الأربعاء، 4 ديسمبر 2013

العيب الشخصي وأثره في عقد النكاح - دراسة مقارنة - الجزء2

تتمة البحث.
الفصل الثالث
الآثار المترتبة على الفرقة بين الزوجين بالعيوب


ويتضمن خمسة مباحث:
-        المبحث الأول : حكم المهر بعد الفرقة بالعيب.
-        المبحث الثاني: رجوع الزوج بالمهر على من غره.
-        المبحث الثالث: المتعة للمفارقة زوجها بعيب.
-        المبحث الرابع : عدة المعيبة.
-        المبحث الخامس : حكم النفقة للزوجة بعد الفرقة بالعيب.




المبحث الأول
حكم المهر بعد الفرقة بالعيب
ذهب العلماء إلى أن المهر حق واجب للزوجة على زوجها، لقول الله تعالى:(وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً)([240]).
فقد أمر الله تبارك وتعالى الأزواج بدفع المهور إلى أزواجهن، والأمر الخالي عن القرائن يكون للوجوب فيكون المهر واجباً([241]).
هذا إذا تم الزواج صحيح، ولم يحدث تفريق بين الزوجين، وأما في حالة التفريق بالعيب، فهل تستحق المرأة المهر –أو-لا؟
اختلف الفقهاء في ذلك وفرقوا بين حالة التفريق بين الزوجين بسبب العيب قبل الدخول وحالة التفريق بعده:
الحالة الأولى: التفريق بين الزوجين بالعيب قبل الدخول:
اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين:
الأول: ذهب جمهور الفقهاء ومنهم المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية، إلى أن المرأة التي فرق بينها وبين زوجها بالعيب قبل أن يدخل الزوج ليس لها شيء من المهر، سواء كانت الفرقة قد حصلت من قبل الزوج أو من قبل الزوجة([242]).
الثاني: ذهب الحنفية إلى أن الزوجة التي فرق بينها وبين زوجها بسبب العيب يكون لها نصف المهر إن حصلت الفرقة بينهما قبل الدخول وقبل الخلوة، إن كان قد سمي لها مهراً، وإن لم يكن قد سمي لها مهراً فلها المتعة([243]).
الأدلــة
استدل القائلون بأن من فرق بينها وبين زوجها قبل الدخول بسبب العيب لا مهر لها بما يأتي:
1- إن المرأة هي المتسببة في الفرقة بينها وبين زوجها، وذلك لأنها هي التي تختار نفسها إذا كان العيب بالزوج، ويختار الزوج فراقها إذا كان العيب بالزوجة، فتكون هي المتسببة في الفرقة، لأنها دلست عليه العيب، وإذا كانت الزوجة هي التي تسببت في الفرقة فلا مهر لها.

ويناقش هذا:
بأن المرأة هي السبب في التفريق، سواء كان العيب بها أو بزوجها، غير مسلم، وذلك لأن العيب إذا كان بالزوج يكون هو السبب، حيث دلس على الزوجة بهذا العيب مما دفعها إلى طلب التفريق.
2- إن مقتضى التفريق بين الزوجين أن يرد العوضان، والعوضان هنا المهر والبضع، فكما رد الزوج بضعها كما هو دون أن يستوفي سلعتها لأنه لم يدخل بها، وجب أن يرد إليه مهره كاملاً([244]).
3- أن الزوج قد بذل العوض السليم وهو المهر في مقابلة منافع الزوجة، وقد تعذر على الزوج أن يستوفي هذه المنافع بوجود العيب في الزوجة.
واستدل القائلون بأن لم فرق بينها وبين زوجها بالعيب قبل الدخول نصف المهر بأن الفرقة بين الزوجين بالعيوب لا تعد فسخاً للزواج، بل تعد طلاقاً.
كما أن الزوج هو المتسبب في الفرقة، فوجب تغريمه نصف المهر، وذلك لأن الفرقة إذا كانت بسبب عيب في الزوجة، فالزوج هو الذي يقوم بتطليقها وفقاً للمذهب.
وإذا كانت الفرقة لعيب في الزوج فإن الفرقة تكون بسببه أيضاً، لأنه دلس العيب على زوجته([245]).
ويناقش هذا:
بأن عد الفرقة بين الزوجين طلاقاً يكون احتجاجاً بمذهب على مذهب، كما أن القول بأن الزوج هو المتسبب في الفرقة سواء كان هو المعيب أو زوجته قول غير مسلم، لأن العيب إن كان بالمرأة تكون هي المتسببة في الفرقة، لأنها دلست العيب على الزوج، مما دفع إلى الإقدام على تطليقها.
الرأي المختار:
وبعد فإنني أرى أن التفريق إن كان بسبب عيب في الزوجة فإنها في هذه الحالة لا تستحق شيئاً من المهر، لأنها لو أخذت شيئاً من المهر كان ذلك إضرار بالزوج، ولأن الفرقة حينئذ تكون بسبب هو من جهتها، فلا يغرم الزوج شيئاً.
وأما إذا كانت الفرقة بسبب عيب في الزوج، فإن للمرأة حينئذ نصف المهر جبراً، لما يصيبها من ضرر، لم تتسبب فيه، ولأن التفريق يكون بسبب من جهته، وهذا الاختيار يتوافق مع ما اخترته سابقاً من أن الفرقة بسبب يرجع إلى الزوج تكون طلاقاً، وأما إذا كانت الفرقة بسبب يرجع إلى الزوجة، تكون فسخاً.
الحالة الثانية: الفرقة بين الزوجين بالعيب بعد الدخول:
اتفق العلماء على أن الزوجة التي فرق بينها وبين زوجها بالعيب بعد الدخول تكون مستحقة للمهر كله، وعليها العدة، وذلك لأن المهر يجب على الزوج بمجرد حصول عقد الزواج، ويستقر المهر بالدخول، كما أن المهر صار بالعقد ديناً في ذمة الزوج، والدخول لا يسقط هذا الدين، بل يؤكده، لأن الدخول ما هو إلا استيفاء المعقود عليه، واستيفاء المعقود عليه يقرر البدل، كما هو الحكم في الإجارة([246]).
ثم اختلفوا بعد ذلك في: هل الواجب في هذه الحالة هو المهر المسمى أو مهر المثل على رأيين:
الرأي الأول:
وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية في الراجح عندهم إلى أن الواجب للزوجة في هذه الحالة هو المهر المسمى بشرط أن يكون العيب قد حدث بعد الوطء، ووافقهم الحنابلة في الراجح عندهم وبعض الشافعية سواء حدث العيب قبل الوطء أو بعده([247]).
الرأي الثاني:
وبه قال الشافعية في المرجوح عندهم، والحنابلة في رأي إلى أن الواجب للزوجة في هذه الحالة مهر المثل([248]).
الأدلــة
استدل القائلون بأن الواجب للزوجة في هذه الحالة هو المهر المسمى الذي لتفق عليه الزوجان بأن الفرقة بين الزوجين قد حدثت بعد الدخول في عقد زواج صحيح([249])، والمسمى فيه صحيح أيضاً، فوجب المهر المسمى كما هو الحال في مهر الزوجة غير المعيبة، وكالجارية التي تزوجت عبداً، ثم أعتقها سيدها، فإن لها الخيار في فسخ الزواج بعد حصول حريتها، وإذا فسخت الزواج، فإن لها المهر المسمى إذا كان قد دخل بها.
واستدل القائلون بأن الواجب للزوجة في هذه الحالة هو مهر المثل بأن الزوج قد استمتع بزوجة معيبة وهو إنما بذل المهر المسمى وهو يظن أن الزوجة سليمة من العيوب، ولم تتحقق هذه السلامة، فوجد بالزوجة عيباً فكأن العقد جرى من غير تسمية المهر([250]).
الرأي الراجح:
وبعد فإنني أرى الراجح في ذلك أن الزوجة التي فسخ نكاحها بعد الدخول بسبب العيب، يكون لها الأكثر من المسمى، ومهر المثل إذا كانت الفرقة بسبب من جهة الزوج، وذلك لأن الزوجة ربما تكون قد رضيت بمسمى هو أقل من مهر المثل في سبيل إعفاف نفسها، والاستمتاع بزوجها، فلما لم يتحقق ذلك لها، كان لها المطالبة بأن ترد إلى الأكثر من المسمى ومهر المثل، وأما إذا كانت الفرقة بسبب من جهتها كان لها الأقل من مهر المثل، أو المسمى وذلك لأن الزوج ربما رضي بالمهر الكثير في سبيل إعفاف نفسه، والتمتع بزوجته، فلما لم يتحقق له ذلك على الوجه المقبول، ردت إلى الأقل من المسمى وهو مهر المثل.
هل الخلوة الصحيحة لها حكم الدخول؟
سبق أن عرفنا أن العلماء اتفقوا على أن الزوجة المعيبة المدخول بها تستحق المهر كاملاً، فهل هذا الحكم ينطبق على الخلوة الصحيحة أم –لا؟
وقبل أن أبين هذا الحكم أرى أن أبين معنى الخلوة الصحيحة:
فالخلوة الصحيحة هي التي يجتمع فيها الزوجان في مكان يأمنان فيه من أن يطلع الغير عليهما، وألا يوجد في هذا الاجتماع مانع يمنع من الجماع، سواء كان هذا المانع مانعاً حقيقياً أو شرعياً أو طبيعياً، فالمانع الحقيقي مثل كون أحد الزوجين مريضاً مرضاً يمنع الجماع كالرتق([251]) والقرن، أو صغيراً لا يتأتى منه الوطء، أو كانت الزوجة صغيرة لا تطيق الجماع.
وأما المانع الشرعي: فهو أن يكون أحد الزوجين صائماً صوم رمضان، أو محرماً بالحج أو بالعمرة، أو تكون المرأة حائضاً أو نفساء.
وأما المانع الطبيعي: فهو أن يكون معهما شخص ثالث، لأن الإنسان يأبى أن يجامع زوجته بحضور شخص ثالث ويستحي سواء كان الشخص الثالث رجلاً أو امرأة.
وزاد الحنابلة في الخلوة المعتبرة ألا تمنع الزوجة نفسها من زوجها، فلا تتحقق الخلوة عندهم بمجرد الاختلاء بالزوجة، حتى ولو كان بأحدهما مانع حسي، كجب أو رتق أو مانع شرعي كإحرام أو حيض أو صوم، ولو كان في نهار رمضان، لأن الخلوة نفسها مقررة للمهر([252]).
وبعد أن ذكرت معنى الخلوة الصحيحة، أبين خلاف العلماء في عدتها، كالدخول الحقيقي أو –لا، حيث اختلف العلماء في ذلك على رأيين:
الرأي الأول:
وبه قال الحنفية والحنابلة والزيدية والإباضية، والشافعي في مذهبه القديم: إلى أن الخلوة الصحيحة كالدخول بعد عقد الزواج فتثبت بها العدة، ويتأكد بها المهر كله، ولو لم يحصل دخول حقيقي([253])، ووافقهم المالكية في حال ما إذا كانت الخلوة خلوة بناء.
الرأي الثاني:
وبه قال الظاهرية([254])، والشافعي في الجديد([255])، ومشهور مذهب الإمامية([256]) إلى أن الخلوة الصحيحة ليست كالدخول الحقيقي، فتعامل معاملة المطلقة قبل المسيس، أي أن لها نصف المهر ولا عدة عليها، ووافقهم المالكية فيما كانت الخلوة خلوة زيارة، ولم يدع أحد الزوجين المخالطة([257]).

الأدلــة
استدل القائلون بأن الخلوة الصحيحة كالدخول الحقيقي في ثبوت المهر، بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول:
أما الكتاب:
فقول الله تبارك وتعالى:( وإنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وإثْماً مُّبِيناً * وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً)([258]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
إن الله سبحانه وتعالى نهى الزوج عن أن يأخذ عند طلاق زوجته شيئاً من المهر الذي أعطاها إياه، وعلل ذلك بأن علة النهي عن الأخذ هي إفضاء بعضهم إلى البعض، والإفضاء هو الخلوة سواء دخل بها الزوج أو لم يدخل، إذ أن اشتقاق الإفضاء من فضاء الأرض وهو الموضع الذي لا نبات فيه، ولا حاجز يمنع من إدراك ما فيه فكان المراد منه([259]) الخلوة على هذا الوجه وهي التي لا حائل فيها ولا مانع يمنع من الاستمتاع عملاً بما يقتضيه اللفظ، فظاهر النص يقتضي ألا يسقط شيء من المهر بالطلاق، إلا أنه قد ثبت بدليل آخر سقوط نصف المهر بالطلاق إذا طلقها قبل الدخول وقبل الخلوة فيبقى حال ما بعد الخلوة على ظاهر النص الكريم، وهو ثبوت المهر كاملاً([260]).
أما السنة:
فما رواه الدارقطني عن النبي(صلى الله عليه وسلم) أنه قال:"من كشف خمار امرأته ونظر إليها، وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل"([261]).
وجه الدلالة من الحديث:
فهذا الحديث ظاهر الدلالة في وجوب الصداق كاملاً للزوجة المختلى من زوجها، لأن الزوج لا يكشف خمار امرأته إلا في الخلوة"([262]).
إما الإجماع:
فقد أجمع الخلفاء الراشدون (رضوان الله عليهم) على أن من أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب عليه المهر كاملاً، وقد اشتهر ذلك بين الصحابة ولم يخالف في ذلك أحد، فكان إجماعاً([263]).
وقد نوقش هذا:
بأن الذي نقل هذا الإجماع عن الخلفاء الراشدين هو زرارة، وزرارة لم يكن من الخلفاء الراشدين، فيكون خبره منقطعاً لا يحتج به([264]).
وأجيب عن هذا:
بأنه على فرض تسليم صحة ذلك، فقد ورد ذلك الإجماع من طرق أخرى متصلة السند، فقد روي عن الأحنف بن قيس أن علياً وعمر قالا:"من أغلق باباً وأرخى ستراً فالصداق لها كاملاً، وعليها العدة، وعن الحسن قال: قضى المسلمون أنه إذا أغلق باباً وأرخى ستراً وجب المهر ووجبت العدة([265]).
أما المعقول:
فإن الزوجة بتمكينها الزوج من الاختلاء بها مع عدم المانع من المخالطة الجنسية تكون قد فعلت بذلك ما في مقدورها، فإذا لم يستوف الزوج حقه أثناء تلك الخلوة، فليس في ذلك ما يمنع من تقرير حقها في المهر كاملاً لأن تقصير الزوج في استيفاء حقه لا تؤاخذ هي به، كما في البيع والإجارة، فإن الموجب للبدل فيهما هو تسليم المبدل وذلك برفع الموانع والتخلية بينه وبين المسلم إليه، وهو المشتري، والمستأجر، وإن لم يستوف واحد منهما، المنفعة أصلاً([266]).
واستدل القائلون بأن الخلوة الصحيحة ليست كالدخول الحقيقي في ثبوت المهر بل لها نصف المهر بالكتاب والمعقول:
أما الكتاب فمنه:
1- قول الله تبارك وتعالى:) وإنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وإثْماً مُّبِيناً * وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً(([267]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
هو أن الله تبارك وتعالى نهى الأزواج عن استرداد شيء من المهر عند الطلاق بعد إفضاء كل من الزوجين إلى الآخر أي بعد المخالطة الحقيقية التي هي الجماع والمختلى بها لم يخالطها حقيقة فلم يجب لها المهر كله بل نصفه، إذ أنها مطلقة قبل الدخول.
ويناقش هذا:
بأنه لا يسلم حمل الإفضاء في قوله تعالى:)  وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ( على المخالطة الحقيقية التي هي الجماع، فإن الإفضاء كما يحتمل الجماع يحتمل الخلوة أيضاً، وحمل الإفضاء على الخلوة أولى، وذلك لما ذكر في أدلة المذهب الأول من الحديث والمعقول والإجماع([268]).
2- قول الله تبارك وتعالى: ( وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)([269]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
إن الله تبارك وتعالى قد أوجب نصف المفروض في الطلاق، قبل الدخول في زواج فيه تسمية للمهر، لأن المراد من المسمى في الآية هو الجماع، ولم تفصل الآية في الحكم بين حال وجود الخلوة وعدمها فالذي يقول بوجوب كل المهر المفروض مخالف لهذا النص([270]).
ويناقش هذا:
 بأن الآية الكريمة أثبتت للمطلقة قبل الدخول الحقيقي الحق في نصف المهر، سواء اختلى الزوج بها –أو- لا. ولكن السنة خصصت هذه الآية بالطلاق قبل الدخول وقبل الخلوة، أما في حال الخلوة ولو قبل الدخول فإن الواجب هو المهر كله لما روي عن النبي(صلى الله عليه وسلم) أنه قال:"من كشف خمار امرأته ونظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل"([271]).
أما المعقول فمنه:
1- إن تأكد المهر يتوقف على استيفاء الزوج للمستحق بالعقد والمستحق بالعقد هو منافع البضع واستفاء هذه المنافع إنما يكون بالوطء ولم يوجد من الزوج وطء فلا تستحق المهر كله، وبذلك لا يحصل ضرر للمرأة حيث سلمت له سلعتها وأخذت نصف المهر([272]).
ويناقش هذا:
بأن الخلوة وإن لم تكن دخولاً حقيقياً، إلا إنها تعد دخولاً حكماً لأنها مظنة، ولأن المرأة قد سلمت البدل حكماً فوجب المهر كاملاً.
2- لو أن الخلوة تعد دخولاً حقيقياً لوجب الحد على من اختلى بأجنبية ولو جب الغسل عليه كذلك، ولكن لم يقل أحد من العلماء بذلك.
ويناقش هذا:
بأن من اختلى بأجنبية لا يقام عليه الحد، لأن الحدود تدرأ بالشبهات فلا يقام الحد إلا بعد التيقن من وقوع الجريمة، وأما الغسل فمنوط بالإدخال أو الإنزال.
الرأي الراجح:
وبعد فإنني أرى أن من اختلى بامرأته خلوة صحيحة ولم يدخل بها كان لها المهر كاملاً، لما فيه من العدالة، هذا في حالة ما إذا لم تكن الفرقة بسبب عيب في أحد الزوجين، فإن كانت الفرقة بسبب عيب في أحد الزوجين، فأرى أنها تعطى حكم المطلقة قبل الدخول أي أنها تستحق نصف المهر إذا كانت الفرقة بسبب عيب في الزوج وليس لها شيء إذا كانت الفرقة بسبب عيب فيها، هذا وفقاً للرأي المختار في الزوج وليس لها شيء إذا كانت الفرقة بسبب عيب فيها، هذا وفقاً للرأي المختار في مسألة التفريق بين الزوجين بالعيب قبل الدخول.
الأمور التي تتفق الخلوة الصحيحة مع الدخول الحقيقي والأمور التي تختلف فيها معها:
أولاً: الأمور التي تتفق فيها الخلوة الصحيحة مع الدخول الحقيقي:
تتفق الخلوة الصحيحة مع الدخول الحقيقي في أمور أجمل أهمها فيما يأتي:
1- أن كلاً من الخلوة والدخول الحقيقي مثبت للنفقة بأنواعها، وكذا للعدة، إلا أن بعض علماء الحنفية يرى التفرقة بين حال الدخول الحقيقي والخلوة في مسألة العدة، ففي حالة الدخول الحقيقي تجب العدة قضاء وديانة، لأنها حق الشرع وحق الولد الذي قد تحمل به من هذا الدخول، وأما في الخلوة فوجوب العدة أنما هو قضاء لا ديانة بحيث لو رفع الأمر في ذلك إلى القاضي لم يسعه إلا أن يحكم بوجوب العدة على المرأة التي طلقت بعد الخلوة الصحيحة، ولكنها إذا كانت متيقنة من عدم المخالطة وقت الخلوة، فإنه يحل لها ديانة أن تتزوج من غير أن تعتد من ذلك الطلاق لأنه طلاق قبل الدخول حقيقة([273]).
2- ثبوت النسب: فإذا اختلى الزوج بزوجته خلوة صحيحة وأتت بولد ثبت نسبه منه كما لو أتت منه بعد الدخول الحقيقي([274]).
3- حرمة نكاح من يحرم زواجها ما دامت المختلى بها في العدة، فلا يجوز زواج أخت المختلى بها أو عمتها ما دامت في العدة، وكذلك حرمة التزوج بخامسة إلا بعد انقضاء العدة([275]).
ثانياً: الأمور التي تختلف فيها الخلوة عن الدخول الحقيقي:
تختلف الخلوة الصحيحة عن الدخول الحقيقي في الأمور الآتية:
1- الدخول الحقيقي يثبت به الإحصان ولا يثبت بالخلوة فإذا ارتكبت المدخول بها الفاحشة رجمت، أما إذا ارتكبت المخلي بها هذه الجريمة جلدت([276]).
2- الدخول الحقيقي يثبت به حل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول، ولا يثبت ذلك بالخلوة وفقاً لما ذهب إليه الأئمة الأربعة([277]).
3- الدخول الحقيقي تحرم به بنت الزوجة وهي المسماة بالربيبة، ولا تحرم بالخلوة لقوله سبحانه وتعالى:
(ورَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)([278]).
فقد نصت الآية الكريمة على أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها فإن لم يكن هنا دخول فلا حرمة.
4- إن المطلقة بعد الدخول الحقيقي فيما دون الثلاث يعد طلاقها رجعياً وللزوج مراجعتها بدون عقد ومهر جديدين، ما دامت في عدتها بخلاف المطلقة بعد الخلوة الصحيحة فإنه يقع بائناً، ولا يمكن مراجعتها إلا بعقد ومهر جديدين.
5- إن المدخول بها إذا طلقت طلاقاً رجعياً ومات زوجها وهي في العدة فإنها ترثه، وكذا إذا كان الطلاق بائناً عند جمهور العلماء خلافاً للشافعية بخلاف المخلي بها فإنها لا ترث مطلقها.
6- إن المدخول بها إذا طلقت فإنها تعامل في الزواج معاملة الثيب بخلاف المطلقة بعد الخلوة فإنها تعامل معاملة الأبكار.
7- إن المدخول بها إذا طلقت فإنها تعامل في الزواج معاملة الثيب بخلاف المطلقة بعد الخلوة فإنها تعامل معاملة الأبكار.
8- إن الدخول الحقيقي يفسد العبادة كالصيام ويوجب الغسل بخلاف الخلوة فإنها لا تفسد عبادة ولا توجب غسلاً([279]).

المبحث الثاني
رجوع الزوج بالمهر على من غره
ذهب العلماء إلى أن من طلق امرأته المعيبة قبل أن يمسها وكان لا يعلم بعيبها فإن لها نصف المهر([280]) لقول الله تبارك وتعالى: ( وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ولا تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)([281]).
فإن علم بعد طلاقها بأنها كانت معيبة فهل له أن يرجع بذلك النصف الذي وجب عليه على من غره أو–لا؟
لا خلاف في أنه لا يرجع بشيء مما أعطاها إياه على أحد، وذلك لأن الزوج قد رضي بإزالة الملك والتزام نصف المهر، فلا حق له في الرجوع به على أحد([282]).
وأما إذا اطلع الزوج على عيب في زوجته بعد الدخول بها وفرق بينهما بهذا العيب كان عليه المهر كله لها. ولكن هل له أن يرجع بالمهر على من غره أو لا؟
اختلف العلماء في ذلك على رأيين:
الرأي الأول:
وبه قال المالكية والحنابلة والشافعي في مذهبه القديم إلى الزوج يرجع بالمهر كله على من غره([283]).
وبناءً على ذلك إن كان ولي المرأة عالماً بالعيب غرم المهر وإن لم يكن عالماً بالعيب فالتغرير قد حدث من المرأة فيرجع الزوج عليها بجميع المهر إلا ربع دينار عند المالكية وهو أقل ما يصلح أن يكون مهراً حتى لا يخلو البضع عن مهر، فيكن الوطء في هذا الزواج الخالي عن المهر كله شبيهاً بالوطء في الزنا([284]).
فإن حدث خلاف في علم الولي بالعيب في المرأة فإما أن توجد بينة أو –لا فإذا وجدت بينة بأن شهد شاهدان على الولي بأنه أقر أنه كان عالماً بعيب وليته، رجع على الولي بالمهر وإن لم توجد بينة فالقول قول الولي مع يمينه.
الرأي الثاني:
وبه قال الحنفية والشافعي في مذهبه الجديد إلى أن الزوج لا يرجع بشيء على من غره سواء كان ولي المرأة هو الذي غره أو كانت المرأة نفسها هي التي غرته في حالة العيب المقارن للعقد([285]).

الأدلــة
استدل القائلون بأن للزوج الرجوع بالمهر على من غره بما يأتي:
1- ما روي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب:"أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها مهرها بما أصاب منها، وصداق الرجل على وليها الذي غره"([286]).
وجه الدلالة من هذا الأثر:
ظاهر في حق الزوج في الرجوع على من غره.
2- إن الغار غر الزوج في الزواج بأمر يثبت به الخيار في فسخ الزواج، فوجب أن يكون المهر عليه كما لو غره في امرأة أراد أن يتزوجها فزوجها له على أنها حرة وهي في الحقيقة جارية.
واستدل القائلون بأنه ليس للزوج أن يرجع بشيء على من غره بأن الزوج قد استوفي منفعة البضع المتقوم عليه بالعقد لأنه حصل له الوطء في مقابلة المهر، فلا يرجع بالمهر على من غره، كما هو الحكم في البيع فإنه لو كان المبيع معيباً فأكله المشتري فلا يرجع المشتري بالثمن على البائع.
ويناقش هذا:
بأنه قياس مع الفارق، لأن المبيع المعيب الذي أكله المشتري تعذر رده بخلاف المرأة فلا يتعذر ردها كما أن المبيع المأكول استفيد به كله، وإن كان قد نقص شيئاً ما فإنه يمكن تعويض المشتري لهذا المعيب بإعطائه الأرض.
الرأي الراجح:
وبعد فإنني أرى أن الرأي الراجح هنا هو قول القائلين إن للزوج أن يرجع بالمهر على من غره لما ذكروه من أدلة يضاف إلى ذلك أن الأخذ بهذا الرأي يكون رادعاً لكل من يحاول تزويج امرأة وهو عالم بعيبها دون أن يبين العيب، وبذلك نؤسس الحياة الزوجية على الصراحة والصدق من البداية، ونتجنب كثيراً من المتاعب التي تحدث إذا وقع الزواج بمعيبة.

المبحث الثالث
المتعة للمفارقة زوجها بعيب
بعد أن تبين أن الزوجة المفسوخ نكاحها قبل الدخول لا مهر لها، وأن لها المهر كاملاً إذا فسخ نكاحها بعد الخلوة الصحيحة، أو الدخول الحقيقي، فهل لها في هذه الأحوال متعة أو –لا؟
وقبل أن أتحدث عن هذا أبين معنى المتعة لغة واصطلاحاً:
فالمتعة لغة:
مأخوذة من الإمتاع وهي الشيء الذي يتمتع به ويستعان به على ترويج الحال، ويجوز فيها ضم الميم وكسرها([287]).
وشرعاً:
هي اسم للمال الذي يستحب أو يجب على الرجل دفعة لامرأته بمفارقته إياها، تطيباً لنفسها، وتعويضاً لها عن إيحاشها بالفرقة التي حدثت بينها وبين زوجها([288]).
وبعد أن تحدثت عن معنى المتعة، أتحدث عن معنى المتعة، أتحدث عن آراء الفقهاء في مدى استحقاق الزوجة المفارقة بالعيب للمتعة، فهناك ثلاثة مذاهب للفقهاء في ذلك:
الأول:ذهب الحنفية إلى أن الفرقة بالعيب إذا كانت من جهة الزوج فإنها تأخذ حكم المطلقة في إيجاب المتعة، إذا كانت الفرقة قبل الدخول الحقيقي أو الخلوة الصحيحة، وذلك لأن كل موضع يجب فيه نصف المهر إذا كان مسمى فإنه تجب فيه المتعة إذا لم تكن تسمية وما لا يجب فيه نصف المهر لا تجب فيه المتعة.
وأما إذا كانت الفرقة بعد الدخول والخلوة الصحيحة فإنه يستحب لها المتعة، وأما إذا كانت الفرقة بالعيب من جهة الزوجة فإنها لا تستحق شيئاً([289]).
والثاني: وذهب المالكية والزيدية إلى أن المتعة إلا في فرقة الطلاق، فليس للمرأة متعة إذا فرق بينها وبين زوجها بالعيب([290])، وذلك لقول الله تبارك وتعالى: ( ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى المُتَّقِينَ)([291]). فكان هذا الحكم مختصاُ بالطلاق دون غيره من الفرق.
والثالث: وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن المفسوخ نكاحها بالعيب لا تستحق متعة([292]) وذلك لأنهم يقولون إن الفرقة بالعيب تكون من جهة الزوجة، لأنه إما أن تجد في زوجها عيباً فتختار الفسخ، وإما أن يجد زوجها فيها عيباً فيختار الفسخ فتكون هي المتسببة في هذا الفسخ.
والقاعدة عندهم أن الفرقة إذا كانت من جهة المرأة لا يكون لها حق في المتعة لأن المتعة وجبت لها لما يلحقها من الابتذال بعقد النكاح، وقلة الرغبة بالطلاق وقد حصل ذلك بسبب من جهتها فلم تجب([293]).
الراجح:
- وبعد فإنني أرى إلحاق الفرقة بالعيب بالفرقة بالطلاق هو الراجح، لأنه بالعقد حصل لها الابتذال والامتهان والانتفاع، وبالفرقة حصل لها قلة الرغبة فيها أي نوع الفرقة طلاق أو فسخ.
- ولذلك أرى أن أذكر آراء الفقهاء في متعة المطلقة وبيان ما اختاره من الأقوال حتى يستبين حكم المتعة بالنسبة لمن فرق بينها وبين زوجها بعيب.
- اختلف الفقهاء في حكم استحقاق المرأة المطلقة للمتعة بحسب حالها لأنها قد تطلق قبل الدخول ولم يسم لها مهر أو سمي لها أو تطلق بعد الدخول كما سيأتي:
أولاً: حكم استحقاق المرأة المطلقة قبل الدخول ولم يسم لها مهر للمتعة:
ذهب الحنفية والشافعي في مذهبه الجديد وأرجح الروايتين عند الحنابلة والظاهرية إلى أن المتعة واجبة لها في هذه الحالة([294]).
وذهب المالكية والشافعي في مذهبه القديم إلى أن المتعة مستحبة لها([295]).
الأدلــة
واستدل القائلون بوجوب المتعة للمرأة المطلقة قبل الدخول ولم يسم لها مهر بما يأتي:
1- قول الله تبارك وتعالى: ( لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ومَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى المُحْسِنِينَ)([296]).
2- وقول الله تعالى: ( إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً)([297]).
وجه الدلالة من الآيتين:
إن قول الله تبارك وتعالى: (ومتعوهن) أمر والأمر يقتضي الوجوب، وأداء الواجب لا يتعارض مع الإحسان، وكذلك قوله تعالى في الآية الكريمة(فمتعوهن)([298]).
ويناقش هذا الاستدلال:
بأن تقييد المولى تبارك وتعالى أداء المتعة بالمحسنين لابد أن يكون له فائدة و إلا لما كان لذكره معنى، وهذه الفائدة إنما هي إخراج الأداء عن الواجب إلى الاستحباب.
وقد يجاب عن هذا:
بأن الله تبارك وتعالى ذكر الإمتاع بقوله: (فمتعوهن) في الآية الثانية دون تقييد بالمحسنين أو غيرهم، فدل ذلك على وجوبها مطلقاً في هذه الحالة.
3- إن هذا الطلاق طلاق في نكاح يقتضي عوضاً فلم يعرض عن العوض كما لو سمي لها مهر ولتعويضها عن الإيحاش الذي نالها بسبب الطلاق([299]).
واستدل القائلون باستحباب المتعة للمطلقة في هذه الحالة بما يأتي:
1- قول الله تبارك وتعالى: ( لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) إلى آخر قوله تعالى:)  حَقّاً عَلَى المُحْسِنِينَ(([300]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
إن الله سبحانه وتعالى خص المحسنين بالمتعة فدل ذلك على أنها على سبيل الإحسان والتفضل والإحسان ليس بواجب ولأنها لو كانت واجبة لما خصت المحسنين دون غيرهم.
2- قول الله تبارك وتعالى:)  ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى المُتَّقِينَ(([301]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
إن الآية عامة فقد دل على أن لكل مطلقة متعة على سبيل الندب والاستحباب، لأنها قيدت بالمتقين دون سواهم، ولو كانت واجبة لما اختصت بأحد، إذ الجميع سواء أمام الأحكام الشرعية وخاصة تلك التي تتعلق بالغير.
ويناقش هذا الاستدلال:
بأن تقييد الله سبحانه وتعالى أداء المتعة بالمحسنين والمتقين لا يدل على أن أداءها مستحب، بل كان هذا القيد لبحث المطلق على أدائها دون مماطلة ومراوغة حيث ذكره بالصفات التي يجب أن يتخلق بها المسلم من إحسان وتقوى ليدفعه ذلك إلى حسن الأداء([302]).
الرأي الراجح:
وبعد فإنني أرى الرأي الراجح هو ما ذهب إليه القائلون بوجوب المتعة للمطلقة قبل الدخول ولم يسم لها مهر، وذلك لأن عموميات الأمر بالإمتاع في قول الله تبارك وتعالى:) ومتعوهن( وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله تعالى: (وللمطلقات متاع) أظهر في الوجوب منه في الندب وقوله تعالى على المتقين تأكيد لإيجابها لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله من الإشراك به ومعاصيه. وقد قال تعالى في كتابه العزيز(هدى للمتقين)([303]) .
ثانياً: حكم المتعة للتي لم يدخل بها الزوج وقد سمي لها مهراً:
1- ذهب المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية([304]) في قول: إلى أنه لا يجب لها إلا نصف المهر وليس لها متعة.
2- وذهب الحنفية في الراجح عندهم إلى استحباب المتعة لها([305]).
3- وذهب الظاهرية إلى وجوبها([306]).
الأدلــة
استدل القائلون بعدم وجوب المتعة للمطلقة قبل الدخول وقد سمي لها مهر بما يأتي:
1- قول الله تبارك وتعالى:)   وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ(([307]).
 وجه الدلالة من هذه الآية:
إن الله سبحانه وتعالى بين أن المطلقة قبل الدخول وقد سمي لها مهر أن لها نصف المسمى ولم يذكر متعة ولو كانت لها متعة لبين الله ذلك كما بين للتي لم يفرض لها وما كان ربك نسياً، فتكون هذه الآية مستثناة من آيات إيجاب أو استحباب المتعة للمطلقات([308]).
1- أن الزوج لم يستوف منفعة بضعها فيكفي شطر مهرها لما لحقها من الاستيحاض والابتذال([309]).
2- أن المتعة عوض واجب في عقد فإذا سمي فيه عوضاً صحيحاً لم يجب غيره كسائر عقود المعوضة([310]).
واستدل القائلون باستحباب المتعة للمطلقة في هذه الحالة:
بقول الله تبارك وتعالى:)  ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى المُتَّقِينَ(([311]).
 وجه الدلالة من هذه الآية:
إن الله تبارك وتعالى ندب المتعة لكل مطلقة بعموم هذه الآية وإنما ندبت ولم تجب لتقييدها بالمتقين ولو كانت واجبة ما قيدت بصنف معين.
واستدل القائلون بوجوب المتعة للمطلقة في هذه الحالة بقول الله تبارك وتعالى:)  ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى المُتَّقِينَ(([312]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
إن هذه الآية عمت كل مطلقة ولم تخص أحداً وأوجبت المتعة حقاً للمطلقة على كل متقٍ يخاف المولى تبارك وتعالى، وكل إنسان مطالب أن يكون متقياً لله عز وجل.
ويناقش هذا:
بأن تقييد الآية بأن المتعة حق على المتقين يدل على عدم الوجوب لأنه لو كان المراد الإيجاب لما قيدت بصنف معين.
وقد أجاب ابن حزم الظاهري على هذا بقوله([313]).
بأن قول الله تعالى:)  حَقاً عَلَى المُتَّقِينَ( أي واجبة عليهم فما دمتم تحتجون بهذه الآية كان الواجب عليكم أن تجعلوا المتعة واجبة على كل متقٍ مندوبة في غيره، ولكنكم لا تقولون بهذا وبالنظر إلى أن كل مسلم هو على أديم الأرض فهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهو محمد جملة المتقين بقوله ذلك، وإيمانه، ومن جملة المحسنين والمتقين ولو لم يقع اسم محسن ومتق إلا على من يحسن ويتقي في كل أفعاله لم يكن في الأرض محسن ولا متق بعد رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، إذ لابد لكل من دونه من تقصير وإساءة([314]).
ورد هذا:
بأن إطلاق لفظ المتقي على كل مؤمن غير مسلم إذ المتقي هو الذي يراقب المولى تبارك وتعالى في معظم أفعاله وأقواله، فليس المتقي الذي لا تصدر منه هفوة مطلقاً ولا الذي يقتصر على كلمة التوحيد ويبتذل في معظم أفعاله وأقواله.
الرأي الراجح:
وبعد، فإنني أرى أن ما ذهب إليه القائلون بعدم وجوب المتعة للمطلقة قبل الدخول وقد سمي لها مهراً هو الأولى بالقبول والراجح وذلك لأن الله تبارك وتعالى ذكر للمطلقة في هذه الحالة نصف المهر، ولم يزد وهذا هو ما تستحقه بعدالة الشريعة، وذلك لأنه بالنظر إلى الزوج فإنها لا تستحق شيئاً من المهر ولا غيره، لأنه لم يستوف منافعه منها كاملة، وبالنظر إلى الزوجة فإنها تستحق المهر كله لما يلحقها من ضرر بين، فتوسط الشارع الحكيم وجعل لها نصف المهر وهذا يكفي لتحقيق العدالة.
ثالثاً: حكم المتعة للمطلقة بعد الدخول:
اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين:
الأول: وبه قال الشافعي في الأظهر والظاهرية إلى وجوب المتعة للمطلقة بعد الدخول([315]).
والثاني: الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعي في القديم إلى استحباب المتعة لها([316]).
الأدلــة
استدل القائلون بوجوب المتعة للمطلقة بعد الدخول بما يأتي:
1- قول الله تبارك وتعالى:)  ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى المُتَّقِينَ(([317]).
وجه الدلالة من الآية:
إن الله تبارك وتعالى أوجب المتعة لكل مطلقة بعموم هذه الآية والمدخول بها من بينهن فتجنب لها المتعة.
ويناقش هذا:
بأن هذه الآية لا دلالة فيها على الوجوب، لأنها مقيدة بالمعروف، وإلزام المتقين بذلك ينافي الوجوب.
يجاب عن هذا:
بأن عموميات الأمر بالإمتاع وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله تعالى:)  ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ( أظهر في الوجوب منه في الندب([318]).
2- قول الله تبارك وتعالى:)  فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ(([319]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
إن الله تبارك وتعالى أوجب التسريح بإحسان والمتعة من التسريح بإحسان فكانت واجبة.
3- قول الله تبارك وتعالى:)  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً(([320]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
إن قوله سبحانه وتعالى:) فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ( يدل على استحقاق المطلقة بعد الدخول للمتعة لأنه لو لم يكن ذلك لدخلت في قوله تبارك وتعالى:) وأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً( ولكنها عطفت عليها، والعطف يقتضي المغايرة واستدل القائلون باستحباب المتعة للمطلقة بعد الدخول بقول الله تبارك وتعالى:)  ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى المُتَّقِينَ(([321]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
إن الله تبارك وتعالى أخبر أن للمطلقات متاعاً وهذه الآية عامة فتشمل المطلقات جميعاً إلا ما استثناه الدليل والذي يصرف الآية عن الوجوب إلى الندب تقييدها بالمتقين كما مر.
الرأي الراجح:
وبعد فإنني أرى أن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه القائلون بوجوب المتعة للمطلقة بعد الدخول وذلك لأن جميع المهر وجب لها في مقابلة استيفاء منافع البضع وحتى لا يخلو الطلاق عن جبر لنفسها وجبت لها المتعة مواساة لما يلحقها من إيحاش([322]).
مقدار المتعة:
اختلف الفقهاء في تحديد مقدار المتعة الواجبة أو المستحبة على الرجل لمن فارقها على أربعة مذاهب كما يأتي:
1- ذهب الحنفية إلى أن أقل ما يصلح أن يكون متعة للمرأة هو قميص يستر بدنها كله وخمار تغطي به المرأة رأسها، وإزار تشتمل به حين تريد الخروج وليس هناك حد لأكثرها إذا أعطى الزوج ذلك باختياره ورضاه و إلا فلا يجب ما يزيد عن نصف مهر المثل، لأن المتعة في الطلاق قبل الدخول إذا لم تكن هناك تسمية صحيحة للمهر تعد بدلاً عن نصف مهر المثل فلا يجوز أن تزيد عليه، ويمكن إعطاء المرأة قيمة المتعة نقوداً وتجبر المرأة على القبول وحينئذ يجب ألا تقل النقود عن خمسة دراهم لأنها اقل نصف الواجب شرعاً في المهر، والمتعة قائمة مقام النصف([323]).
2- وذهب المالكية إلى أنه ليس للمتعة حد معروف في قليلها ولا كثيرها فيمتع كل بقدره فيجوز الإمتاع بخادم أو كسوة أو بنفقة إلى غير ذلك مما يدخل في الاستطاعة، واستدلوا في ذلك بقول الله تبارك وتعالى: )ومَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى المُحْسِنِينَ)([324]).
فقد نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يتم لها مهراً ثم طلقها قبل أن يمسها، فنزلت الآية، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) متعها ولو بقلنسوتك([325]). ولو كان للمتعة حد أدنى أو أعلى لبينه النبي(صلى الله عليه وسلم)، لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة([326]).
وما رواه الدارقطني عن سويد بن عقلة قال:"كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي بن أبي طالب فلما أصيب علي وبويع الحسن بالخلافة قالت لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين فقال يقتل علي وتظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق ثلاثاً، قال: فتلفعت بساجها([327]) وقعدت حتى انقضت عدتها فبعث لها بعشرة آلاف درهم متعة وبقية ما بقي لها من صداقها، فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق([328]).
ووافقهم الزيدية في عدم تحديد مقدار المتعة إلا أنهم يرون أنه يجاوز بالمتعة نصف مهر المثل([329]).
3- وذهب الشافعية إلى أن المتعة المستحبة لا تقل عن ثلاثين درهماً أو ما هو قيمته ذلك، وهذا أدنى المستحب وأعلاه خادم وأوسطه ثوب وذلك لما روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنه قال:"يستحب أن يمتعها بثلاثين درهماً"([330]).
وروي عنه أنه قال: يمتعها بجارية ويسن أن لا تبلغ نصف مهر المثل فإن بلغته أو جاوزته جاز لإطلاق الآية الكريمة.
أما إذا كانت المتعة واجبة فإن تراضيا على شيء فذاك حتى ولو كان أكثر من مهر المثل وإن تنازعا قدرها القاضي بحسب اجتهاده([331]).
4- وعند الحنابلة روايتان في مقدار المتعة:
الرواية الأولى: إن أكثر المتعة إن كان الزوج موسراً خادم وأقلها كسوة إزار وخمار وثوب تصلي فيه، وذلك لأن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: أعلى المتعة خادم ثم دون ذلك الكسوة كالنفقة وقدرت بكسوة تجوز الصلاة فيها، لأن الكسوة الواجبة بمطلق الشرع تقدر بذلك كالكسوة في الكفارة، وليس معنى هذا أنه لا يجوز للزوج أن يمتع من فارقها بأكثر من الخادم أو –لا. يجوز للمرأة أن تقبل أقل من الكسوة بل إذا سمحت نفس الزوج بأكثر من الخادم ورضيت المرأة بأقل من الكسوة جاز ذلك لأن الحق لهما لا يخرج منهما، وهو ما يجوز بذله، فجاز ما اتفق كالصداق.
والرواية الثانية: إن تقدير المتعة يرجع إلى اجتهاد القاضي لأنه أمر لم يرد الشرع بتقديره وهو مما يحتاج إلى الاجتهاد فيجب الرجوع فيه إلى الحاكم كسائر المجتهدات([332]).
من يراعي حالة في تقدير المتعة؟
اختلف الفقهاء فيمن يراعي حالة في تقدير المتعة، على ثلاثة آراء:
الرأي الأول:
وبه قال أبو يوسف من الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعية في رأي عندهم إلى أن المعتبر في تقدير المتعة هو حال الزوج من يسار وإعسار([333])، وذلك لقول الله تبارك وتعالى: (ومَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ)([334]).
الرأي الثاني:
وبه قال الكرخي من الحنفية وأحد آراء الشافعية إلى أن المعتبر في تقدير المتعة هو حال المرأة في يسارها وإعسارها([335]) وذلك لما يأتي:
أ- أن الله تعالى بعد أن ذكر المتعة قال: ( مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ) وليس من المعروف أن تعطى الغنية ذات الثراء العظيم كسوة لا تليق بمثلها.
ويناقش هذا:
بأن قول الله تبارك وتعالى: ( ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) ليس فيها ما يدل على أن المعتبر في المتعة حال الزوجة، بل كل ما فيها أنها تدل على إثبات المتعة للمطلقة بالمعروف اعتبار حال الزوج من اليسار والإعسار بالآية الأولى.
ب- أن المتعة قائمة مقام مهر المثل والمراعى فيه تقديره بحال الزوجة فكذلك ما قام مقامه.
الرأي الثالث:
وبه قال بعض الحنفية والشافعية في رأي ثالث إلى أن المعتبر في المتعة حال الرجل والمرأة من يسار الزوج وإعسار ونسب المرأة وصفاتها([336]). وذلك لأن الله سبحانه وتعالى اعتبر في المتعة شيئين:
أحدهما: حال الرجل في يساره وإعساره بقوله تبارك وتعالى: ( عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ)([337]).
والثاني: أن يكون مع ذلك بالمعروف بقوله تبارك وتعالى: ( مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ)، وعلى هذا فلو اعتبرنا في تقدير المتعة حال الزوج وأغفلنا حال الزوجة فإن ذلك قد لا يكون بالمعروف.
ويناقش هذا:
بما نوقش به دليل الفريق السابق.
الرأي الراجح:
وبعد، فإنني أرى أن الرأي الراجح هنا هو أن المتعة لا حد لها، لأن ذلك يوافق القرآن، كما أن المتعة لو كان لها حد معين لبينه الرسول(صلى الله عليه وسلم) حيث لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، هذا إذا كان فرض المتعة باختيار الطرفين، ودون نزاع بينهما، فإن حصل النزاع فيكون المعتبر في المتعة ما يطلق عليه اسم المتعة من التمتع والمتاع بحسب ما هو متعارف.
كما أرى بأن المتعة تقدر بحسب حال الرجل، لأنه هو الذي سيكلف بأداء المتعة،فإذا كان فقيراً والزوجة غنية، وألزمناه أن يكسوها بما يليق بمثلها، فقد كلفناه ما ليس في وسعه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها فيتضرر بذلك. والله أعلم.


المبحث الرابع
عدة المعيبـــــة
اتفق الفقهاء على أنه إذا وقعت الفرقة قبل الدخول والخلوة، فلا عدة على المرأة، كما اتفقوا على أنه إذا وقعت الفرقة بعد الدخول وجبت العدة([338]). لقول الله تبارك وتعالى: ( والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)([339]). ولقوله تبارك وتعالى: ( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً(([340]).
وجه الدلالة من هاتين الآيتين:
دلت الآية الأولى على أن عدة المطلقة ثلاثة قروء، ثم استثنت الآية الثانية من طلقت قبل المسيس فلم تجعل عليها عدة.
ثم اختلفوا بعد ذلك فيما لو حدثت خلوة بين الزوجين على رأيين:
الرأي الأول:
وبه قال الحنفية والمالكية والحنابلة وهو القديم من مذهب الشافعي إلى أنه تجب العدة على المختلى بها([341]).
الرأي الثاني:
وبه قال الشافعي في الجديد والإمامية في الراجح عندهم إلى أنه لا تجب العدة على من اختلي بها([342]).
الأدلــة
استدل القائلون بوجوب العدة على المختلى بها بما يأتي:
1- قول الله تبارك وتعالى:)  وإنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وإثْماً مُّبِيناً * وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً(([343]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
لقد نهى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن أخذ شيء من المهر عند طلاق زوجاتهم وأبان عن معنى النهي وهو وجود الخلوة بالزوجة، إذ معنى الإفضاء هو الخلوة كما ذكره، وما دامت استحقت المهر فعليها العدة([344]).
2- ما رواه الدارقطني بسنده مرفوعاً إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) أنه قال:" من كشف خمار امرأته ونظر إليها وجب الصداق دخل أو لم يدخل"([345]).
وهذا نص في المسألة لأن الإنسان لا يكشف خمار امرأته إلا في الخلوة، فدل هذا على أن الخلوة كالدخول في وجوب المهر فتكون كذلك في وجوب العدة([346]).
واستدل القائلون بعدم وجوب العدة على المختلى بها بأن الله سبحانه وتعالى قال:)  والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ(([347]).
فقد أخبرت الآية عن تربص المطلقات المدة المذكورة وهذا أبلغ في وجوب العدة والآية شاملة للمدخول بها وغيرها حصلت خلوة أو –لا.
وجاءت الآية الثانية وهي قوله تعالى:)  ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا(([348]). فأخرجت هذه الآية التي تمس فلم توجب عليها عدة. أما التي مست وهي التي دخل بها الزوج فعليها العدة([349]).
الراجح:
وبعد فإنني أرى أن ما ذهب إليه القائلون بأن الخلوة توجب العدة كما توجب المهر هو الراجح والأولى بالقبول، وذلك لأنها مظنة الوقاع فتعامل معاملته خاصة وأن الشرع قد نص على اعتبار الخلوة في جانب المهر وتقريره كاملاً فيجب اعتبارها في إيجاب العدة. يضاف إلى ذلك أن بعض العلماء([350]) قد فسر المسيس بأنه الخلوة وبذلك يمكن صرف دليل الشافعية عن ظاهره. والله أعلم.

المبحث الخامس
حكم النفقة للزوجة بعد الفرقة بالعيب
عرفنا فيما مضى أن الفرقة بالعيوب بين الزوجين هي فرقة بائنة بينونة صغرى سواء عد الفقهاء هذه الفرقة طلاقاً أو فسخاً، ولذلك أذكر حكم نفقة البائن، وقبل ذلك أبين معنى البينونة.
أ- معنى البينونة:
تنقسم البينونة قسمين: بينونة صغرى، بينونة كبرى.
أما البينونة الصغرى:
فهي التي لا يملك الزوج فيها مراجعة زوجته إلى عصمته إلا بعقد ومهر جديدين، وهذه البينونة تتحقق بعدة أمور منها: أن يكون الزوج قد طلق زوجته قبل الدخول فتبين منه أو يكون قد طلقها على قدر معين من المال، أو يكون طلاقاً أوقعه القاضي بعد طلب الزوجة الفرقة، لوجود عيب من العيوب التي تمنع الاستمتاع أو لإضرار الزوج بالزوجة بالقول أو بالفعل، كما يراه بعض العلماء، وكما لو طلق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً ولم يراجعها حتى انقضت عدتها منه، ففي هذه الأحوال كلها تبين المرأة بينونة صغرى.
أما البينونة الكبرى:
فهي التي لا يتمكن الزوج فيها من إرجاع زوجته إلى عصمته، إلا إذا تزوجها آخر زواجاً صحيحاً غير مؤقت ودخل بها دخولاً حقيقياً، ثم فارقها بنحو موت أو طلاق ثم انقضت عدتها منه، حينئذ يجوز للزوج الأول أن يعقد على هذه المرأة لتصير زوجة له وهذه البينونة هي التي تكن بعد الطلقة الثالثة([351]).
ب- حكم نفقة البائن:
المعتدة البائن إما أن تكون حاملاً وإما أن تكون حائلاً. وقد اختلف الفقهاء في حكم نفقة كل منهما، وأوضح ذلك فيما يلي:
أولاً: نفقة الحامل:
اختلف الفقهاء في وجوب النفقة للبائن الحامل على رأيين:
الأول: وبه قال جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والإمامية والزيدية في الراجح عندهم إلى وجوب النفقة لها([352]).
والثاني: وبه قال الظاهرية وبعض الزيدية إلى أن البائن الحامل لا تستحق نفقة([353]).

الأدلــة
استدل القائلون بوجوب النفقة بوجوب النفقة للبائن الحامل بالكتاب والسنة والمعقول:
أما الكتاب:
فقول الله تبارك وتعالى:)  أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وجْدِكُمْ ولا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ(([354]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
إن الله تبارك وتعالى أوجب في هذه الآية للمطلقات أولات الحمل عموماً النفقة حتى يضعن حملهن وفعل الأمر في الآية( فَأَنفِقُوا) يفيد الوجوب حيث لا قرينة تصرف اللفظ عن ظاهره، فالآية بعمومها تشمل البائن الحامل فتجب لها النفقة([355]).
وأما السنة:
فما رواه أبو داود والنسائي: أن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال لفاطمة بنت قيس، وقد بت زوجها طلاقها:"لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملاً"([356]).
وجه الدلالة من هذا الحديث:
هو أن الرسول(صلى الله عليه وسلم) قضى على فاطمة بنت قيس بألا نفقة لها إلا في حالة واحدة وهي أن تكون حاملاً فدل ذلك على أن الحامل لها نفقة.
وأما المعقول:
فهو أن البائن الحامل تجب لها النفقة لأنها حامل بولده. وهو يجب أن ينفق عليه، ولا يمكن الإنفاق على الحمل، إلا إذا أنفق على أمه فيجب على الزوج أن ينفق على تلك الأم كما تجب عليه أجرة الإرضاع([357]).
واستدل القائلون بعدم وجوب النفقة للبائن الحامل بالكتاب والسنة:
أما الكتاب:
فقول الله تبارك وتعالى:  (وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)([358]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
إن قول الله تبارك وتعالى في صدر الآية: ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وجْدِكُمْ)([359]). في حق المطلقات طلاقاً رجعياً.
 وكذلك قوله تعالى (وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ) يكون في حق المطلقات طلاقاً رجعياً أيضاً لأنه معطوفاً على ما جاء في صدر الآية، فتكون النفقة واجبة للحامل المطلقة طلاقاً رجعياً دون سواها.
ويناقش هذا:
بأن الله تبارك وتعالى في صدر هذه الآية أطلق السكن للمطلقات ولم يرد دليل صحيح يقيد هذه الآية بالمطلقات طلاقاً رجعياً فيكون ما عطف عليها غير مخصوص بالمطلقات طلاقاً رجعياً أيضاً.
أما المعقول:
فهو أن النفقة تجب بالزوجية حقيقية أو حكماً والبائن قد انقطعت زوجيتها فلا نفقة لها.
ويناقش هذا:
بأن النفقة للحمل، وهي واجبة على أبيه ولا يمكن للأب أن ينفق على الحمل إلا بالإنفاق عليها فوجبت لها النفقة.
الرأي الراجح:
وبعد فإن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن الحامل البائن لها النفقة.
وقد اختلف الفقهاء في سبب وجوب النفقة للبائن الحامل على ثلاثة أقوال:
الأول:ذهب الشافعي في الجديد وجماعة من فقهاء الحنابلة إلى أنها تجب للزوجة من أجل الحمل لأنها لو وجبت له لقدرت بكفايته وذلك يحصل بما دون المد، لأنه دون كفاية أمه قطعاً، ولأنها تجب مع اليسر والإعسار، فكانت لها كنفقة الزوجات([360]).
والثاني: ذهب الشافعي في القديم والمالكية وبعض الحنابلة إلى أنها تجب للحمل لأنها تجب بوجوده وتسقط بعدمه([361]).
والثالث: واختار ابن تيمية قولاً([362]) ثالثاً: هو أن النفقة تجب للحمل ولها من أجله لكونها حاملاً بولده، فهي نفقة عليه لكونه أباه لا لكونها زوجة له. وقد دل على ذلك قول الله تبارك وتعالى: ( وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)([363]). وقوله تعالى: ( وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)([364]) فقد جعل الإرضاع على من وجبت عليه نفقة الحمل، ومعلوم أن أجر الرضاع تجب على الأب لكونه أباً، فكذلك نفقة الحامل، ولأنه في الآية الأخيرة يقول: (وعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)([365]) أي وارث فأوجب عليه ما يجب على الأب، وهذا كله يبين أن نفقة الحمل والرضاع من باب نفقة الأب، وعلى ابنه، لا من باب نفقة الزوج على زوجته، وهنا ينفق على الحامل كما ينفق على المرضعة([366]).
ثانياً: نفقة الحائل:
والحائل هي غير الحامل، وقد اختلف الفقهاء في وجوب النفقة لها على ثلاثة آراء:
الرأي الأول:
وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة في رواية، وبعض الزيدية إلى أنه لا يجب لها من النفقة إلا السكنى([367]).
الرأي الثاني:
وبه قال الحنفية والزيدية في الراجح عندهم إلى أنه يجب لها السكنى والنفقة([368]).
الرأي الثالث:
وبه قال الحنابلة في ظاهر المذهب، والظاهرية والإمامية وبعض الزيدية إلى أنه لا نفقة لها ولا سكنى([369]).
الأدلــة
استدل القائلون بأن البائن الحائل ليس لها من النفقة إلا السكنى بالكتاب والسنة:
أما الكتاب فمنه:
1- قول الله تبارك وتعالى: ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وجْدِكُمْ ولا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)([370]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
إن الله تبارك وتعالى أوجب السكنى لكل مطلقة ومنها البائن الحائل. وأما النفقة فقد خص بها الحامل دون الحائل فدل ذلك على وجوب السكنى للبائن الحائل دون النفقة.
ويناقش هذا:
بأن قول الله تبارك وتعالى:)  َسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم( ليس عاماً في جميع المطلقات بل هو في حق المطلقات طلاقاً رجعياً لأن الآيات التي سبقتها ليست عامة ولكنها في حق المطلقات طلاقاُ رجعياً بدليل قول الله تبارك وتعالى:)  لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً(([371])  ولا يكون إحداث الأمر إلا في حالة الطلاق الرجعي، ويكون ذلك بردها إلى عصمته.
وقوله تعالى:( فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)([372]) ولا يكون الإمساك إلا للمطلقة طلاقاً رجعياً حيث لا يستطيع الزوج إمساك البائن.
وقوله تعالى:( ولا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ)([373]) وهل يستطيع الزوج أن يضيق إلا على المطلقة طلاقاً رجعياً وذلك بأن يراجعها قبل انقضاء العدة وما إلى ذلك من أمور المضايقات فهذه الشواهد تدل على أن الحديث في هذه الصورة توجه إلى المطلقات طلاقاً رجعياً فيكون الخطاب أيضاً في السكنى متعلقاً بهن فلا تصلح الآية أن تكون دليلاً على وجوب السكنى للبائن([374]).
يجاب عن هذا:
بأن الآية في البوائن فقط دون الرجعيات إذ الآية بتمامها هي(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وجْدِكُمْ ولا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وإن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)([375])
فمرجع الضمائر كلها في الآية الكريمة واحد، ولما كان مرجع الضمائر في الآية واحداً فإنه يجب أن تكون هذه الآية في المطلقات البوائن لا المطلقات البوائن والرجعيات وذلك لأنه لو جعلنا الآية عامة في المطلقات البوائن والرجعيات للزم من ذلك أن تكون النفقة للمعتدة الرجعية غير واجبة، إذا كانت غير حامل، لأن الله تعالى يقول في نفس الآية:( وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ) فقد قيد وجوب الإنفاق بكونها حاملاً، وذلك لأن العلماء متفقون على أن النفقة للمطلقة الرجعية واجبة مطلقاً سواء أكانت حاملاً أو غير حامل فوجب لذلك أن تكون في البوائن، حتى لا تحصل المخالفة لإجماع علماء الأئمة.
ويناقش هذا:
بأن فهم الآية على أنها قاصرة على البائن فقط يؤدي إلى أن المطلقة الرجعية لا يجب لها سكنى، مع أن من المعروف أنه تجب السكنى للمطلقة طلاقاً رجعياً.
يجاب عن هذا:
بأن تخصيص قول الله تبارك وتعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ) بالبوائن لا ينفي المطلقة الرجعية لها حق السكنى، وذلك لأن السكنى قد ثبتت للمطلقة الرجعية([376])، بنص آخر هو قوله تعالى:( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)([377]). فلا يضر أن تكون المطلقة الرجعية غير داخلة في قوله تعالى:(أَسْكِنُوهُنَّ) ما دام هناك نص آخر قد دل على وجوب السكنى لها.
وأما السنة:
فما رواه الدارقطني بسنده إلى ابن سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس (رضي الله عنها)، أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال:"والله مالك علينا من شيء"فجاءت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فذكرت ذلك، فقال:"ليس لك عليه نفقة"، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال:"امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا أحللت فأذنين..."إلخ([378]).
وجه الدلالة من الحديث:
إن قول النبي(صلى الله عليه وسلم) ليس لك عليه نفقة دل على نفي وجوب النفقة للبائن دون السكنى، حيث لو لم يكن لها سكنى لوضحه النبي(صلى الله عليه وسلم)، وإنما أمرها أن تعتد في بيت ابن مكتوم لأن المكان كان وحشياً أي ليست فيه من تأنس به فخيف عليها منه.
ويناقش هذا:
بأنه حديث أحاد وشرط العمل بالآحاد عدم طعن السلف فيه، وعدم الاضطراب وعدم معارض يجب تقديمه والناظر في هذا الحديث يجد كل هذه الأمور فيه.
أ- أما طعن السلف فقد طعن فيه أكابر الصحابة وليس من أجل أنه مروي من جهة امرأة، فقد قبلوا رواية غيرها من النساء وإنما ردوه لما علموه من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مخالفاً له وقد استقر الحال عليه بعد وفاته(صلى الله عليه وسلم)، بين السلف، إلى أن روت فاطمة بنت قيس هذا الخبر، فرده عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فقد أنكره الإمام أحمد بن حنبل (رضي الله عنه)، وقال: أما هذا فلا، ولكن قال لا نقبل في ديننا قول امرأة كما أنكر هذه الزيادة عدد من المحدثين فقال الدارقطني هذه الزيادة غير محفوظة والمحفوظ كتاب ربنا ونحوه([379]).
ويرد على ما حفظ عن سيدنا عمر (رضي الله عنه) من قوله لا نقبل في ديننا قول امرأة (من وجهين):
الوجه الأول: إنه مضطرب متناً:
لأن قوله لا تقبل قول امرأة مخالف للإجماع فإن الأمة قد أخذت بقول المرأة، كحديث فريعة في المتوفى عنها زوجها([380]).
وخبر فاطمة بنت قيس في حديث الدجال([381]) وما روته السيدة عائشة (رضي الله عنها) وغيرها وهو كثير قد حفلت به كتب السنة([382]).
الوجه الثاني: إنه مضطرب سنداً:
لأن ذلك من رواية حماد عن إبراهيم عن عمر، وإبراهيم لم يسمع عن عمر لأنه ولد بعد وفاة عمر ابن الخطاب بسنتين، فكان منقطعاً، والمنقطع لا تقوم به الحجة([383]).
ب- أن هذا الحديث (حديث فاطمة بنت قيس) مضطرب، فقد جاء في بعض الروايات أنه طلقها وهو غائب وفي بعضها أنه طلقها ثم سافر، وبعضها أن خالد بن الوليد ذهب في نفر فسألوا الرسول(صلى الله عليه وسلم) وبعضها أنها ذهبت هي فسألته، وفي بعض الروايات سمي زوجها أبا عمرو بن حفص، وفي بعضها أبا حفص بن المغيرة([384])، والاضطراب موجب لضعف الحديث على ما عرف في علم الحديث.
ويرد هذا الاعتراض:
بأن الاضطراب في الروايات يمكن جمعه والتوفيق بينه فيقال أنه كان قد طلقها قبل هذا طلقتين ثم طلقها هذه المرة الثالثة فمن روى أنه طلقها أو طلقها آخر ثلاث تطليقات فظاهر ومن روى البتة فمراده طلقها طلاقاً صارت به مبتوتة بالثلاث ومن روى ثلاثاً أراد تمام الثلاث، كما أن الاختلاف في نقل الواقعة إلى الرسول(صلى الله عليه وسلم) لا يمنع من كونها عرضت عليه مرتين أحداهما عندما طلقها مرتين، والثانية عندما طلقها الثالثة، واختلاف الروايات في اسم زوجها لا يوهن من صحتها ولعل ذلك ناشئ عن لبس في النقل.
جـ- وهذا الحديث معارض بما رواه الطحاوي والدارقطني([385]) عن جابر قال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يقول "للمطلقة ثلاثة السكنى والنفقة" فقصارى ما هنا تعارض روايتها بروايته، فأي الروايتين يجب تقديمها، كما وردت عدة روايات أخرى تفيد تعارضها مع هذا الحديث ومنها ما جاء عن عائشة (رضي الله عنها) أنها قالت ما لفاطمة خير أتذكر هذا يعني قولها لا سكنى ولا نفقة.
ويرد على هذا:
بأن الاستدلال برواية جابر يقال فيها أنها جاءت عن طريق حرب بن العالية هو لا يحتج به، وقد ضعفه ابن معين والأشبه وقفه على جابر (رضي الله عنه)([386]).
وأما إنكار عائشة على فاطمة بنت قيس، فيجاب عنه بأن مروان بن الحكم قد ناظرها في ذلك، وقال لها إن كان ما أخرج فاطمة بذاءة لسانها فحسبك ما بين هذين من الشر([387]).
واستدل القائلون بوجوب النفقة والسكنى للبائن الحائل بالكتاب والسنة والمعقول:
أما الكتاب:
فقول الله تبارك وتعالى:( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وجْدِكُمْ ولا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)([388]).
وجه الدلالة من هذه الآية:
إن الآية الكريمة عامة في الرجعية والمبتونة فلما أوجب الله تبارك وتعالى للرجعية السكنى وكان من المتفق أن لها النفقة في العدة حتى ولو كانت حائلاً، مع عدم تصريح الآية بذلك فيكون المر كذلك بالنسبة للمبتونة.
ويدعم ذلك أن قراءة ابن مسعود قد جاءت بذلك مفسرة للآية فعلم أن المراد (وأنفقوا عليهن من وجدكم)([389]).
وأن قوله تعالى:( ولا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) لا يجعل الآية مخصوصة بالمطلقة طلاقاً رجعياً، لأن المبتونة يمكن إيقاع الضرر بها والتضييق عليها بالتقصير في النفقة أو منعها إياها.
وذكر الله سبحانه وتعالى النفقة للحامل لا ينفي وجوبها للحائل، وذلك لأن الله تعالى خص الحامل بالذكر حتى يدفع التوهم بأنه ليس لها نفقة إلا مدة ثلاثة أشهر بل لها النفقة حتى تضع الحمل.
ويناقش هذا من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إن هذه الآية ليست عامة، فتشمل البائن والرجعية، بل هي مخصوصة بالبوائن كما مر ذكره.
الوجه الثاني: إن النفقة تجب للزوجة، فإذا بانت من زوجها صارت أجنبية عنه فتأخذ حكم سائر الأجنبيات ولم يبق إلا مجرد اعتدادها منه، وذلك لا يوجب نفقة كالوطء بشبهة أو زنا. ولأن النفقة لو وجبت لها وهي أجنبية لوجبت للمتوفى عنها زوجها من ماله ولا فرق بينهما في ذلك فإن كل واحدة منهن قد بانت منه وهي معتدة.
الوجه الثالث:إن هذه الآية إذا صلحت أن تكون دليلاً في إيجاب السكنى للبائن، فإنه لا يمكن عدها دليلاً على إيجاب النفقة لها، لأن الآية علقت وجوب النفقة على كونهن حوامل والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفاء شرطه فلو بقي الحكم بعد انتفائه لم يكن شرطاً([390]).
وأما السنة:
فما رواه مسلم بسنده إلى جابر (رضي الله عنه) أبي إسحاق قال:(كنت مع الأسود بن يزيد جالساً في المسجد، ومعنا الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لم يجعل لها نفقة، ولا سكنى ثم أخذ الأسود بن يزيد كفاً فحصبه به وقال ويلك تحدث بمثل هذا. قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) :"لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا(صلى الله عليه وسلم) لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت صدقت أم كذبت لها السكنى والنفقة. قال الله عز وجل:) لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ(([391]).
وجه الدلالة من هذا الحديث:
إنه نقل عن سيدنا عمر(رضي الله عنه) القول بوجوب النفقة والسكنى للبائن ومثل هذا لا يؤخذ فيه بالرأي.
وقد رد على الاستدلال بهذا الحديث في أدلة القائلين بوجوب السكنى دون النفقة الذي سبق ذكره.
وأما المعقول: فهو:
أن النفقة تجب للمرأة مقابل احتباسها من أجل الرجل والبائن غير الحامل ما دامت في العدة فهي محبوسة من أجل الرجل الذي تعتد منه، فيجب لها النفقة كما تجب النفقة للمطلقة الرجعية.
يناقش هذا:
بأنه غير مسلم حيث ذهب البعض إلى أن النفقة في مقابل التمكن، وليست من أجل الاحتباس فلا يحتج بمذهب على مذهب.
واستدل القائلون بعدم وجوب النفقة والسكنى للبائن بالكتاب والسنة والمعقول:
أما الكتاب:
فقول الله تبارك وتعالى:)  ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأَحْصُوا العِدَّةَ واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً * فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً * واللائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللائِي لَمْ يَحِضْنَ وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إلَيْكُمْ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ ويُعْظِمْ لَهُ أَجْراً * أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وجْدِكُمْ ولا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وإن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى*(([392]).
وجه الدلالة من هذه الآيات:
هو أن هذه الآيات مخصوصة بالرجعيات فتكون النفقة والسكنى لهن دون البوائن والدليل على أن الآيات في الرجعيات قوله تبارك وتعالى:)  لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً( وقوله تعالى:)  فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ( وما الإمساك بالمعروف إلا حيث تكون الرجعة ممكنة فإذا كان الطلاق بائناً بينونة كبرى فلا إحداث ولا إمساك وكيف يكون الإمساك ممكناً أو الرجعة وقد قال الله تعالى في شأن المبتونة:)  فَإن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ(([393]).
وهذا الاستدلال قد نوقش في أدلة القائلين بوجوب السكنى دون النفقة وتبين من المناقشة أن قول الله تبارك وتعالى:)  أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم( إلى آخرها مخصوصة بالبوائن دون الرجعيات.
وأما السنة: فمنها:
ما رواه الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن النبي(صلى الله عليه وسلم) في المطلقة ثلاثاً، قال ليس لها سكنى ولا نفقة([394]).
وفي رواية للجماعة إلا البخاري أنها طلقها زوجها ثلاثاً فلم يجعل لها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) نفقة ولا سكنى.
2- ما رواه مسلم في صحيحه عن فاطمة بنت قيس أنه طلقها زوجها في عهد النبي(صلى الله عليه وسلم) وكان أنفق عليها نفقة دون([395]) فلما رأت ذلك قالت:(والله لأعلمن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فإن كان لي نفقة أخذت الذي يصلحني وإن لم تكن لي نفقة لم أخذ منه شيئاً، قالت: فذكرت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال:"لا نفقة لك ولا سكنى")([396]).
3- وما رواه الدارقطني –عن فاطمة بنت قيس قال: أتت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فذكرت ذلك له قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وإنما السكنى والنفقة لمن يملك الرجعة([397]).
وجه الدلالة من هذه الأحاديث:
ظاهر في عدم وجوب النفقة والسكنى للبائن الحائل:
ويناقش هذا:
بأنه معارض بما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن حيث نفى النبي(صلى الله عليه وسلم) وجوب النفقة لفاطمة بنت قيس، ثم أمرها أن تعتد عند عبد الله بن أم مكتوم نظراً لأن سكنى زوجها في مكان يخشى عليها فيه.
أما المعقول:
إن النفقة تجب بسبب الزوجية، فإذا بتت المرأة حلت الزوجية وصارت المرأة أجنبية فزال السبب الذي تجب به النفقة.

الرأي الراجح:
مما سبق يتبين أن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه المالكية والشافعية ومن وافقهم من أن المطلقة البائن غير الحامل لها السكنى فقط وليس لها نفقة وذلك لأن دليل وجوب السكنى قد سلم من الضعف كما مر وأن حديث فاطمة بنت قيس وإن كان صحيحاً وقد أخذ به الفقهاء رضي الله عنهم في بعض الأحكام إلا أنه مضطرب في الجزئية المتعلقة بالسكنى والنفقة فقط([398]). فتارة ينفي وجوب السكنى والنفقة، معاً، وتارة يثبتها وتارة يثبت السكنى فقط، فلا يؤخذ به في هذه الجزئية ويعضد ذلك الرأي أن الزوجية لما انقطعت بالبت أسقطت النفقة، لأن النفقة لا تجب لأجنبية أما السكنى فإنها ضرورية وتهم الرجل لأن فيها حفظ لمائه دون ارتياب. والله أعلم.

الخاتمـة
ففي أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث وهي:
أولاً: تميز الفقه الإسلامي بمرونة نصوصه، مما جعله قادراً على استيعاب ما استحدث من أمور في المجتمعات وهذه مزية تشهد للشريعة الإسلامية بأنها شريعة عالمية، تواكب كل زمان ومكان، ولا توجد هذه المزية إلا في تلك الشريعة العصماء.
ونلمس ذلك من خلال البحث فيما يلي:
1- أن المرونة في وضع ضابط العيب في عقد النكاح فهو أن المرجع فيه إلى كل ما فوت مقصود النكاح، أو سبب ضرراً شديداً بالطرف غير المعيب وبهذا يمكن إدخال الأمراض التي لم ينص عليها الفقهاء على أنها مجيزة لفسخ النكاح ولكن ثبت بها وقوع الضرر بالزوج السليم مثل مرض السل والسرطان وما إلى ذلك من الأمراض الخطيرة التي يتعدى ضررها إلى الزوج غير المعيب.
2- إن قول النبي(صلى الله عليه وسلم):"لا ضرر ولا ضرار" جعله الفقهاء قاعدة عامة من قواعد الفقه الإسلامي، ويمكن بهذا النص الشريف الموازنة بين أطراف التنازع في الأمور التي لا نص فيها، أو في الأمور التي اختلف فيه الفقهاء ولم يتضح رجحان دليل على آخر، وقد حدث في هذا البحث إن كان ترجيحي بناءً على هذا النص الشريف، في مسائل أذكر منها ما يأتي:
أ- ما وضح لي من أنه كانت الفرقة بين الزوجين بسبب عيب في المرأة فإنها تكون فسخاً، وإذا كانت بسبب عيب في الرجل فإنها تكون طلاقاً، وذلك حتى لا يضار الرجل في الحالة الأولى، حيث أنه لو عدت الفرقة طلاقاً لتحمل الرجل توابع الطلاق مع أنه مغرور، وكذلك لو عدت الفرقة في الحالة الثانية فسخاً لوقع الضرر بالمرأة مع أنها مغرورة.
ب- ما تبين لي من أنه إذا وطء الزوج العنين زوجته مرة واحدة فإنه لا يسقط بذلك حق المرأة في طلب الفسخ رفعاً للضرر الذي يصيبها لحرمانها من هذا الحق.
ثانياً: لقد بنت الشريعة الإسلامية أحكامها على العدل بين طرفي التعاقد حتى يزال الضرر الذي يقع على الطرف المضرور، وبذلك ينتهي التشاحن بين أفراد الأمة فيعيشون في طمأنينة ووئام، و يتضح ذلك جلياً من خلال هذا البحث فيما يلي:
- في عقد النكاح نرى مراعاة حال كل من طرفي العقد بما يحقق العدالة بينهما و يتضح ذلك فيما يأتي:
1- إن إعطاء كل من الزوجين حق فسخ النكاح بالعيوب المبيحة للفسخ دون قصر ذلك على المرأة دون الرجل فيه عدل ظاهر، إذ أنه لو لم تعط الزوجة حق فسخ النكاح لما بزوجها من عيب تتضرر به، إذا دامت العشرة بينهما، لأدى ذلك –في كثير من الأحوال- إلى انزلاقها في مسالك السوء أو إلى عيشها مع زوجها في حياة منزوعة المودة والرحمة، كما أن حرمان الزوج من حق الفسخ بالعيوب المبيحة له فيه ظلم عليه لأن ذلك يلجئه إلى الطلاق وتوابعه، وفي ذلك ظلم عليه، فكان العدل إعطاء كل حق الفسخ فإن ارتضيا الحياة في ظل هذه الظروف كان لهما ذلك وإن ارتضيا الافتراق بالمعروف كان لهما ذلك، و إلا لكان لكل استخدام ذلك الحق للتخلص مما وقع فيه، كما أن عد الفرقة فسخاً إذا كانت بسبب عيب في المرأة وعدها طلاقاً إذا كانت بسبب عيب في الرجل تحقق العدالة وذلك لأنه في الحالة الأولى إذا عدت الفرقة طلاقاً تحمل الرجل توابع الطلاق، وإذا عدت فسخاً في الحالة الثانية ضاع حق المرأة بسبب غرور الرجل لها.
2- إن إعطاء الزوجة المعيبة المدخول بها المهر كاملاً ورجوع الزوج بالمهر على من غره فيه عدالة وذلك لأن المرأة بالدخول بها تستحق المهر والزوج لا يجب عليه شيء من المهر لكون الزوجة معيبة بعيب يجيز الفسخ، ولذا كان من العدل ألا يغرم شيئاً فحق له الرجوع بالمهر على من تسبب في ذلك.
ثالثاً: لقد تأسست كثير من الأحكام في الشريعة الإسلامية على مراعاة المصلحة حتى يعم الخير جميع أفراد المجتمع ومن بين هذه الأحكام أحكام وردت في هذا البحث ذكر منها ما يأتي:
1- إن جعل التفريق بين الزوجين بالعيوب لابد أن يكون بحكم حاكم إنما كان ذلك رعاية لمصلحة المجتمع حيث أنه لو جعل هذا الأمر لآحاد الناس لترتب عليه حدوث نزاع بين الزوجين، وقد يفتح الباب أمام الكثيرين إلى التفريق بعيوب لا يثبت الخيار بها، نظراً لجهل العامة بمثل هذه الأمور خاصة في زماننا هذا، وحكم الحاكم هو الذي يرفع هذا النزاع ويسد ذلك الباب مما يترتب عليه إغلاق باب من أبواب الفساد في المجتمع.
وبعد، فإن هذا هو مستطاعي الذي هداني المولى تبارك وتعالى إليه في هذا البحث، فإن أكن من الموفقين فما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وإن تكن الأخرى فالله أسأل أن يغفر لي ما فرط مني من تقصير وما وقعت فيه من زلل، وحسبي إني ما ابتغيت بما كتبت إلا الوصول إلى الحق.. ولكن شأن البشر أن يقع في التقصير مما يؤدي إلى اختلاف فيما يكتبونه. وصدق الله العظيم إذ يقول:)  ولَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرا(([399]).
صدق الله العظيم
ربي اغفر وارحم، وأنت خير الراحمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
والحمد لله رب العالمين.
                                                                                                                                                                 يتبع بالمراجع والهوامش في الجزء 3

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم