الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

الاستنساخ بين الزوجين والأحكام التي تترتب على ذلك


بســـم الله الرحمن الرحيم


د. عبد الستار عبد الكريم أبو غدة
عضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .

وبعد، فهذا البحث تم إعداده بتكليف من الأمانة العام للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ليكون من أعمال الدورة العاشرة للمجلس، وهو يشتمل على البيانات الموطئة لموضوع الاستنساخ بين الزوجين وما يتعلق بذلك التصرف، دون التوسع في الاستنساخ من حيث هو، مع نبذة عن ماهيته، اكتفاء بالأبحاث المقدمة فيه من ذوي الاختصاص الطبي والعلمي بهذا الموضوع .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،،،



تمهيد :
الاستنساخ هو أحد تطبيقات الهندسة الوراثية التي هي واحدة من الخصائص الكونية التي أودعها الله عز وجل في الأجناس المختلفة من مخلوقاته التي منحها الحياة ذات الحس والحركة والإرادة ( الإنسان، والحيوان ) أو ذات النمو ( النبات ) .
وقد ربط بها أسراراً وحكماً يظهر منها كل يوم الجديد والمثير مصداقاً لقوله عز وجل وفي أنفسكم أفلا تبصرون([1]) وهذا مما يزيد الإيمان بعظمة الخالق وهو الخلاق العليم([2]) أعطى كل شيء خلقه ثم هدى([3]) .
والكشوف التي حصلت أو ستحصل ما هي إلا مما تعلقت به إرادة الله الكونية، فهو الذي أعطى الإنسان العقل والعلم والمقدرة فاستخدم القوانين والسنن التي أودعها في الكون المسخر للإنسان بسماواته وأراضيه، والمسلم يعتقد أنه لا يقع في ملك الله تعالى إلا ما يريد ولو كان على غير ما شرع لعباده .
يقول القرطبي المفسـر قد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم لله تعالى وحده ([4]) وفي هذه العبارة المختصرة جواب عن الاشتباه بأن في هذه الممارسات منافاة من القائمين بها لإرادة الله، وإيجاد الموانع من نفاذ المشيئة كما قيل، وهو ادعاء عجيب لأن مراد الله لا يعرف للإنسان إلا بعد وقوعه وإرادته تمضي طبقاً لما يشاء سبحانه ولا راد لأمره وهذا مقتضى العقيدة الإيمانية الصحيحة في مسألة القضاء والقدر : فالعلمُ بالمقدور علماً سابقاً لوقوعه هو مما اختص الله به، ولا يتخلف عنه القضاء الواقع، وإن الذي يقع فعلا - مهما تخللت من أسباب شتى أو قامت من موانع وصوارف - هو المقدور المغيب سواء كان ظهوره إلى عالم الشهادة مباشرة للأسباب الظاهرة أو عقب تدخل أسباب غريبة عن مجرى الأمور المعتادة مما يستدفع به المكروه أو يستجلب به المرغوب .
وما قواعد الوراثة إلا نظم وأسباب كونية أودعها الله في مخلوقاته يرفعها متى تعلقت بذلك إرادته سواء كان ارتفاعها حلالاً أو حراماً، ذلك أن الحرام وازعه هو ما في نفوس المؤمنين من منزلة الخطاب والقوى الرادعة عن عصيانه، وليس هو الموانع القهرية في صورة المعجزة أو العقوبة المعجلة ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم ([5]) .
والإرادة الإلهية نوعان :
-        إرادة كونية نافذة دون حاجة إلى فعل يقدم عليه المخلوق أو كفّ يصدر منه بل يسخر الله من الأسباب ما يكفل نفاذ تلك الإرادة .
-        وإرادة أخرى شرعية تقتضيها النصوص الآمرة أو الناهية، وهي نافذة بالاتلزام والمراعاة أو معطلة بالتمرد والعصيان أو الإهمال لأنها مناط التكليف وموضوع الخطاب . وابن تيمية ممن أشار إلى الفرق بين نوعي الإرادة وأوضح اللبس الناشئ عن عدم التمييز بينهما .
-        وكمثال شرعي مشابه قضية التحكم في أصل الإنجاب نفسه بالعزل فقد جاء فيه الحديث عن جابر : " أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جاريـة هي خادمنا وسانيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل، فقال : اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قُدِّر لها "([6])
ومما سبق يتضح أن هناك جانبين للكلام عن الممارسات في مجال الهندسة الوراثية والاستنساخ، وهما :
-              الجانب العقدي، للتأكيد على أن اكتشاف معالم كثيرة كانت خفية من خصائص الوراثة ومكونات الخلية الجينية وإمكانية التحكم فيها لا يزعزع إيمان المسلم بل يبصره بما في نفسه من أسرار في شتى الأطوار . وهذه التصرفات بصرف النظر عن حكمها هي ما تتعلق به إرادة الله الكونية، إذ ما هي إلا باستخدام القوانين والسنن التي أودعها في مخلوقاته .
-              الجانب التشريعي بالتعرف إلى الإرادة الإلهية الشرعية في الأوامر والنواهي وهذا يشمل النظر في كل من الحكم التكليفي ( المشروعية وعدمها ) والحكم الوضعي  (الأثر الشرعي للتصرف) .
ومقتضى الحكم التكليفي يؤدي إلى إحجام الملتزمين بالشريعة عن التصرفات الممنوعة بالمباشرة أو الإذن أو المعونة سواء في مجال الاختبارات أم في مجال المعالجة التي لابد من أن تراعى فيها الأحكام الشرعية، لأن الإقدام على ما هو نافع لا يعفي من التقيد بالحكم الشرعي، لئلا يزول الضرر المادي على حساب لحوق الضرر المعنوي بالتحلل من معيار الحلال والحرام .
والكلام عن الحكم التكليفي يستتبع أيضاً النظر في الحكم الشرعي الوضعي ( الآثار المترتبة على التصرفات ) فيما لو وقعت ممن لا يلتزمون بالشريعة وهو الأغلب في ظل التخلف عن موكب العلم كأحكام النسب، والنفقات والإرث .
هذا، ولا بد من مراعاة حكم الشريعة فيما ينجم من آآثار عن أي تصرف، سواء كان جلالاً أم حراماً، ذلك أن ارتكاب ما حرم من أمور لا يعفى من النظر في النتائج المترتبة عليه، فالمحرمات لا يقتصر أثر ضررها على مرتكبيها وهم من غير المسلمين أو غير الملتزمين بل يتعدى ليشمل الأفراد الآخرين والمجتمعات . وتترتب على ذلك حلول ومعالجات واعتبارات شرعية تتعلق بالصحة أو الفساد أو البطلان للنسب، فضلاً عن واجبات عديدة تطلب أو لا تثبت، كالنفقات والإرث ونحوها مما له أكبر الخطر وأعظم الأثر في قيام علاقة القرابة أو المصاهرة أو انتفائهما

حفظ النسل من مقاصد الشريعة :
تستمد قضايا الوراثة أهميتها من اتصالها الوثيق بمقصد من مقاصد التشريع، وهو حفظ النسل وصيانة النسب، باعتباره أحد الكليات الخمس التي جاءت الشريعة لصيانتها، وهي : الدين والنفس والعقل والنسل والمال .. ولتوفير ما يناسبها من صون وكلاءة جاءت أنواع شتى من الأحكام الشرعية، بعضها لا مناص من مراعاته، لأنه يمثل (الضروريات) وإلى جانبهما يقوم خط آخر للدفاع يمثل ( الكماليات أو التحسينيات ) وهذه الأحكام تحيط الكليات المخمس وإحداها : النسل بسور منيع يتحقق به الإنذار المبكر ودفع الأذى أو رفعه .
ولا يتسع المقام لأكثر من التنويه الدال على عناية الشرعية بما يصون ذات الإنسان ومقوماته ويعزز تكريم آدميته، وأنه مفضل على كثير من الخلق تفضيلاً والغرض من هذا تأكيد وأجب الحفاظ على صحة الأنساب وتمايزها، والتبصر عند الإقدام على أي تصرف من شأنه المساس بهذه القضية الأساسية، وملازمة الطرق الطبيعية المرسومة بالفطرة لابتغاء ما كتب الله للإنسان من نسل صحيح صالح هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجَعَل منها زوجها لِيسكن إليها، فلما تغشّاها حملت حَملاً خفياً فمرّت به، فلما أثقلتْ دَعَوَا الله ربَّهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونَنَّ من الشاكرين([7]) .
ومن هذه الآية وأمثالها يتبين أن الزواج هو السبيل الآمنة التي ألهمها الله خلقه لبقاء النوع الإنساني، وأن فيها وحدها يتحقق السكن والمودة والرحمة وأن العزوف عن هذه الطريق والتنكب عن هذه الجادة يعرض الكلية الأساسية التي هي ( بقاء النسل وحفظ النسب ) إلى هزات عنيفة تجتثها من جذورها فتزهق معها حقائق ذات شأن لأنها يرتكز عليها بقاء المجتمع الإنساني وسعادته كعلاقة الأبوة والأمومة وما يتصل بهما، وقواعد النفقة والميراث، وأصول التكافل الأسري، وهو ما تنظمه أحكام الأحوال الشخصية للإنسان (حقوق العائلة) .
إن الإدراك الإجمالي لموضوع الوراثة قديم جداً، كما دلت على ذلك آثار المصريين القدماء، كما كانت من المسلمات عند العرب ويعبرون عنها بأنها ( نزعة عرق ) كما جاء في الحديث التالي الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : " يارسول الله ولد لي غلام أسود، فقال : " هل لك من إبل" " قال : نعم ، قال " ما ألوانها؟ " قال حُمْر قال : " هل فيها من أورق؟ " قال : نعم قال " فأنى ذلك ؟ قال : لعله نزعة عرق قال : " فلعل ابنك هذا نزعه"([8]) .
والوراثة كما عرفت في الطب هي : انتقال الصفات من الأصول إلى الفروع، أو من السلف إلى الخلف . وهي تشمل إلى جانب الخصائص الأمراض القابلة للتوريث([9]).
والأمراض الوراثية كما قرر المختصون ليست فقط تلك التي سبق ظهورها في الأسرة، بل لها أسباب عديدة، منها الاختلاف في الكروموسومات عداً أو تركيباً ومنها العيوب في أحد الجينات، سواء أدى إلى مرض وراثي متنح أو سائد أو مرتبط بالجنس أو من طفرة في أحد الجينات .
هذا، وللهندسة الوراثية منافع ومحاذير :
-          فمن منافعها : منع الأمراض الوراثية، وإنتاج مركبات علاجية هامة، وتطوير اللقاحات والسيطرة على بعض الأوبئة، وتحسين سلالات نباتية عديدة ...الخ.
-          ومن المحاذير : اختلاط الأنساب، وإفساد الخلقة، ونشوء بعض الأمراض، وخطورة الأغذية المصنعة بالهندسة الورايثة، والحروب الجرثومية .. الخ
ولموضوع الوراثة أهمية كبيرة من حيث صلته بواحد من المقاصد الخمسة للتشريع وهو ( حفظ النسل ) ويرتكز على ( صيانة النسب ) .
هذا، وان حفظ النسب قد شرعت لحمايته من الإخلال به أحكام كثيرة  لاستبعاد وجوده على وجوه غير مشروعة حيث لم يعترف بها الإسلام تحاشياً للمكافأة على جريمة الاعتداء على الأعراض بالزنى ، كما شرعت الوسائل الضامنة لإثباته على وجوه صحيحة لها مسوغاتها ووضعت الشريعة العقوبات الرادعة على التعدي على الأعراض بجريمة الزنى أو القذف ( ومنه الطعن في النسب الصحيح ) .
طرق ثبوت النسب شرعاً :
إن العامل الأساسي في النسب هو علاقة الزواج الصحيح، ويطلق عليها الفقهاء اقتداء بالحديث النبوي كلمة ( الفراش ) لقوله صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش " وهناك أسباب أخرى احتياطية لثبوت النسب، كالزواج الفاسد، والوطء بشبهة .. الخ ، أو بالإقرار بالنسب، أو الاستلحاق بالشروط والضوابط الشرعية لكل منهما وسيأتي مزيد بيان عن الاستلحاق .
والمراد بالفراش : تعيين المرأة لماء الزوج، بحيث يثبت منه نسب كل ولد تلده وهي في عصمته أي في حال قيام الزواج أو العدة .
وقيام الفراش ملزم للاعتراف بالنسب فلا حاجة لإثباته أو إقرار الزوج به ويثبت النسب من الأم بالولادة، لأنها واقعة مادية بانفصال الولد منها بصرف النظر عن أي أمر آخر حتى لو لم تتم الولادة في ظل فراش الزوجية، وسيأتي تفصيل هذه المسألة .
أما الأبوة فيشترط لثبوتها :
1-                 كون الزوج ممن يتصور منه الإحبال عادة وهو البالغ المكتمل الذكورة .
2-                 أن يولد الولد بعد ستة أشهر من وقت الزواج عند أبي حنيفة، أو من إمكان الوطء عند جمهور الفقهاء .
3-                 إمكان تلاقي الزوجين بالإمكان العقلي العادي([10]) .
وطرق إثبات النسب، الإقرار، أو البينة بتفصيل معروف في مواطنة من كتب الفقه
ويجوز إثباته بالتسامع ( الشهادة على السماع والشهرة ) .
وقد شرعت وسائل تعتمد القرائن لإلحاق النسب المجهول أو المتنازع فيه منها (القيافة) وبقصد بها لغة تتبع الأثر، والمراد هنا المعرفة بتشابه الناس([11]) وجمهور الفقهاء قد أخذوا بمبدأ (القيافة) للحديث الوارد فيها وهو ما روته عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو مسرور، فقال : يا عائشة " ألم تري أن مجززاً المدلجي دخل فرأى أسامة وزيداً، وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما،فقال : " إن هذه الأقدام بعضها من بعض "([12]) ولا شك أن استخدام معطيات الهندسة الوراثية أولى بالاعتبار .
والتساؤل الوارد الآن : هل ملاحظة الشبه الظاهري بين الأقدام وغيرها من الأعضاء والملامح العضوية التي جاء النص بشأنها لأنها متاحة في كل آن ومكان .. وهو من قبيل العمل بالمظنة فما الحكم إذا وجدت الحقيقة نفسها وهي ما يطلق عليها العلماء (المئنة) التي هي الأصل إذا توافرت مقومات الثبوت باليقين أو بالظن الغالب أم أن الشريعة ربطت هذا الحكم ( ثبوت النسب ) بالأسباب الظاهرة المتاحة دائماً كما هو الحال في إثبات نسب ولد الزنى من الزانية، وبسبب الانفصال الطبيعي، وألغت انتسابه إلى الزاني ولو حصل التأكد أنه من مائه بسبب عدم وجود الفراش الذي هو السبب الظاهر .
ومما سبق يتبين أن نقل الجينات أو دمجها المؤدي إلى اختلاط الإنساب ممنوع شرعاً، ويورث مشكلات كثيرة بشأن الاعتراف بالنسب، وإجراء الأحكام الشرعية التي تبنى عليه من النفقات وغيرها .
أثر الهدف في الأسباب العلاجية الوراثية :
يختلف الحكم الشرعي على الإجراءات أو التصرفات الواقعة في مجال الوراثة تبعاً للهدف المبتغى من الفعل، وإن مراعاة الغاية هنا مبعثها الموازنة بين المفاسد والمصالح، أو المضار والمنافع، وهي موازنة مطلوبة شرعاً، انطلاقاً مما قرره علماء أصول الشريعة من أنه لا يوجد إلا نادراً ما يتمحض للنفع والصلاح دون أن تشوبه شائبة من الضرر في الدين أو البدن أو المال وإنما يكون العبرة بالأغلب، أي حيث تتحقق المصلحة الراجحة على ما يقع من ضرر بفعلها، ويعتبر هذا من ارتكاب أخف الضررين تفادياً لأشدهما .
مراعاة سلامة الوسيلة :
فضلاً عن مشروعية الهدف لابد من مراعاة مشروعية الوسيلة أيضاً بأن تكون أمراً حلالاً يمكن به تجنب الإنسان شيئاً من المخاطر الناتجة عن الوراثة من أبيه وأمه، وهذا السعي لتحصيل النفع مأمور به في نصوص شرعية كثيرة منها الحديث الشريف :" احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز " .
ومن الواضح أن حرص الإسلام على الجمع بين نبل الهدف والوسيلة معاً نابع من اعتبار التكليف مستمراً وشاملاً لأي تصرف معنوي أو مادي . وأنَّ للوسائل والإجراءات حكم المقاصد والغابات، فليس في الإسلام فكرة : الغاية الصالحة تبرر الوسيلة الفاسدة، فإن التعبد والامتثال شامل للنية والفعل .. ولا يعني هذا أن يخلو الإجراء من محاذير، بل المراد أن تكون المصلحة أساسية وأن يربو ما فيها من نفع على ما يستتبع حصولها من محاذير، وأن تكون الوسيلة لتحصيلها هي في ذاتها فعل مشروع بقطع النظر عن اقترانها بالهدف والغاية .
ومن هنا يتبين أنه لا يصلح بحال من الأحوال أن يكون هدفاً مشروعاً الرغبة في التكاثر أو التشهي أو العبث أو الإفساد، وهو ما يلحظ استحواذه على معظم التجارب والتصرفات في هذا المجال بسبب بيئات لا تقيم لمعيار الحلال والحرام أي اعتبار.
ونخلص مما سبق إلى أن هناك ضوابط ومنارات تحوط وتنظم أي تحكم يتطلع إليه في معطيات الوراثة . ولعل أهمَّها : البعد عما ينشأ عنه تغيير الخلقة كالتصرفات التي تزيد أو تنقص في الطبيعة الأصلية التي فطر عليها الإنسان بداعي التجميل أو الرغبة في الحسن، أو غير ذلك من أغراض غير مشروعة، ذلك أن هذا التغيير قد وسمته النصوص الشرعية أنه استجابة لأوامر الشيطان ولآمرنّهم فليغيرن خلق الله([13]) ولا يدخل في هذا ما يقع لتلافي الضرر والأذى اللاحق بالإنسان . أو الناشئ معه بصورة مغايرة للمعتاد في جنسه، أي لا يدخل فيه ما يستهدف به العلاج أو الوقاية .
كذلك يجب الحذر من تبديل الفطرة والسجية التي طبع الله الناس عليها من حيث الميول التي تخلق مع الإنسان قابلة للخير والشر، ومستعدة للتأثير الصالح أو التغيير المفسد، والمراد إدانة تلك التصرفات في السجايا بغير وسائل التقويم المشروعة، مما يخرج الإنسان عن إنسانيته المتكافئة في النوازع، ليتحول إلى الاستخذاء والطاعة العمياء، أو التمرد والجموح الشرس .
حكم الاختبارات في مجال الهندسة الوراثية :
لا نزاع في مشروعية البحث العلمي في المجالات التي يتوقع منها النفع ولا يشمل ما يتعلق بسلامة الإنسان من الأمراض والعلل أو العلاج المبكر بما يؤمل معه زوال المعافاة أو تخفيفها، وينطبق هذا على أي مشروع تبذل فيه جهود فردية مشتركة، ومن ذلك مشروع الجينوم البشري الذي يهدف إلى معرفة أسباب الأمراض الوراثية والعلاج الجيني لها وبخاصة سرطان الثدي وسرطان المبيض ومعرفة التركيب الوراثي وقابلية حدوث أمراض معينة وإنتاج مواد بيولوجية وهرمونات يحتاجها جسم الإنسان للنمو والعلاج وقائمة الأمراض الوراثية تزداد يومياً باكتشاف المزيد منها بسبب تسارع البحث العلمي .
وإذا كان في بعض الدراسات المتصلة بالعلم من حيث هو التفرقة بين النافع وغيره، فإنها لم يقصد بها إلا اطراح فئة من العلوم قامت على الاستخفاف بعقل الإنسان أو تحدي عقيدة الفطرة .. أما العلم الذي يصلح أن يكون فضلاً عن نفعه المادي مدرجة للنظر في الكون والتفكر في مالك الملك فإنه في دائرة التكليف والطلب .
وهذه المنافع كلها مما يندرج في الضروريات التي تؤدي رعايتها إلى حفظ النفس والنسل .
على أن ما يمكن أن يصحب هذه المنافع من المحاذير أو الضرر التي ستأتي مناقشة بعضها بالتفصيل يجب أن تطبق عليها المبادئ الشرعية المتعلقة بالضرر مثل ( الضرر يزال ) و( يتحمل أهون الضررين لتجنب أشدهما ) ..الخ .
وقد قرر العلماء أنه لا يوجد في الكون ما هو مصلحة محضة، إذ في كل أمر جانب نفع وجانب ضرر ( ولو بفوات غرض دنيوي مهما كان شأنه قليلا ) ولذا تجب الموازنة بين المصالح والمفاسد لمعرفة ما هو الأغلب أو الغالب .
إن الشريعة بالرغم من تشجيعها البحث العلمي الذي يعتبر وسيلة من وسائل الكشف عن إبداع الخالق، وبالتالي الإقرار بوحدانيته وقدرته إلا أنها تقضي بتجنب ما لا يتفق مع الأهداف العامة للشريعة، ويتعين من ثم تمحيص مكتسبات العلم الحديث في ضوء القواعد الشرعية، وذلك بالتفرقة بين الأساليب المحرمة لاصطدامها بأصول الشريعة، والأساليب المشروعة المحققة لمصالح معتبرة لا تتعارض مع الشريعة([14]) .
هذا وإن الذي يمدنا بالحلول والمعالجات للآنار والنتائج هو ما في الشريعة من غنى مصدره ما بنيت عليه من قواعد ومراعاة معاني النصوص وعللها وهي لا تتناهى ولا تضيق بكل ما يجد من حوادث وقضايا، وعلى سبيل التنويه فإن من الصيغ الشرعية التي تتصل بهذه الموضوعات أحكام النسب إثباتا ونفياً، وأحكام اللعان، واثر الولادة التي ينشأ عنها النسب بصورة طبيعية مهما كانت ملابسات الحمل حتى باستدخال النطفة بتعبير الفقهاء، وقاعدة الولد للفراش وللعاهر الحجر وهو نص حديث صحيح يعتبر على رأس النصوص المنظمة لهذه الزمرة الهامة من أحكام الشريعة .
هذا، وإنه لا بد للتوصل إلى فتوى صحيحة ترك العاطفة جانباً والتعاون بين العلماء المتخصصين في علوم الطب والبيولوجيا وعلوم الفقه والقانون لتبادل المعلومات والوصول إلى نتائج سليمة، لأن حكم الشيء فرع تصوره .
ثم إن البحث المثمر عن حكم مستحدثات الطب والبيولوجيا يقتضي بعد التقيد بالنصوص القطعية ذات الصلة الاجتهاد لا التقليد المطلق لما انتهت إليها اجتهادات الفقهاء السابقين ولكن هذا لا يمنع من الاسترشاد بطريقة اجتهادهم لكي نلتزم مثلهم بالقيود الشرعية لاستخراج الأحكام، لأن الاجتهادات فيما اجمل في النصوص يمكن أن تتغير بتغير المعطيات العلمية([15]) .
مصدر الحكم الشرعي لمستجدات الهندسة الوراثية :
القاعدة الشرعية المطبقة هنا وفي جميع وجوه التعامل في المستجدات من التصرفات والأشياء - هي المصلحة المرسلة، أي ما كان فيه منفعة ولم يرد نص خاص بمشروعيته ولا بتحريمه ويندرج تحت عموم النصوص المبيحة ونحوها . وقاعدة المصالح المرسلة دليل شرعي أساسي في المستجدات، وهذه منها، وبقي البحث في الضوابط التي تحول دون وجود ملابسات محرمة تجعل المفاسد غالبة على المصالح المبتغاة ولا سيما أن المفاسد التي قد تقع تؤدي إلى الإخلال بمقاصد الشريعة في واحد من الضروريات الخمس وهو حفظ النسل .
ونحن المسلمين حين نتكلم عن الحكم التكليفي طلباً أو نهياً لا يفوتنا أن ميادين الهندسة الوراثية خارج حوزتنا، وقد يقتصر نصيبنا منها على المتابعة العلمية .. ومع هذا فالحكم الشرعي يتناول تصرفنا تجاه ذلك .. فلا نقدم على ما حرم فعله ولا نقدم للمخلين بالضوابط الشريعة أي معونة من دعم معنوي أو مادي ولا نتيح لهم اتخاذ بيئتنا ساحة لتجاربهم أو لممارساتهم بعد أن اصبح هذا ميسوراً في عصر العلمنة والهيمنة .
والملحوظ أن أكثر هذه القضايا المطروحة في ظروف المسلمين الحاضرة ليس في الوسع سد ذرائعها بمعالجتها عن طريق الحكم التكليفي القاضي بالطلب أو الكف بل إنها تمثل أمامهم من خلال الواقع بخيره وشره ولابد حينئذ من بحث ما يترتب على ذلك من آثار ( وهو ما يسمى بالحكم الوضعي ) يقطع النظر عن كون الفعل حلالاً أو حراماً، ولا يخفي أنه لا تزال أحكام الشريعة هي المطبقة في هذه القضايا في العالم الإسلامي كله لأنها من قطاع الأحوال الشخصية .
وإن التبعية للغرب الذي لا يقيم وزناً للحل والحرمة هي العائق عن تناول هذه القضايا في بداياتها قبل أن تتفاقم للتعرف على الحلال البين والترحيب به، والتنبيه إلى الحرام البين واجتنابه، وتبقى بعض المشتبهات التي تتقى ويحتاط في البعد عنها استبراء للدين والعرض كما في الحديث المعروف .
تعريف الاستنساخ بوجه عام :
بالرغم من أن التصور الوافي للاستنساخ تكفل به المختصون فيما قدموه من بحوث علمية في أكثر من مؤتمر أو ندوة فإنه لابد من تقديم تصور موجز للاستنساخ البشري  .
التعريف الموجز الذي يمكن به الربط بين الواقعة وحكمها هو أن الاستنساخ أو النسخ يريد به المختصون محاولة تقديم كائن أو خلية أو جزيء يمكنه التكاثر عن غير التلقيح ومن غير نقص أو إضافة للمحتوى الوراثي .
وبعبارة أخرى هو إيجاد خلية جديدة من خلال زرع نواة خلية جسدية ( جلدية مثلا) في سائل خلية بييضية منزوعة نواتها ، بحيث تشرع الخلية الجديدة في الانقسام لينتج عنها كائن حي بصورة مطابقة وراثياً للأصل الذي أخذت منه النواة([16]) .
الخطوات التي يتم بها الاستنساخ هي :
1-               استخراج خلية جسمية حية ذات صفات ممتازة من رجل أو امرأة .
2-               نزع نواة هذه الخلية الجسمية التي تحمل خيط الحياة الحامل للشفرة الوراثية المزدوجة الكاملة .
3-               استخراج بويضة حية غير مخصبة من امرأة أو ربما من نفس المرأة ان كانت الخلية الجسمية منها، وكلاهما سيان، بواسطة تقنية خاصة .
4-               تفريغ البويضة من نواتها والابقاء فقط على محتواها من المادة الخلوية (السايتوبلازم) ، بمعنى تحويلها إلى حاوية بيولوجية لا تحمل صفات وراثية .
5-               دمج نواة الخلية الجسمية مع البويضة المنـزوعة النواة من خلال تعريضهما لذبذبات كهربائية محسوبة، لتكوين خلية جديدة تحمل مورثات وصفات النواة، بينما يستمر انقسام الخلية لتكون علقة .
6-               حقن العلقة في رحم المرأة صاحبة البييضة أو حتى رحم امرأة أخرى لاستكمال الحمل، بل يمكن استخدام امرأة واحدة لاتمام العملية كاملة، وفي النهاية يولد ذكر أو أنثى بنفس مواصفات صاحب أو صاحبة النواة الأصلية بدون تزاوج جنسي([17]) .
حكم الاستنساخ الحيواني والنباتي :
الاستنساخ إن كان في مجال الحيوان، وبالأولى في النبات، فإنه لون من ألوان التنمية والتثمير لما سخره الله للإنسان وفسح له فيه سبل التصرف مما ليس فيه تعذيب ولا تبديل عابث للخلقة ومن وجوه التحكم هذه صورة كانت في عهد التشريع الأول وشملها حكم التقرير والمشروعية، لأن التصرف في الحيوان والنبات هو تصرف في المال بما يزيده ويجوده، فقد امتن الله على الناس بوجود الخيل والبغال مع أن هذه الأخيرة نتيجة تلاقح مستجلب فيه مخالفة النوع كما ورد الحث على التمكين من عسب الفحل واستنجاب الأعراق وليس هذا من الخلق أو الإبداع في شيء فهو سلوك لأسباب صحيحة مادية يحدث عنها من النتائج ما قدره الله، والكون كله مسـخر للإنسـان، وقد هداه الله لتدبير وجوه الانتفاع به وتوفير خبراته .
حكم الاستنساخ البشري :
أما الاستنساخ بالنسبة للإنسان فإن قضية النسب المعدودة إحدى الكليات الخمس الموصَى بصيانتها هي إحدى الضوابط الجوهرية التي تعصم من اقتحام المخاطر غير المحصورة والعصية عن السيطرة .
كما لا تخفى خطورة النظر إلى الإنسان كأنه مما يتخذ للتكاثر فيه بما يشبه التمول كأنه من السلع الخاضعة للتنمية، وكذلك خطورة المساس بالعلاقة المتينة التي أوجدها الله في الزواج ليكون من آثاره حصول الأولاد وانتسابهم .
فالإقدام على تطبيق الاستنساخ في الإنسان لا ينفك عن الوقوع في تجهيل الأنساب وانقطاع التناسل الذي ناط الله به القرابة بأنواعها وقد تناول الحظر صوراً عديدة تؤدي لجهالة النسب أو لإدخال التنازع فيه، فمما حرمه الله :
-             نفي الأنساب الثابتة سواء كان النفي من نفس المحمول عليه النسب إذا كان لا يعلم قادحاً في النسب، لكنه نفاه باطلا وزوراً وهو ما كان معروفاً في الجاهلية باسم " الخلع " بفتح الخاء .
وكذلك إذا كان النفي من غيره وهو ما يستوجب عقوبة القذف من الحدود الشرعية المنصوص عليها والذين يرمون المحصَنات ثم لم يأتوا بأربعة شُهَداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تَقبَلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون([18])
-             تضييع العائل من هم في عياله ففي الحديث الذي رواه مسلم " كفي إثماً أن تحبس عمن تملك قوته " وفي رواية لأحمد : " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت " .
الجدير بالإشارة إليه في شأن الاستنساخ البشري وجذوره في التراث هو أن ابن النفيس في الرسالة الكاملية في السيرة النبوية تعرض لأمور تدخل فيما يسمى بعالم التنبؤ المستقبلي وأشار في أحد فصول كتابه إلى طريقة التولد الذاتي أو التلقائي .. وإذا كانت إشارته هذه تندرج فيما يسمى بالخيال العلمي إلا أنها تنبئ بأنه توقع احتمال التكاثر بدون اتصال جنسي، وهذا التوقع لـه أهميته حين يصدر ممن جمع بين الطب والفقه والفلسفة وعلوم أخ
رى كثيرة([19]) .
-             تحريم التبني ، وهو إخراج النسب من الربط بالحقائق الشرعية إلى محض الادعاء والهوى وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم ([20]) .
-             اختلاط الأنساب : سواء حصل بالزنى ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ([21]) أو حصل بالزواج بمن لا تزال في عدة الغير وفيه الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره " أي إتيان الحبلى من غيره .
-             كما تناول التحريم كل ما يؤدي إلى قطع التناسل أو إضعافه أو تغيير طرقه التي وقعت موقع الفطرة، كالاختصاء أو الرهبانية أو شتى أنواع الشذوذ عن التمتع الحلال .
أضف إلى ذلك ما تقتضيه مراعاة مبادئ تكريم البشر الذين سخر الله لهم الكون من أن يكونوا محلاً للتصرفات المهينة .
ومن هذا يظهر بوضوح أن الاستنساخ في مجال الإنسان هو من مواطن الحظر وأن ما يبذل في سبيل ذلك من جهود هي كذلك إلا بالقدر الذي تتطلبه أغراض العلاج والتداوي .
وفي ضوء ما سبق لابد من تحديد إطار هذا الموضوع بشأن الاستنساخ البشرى، وهو أن يكون مستوفياً للشروط التالية ليكون مشروعاً وبعيداً عن المحاذير المشار إليها سابقاً :
1-               أن يكون بين زوجين، سواء من حيث استمداد النواة والبييضة أو احتضان الخلية الجديدة .
2-               أن يكون بسبب العقم من الزوجين، وتعذر اللجوء إلى طريقة أطفال الأنابيب.
3-               أن يكون بطلب أو بموافقة الزوجين .
4-               أن يتم التثبت من كون صاحب النواة هو الزوج، وصاحبة البييضة هي الزوجة وذلك من قبل طبيبين أو ثلاثة أطباء ثقات .
موقف الأزهر والملتقيات العالمية من الاستنساخ البشري:
لقد أصدر الأزهر الشريف بيانا حرم فيه الاستنساخ ( ان استنساخ البشر كفر صريح وتغيير لخلق الله ) وأصدر الفاتيكان بيانا استنكر فيه هذه الممارسة ( لقد أصبحت الحياة الإنسانية ألعوبة في يد العلم )، كما توصلت اللجنة الاتحادية التي شكلها الرئيس الأمريكي إلى ضرورة منع الاستنساخ البشري، وهو نفس مفهوم البيانات الصادرة عن أعضاء البرلمان البريطاني ومجلس العموم البريطاني وبيان الرئيس الفرنسي .
وانطلاقا من مسؤولية المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، ودورها في نشر الثقافة الإسلامية وبحث المستجدات العلمية لتبيان الرأي الإسلامي فيها، فقد دعت المنظمة إلى مؤتمر دولي ، عقد بالرباط في يونيو 1997 بالتعاون مع منظمة العلوم والثقافة الإسلامية ISESCO خصص لبحث الاستنساخ، وحضره نخبة من علماء الدين والطب، وأكدت توصياتهم تحريم الاستنساخ البشري، بينما طالبوا بدراسة إمكانيات تطبيق تقنيات الهندسة الوراثية، في المجالين الحيواني والنباتي وفقا لضوابط شرعية وأخلاقية محددة([22]) .
توصيات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية :
طرح موضوع الاستنساخ من قبل المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الندوة التاسعة التي عقدت في الدار البيضاء عام 1418هـ = 1997م وقدمت بشأنه عدة أبحاث طبية وبيولوجية وشرعية وقانونية . انتهت الندوة إلى ما يلي :
-        بند (خامساً) في التمهيد : " تأسيسا على هذه الاعتبارات التي أجمع عليها الحاضرون، رأى البعض تحريم الاستنساخ البشري جملة وتفصيلا، بينما رأى آخرون إبقاء فرصة لاستثناءات حاضرة أو مقبلة إن ثبتت لها فائدة واتسعت لها حدود الشريعة .
-        نص التوصيات
أولاً :              تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية، سواء أكان رحماً أم بييضة أم حيواناً منوياً أم خلية جديدة للاستنساخ .
ثانياً :              منع الاستنساخ البشري العادي، فإن ظهرت مستقبلا حالات استثنائية عرضت لبيان حكمها الشرعي من جهة الجواز أو المنع ([23]).
قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي :
قدمت الأبحاث المعروضة في الندوة التاسعة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الدورة الثانية لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، مع أبحاث أخرى إضافية، ومناقشات مستفيضة وصدر عن المجمع قرار متفق مع المنظمة في التوصية الأولى لندوتها، وهي :
-             تحريم كل الحالات التي يقحم بها طرف ثالث على العلاقة الزوجية .. الخ .
-             تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين ( أي في ديباجة القرار ) و بأي طريق أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري([24]) .
ويتبين من المقارنة بين توصية الندوة وقرار المجمع أن المجمع أوصد الباب نهائياً أمام الاستثناءات في حين ان الندوة تركت فرصة للاستثناء، وهذه الفرصة التي ستتم معالجتها هي وقوع الاستنساخ البشري بين الزوجين من البداية إلى النهاية .
الإشكالات المطروحة على الاستنساخ ولو بين الزوجين :
إن الأبحاث ذات الطابع الشرعي التي عالجت موضوع الاستنساخ لم تفرق بين أن يكون ضمن دائرة الزوجية أو خارجها، لأنها ركزت على الحكم الوضعي ( الآثار الشرعية الناتجة عن وقوع التصرف ) سواء حكم بمشروعيته أو بعدمها .
وقد طرح الباحثون اشكالات مختلفة، على تفاوت في عددها بين باحث وآخر، وهي في الواقع تشعيب أو تفريع استخدم لتأكيد التحريم الذي دار مناطه على أمر أساسي وهو مجافاة الفطرة التي هي تكون الإنسان بالتلقيح بين رجل وامرأة، وفيما يلي بعض هذه الإشكالات، للاستفادة منها في معالجة الآثار ، فيما إذا كان الاستنساخ بين الزوجين جائزاً، وهو ما ترجح عندي، كما سيأتي والاشكالات التي طرحها الشيخ محمد المختار السلامي هي :
1-         هل تكون الأنثى المستنسخة أختا أو بنتا للمأخوذة منها البييضة؟
2-         ما علاقة النسخة بالزوج هل هي ربيبة أو أخت لـه، أو أخت لزوجته مع ان زوجته هي التي ولدتها في حال قيام علاقة الزوجية .
ج-              هل يكون الذكر المستنسخ ابنا للزوجة أو زوجا لها مع زوجها الحالي وقد حملته في بطنها وولدته، أو هو أخ لزوجها ؟
وقد ختم الشيخ محمد المختار السلامي هذه الاشكالات بأن الحكم هو عموم المنع تفادياً لاضطراب الآثار الناتجة عن هذا التصرف([25]) .
واشتملت بعض البحوث بديلاً عن طرح الاشكالات - تقريراً متعجلاً للأحكام، لمجرد الخروج عن الوضع الطبيعي لوجود الإنسان، وهو ما قرره الدكتور حسن الشاذلي بما موجزه([26]) :
1-               المستنسخ ليس ابنا لصاحب الخلية ( يقصد النواة ) إذ هو نسخة منه، وليس شقيقاً له لأن علاقة الأخوة تدور حول من أنجبه الزوجان من أولاد .
2-               المستنسخ ليس ابنا لصاحبة البييضة المفرغة، لأن خواص الأم قد أعدمت بانتزاع نواة البييضة واحتضانها للخلية الجديدة هو للإنماء لا للإنشاء، ولم يتحقق الامتزاج بين خلية الذكور وخلية الأنثى .
5-               المستنسخ ليس زوجا لصاحبة البييضة باعتبار أخذ النواة من الزوج لأن علاقة الزوجية مثل علاقة الأبوة والنبوة علاقة خاصة بين اثنين .
8-                 على افتراض أخذ خلية من الزوج لاستنساخ ذكر، وأخذ خلية من الزوجة لاستنساخ بنت، هل هما أخوان أو زوجان امتدادا لعلاقة الزوجية.
هـ              هناك جهالة بشأن موقف المستنسخ من انتمائه النسبي وهي جهالة فاحشة، وجهالة من تصح نسبته إليه من الأصول والفروع، ومن ثم جهالة حقوقه وواجباته.
وقد اشتملت المناقشات التي دارت حول أبحاث الاستنساخ على مداخلات منها رأي كل من الدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور محمد سليمان الأشقر، والدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور وقد انتهوا إلى المنع مطلقاً .
الاتجاه الإيجابي من الاستنساخ بين الزوجين :
ان بحث الشيخ محمد علي التسخيرى([27]) تضمن اتجاها إيجابياً تجاه الاستنساخ من حيث الإجابة عن الاشكالات والمخاطر المثارة حوله بوجه عام، فقد قرر ما يلي ، والاشكالات متضمّنة في الردود :
1-               حالات الاستنساخ لا تشكل ظاهرة اجتماعية واسعة حتى يخشى على تعطيل طريقة الإنجاب بالزواج .
2-               لا مانع من وجود أفراد لا يعلم نسبهم، أو ينتسبون إلى الأم فقط، كولد الشبهة، وعليه لا يلزم من الاستنساخ اختلاط الأنساب، وإنما قد يلزم مجهولية النسب مما يخرجه موضوعا عن أحكام النسب .
5-               احتمال إساءة الاستفادة موجود بنفس النسبة في التلقيح الصناعي، وقد أجازته المجامع .
8-               تغيير الخلقة الممنوع هو عمليات على أسس شيطانية خرافية، فيها إهدار الثروة، واستجابة لغير شرع الله، وليس كل تغيير للخلقة ممنوعاً، مثاله : الختان، ووسم الحيوانات لتمييزها وعمليات التجميل الضرورية ..الخ
هـ              هناك شبهات واهية مثل الاستغناء عن الزواج، مصير اللقائح الزائدة، تهديم المجتمعات .. الخ .
ثم أضاف الشيخ التسخيري : إن النسب يمكن ضمانه إذا كانت النواة الضيفة مأخوذة من خلية الزوج مثلاً، والبيضة مأخوذة من الزوجة فلا ريب أن المولود ولد لهذين ومن الواضح ان الكثير من النتائج الإيجابية يمكن أن يتم الحصول عليها مع توافر هذه الشروط .
ومما يجاب به عن الاشكالات فضلاً عما أورده الشيخ التسخيري ان هناك حالات يستعصي فيها تحديد نوع القرابة، وهي حالة الخنثى المشـكل هل هو أخ أو أخت ؟ وهل هو ابن أو بنت ؟
وقد استنبط الفقهاء حلولاً لكثير من المشكلات، والشريعة لا تضيق عن إيجاد الأحكام للمستجدات من خلال مصادر الاجتهاد المتعددة .
مدى جواز الإقدام على ما يتعسر إيجاد حَلّ له :
قد يقال : إذا كانت الأحكام الوضعية للاستنساخ، ولو بين الزوجين، ليست واضحة بينة، وفيها خلاف وجدل وعسر في إيجاد الحلّ، فهل للإنسان أن يقدم على ارتكاب السبب الذي يتطلب أثراً شرعياً غير واضح .
والجواب أن الأحكام الوضعية لا تدخّل للمكلف فيها بخلاف الأحكام التكليفية التي يتعلق بها الفعل أو الترك - ولا يتعلق الخطاب إلا بالتصرف الذي يباشره المكلف، وهو إبرام عقد فاسد مثلاً . هذا ليس من هذا القبيل . فإن التصرفات التي تتم في الاستنساخ بين الزوجين هي أخذ خلية من الزوج، نزع نواتها، أخذ بييضة من الزوجة، تفريغها من نواتها، وضع نواة خلية الزوج في البييضة، وهذه تصرفات مادية لا يظهر فيها ارتكاب محرم، أو ترك واجب، وعلى الفقهاء إيجاد الحل لما ينتج عن ذلك من آثار بشأن النسب والإرث والنفقات، وغيرها وكلها تتفرع من ثبوت النسب وسيأتي الكلام فيه .
ومن الأمثلة التي أوردها الفقهاء وتصلح للاستئناس بها من حيث القيام بأمر يترتب عليه اثر لا يملك الشخص علاجاً له جواز معاشرة الرجل لزوجته وهو متيقن من فقدان الماء للاغتسال، حيث يلجأ إلى التيمم مع أنه هو الذي تسبب في فقدانه الطهارة . بل حتى لو كان التيمم أيضا متعذراً عليه، كما لو حبس في غرفة من الخشب لا تراب فيها ولا يخفى أنه يترتب على ذلك فقدان الطهارة من خلال تسببه في ذلك، ولا مؤاخذة عليه ..
إثبات النسب من الزوج صاحب النواة :
هناك عدة طرق لإثبات النسب المستنسخ بالنواة للزوج المستمدة منه النواة :
أ-              الفراش :
فإن فراش الزوجية قائم، وما ولدته المرأة المتزوجة هو ولد لصاحب الفراش، وهذا ما لم ينف نسبه منه بشروطه، عن طريق الملاعنة، وهذا أمر غير وارد هنا مع أنه ممكن . وقد سبق حديث ( الولد للفراش ) .
ب-              القيافة :
فلو افترضنا ان هناك من ينازع الزوج في ادعاء نسب المولود بالاستنساخ فإن القيافة دليل لإثبات النسب عند التنازع وفقدان البينة، وهنا ما هو أوضح من القيافة التي هي الشبه، لأن الموجود تماثل تام .
ج-              الاستلحاق :
على افتراض فقدان الفراش بالنسبة للمستنسخ فإن للزوج صاحب النواة أن يستلحقه لعدم الإخلال بحق غيره، وقد سبق ان الشرع يتشوف لإثبات النسب وفيما يلي خلاصة موجزة عن الاستلحاق :
ذهب اسحاق بن راهويه إلى ان المولود من الزنى إذا لم يكن مولوداً على فراش يدعيه صاحبه، وادعاه الزاني ألحق به، وأول قوله صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش" على أنه حكم بذلك عند تنازع الزاني وصاحب الفراش . وهذا مذهب الحسن البصري وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار واحتجوا بأن عمر كان يُليط ( ينسب ) أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام . قال ابن القيم وهذا المذهب كما تراه قوة ووضوحاً، فما المانع من لحوقه بالأب إذا لم يدعه غيره([28]) .
ثم أليس في قوله صلى الله عليه وسلم، بمناسبة الحث على اسباغ الغسل : " ان تحت كل شعرة جنابة " إشارة إلى أن المني الذي تبدأ بها أول مراحل تكون الإنسان (النطفة) هو من الجسم كله استمداداً، وان كان له وعاء خاص نشوءاً وبروزاً .
كما ان غـرس النواة من خلية الزوج في بييضة الزوجة ولو كانت منزوعة النواة هو نوع من التلقيح، بدلالة حصول الأثر نفسه فيما لو انغرس الحيوان المنوي في البييضة التامة .
إثبات النسب من الزوجة صاحبة البييضة :
لا تبدو هناك مشكلة في إثبات نسب المستنسخ بالنبوة من الأم، وان المطروح من الشبهات لا يقوى على معارضة الحقيقة الشرعية المقررة في قوله تعالى إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم([29]) ، وقوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن([30]) حيث نسب الأولاد إلى الوالدات لهم .وهذا الثبوت من الحقائق الطبيعية، لأن الانفصال عن جسم المرأة تتحقق به الجزئية التي هي مناط البنوة .
إن ما قيل من ان البييضة بعد نزع نواتها أعدمت وزال أثرها لا صحة لـه، فإن البييضة ليست هي النواة وحدها، بل هي الخلية بجميع ما تشتمل عليه .
وما طرح من تشعيب وتقليب للافتراضات بالنظر إلى ان الحقيبة الوراثية واحدة وان الكائن الناتج هو أخ أو زوج أو بنت .. الخ كل تلك الطروحات فيها غفلة عن الحقيقة الشرعية المقررة وهي ان الولادة من المرأة تثبت بها بنوة المولود لها حتى لو لم تكن هناك زوجية، فكيف والزوجية قائمة ؟
وقد أثار الدكتور أحمد شرف الدين مسألة تعدد الأمومة أو الأبوة، والمسألة كما قال الشيخ بدر المتولى عبد الباسط - قد حلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :" الولد للفراش وللعاهر الحجر " فالولد أبوه صاحب الفراش فإن لم يكن صاحب فراش فيكون الولد لا أب له معروفاً ويأخذ حكم اللقيط، فبالرغم من ان ولد الزنى مثلاً قد يكون معروفاً أنه ولد من ماء فلان فإنه لا يمكن بأي حال ان ينسب الولد لصاحب الحيوان المنوي لأنه حين وضع في رحم غير الزوجة كان مهدراً فالشرع يلغي هذه الأبوة فإن الولد لا ينسب إليه وينسب إلى صاحب الفراش إلا ان نفاه، وإثبات نسبه إلى صاحب الفراش بالرغم أنه ليس من مائة هو من تشّوف الشرع لإثبات النسب، مع إعطاء الفرصة لمن اعتدي على فراشه في أن ينفى نسب ذلك الولد ويلاعن على ذلك إن الأم الحقيقية هي التي ولدت وتغذى منها الجنين وحملته، فهذه هي الأم الحقيقية (والوالدات يرضعن أولادهن) ولم يقل ( الحاضنات ) . اما صاحبه البييضة فلا علاقة للولد بها أبـداً ( إن أمهاتهم إلا اللائى ولدتهم ) ([31]) .

والحمد الله رب العالمين
3


[1]()              سورة الذاريات /21
[2]()              سورة يس /81
[3]()              سورة طه /50
[4]()              تفسير القرطبي 7/2 وفيه نماذج 14/82
[5]()              سورة هود 118/و 119
[6]()              أخرجه مسلم في صحيحه .
[7]()              سورة الأعراف /189 .
[8]()              أخرجه البخاري ومسلم ( اللؤلؤ والمرجان ، حديث رقم 1957 ) .
[9]()              تاريخ الطب، الدكتور شوكت الشطى 109 طبع جامعة دمشق .
[10]()              الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبة الزحيلي 7/673 .
[11]()              البدائع للكاساني 3/211 الدسوقي 3/412 مغني المحتاج 3/396 المغني لابن قدامة 7/430 بداية المجتهد لابن رشد 2/352 .
[12]()              أخرجه البخاري ومسلم ( اللؤلوة والمرجان، حديث رقم 924 ) .
[13]()              سورة النساء /119
[14]()              أساليب دكتاتورية البيولوجيا في ميزان الشريعة..د. أحمد شرف الدين ، ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام 141 143 بتصرف .
[15]()              المرجع السابق 144 145 بتصرف يسير .
[16]()              بحث حمض النواويك المعاود للالتحام د. ماهر حتحوت 131 و133 من أبحاث ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام ، المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية .
[17]()              الاستنساخ، نشرة المنظمة الإسلامية ص 5 .
[18]()              سورة النور / 4
[19]()              الرسالة الكاملية، لابن النفيس .
[20]()              سورة الأحزاب / 4
[21]()              سورة الإسراء /32
[22]()              الاستنساخ، نشرة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية صفحة 7 .
[23]()              ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام، المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، توصيات الندوة .
[24]()              قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 100(2/10)
[25]()              بحثه عن الاستنساخ المقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي ( مجلة المجمع 10/3/157 .
[26]()              بحثه عن الاستنساخ، مجلة المجمع 10/3/193 .
[27]()              بحثه عن الاستنساخ ، مجلة المجمع 10/3/222 .
[28]()              زاد المعاد 5/425، أختيارات ابن تيمية للبعلى 165 المغني لابن قدامة 6/266 .
[29]()              سورة الأحزاب /
[30]()              سورة البقرة /
[31]()              مناقشات ندوة الإنجاب، كلمة الشيخ بدر المتولى عبد الباسط 168 169 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم