الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

أحكام النسب بين قواعد الشريعة ومدونة الاسرة - بحث مميز - جـ 3


المطلب الثاني:
أثر النتائج العلمية لفحص الدم على إثبات النسب أو نفيه
لقد عرفت النتائج العلمية لفحص الدم تطورا كبيرا، أصبح معه معرفة نسب الولد أمرا لا مجال فيه للشك بل اليقين، لكن هذا اليقين في إثبات أو نفي النسب لم يأت دفعة واحدة بل انتقل فيه الوضع من مرحلة كانت فيها نتائج فحص الدم دليلا للنفي فقط ( الفقرة الأولى ) إلى مرحلة حاسمة ويقينية، وذلك بأن أصبحت نتائج فحص الدم دليلا مؤكدا للنفي والإثبات معا ( الفقرة الثانية ).
الفقرة الأولى: نتائج فحص الدم دليل للنفي فقط
         لقد أثبت الأبحاث العلمية ومنذ مدة ليس بالقصيرة أن دم أفراد بني البشر يتنوع إلى عدة فصائل، وأن لكل فـصيلة دموية خصائصها المحددة علميا [89] ، والتي
لا تتغير منذ الولادة إلى الوفاة، وهذا النعت يشكل دعامة وإسهاما كبيرا في التعرف على الأشخاص، كما أن الفصائل الدموية تلائم تقسيمات تمكن من تمحيص التحاليل [90]، منذ اكتشاف هذه الفصائل الدموية عام 1900 [91].
وعرف أنها تتوارث تبعا لقوانين ثابتة أصبحت بذلك هي السبيل العلمي الوحيد المعول عليه في نفي الأبوة والأمومة، كما قرر الأطباء عام 1908 بصفة قاطعة لا يخالطها أدنى شك بأن فصيلة دم الابن تتأثر بنوع فصيلة دم أبيه وأمه، سواء كان دمهم من فصيلة واحدة أو من فصيلتين مختلفتين، حيث إن كل إنسان يرث صفاته من أبيه وأمه مناصفة تماما، إذ أن الحيوان المنوي عبارة عن خلية منصفة أي أنها تحمل نصف عدد المورثات الموجودة في الخلية العادية وكذلك بويضة الأنثى فإذا اتحد الحيوان المنوي بالبويضة، تكونت خلية كاملة فيها عدد المورثات الموجودة في أي خلية إنسانية عادية نصـفهـا مأخـوذ من الأب ونصفها الآخر مأخـوذ من الأم، كما قرر الأطباء أن فحـص فـصائل الدم لا يثبت الأبوة بصفة قـاطعة، فهـو لا يثبت أن رجلا بـعـينه هـو والـد الـطفـل موضوع النزاع، ولكنه يثبت أن هذا الرجـل لـيس والـدا لهـذا الطفـل.        
وكنتيجة لهذه المعطيات العلمية المتاحة في ذلك الوقت، تبين أن فصائل الدم تفيد في الحصول على نفي قاطع ولكنها لا تفيد في الحصول على إثبات مؤكد [92].
بمعنى أنه عن طريق فحص الفصيلة التي ينتسب إليها دم الزوجة والزوج والولد أمكن التوصل علميا إلى إحدى الفرضيتين: أولها ظهور فصيلة دم الولد مخالفة لمقتضيات تناسل فصيلتي الزوجين، وهذا يفيد بالتأكيد أن الزوج ليس هو الأب الحقيقي لذلك الولد، وثانيهما ظهور فصيلة دم الولد موافقة لمقتضيات تناسل فصيلتي دم الزوجين معا، وهذا معناه أن الزوج قد يكون الأب الحقيقي للولد، وقد لا يكون أباه، والسبب في هذا الاستنتاج أن الفصيلة الدموية الواحدة قد يشترك فيها أناس كثيرون يحتمل جدا أن يكون الزوج المدعى عليه من بينهم.
ومن المفيد الإشارة إلى كلا من القضاء الفرنسي والقضاء المصري قد تبنى القاعدة أعلاه، بخلاف القضاء المغربي الذي لم نعثر له على موقف إيجابي أو سلبي، وقد سبق لمحكمة النقض المصرية أن قضت بأنه: « متى كانت الحقائق العلمية المسلم بها في الطب الشرعي الحديث تفيد أن تحليل فصائل الدم قد تقطع نتيجة نفي نسب الطفل عند المنازعة فيه، وإن كان من غير اللازم أن تقطع في ثبوته واتحاد الفصائل أو اختلافها بين الأصول والفروع أيا كان الرأي العلمي فيه هو اعتبار عام لا ينهض في وجه ما تمسك به الطاعن في خصوص دعواه من أن الطفل لا يمكن نسبته إليه ولو بدليل محتمل، محتكما إلى الخبرة الفنية البحتة التي لا تستطيع المحكمة أن تشق طريقها فيها إلى بمعونة دويها، لما كان ذلك وكان لا يعرف حاصل ما كان ينتهي إليه رأي المحكمة لو ثبت لها بيقين من نتيجة تحليل الفصائل أن الطفل لا يمكن أن يعزى إلى المتهم، وكان رد الدفاع يحدث في وجدان القاضي ما يحدثه دليل الثبوت، لما كان ما تقدم، فقد كان متعينا على المحكمة أن تحقق هذا الدفاع الجوهري عن طريق المختص فنيا وهو الطبيب الشرعي.
أما وهي لم تفعل اكتفاء بما قالت من أنه ليس من اللازم أن تتحد فصائل دم الأصول والفروع، فإنها بذلك تكون قد أحلت نفسها محل الخبير الفني في مسألة فنية، ومن تم يكون حكمها معيبا بالإخلال بحق الدفاع، مما يتعين معه نقضه والإحالة دون حاجة إلى التعرض لسائر الطعن [93].
هذا وقد حدد الأطباء الفصائل الممكنة والمستحيلة بالنسبة لدم الطفل تبعا لنوع فصيلة دم أبويه اعتمادا على قانون ( هيرزفيلد ) (Hersyfield ) و (فون دونجرن) ( Fon dungrn ) اللذين ينصان على أن: أية فصيلة دموية تتشكل لدى الأبناء كشفع واحد يكون أحد وتريه مأخوذا من الأم والآخر حكما من الأب، وكذا قانون بيرنشتاين (Bernstein ) الذي يتلخص في البندين التاليين:
ــ لا يمكـن لأي أم أو أب أن ينجـبا أطـفـالا ذوي فـصيلة دموية (O ) وهـما من ذوي (A.B) ولا يمكن لطفـل فـصيلـتـه الـدمـويـة (A.B) أن يكون أحد أبويه (O ).
ــ لا يمكن لإحدى الفصيلتين Aأو B أن تظهـر لدى اثنين ما لم تكن موجودتين عند أحد أبويه.
فالطريقة الأساسية في بيان فصائل الدم المحكومة بمورثات للوالدين هي تقسيمها إلى A وB وAB وO ، وهذه يوجد منها اثنتان في كل منهما واحدة من الأم وأخرى من الأب، والمورثة A وكذا المورثةB سائدتان، أما O فلا تعطي فصيلتها للوراثة، وعلى هذا فالأشخاص من فصيلة A إما أن يحملوا المورثات (A.A ) أو يحملوا (O.A )، أما أشخاص الفصيلة (O ) فيحملون مورثات (O.O ) فقط، وكذلك يحمل الأشخاص من فصيلة (B.A ) المورثات A وB .
فالطفل من فصيلةO مثلا إذا كانت أمه من فصيلة A لا يمكن أن يكون أبوه من الفصيلة ( AB ) لأن هذه الأخيرة ليست بها المورثة (O ) ولكن أباه قد يكون من الفصيلة A وB لأنه قد يحمل مورثة (O ) انتقلت منه إلى الطفل كما فعلت الأم [94] .


ونفرغ ذلك في الجدول التالي:

الفصائل الدموية
A
( A.A )
( O.A )
B
(B.B)
(O.B)
AB
(A.B)

O
(O.O)
A



AA
OA
AA
OA
OO
يستحيل طبيا أن يعطي دم B أو AB
AB
OA
OO
OB
AA
AB
OB
OA
AO
OO

يستحيل طبيا أن يعطي دم     B أو A أو AB
B


BB
OB
AB
OB
OO
AO
يستحيل طبيا أن يعطي دم A
BB
OB

يستحيل طبيا أن يعطي دم    A أو AB
BA
BB
OB
OA
BO
OO

يستحيل طبيا أن يعطي دم     B أو A أو AB
AB
(A.B)

AA
AB
OA
OB
يستحيل طبيا أن يعطي دم O
AB
AO
BO
BB
يستحيل طبيا أن يعطي دم A
AA
AB
BB

يستحيل طبيا أن يعطي دم O
AO
BO

يستحيل طبيا أن يعطي دم     A أو B أو AB
O
(O.O)
OA
OB
يستحيل طبيا أن يعطي دم    B أو AB
OB
OO
يستحيل طبيا أن يعطي دم    A أو AB
OA
OB
يستحيل طبيا أن يعطي دم    O أو AB
OO

يستحيل طبيا أن يعطي دم     A أو B أو AB
نخلص في ضوء هذه المعطيات العلمية أن بحث فصائل الدم تفيد في الحصول على دليل قاطع في نفي النسب، في حين لا تفيد مطلقا في الحصول على دليل إثبات مؤكد، بل إنها مجرد قرينة بسيطة تقبل إثبات العكس لإمكان توافق الفصيلة الدموية بين عدة أشخاص [95]، وهذا ما حفز العلماء على ضرورة البحث عن دليل مؤكد للنفي والإثبات معا، بحيث يمكننا من معرفة الأب البيولوجي الذي لا أب سواه.
الفقرة الثانية: نتائج فحص الدم مؤكد للنفي وللإثبات
         على إثر اكتشاف حمض معين في جسم الإنسان، أمكن في ذات الوقت اكتشاف جزء معين في تركيب هذا الحمض، ويتميز هذا الجزء بأنه يحمل الصفات الوراثية الخاصة بكل إنسان والتي تظل ملازمة له مدى الحياة، وقد سميت هذه الصفات بالبصمة الوراثية، فما معنى البصمة الوراثية (أولا) وما هي قوتها في نفي أو إثبات النسب (ثانيا)؟
أولا: ماهية البصمة الوراثية
         لقـد اهـتمت الدراسات العـلميـة الـوراثـية في البـدايـة بالـمميـزات الـشكــليـة ( القامة، الوزن، لون البشرة، وكذلك العينين.. )، لكنها اتجهت بعد ذلك ــ وبفضل تـقـدم التقـنيات الحـديثـة وتطـور مـواز مذهـل للعـديـد من العـلوم الحية كالكيمياء العضوية ــ إلى البحث في العناصر المكونة للخلية [96]، فتوصل العلماء إلى أن كلا من البويضة والحيوان المنوي يحتوي على نصف عدد الصبغيات، فالأم تساهم بنصف العدد، والأب يساهم بالنصف الآخر، ومن اتحاد هاتين الخليتين يستعاد بتكاملهما العدد الأصلي المميز للخلية التي يتكون منها جسم الإنسان، فالحيوان المنوي يحمل 23 صبغيا، والبويضة تحتوي بدورها على 23 صبغيا، ومن اتحادهما عن طريق الإخصاب فإن البويضة الملقحة تستكمل 46 صبغيا، وهو العدد الواجب للخلية في الجسم، ومعنى ذلك أن البويضة الملقحة تحتوي على المعلومات الوراثية التي تأتي من الأب والأم معا، تلك المعلومات التي تكون مبرمجة في الجينات أو المورثات الوافدة من الأب والأم على السواء.
         فمن الثابت علميا أن كل الكائنات الحية تتكون من وحدات مجهرية تسمى الواحدة منها خلية، وهذه الخلية عبارة عن منظومة معقدة مضبوطة العدد في جزئياتها وتفاعلاتها ووظائفها، وهذه الخلية تتكون بدورها من نواة وبلازما خلوية، والنواة تضم ما يعرف بالصبغيات أو الكروموزمات، وقد أطلق العلماء على
الجزئيات المكونة للصبغيات مصطلح الجينات، وهذه الجينات التي تنقل الرسالة الوراثية من جيل لآخر وتوجه نشاط كل خلية هي عبارة عن جزيئات عملاقة تكون ما يشبه الخيوط الرفيعة المجدولة، تسمى هذه الجزئيات بالحامض النووي الديـوكـسي الـريـبـوزي، والمخـتـزل في حـروف ADN  وهو اخـتـصار للمصطـلح ( Acide Désoyuribo Nucléique )، وصاحب هذا الاكتشاف هو البروفـسور
 ( Alex Seffeyo ) أستاذ بجامعة ( Leisctr ) بانجلترا وهو رئيس معمل الجينات الوراثية بنفس الجامعة ومدير الأبحاث بمعمل الشرطة القضائية [97].
وداخل هذه الرسالة الوراثية توجد كل الصفات الوراثية بداية من لون العينين ونوع الفصيلة ونوع البروتين والأنزيمات حتى أدق التركيبات الموجودة بالجسم وهي ما يسمى بالبصمة الوراثية، فأساس البصمة الوراثية يقوم على أن طبيعة الشخص والأمراض التي يصاب بها تكون محفوظة على هيئة جينات على شريط ADN وتكون حوالي % 30 من ذلك الشريط، أما 70 % فهي سلاسل من القواعد النيتروجينية الأربع التي وهبها الله للحياة وهي: الأذنين A و الجوانين G و الستوزين C والتيامين T ، التي تكون المادة الوراثية وتقوم بتخزين المعلومات الوراثية، وهذه السلاسل التي ذكرناها تكرر بعضها مئات المرات، وبعضها آلاف المرات، وقد اكتشف البروفسور ( Michael Smith ) [98] ، أن هذه السلاسل تختلف
في العدد والتركيب من شخص لآخر بحيث إن إمكانية التشابه بين شخصين في هذه السلاسل تكون معدومة، بمعنى أن لكل إنسان على وجود الأرض بصماته الوراثية الخاصة، باستثناء التوائم المتطابقة [99].
وتبقى معرفة البصمة الوراثية لشخص ما تتم عن طريق فحص الحمض النووي لأحد المواد السائلة في جسمه ( كالدم، والمني، واللعاب) أو لأحد الأنسجة في الجسم كاللحم أو الجلد أو العظام..
وهكذا أمكن الاستفادة من هذا الاكتشاف العلمي العظيم في التوصل إلى ما إذا كان الأثر الآدمي الخاضع للفحص يخص شخص معينا أم لا، وبمعنى آخر أمكن اعتبار هذا الفحص دليلا حقيقيا أو إثباتا بطريقة أكيدة في كثير من المجالات على رأسها مجال النسب.


ثانيا: قوة البصمة الوراثية في نفي أو إثبات النسب
         يرى علماء الطب الحديث أنهم يستطيعون إثبات الأبوة، أو البنوة لشخص ما أو نفيه عنه من خلال إجراءات الفحص على جيناته الوراثية حيث دلت الأبحاث الطبية التجريبية على أن نسبة النجاح في إثبات النسب أو نفيه عن طريق معرفة البصمات الوراثية يصل في حالة النفي إلى حد القطع أي بنسبة % 100 أما في حالة الإثبات فإنه يصل إلى قريب من القطع وذلك بنسبة % 99 تقريبا.
فبعد فحص العينة المأخوذة من جسم الإنسان وتحليلها، وفحص ما تحتوي عليه من كروموزمات ــ أي صبغيات ــ تحمل الصفات الوراثية، وبعد معرفة هذه الصفات الوراثية الخاصة بالابن وبوالديه، يمكن بعد ذلك أن يثبت بعض هذه الصفات الوارثية في الابن مورثة له عن أبيه لاتفاقها في بعض هذه الجينات الوراثية فيحكم عندئذ بأبوته له، أو يقطع بنفي أبوته له، وكذلك الحال بالنسبة للأم، وذلك لأن الابن ــ كما تقـدم ــ يـرث عن أبيه نصف مـورثـاتـه الجينية، بينما يـرث عن أمـه النصف الآخر، فإذا أثبتت التجارب الطبية والفحوصات المخبرية وجود التشابه في الجينات بين الابن وأبويه، ثبت طبيا بنوته لهما، وقد تثبت بنوته لأحد والديه بناء على التشابه الحاصل بينهما في المورثات الجينية، بينما ينفي عن الآخر منهما، بناء على انتفاء التشابه بينهما في شتى المورثات الجينية [100]، والقضاء المغربي أصبح مع مدونة الأسرة الجديدة يأخذ الخبرة الجينية لنفي أو إثبات النسب، لكن شريطة إدلاء المعني بدلائل قوية على ادعائه وصدور حكم قضائي بها، حيث جاء في حكم للمحكمة الابتدائية بفاس: « ..وحيث إنه إعمالا لهذا المقتضى فقد أمرت المحكمة تمهيديا بإجراء خبرة على الحامض النووي لكل من المدعى عليه والطفلة... لمعرفة ما إذا كانت هذه الأخيرة قد تنسلت من صلب المدعى عليه.. وحيث تم إنجاز تـقـريـر الخبرة من قبل المخـتبـر المنـتـدب والـذي خلص فيه إلى الـقـول بأن السيد.. هو فعلا الأب الطبيعي للطفلة.. بنسبة % 99.99 وحيث إنه بالبناء على هذه العلل مجتمعة، فقد اقتنعت المحكمة جازمة بأن الشروط المنصوص عليها بمقتضى المادة 156 من المدونة قام الدليل على توافرها في نازلة الحال كما أن تقرير الخبرة جاء شاهدا بلسان حاله على تنسل الطفلة... من صلب والدها المدعى عليه..، حكمت المحكمة علنيا ابتدائيا بمثابة حضوري في الشكل: بقبول الطلب، وفي الموضوع: بثبوت نسب الطفلة... لوالدها عثمان.. » [101] .
وللإشارة فإن مجال العمل بالبصمة الوراثية غير منحصر في النسب حيث يرى المختصون في المجال الطبي وخبراء البصمات أنه يمكن استخدام البصمات الوراثية في مجالات كثيرة، من بينها: المجال الجنائي، وهو مجال واسع يدخل ضمنه الكشف عن هوية المجرمين في حالة ارتكاب جناية قتل، أو اعتداء، وفي حالات الاختطاف بأنواعها، وفي حالة انتحال شخصيات الآخرين، ونحو هذه المجالات الجنائية [102].

يبدو أن المشرع المغربي في موضوع بحثنا بالذات ظل متوافقا مع موقف الفقه الإسلامي المالكي من النسب إلى درجة التطابق، وهذا في نظرنا لا يعود إلى النقل الحرفي لمعالجة هذا الفقه لموضوع النسب، بل إلى الإعمال العقلي والمنطقي لهذا الفقه، وإكتشاف أن معالجته للنسب هي صالحة لكل زمان ومكان، وتأخذ في اعتبارها بالدرجة الأولى مصلحة الولد المزداد أو الذي سيزداد، وذلك بلحوق نسب الولد إلى أبيه أولا، ثم ثانيا صيانة هذا النسب طوال حياة الولد، وبدرجة موازية رعى الفقه الإسلامي المالكي أيضا مصلحة المرأة الحامل سواء أكانت متزوجة أو مخطوبة، وذلك حفظا لشرفها، وتجنب لحوق عار ابن الزنا لوليدها.
والفقه الإسلامي لم يقف عند مصلحة المرأة والولد، بل من خلال مصلحة هذين الأخيرين، سيتمكن الرجل من حفظ شرفه ونسب أجداده في ولده، وذلك في إطار نظام شرعي اسمه الزواج، غايته حفظ الأنساب من الضياع.
وفي الأخير وبعد مقاربتنا للمصالح الثلاث التي يحرص الفقه الإسلامي على حفظها وصيانتها من خلال ثبوت الأنساب، لن نجد من خلال هذا الحرص والصيانة والتشوف للحوقها، إلا حرصه على ثبوت المبادئ والقيم والأخلاق الإسلامية السامية في نفوس أفراد المجتمع، وضمان الإستقرار لهذه النفوس في داخلها وفيما بينها، وتجنيبها التشرذم النفسي الذي ستعيشه إن عاشت جاهلة لأصلها ونسبها.
إلا أن ما نسجله على المشرع المغربي رغم المستجدات القيمة التي جاء بها في مدونة الأسرة، هو الحيف الواقع في حق المرأة والذي تتجسد ملامحه في حالة البنوة غير الشرعية حيث لا يتحمل أب الإبن غير الشرعي أية مسؤولية تطلق، رغم أنه مشارك في ارتكاب جريمة الزنا التي أدت إلى الحمل الغير الشرعي، والله سبحانه وتعالى في ذكره الحكيم لم يعاقب المرأة وحدها في جريمة الزنا بل ساوى بينها وبين الرجل في حد الزنا، وبهذا فمن المفروض أن يتحمل هذا الرجل نتيجة خطئه، وأن يتحمل مسؤولية هذا الطفل المزداد ولو من الناحية المادية، وذلك استنادا لقـواعـد المسؤولية المدنية ( الفـصل 77 من قانون الالتزامات والعـقـود المغربي )، التي تلزم كل إنسان ارتكب فعلا عن بينة ومن غير أن يسمح به القانون  فأحدث ضررا للغير ماديا أو معنويا بتعويض هذا الضرر إن كان الفعل هو السبب في حدوث الضرر [103].    
إلا أن الطامة الكبرى التي نسجلها من خلال بحثنا المتواضع هو الثغرة القانونية الموجودة مابين مدونة الأسرة الجديدة والقانون الجنائي المغربي، حيث نجد مدونة الأسرة تنص في المادة   147 منها على أن الأمومة شرعية في حالة الإغتصاب، وبطبيعة الحال لأنه لا ذنب لها، في هذا الحمل لأنه نتج عن إكراه، والإكراه كما هو معلوم من عيوب الإرادة لايجعل الممارس عليه يتحمل نتيجة الفعل الممارس عليه. وبالموازاة مع ذلك لا نجد في القانون الجنائي المغربي إلا العقوبة الحبسية في حالة اختار هذا الشخص قضاء مدة العقوبة في السجن وتجنب الزواج ممن اغتصبها، حيث لايتحمل بعد ذلك أية مسؤولية عن الجريمة التي ارتكبها ولو كانت مسؤوليته اتجاه ولده غير الشرعي المتنصل من صلبه.
وهذه ثغرة قانونية ينبغي على المشرع المغربي الإنتباه لها، حتى يلجم أصحاب النفوس الدنيئة التي تفضل السجن على تحمل المسؤولية وترك الأم العازبة وحدها تواجه ــ رفقة وليدها الشرعي في نظر القانون وغير الشرعي في نظر مجتمع لايرحم ــ جحيم نتائج فعل لم ترتكبه بل مورس عليها بالإكراه.
وبهذا فإن المشرع في كثير من الحالات، وربما عن سهو أو لامبالاة أو نتيجة بعض المرجعيات المحافظة التي تستصغر خطأ الرجل وتعظم خطأ المرأة حتى ولو كان بالإكراه، يكون ما يعطيه باليد اليمنى يأخذه باليد اليسرى...!؟

المراجع

1 ــ القرآن الكريم.
2 ــ محمد زكريا البرديسي: الأحكام الأساسية في الأحوال الشخصية، مطبعة دار التأليف 1965.
3 ــ مصطفى شلبي: أحكام الأسرة في الإسلام، دار النهضة العربية بيروت الطبعة الأولى سنة 1981.
4 ــ محمد الشافعي: أحكام الأسرة في ضوء مدونة الأحوال الشخصية، المنشورات الجامعية المغاربية الطبعة الثانية، سنة 1989.
5 ــ محمد ابن معجوز: أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية وفق مدونة الأحوال الشخصية، الجزء الثاني: الولادة ونتائجها، الطبعة الأولى سنة 1414 ــ1994.
6 ــ أمين عبد المعبود زغلول: أحكام رعاية الطفل اللقيط في الشريعة الإسلامية، مجلة الأحصدية، العدد 6، دار البحوث للدارسات الإسلامية، دبي سنة 2000.
7 ــ عمر عبد الله: أحكام الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية الطبعة الأولى  سنة1985.
8 ــ عبد العزيز عامر: الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية فقها وقضاء، دار الفكر العربي بالقاهرة 1976.
9 ــ أحمد الخمليشي: التعليق على قانون الأحوال الشخصية، الجزء الثاني: آثار الولادة والأهلية والنيابة القانونية، الطبعة الأولى  سنة 1996.
10 ــ أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد ابن رشد: بـداية المجتهـد ونهاية المقتصد، الجزء الثاني، دار الجيل بيروت الطبعة الأولى، السنة1989.  
11ــ الشيخ جواد مغنية: الجواهر والمسالك، وسائر كتب الشيعة، والأحوال الشخصية الطبعة الأولى سنة 1986.
12 ــ بدران أبو العينين بدران: الفقه المقارن للأحوال الشخصية بين المذاهب الأربعة السنية والمذهب الجعفري والقانون، الزواج والطلاق، دار النهضة العربية بيروت لبنان، الطبعة الأولى سنة 1982.
13 ــ محمد الأزهر: شرح مدونة الأسرة، مطبعة دار النشر المغربية عين السبع الدار البيضاء الطبعة الأولى سنة 2006.
14 ــ شرح الزرقاني: على مختصر سيدي خليل عبد الباقي الزرقاني، الجزء 4. الطبعة الأولى، سنة 1984.
15 ــ السيد سابق: فقه السنة، الجزء الثالث دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة 1365 هـ ، ص 657.
16 ــ قانون الالتزامات والعقود، الفصول من 443 إلى 448.              
17ــ قانون المسطرة المدنية، الفصول من 74 إلى 84.
18ــ ابن منظور: لسان العرب. دار الطباعة الطبعة الثانية  سنة 1988.
19 ــ الونشريسي أبي العباس أحمد بن يحيى: المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب، الجزء 4 بيروت، دار الغرب الإسلامي للنشر، 1981.
20 ــ محمد أبو زهرة: محاضرات في الأحوال الشخصية، المطبعة العالمية بالقاهرة. الطبعة الأولى سنة 1993.
21 ــ يوسف موسى: النسب وآثاره، الطبعة نشر المطبعة العالمية بالقاهرة، 1958.
22ــ محمد الكشبور: الوسيط في قانون الأحوال الشخصية، مطبعة النجاح الدار البيضاء. الطبعة الثانية سنة 1999.
23ــ خالد بنيس: الولادة ونتائجها، مدونة الأحوال الشخصية، مطبعة النجاح البيضاء. الطبعة الأولى، سنة 1993.
24ــ أحمد الغازي الحسيني: الولد للفراش، مقال منشور بمجلة القضاء والقانون، العدد 130، السنة 2001.
 25 ــ محمد محمد أبو زيد: دور التقدم البيولوجي في إثبات النسب، بحث منشور في مجلة الحقوق (الكويت) العدد الأول.السنة 2005 .
26 ــ المجلة المغربية للاقتصاد والقانون، العدد 6/10/2002، مطبعة الجسور، وجدة.
27 ــ مجلة قضاء المجلس الأعلى، قرار صادر في 03/02/1987، منشور العدد 40.
28 ــ مقال منشور بجريدة العلم، عدد 1996 بتاريخ 23 فبراير 2005، للأستاذ الملكي الحسين.
29 ــ مجلة المحامي العددان 25 و26، قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 16/11/1993.
30 ــ قرار غير منشور ملف رقم 904/1/05 بتاريخ 19/11/2007، حكم رقم 5317.
31 ــ مجلة قرارات المجلس الأعلى، مادة الأحوال الشخصية 1965/1989، قرار صادر عن الغرفة الاجتماعية بالمجلس الأعلى الصادر بتاريخ ثاني ذو القعدة 1391،
32 ــ المحكمة الابتدائية بفاس، قسم قضاء الأسرة، حكم رقم 4650، ملف رقم: 3181 /1/ 05، بتاريخ 2007 /10/ 15، حكم غير منشور.
البحوث والرسائل الجامعية:
33 ــ رشيدي مغنية: حق الطفل في النسب رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الحقوق فاس سنة: 2002 /2003.
34ــ فاطمة الزهراء زريوح، حميد المرنيسي: ظاهرة الطفولة غير الشرعية بمدينة فاس، بحث لنيل الإجازة في القانون الخاص، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الحقوق فاس الموسم الجامعي 1990 / 1991.


مراجع باللغة الفرنسية:
 ــ    35  Jean louis serre, génétique des populations, imprimé en France I.M.E, 1997.
 ــ 36 G.G.M.L, Analyse génétique moderne, Bibliothèque National, Paris, Mars 2001.
  ــ 37 Adolphe Ruolt, l’expertise medico, légal imprimerie najah al Jadida, Casablanca, 1998.
 ــ   38 P.F Ceccaldi et m. Durigon : Médicine légal à usage judiciaire, et éditions Cujas, Paris 1979.

39 ــ نقض جنائي، طعن رقم 1217 لسنة 38 صادر في 21 أكتوبر 1968.
ــ Nice 17 novembre 1937, D.H.1938, 1069.
ــ Civ. 25 Juin 1949. D.1949. 585. Note Charbonnier, J.C.P.1949. J.502.
ــ Paris 13 Mars 1961. D. 1961. 285. Holleaux.5. 1961. 269.
المواقع الإلكترونية:
40  ــ www.boukhniaf.maktoobblog.com     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


لأي طلب أنا في الخدمة، متى كان باستطاعتي مساعدتك

وذلك من باب قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى).

صدق الله مولانا الكريم