظاهره أن أبا سفيان على الرغم من يسره ومنزلته في قومه، كان يقتِّر على زوجته وعلى عياله، فلم يكن يمكِّنها من القدر الذي يكفيها من النفقة، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم أخذها من ماله بغير علمه ما يكفيها· ويتبين للقارئ من خلال سؤال هند بنت عتبة حرص عائشة رضي الله عنها على معرفة مدى مطابقة فعلها الشرع، فلم يمنعها شيء من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم ما تريد القيام به، وهذه درجة عالية من الورع تجعل الشخص لا يخشى أحداً في عرض مسألته، ولا يستحيي من الحق أن يقوله ولو على نفسه وأهله، فذكرت زوجها بما يتصف به من شح في حاله معها، ولم يرد من أبي سفيان تكذيب ولا وعيد لها بالطلاق إذ فضحته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع قصتها الصحابة·
ويظهر منه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدَّقها فيما ادَّعته فأجابها بأن أقرها على ما أخذت في الماضي، وبجواز أخذها من ماله فيما يستقبل، بدليل قوله: >لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف<، وهذه الإباحة مقيدة بعدم الغلو في الأخذ لقوله: >خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف<· وهي فتوى(9) منه صلى الله عليه وسلم تفيد أن للمرأة ـ إذا بخل عليها زوجها بالنفقة ـ أن تأخذ من ماله بغير علمه ما يكفيها بالمعروف· وقد أكد هذا التقييد بقوله: >لا، إلا بالمعروف<(01)، قال النووي ـ وهو من الشافعية: >في هذا الحديث فوائد منها وجوب نفقة الزوجة، ومنها وجوب نفقة الأولاد الفقراء الصغار، ومنها أن النفقة مقدَّرة بالكفاية لا بالأمداد(···) ومنها أن من له على غيره حق وهو عاجز عن استيفائه، يجوز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه· وهذا مذهبنا، ومنع ذلك أبوحنيفة ومالك رضي الله عنهما(···)· ومنها أن للمرأة مدخلاً في كفالة أولادها والإنفاق عليهم من مال أبيهم<(11)·

ثالثاً: تصدق المرأة من مال زوجها
يرتبط بالمسألة السابقة مسألة أخرى هي هل يجوز للمرأة إذا أوفاها زوجها حقها من النفقة أن تتصدق من ماله بغير إذنه؟ وإن الجواب عنه يتفرع إلى جزءين أحدهما حكم تصدقها من مال زوجها والثاني مشاركة زوجها في الأجر· ويمكن توسيع القول فيهما فيما يلي:
1 ـ حكم تصدق المرأة من مال زوجها:
لقد ورد توضيح هذه المسألة فيما أخرجه البخاري ومسلم بسنديهما إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً<(21)· وهو ما يفيدنا بظاهره الحكم بجواز أن تنفق المرأة من مال زوجها ولو لم تستأذنه· ولقد وقف علماء السلف عند هذا الحكم فمنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج لها بذلك ولو بطريق الإجمال، فإذا لم يحصل ذلك لم يكن لها أن تفعل· ومنهم من حمله على ما جرت به عادة الناس من إطعام الجائع، فإنه يسمح به في العادة· ويكون إذنه بذلك حاصلاً وإن لم ينطق به لجريان العادة على أن الشيء اليسير لا يؤبه له، اللهم إلا أن يزيد على المتعارف اليسير فيمنع لاشتراط رسول الله عدم إفسادها في تصدقها بقوله >غير مفسدة<· وهذا قول الإمام النووي: >واعلم أنه لابد للعامل وهو الخازن وللزوجة والمملوك من إذن المالك في ذلك، فإن لم يكن إذن أصلاً فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة، بل عليهم وزر(31) بتصرفهم في مال غيرهم بغير إذنه· والإذن ضربان:
أحدهما: الإذن الصريح في النفقة والصدقة·
والثاني: الإذن المفهوم من اطراد العرف والعادة كإعطاء السائل كسرة ونحوها مما جرت العادة به، واطراد العرف فيه، وعلم بالعرف رضاء الزوج والمالك به، فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلم· وهذا إذا علم رضاه لاطراد العرف، وعلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك والرضا به، إن اضطرب العرف وشك في رضاه، أو كان شخصاً يشح بذلك، وعلم من حاله ذلك أو شك فيه، لم يجز للمرأة وغيرها التصدق من ماله إلا بصريح إذنه<·(41)
2 ـ مشاركة الرجل زوجته في الأجر على الصدقة:
يدل ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: >كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب< أن المرأة تأخذ أجرها على تصدقها، ويشاركها زوجها فيه إذ أنفقت من ماله· ولقد ورد هذا الطرف من الحديث بلفظ آخر: >وله مثله< أي للزوج مثل أجرها، فاقتضى ذلك تساويهما في الأجر كما يشعر بذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: >فله نصف أجره<(51)، وذهب الإمام النووي إلى أن >معنى هذه الأحاديث أن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر، ومعنى المشاركة أن له أجراً كما لصاحبه أجر، وليس معناه أن يزاحمه في أجره، والمراد المشاركة في أصل الثواب<(61)، وقال القاضي عياض عند شرحه الحديث: >ليس التصنيف حقيقة بل مجاز، والمعنى الأجر بينكما قسمان، وكونه قسمين لا يقتضي التساوي في الأقدار، أي لك أجر وله أجر بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: >لا ينقص من أجورهم شيئاً<· ويحتمل أن التصنيف بينهما حقيقة دون تفاوت في الأقدار لأن الأجر لا يدرك بقياس ولا هو بحساب الأعمال (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) المائدة:45(71)·

رابعاً: خلاصة القول
نخلص من كل هذا إلى أن المرأة بارتباطها في عصمة زوجية تستحق نفقتها ولو موسرة، وذلك بالمعروف، بحيث إن زوجها لا يبخل عليها بالموجود ولا يتكلف المفقود· ويستحق على ذلك أجراً إذا كان يبتغي بعمله رضي الله لقوله صلى الله عليه وسلم: >ومهما أنفقت فهو لك صدقة، حتى اللقمة ترفعها في في امرأتك<(81)·
وينبني على استحقاقها ذلك أنها مستأمنة على مال زوجها يمكن أن تأخذ منه قدر كفايتها بالمعروف ولو لم يعلم، لكن غير ذلك من التصرفات الأخرى في ماله ولو كان صدقة تتصدق بها، فإنه يحتاج إلى إذن منه ولو على طريق الإجمال اللهم إلا أن تكون صدقتها مما جرت العادة على تقديمها نحو إطعام سائل وإكرام ضيف فإنها نظراً لاطراد العرف باعتبارها لا تحتاج إلى إذن من الزوج، ويكون لها أجرها بما أنفقت ويكون له أجره بما كسب· ويستفاد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاركة الرجل زوجته في الأجر على ما تنفقه ندبه إلى فعل الخير والإعانة عليه كما هو واضح في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: >يا نبي الله! ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير، فهل علي جناح أن أرضخ(91) مما يدخل علي؟ فقال: ارضخي ما استطعت، ولا توعي فيوعي الله عليك<(02)·
قال النووي: >قوله صلى الله عليه وسلم (ارضخي ما استطعت) معناه مما يرضى به الزبير، وتقديره أن لك في الرضخ مراتب مباحة بعضها فوق بعض، وكلها يرضاها الزبير، فافعلي أعلاها، أو يكون معناهما استطعت مما هو ملك لك<(12)· وقال ابن حجر في بيان معنى قوله: >ولا توعي فيوعي الله عليك<: >لا تجمعي في الوعاء وتبخلي في النفقة فتجازى بمثل ذلك<(22)·

الهوامش1 ـ سنن أبي داود: كتاب النكاح، رقم الحديث 2142، وسنن ابن ماجة: كتاب النكاح، رقم الحديث 0581·
2 ـ صحيح البخاري: كتاب النفقة، رقم الحديث 5535·
3 ـ انظر تفسير ابن كثير: قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن) البقرة:332·
4 ـ مجموعة الفتاوى لابن تيمية: ج01/561، وج22/691·
5 ـ صحيح البخاري: كتاب النفقات، رقم الحديث 1535·
6 ـ انظر: فتح الباري لابن حجر: ج01/526، عند شرح الحديث رقم 1535·
7 ـ الشح أقبح من البخل لأن البخل يختص بمنع المال، بينما الشح يعم منع كل شيء في جميع الأحوال، قال تعالى: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) الحشر:9·
8 ـ صحيح البخاري: كتاب النفقات، رقم الحديث 4635· وصحيح مسلم بشرح النووي: كتاب الأقضية، رقم الحديث 2544·
9 ـ عد العلماء جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا فتياً لا حكماً، وهو قول ابن القيم في زاد المعاد: ج3/553: >فهذه فتيا لا حكم، إذ لم يدع بأبي سفيان، ولم يسأله عن جواب الدعوى، ولا سألها البينة<·
01 ـ صحيح البخاري: كتاب النفقات، رقم الحديث 9535·
11 ـ انظر: صحيح مسلم بشرح النووي: كتاب الأقضية، باب قضية هند، عند شرح الحديث رقم 2544·
21 ـ صحيح مسلم بشرح النووي: كتاب الزكاة، رقم الحديث 1632·
31 ـ كون المرأة مأزورة على تصدقها إذا عدمت إذن زوجها الصريح أو الوارد بطريق الإجمال هو قول ابن حجر أيضاً في الفتح عند شرحه هذا الحديث في باب قوله: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم)، كتاب البيوع·
41 ـ شرح النووي على صحيح مسلم: كتاب الزكاة، رقم الحديث 3632·
51 ـ صحيح البخاري: كتاب النفقات، رقم الحديث 0635·
61 ـ شرح النووي على صحيح مسلم، عند شرح الحديث رقم 3632 من كتاب الزكاة·
71 ـ إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض: عند شرح الحديث رقم 3632 من كتاب الزكاة·
81 ـ صحيح البخاري: كتاب النفقات، رقم الحديث 4535·
91 ـ يعني أن أعطي، فالرضخ: العطاء اليسير· لسان العرب لابن منظور: باب الخاء فصل الراء·
02 ـ صحيح البخاري: كتاب الزكاة، رقم الحديث 4341· وصحيح مسلم بشرح النووي: كتاب الزكاة رقم الحديث 5732·
12 ـ شرح النووي على صحيح مسلم، عند شرح الحديث رقم 5632 من كتاب الزكاة·
22 ـ فتح الباري: عند شرح الحديث رقم 0952 من كتاب الهبة·
مجلة الوعي الإسلامي العدد: 468

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم